الفصل الأوّل: في حقيقة الوضع

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

 

الفصل الأوّل: في حقيقة الوضع


من جملة الاُمور التي طاولها البحث الاُصوليّ وتناولتها كتب هذا الفنّ: (مبحث الوضع).
وقد قيل: بأنّه إنّما بحث عنه هنا؛ لأنّه لم يبحث عنه في أيّ علمٍ آخر، حتّى علم متن اللّغة؛ إذ من الواضح: أنّ كتب اللّغة لم تتكفّل ببيان حقيقة الوضع وماهيّته، وإنّما وقع البحث فيها عن كيفيّة وموارد الاستعمال.
ولكنّ الحقّ: أنّه قد وقع البحث عنه عند بعض اللّغويّين، وقد ذكرته بعض كتب اللّغة().
وعلى أيّة حالٍ، فالبحث عن الوضع إنّما يكون بعد البناء على أنّ دلالة الألفاظ على معانيها لم تكن ذاتيّةً محضةً، وإلّا، فلا يكون هناك مجال لهذا البحث أصلاً.
وفي المسألة وجوه ثلاثة:
أوّلها: أنّ دلالة الألفاظ على معانيها دلالة ذاتيّة محضة، بمعنى: أنّ لا منشأ لدلالة الألفاظ على معانيها إلّا وجود مناسبةٍ ذاتيّةٍ وطبعيّةٍ بينها وبين هذه المعاني.
والثاني: أنّ العلاقة التي تربط بين الألفاظ والمعاني لا تحصل إلّا بتوسّط الجعل، والذي هو الوضع.
والثالث: أنّها علاقة بالذات وبالجعل معاً.
والحقّ هو الوجه الثاني.
أمّا أوّلاً:
فلأنّ هذه الدلالة إن كانت بالطبع، لم يمكن الجهل باللّغات أصلاً، ولا اختلفت اللّغة باختلاف الأعصار والاُمم، بل لو كانت هذه الدلالة موجبةً بذاتها لأن يكون سماع اللّفظ علّةً للانتقال إلى فهم المعنى، من دون جعلٍ ولا اعتبار، فنتيجة ذلك: لزوم إحاطة كلّ شخص بكلّ اللّغات، وهو كما ترى، لا أساس له من الصحّة.
وأمّا ثانياً:
فلأنّه لو فرض أنّ هناك معنىً واحداً بسيط الذات، وكان له ألفاظ عدّة، من لغةٍ واحدةٍ أو من لغات متعدّدة:
فإمّا أن يكون الربط موجوداً بينه وبين جميع هذه الألفاظ معاً.
وإمّا أن لا يكون هناك ربط بينه وبين شيءٍ منها أصلاً.
وإمّا أن يكون ثمّة ربط بينه وبين بعض هذه الألفاظ دون البعض الآخر.
أمّا الأخير: فواضح البطلان، لأنّ هذا البعض الذي لا ربط بينه وبين المعنى كيف كان من الألفاظ التي تدلّ على ذلك المعنى، كما هو المفروض؟!
وأمّا الثاني: فبطلانه أوضح، كما لا يخفى.
وأمّا الأوّل: فيستلزم التركيب في الذات وخروجها عن البساطة.
ومن هنا ظهر: أنّ ما قد نسب إلى البعض، وهو سليمان بن عباد: من «كون دلالة الألفاظ على معانيها بالطبع، أي: كانت هناك خصوصيّة في ذات اللّفظ اقتضت دلالته على معناه، من دون أن يكون هناك وضع وتعهّد من أحد»()، فغير تامٍّ.

الفرق بين الأمر الحقيقيّ والجعليّ
وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الوضع على هذا القول، أمر حقيقيّ وتكوينيّ، وليس أمراً جعليّاً.
والفرق بين الأمر الحقيقيّ وبين الأمر الجعليّ: أنّ الحقيقيّ هو ما كان له نحو ثبوت في نفس الأمر والواقع، بلا ارتباط بجعل جاعل وفرض فارض، بل هو ثابت ولو لم يكن جاعل. ويقابله: الأمر الجعليّ؛ فإنّ ثبوته متقوّم بجعل الجاعل من دون أن يكون له تقرّر في نفس الأمر.
وممّا يترتّب على هذا: أنّ اختلاف الأنظار في ثبوت الأمر الحقيقيّ لا يوجب تغيّراً في ثبوته، ولا يستلزم التبدّل فيه، بل هو على ما هو عليه من التقرّر والثبوت، والاختلاف المذكور يرجع إلى تخطئة كلٍّ من المختلفين للآخر في نظره وعلمه بثبوته أو عدم ثبوته، ولا يضير اعتقاد عدم ثبوته فيه، بل يكون كما كان بلا تغيّرٍ ولا تبدّل.
وأمّا اختلاف الأنظار في الأمر الجعليّ؛ فإنّه يرجع إلى اعتباره وعدم اعتباره، فيوجب تبديلاً فيه، ويكون ثابتاً بالنسبة إلى بعضٍ وغير ثابتٍ بالنسبة إلى آخرين، وهو لا يرجع إلى التخطئة في النظر، إذ هو موجود مع فرض تسليم ثبوته بالنسبة إلى الجاعل والمعتبر.
وذلك نظير ما لو اعتبر قوم شخصاً ما رئيساً لهم، ولم يعتبره آخرون كذلك، بل اعتبروا شخصاً غيره رئيساً، فإنّ اختلاف النظر في الرئيس لا يرجع إلى تخطئة كلٍّ من الفريقين للآخر في دعواه؛ إذ لا واقع للرئيس غير الاعتبار، وإنّما يرجع هذا الاختلاف إلى الاختلاف في الاختيار وفي الاعتبار والجعل، وذلك يستلزم أن يكون لكلٍّ منهما رئيس غير الرئيس الذي للآخر.

تقسيم الأمر الحقيقيّ
ثمّ إنّ الاُمور الحقيقيّة على نوعين:
النوع الأوّل: ما يكون له وجود في الخارج، ويكون الخارج ظرفاً لوجوده، وهو: المقولات العشر: أي: الجوهر والأعراض التسعة.
والنوع الثاني: ما لا وجود له منحازاً ولا له ما بإزاء، ويعبّر عنه: بما لا يكون الخارج ظرفاً لنفسه، وذلك كالملازمات العقليّة، فإنّ الملازمة بين شيئين من الاُمور الحقيقية التي لها تقرّر في نفس الأمر ولا ترتبط بجعل جاعلٍ، إلّا أنّها لا وجود لها في الخارج ينحاز عن وجود المتلازمين.
وإذا اتّضح ذلك، نقول:
الوضع، وإن سلّمنا أنّه من الاُمور الحقيقيّة، إلّا أنّه ـ لا محالة ـ لا يمكن أن يكون من القسم الأوّل؛ لأنّ هذا القسم منحصر بالمقولات العشر، وليس الوضع من أحدها؛ إذ هو ليس من الجوهر، كما لا يخفى؛ لأنّه ارتباط بين اللّفظ والمعنى، ولا وجود لشيءٍ جوهريّ، كالجسم، بين اللّفظ والمعنى، كما هو ظاهر.
كما أنّه ليس من بقيّة المقولات العرضيّة؛ لأنّ العرض بدون المعروض في الخارج ليس بشيءٍ، فوجوده لا يكون إلّا في ضمن وجود المعروض الموجود خارجاً، والمفروض: أنّ الارتباط المدّعى كونه من الاُمور الحقيقيّة ليس بين اللّفظ الموجود والمعنى، بل بين طبيعيّ اللّفظ والمعنى؛ لوضوح أنّ استعمال اللّفظ متأخّر عن الوضع وعن ثبوت الارتباط بينه وبين المعنى، ووجود اللّفظ إنّما يكون بالاستعمال، فالارتباط المدّعى حاصل قبل وجود اللّفظ؛ لأنّه ثابت قبل الاستعمال، بل ولو لم يحصل الاستعمال بعد.
وهذا يعني: أنّه ليس من سنخ الأعراض، وإلّا، لكان ثبوته متوقّفاً على وجود اللّفظ فعلاً، الذي هو ـ بدوره ـ متوقّف على الاستعمال.
فتحصّل: أنّ القول بكون دلالة اللّفظ على المعنى أمراً ذاتيّاً ليس بصحيحٍ، وذلك لما أشرنا إليه سابقاً من أنّه لا ينسبق المعنى إلى الذهن من اللّفظ بدون الوضع، ولأنّ الجاهل بالوضع لا يفهم المعنى من اللّفظ.

الاعتراض بلزوم الترجيح بلا مرجّحٍ
نعم، بقي هناك إشكال، وهو: أنّ قيام الواضع باختيار لفظٍ خاصّ لمعنىً المخصوص لابدّ وأن يكون مستنداً إلى مرجّحٍ ما، وإلّا لكان من الترجيح بلا مرجّح، وهو محال.
والجواب عن هذا الإشكال:
أوّلاً: سلّمنا استحالة الترجيح بلا مرجّح، إلّا أنّه لا يلزم أن يكون المرجّح هو المناسبة الذاتيّة، بل يجوز أن يكون أمراً خارجيّاً.
وثانياً: إنّ ما هو المحال إنّما هو الترجّح بلا مرجّحٍ، وأمّا الترجيح بلا مرجّح فلا استحالة فيه أصلاً، بل ولا قبح أيضاً.
وعلى فرض التنزّل والقول: بأنّه قبيح أو محال، فنقول: يكفي وجود المرجّح الخارجيّ والنوعيّ في طبيعيّ الفعل، ولو لم يكن هناك مرجّح في شيءٍ من الأفراد، ولو لم يكن هناك ربط ذاتيّ بين هذا اللّفظ الخاصّ وذاك المعنى المخصوص الذي وضع هو له.
وحينئذٍ: جاز وجود المصلحة والمرجّح في طبيعيّ الوضع، وهو ـ مثلاً ـ أنّ التفهيم والتفهّم منوط بالوضع في بعض الموارد، وبعد وجود هذه المصلحة في الطبيعيّ، فلا يلزم وجود مرجّحٍ في كلّ موردٍ من الموارد، بل تكون هذه المصلحة النوعيّة كافيةً لذلك، ولا يكون هناك قبح أصلاً.
ومن هنا ظهر:
بطلان القول الثالث الذي اختاره المحقّق النائينيّ بقوله:
«اختلف العلماء في أنّ دلالة الألفاظ هل هي ذاتيّة محضة، أم جعليّة صرفة، أو بهما معاً؟
والحقّ هو الثالث، فإنّا نقطع ـ بحسب التواريخ التي بين أيدينا ـ أنّه ليس هناك شخص أو جماعة وضعوا الألفاظ المتكثّرة في لغةٍ واحدةٍ لمعانيها التي تدلّ عليها، فضلاً عن سائر اللّغات.
كما أنّا نرى وجداناً عدم الدلالة الذاتيّة بحيث يفهم كلّ شخصٍ من كلّ لفظٍ معناه المختصّ به... إلخ»().
وحاصله: أنّ الدلالة ليست ذاتيّةً صرفة؛ لوضوح عدم تبادر المعاني من الألفاظ من حيث هي هي، ولو كانت هناك دلالة ذاتيّة للزم انسباق المعنى من اللفظ لكلّ أحد بمجرّد إلقاء اللّفظ إليه؛ كما أنّ هذه الدلالة لا يمكن أن تكون بالجعل الصرف؛ للزوم الترجيح بلا مرجّح، فلا جرم ـ إذاً ـ أنّ هذه الدلالة هي بجعل الجاعل بالإضافة إلى المناسبة الذاتيّة.
وقد عرفت ما فيه، وأنّه يكفي المرجّح الخارجيّ أو النوعيّ، ولا ينحصر المرجّح في الذاتيّ.
فالمتعيّن هو القول الثاني، دون الأوّل والأخير.
وإذا عرفت ذلك، فالبحث في الوضع من جهتين:

الجهة الاُولى: في بيان معنى الوضع
وما ينبغي أن يعلم هنا: أنّ الوضع تارةً يطلق ويراد منه المعنى الاسم المصدريّ، واُخرى يراد منه المعنى المصدريّ.
فعلى الأوّل: يكون الوضع عبارةً عن ارتباطٍ خاصّ بين اللّفظ والمعنى. وعلى الثاني: فهو عبارة عن اختصاص اللّفظ بالمعنى.

والجهة الثانية: أنّه قد وقع الخلاف في معنى الوضع
فمنهم من فسّره بالالتزام والتعهّد، أي: بأن يتعهّد الواضع بإرادة المعنى من اللّفظ حين استعماله للّفظ بلا قرينةٍ. وهذا القول منسوب إلى الفاضل النهاونديّ().
ومعنى الوضع ـ على هذا القول ـ هو أنّ الواضع يتعهّد بأن لا يأتي باللّفظ إلّا إذا أراد إفهام معناه المعيّن، ليجعل بذلك نوعاً من السببيّة بين اللّفظ والمعنى.
وبعبارة اُخرى: فإنّ هذا التعهّد يكون هو السبب لنشوء هذا الارتباط بين اللّفظ والمعنى. ويشترط فيه: أن يكون ظاهراً أنّ الغرض من النطق بهذا اللّفظ هو إرادة إفهام ذلك المعنى الخاصّ، وأن ليس له من داعٍ آخر سوى إفهام هذا المعنى.
وممّا يترتّب على هذا القول: أنّه لا بدّ أن يكون كلّ مستعملٍ واضعاً حقيقةً، وهذا غير معقول، لأنّ كلّ شخصٍ مسؤول عن تعهّداته هو، ولا يعقل أنّ يكون تعهّد الواضع الواحد محققا للدّلالة على قصد إفهام المعنى من قبل غيره.
وممّا يترتّب عليه أيضاً: أن يكون الواضع للّغة متعدّداً، وليس واحداً، وأن لا يكون هناك فرق بين الواضعين المختلفين وبين الواضع الأوّل، إلّا في أنّ الواضع الأوّل أسبق من غيره إلى الاستعمال والتعهّد، وهو كما ترى.
ويترتّب عليه أيضاً: أنّ الدلالة الوضعيّة بناءً عليه دلالة تصديقيّة وليست تصوريّةً.
ويرد عليه أيضاً: أنّ متابعة هذا المتعهّد لماذا يجب أن تكون ملزمةً للآخرين؟!
وأيضاً: فلو قلنا بهذا القول: لبطل تقسيم اللّفظ إلى قسميه المشهورين: التعيينيّ والتعيّنيّ.
وبالجملة: فإنّ القول بالتعهّد في تفسير الوضع، مع كونه واحداً من أهمّ الظواهر العرفيّة والعقلائيّة، واضح البطلان؛ لأنّه معنىً دقيق لا تدركه ولا تصل إليه أذهان أهل العرف عادةً.
وأمّا صاحب الكفاية، فقال:
«الوضع هو نحو اختصاصٍ للّفظ بالمعنى، وارتباط خاصّ بينهما، ناشئ من تخصيصه به تارةً، ومن كثرة استعماله فيه اُخرى»().
ولكنّ هذا التعريف للوضع غير تامّ؛ لأنّ الاختصاص لا يمكن أن يشكّل حقيقة الوضع، كيف؟! وهو إنّما يحصل بعد الوضع.
ومنهم من فسّره: بجعل اللّفظ علامةً للمعنى. وهو ما اختاره اُستاذنا المحقّق، وفسّره بأنّه عبارة عن «الهوهويّة والاتّحاد بين اللّفظ والمعنى في عالم الاعتبار»().
ثمّ هذا الاتّحاد والهوهويّة، هل هو اعتباريّ، حصل من جهة الجعل أو كثرة الاستعمال أم لا؟
والحقّ: أنّ هذا الاتّحاد حصل من جهة طبيعيّ اللّفظ والمعنى، لا بمعنى: أنّ آثار اللّفظ تترتّب على المعنى حتّى يقال: بأنّ الحكومة والتنزيل يكونان بلحاظ الآثار، وحتّى يستشكل بأنّه ليس هناك من أثر جعليّ يترتّب على المعنى لكي يكون قابلاً لاعتبار ترتّبه على اللّفظ، ولكي يحصل به غرض الوضع، ويكون حاصلاً في الواقع ومع قطع النظر عن الخارج.
وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ طبيعيّ اللّفظ مستعدّ لإحضار طبيعيّ المعنى في ذهن من يسمع ذلك اللّفظ. ويكون هذا الاعتبار اعتباراً للعينيّة بالحمل الأوّليّ.
فالوضع ـ إذاً ـ من الاُمور الواقعيّة، ولكن ببركة الجعل والاعتبار، لا من الاُمور التكوينيّة.
ولا يخفى: أنّ مرادنا من الاعتبار هنا: جعل المؤدّى هو الواقع، ومن باب التوسعة في الموضوع، نظير: «الطواف في البيت صلاة». فهو ليس من الاُمور الاعتباريّة المحضة، ولا من الاُمور الانتزاعيّة، بل ـ كما ذكرنا ـ فهو من الاُمور الواقعيّة ببركة الجعل.
وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ حقيقة الوضع عبارة عن: أن يعتبر المعتبر وجود اللّفظ وجوداً تنزيليّاً للمعنى، بحيث يصبح اللّفظ هو هو، ولكن في عالم الاعتبار، لا تكويناً.
وعند الاستعمال، يكون نظر المتكلّم إلى المعنى استقلاليّاً وإلى اللّفظ آليّاً، أي: فيكون نظره محصوراً فقط في إلقاء المعنى إلى المخاطب وإيجاده باللّفظ، ويكون نظره الاستقلاليّ منحصراً إلى المعنى، تماماً كالنظر إلى المرآة لرؤية الوجه.
وحينما نقول: بأنّ هذا الجعل ليس من الاُمور التكوينيّة، فإنّما نعني بذلك: أنّها ليست كإحدى المقولات: أي: لا من مقولة الجوهر؛ لأنّ الجواهر منحصرة في الخمسة: العقل والنفس والصورة والمادّة والجسم. ولا من الأعراض المنحصرة في التسع، لأنّها ليست قائمةً بنفسها في الخارج، بل الأعراض متقوّمة بالغير.
لكنّ الصواب ما ذكرناه:
من أنّ حقيقة الوضع أنّه عبارة عن ملازمة خاصّة وربط مخصوص بين طبيعيّ اللّفظ والمعنى الموضوع له، ولا يتوقّف ثبوتها وتحقّقها على وجودها في الخارج، بل هذه الملازمة والربط ثابتان في الواقع ونفس الأمر بينهما، أي: بين طبيعيّ اللّفظ ومعناه الموضوع هو له.
وهي نظير ملازمة الزوجيّة للأربعة، غاية الأمر: أنّ الملازمة بين الزوجيّة والأربعة من الاُمور التكوينيّة والأزليّة، وأمّا الملازمة هنا، فهي وإن كانت حقيقيّةً أيضاً، ولكنّ ذلك بعد الجعل والاعتبار، لا قبل ذلك. لا بمعنى: أنّ الجعل والاعتبار مقوّمان لذات هذه الملازمة ودخيلان في حقيقتها، بل بمعنى: أنّهما هما العلّة لحدوثها، وأنّها بعد تحقّقهما ـ فقط ـ تصبح من الاُمور الواقعيّة.
وقد بينّا فيما سبق: أنّ هذه الملازمة ثابتة في الواقع ونفس الأمر، وأنّها ليست متوقّفةً على وجودها في الخارج، ولذا يصحّ وضع اللّفظ للمعنى المعدوم والذي يستحيل وجوده في الخارج كشريك الباري أو الدور أو التسلسل، أي: فيصحّ وضع اللّفظ للحصّة التي يستحيل وجودها في الخارج، فلو أنّ الملازمة كانت تندرج تحت شيءٍ من المقولات، لكان لا بدّ من تحقّقها بواسطة اللّفظ والمعنى، ويستحيل تحقّقها بدونهما.
وقد تلخّص بما أوضحناه: أنّ بين اللّفظ والمعنى ربطاً خاصّاً متحقّقاً وواقعيّاً، حتّى مع قطع النظر عن الوجود الخارجيّ.
ثمّ إنّهم ذكروا: أنّ الوضع قابل للإنشاء والإيجاد الخارجيّ ـ كوضع الحجر على الحجر، وكالبيع الذي هو قابل للإنشاء الموجد لمفهومه، وكالمعاطاة للفعل الموجد لمصداقه ـ.
وقد قالوا في تعريف الوضع : أنّه من باب «تعيين اللّفظ للدّلالة على المعنى بنفسه»().
فبقيد (بنفسه): تخرج المجازات، ضرورة أنّ الدلالة عليها لا تكون إلّا بمعونة القرينة.
ولكن، قد استشكل في هذا التعريف: بأنّه يخرج الألفاظ المشتركة لاحتياجها هي أيضاً في الدلالة على معانيها إلى القرينة.
ويمكن دفعه: بأنّ الدلالة على جميع المعاني في المشترك حاصلة، ومن دون قرينة، وإنّما يحتاج إلى القرينة لتعيين المراد.
واستشكل في هذا التعريف أيضاً: بأنّه مخرج للحروف؛ لأنّ دلالتها على معانيها لا تكون إلّا بمعونة مدخولها؛ فإنّ كلمة «من» ـ مثلاً ـ لا تدلّ على شيءٍ قبل ذكر مثل: «البصرة والكوفة».
والصحيح في الجواب عن هذا الإشكال: أنّ المعنى على قسمين: استقلاليٍّ وآليّ، وأنّ ذكر المتعلّق في الحروف إنّما هو لتحقّق نفس المعنى الآليّ، لا لتحقّق دلالة الحرف على ذلك المعنى الآليّ، بل دلالته عليه بنفسه وبلا معونة. هذا إذا قلنا: بأنّ للحروف معنى.
ولكن، وبالرغم من هذا الجواب، فإنّ التعريف المزبور، مع ذلك، لا يسلم من ورود الإشكال، ولو من جهةٍ اُخرى، وهي: أنّه غير شاملٍ للوضع التعيّنيّ.
فالأحسن في تعريف الوضع: أن يؤخذ بمعناه الاسم المصدريّ، ليكون الوضع عبارةً عن: «الارتباط الحاصل بين اللّفظ والمعنى، تارة بالتعيين واُخرى بالتعيّن»، فتأمّل.
وأورد هنا بعض المعاصرين: بأنّ الغرض المقصود من عمليّة الوضع هو تحقيق دلالة اللّفظ على المعنى لحصول التفهيم بها. والدلالة ـ كما لا يخفى ـ تقتضي اثنينيّة الدالّ والمدلول، وعليه: فاعتبار الوحدة بين الدالّ والمدلول يكون لغواً وعبثاً؛ لأنّه بلا أثر؛ إذ لا يترتّب عليه أثر الوضع؛ لأنّه يقتضي التعدّد().
وفيه: أنّ الوحدة إنّما هي لأجل سراية القبح أو الحسن من أحدهما إلى الآخر، فلا نسلّم أنّه يكون بلا أثر. وأمّا الاثنينيّة: فإذا كانت حقيقيّة فهي موجودة بناءً على الهوهويّة.
نعم، الاثنينيّة الادّعائيّة والمجازيّة غير موجودة. فهو هو ادّعاءً، وفي الحقيقة: فإنّ اعتبار شيء شيئاً، سواء كان له وجود خارجيّ، كاعتبار الجاعل لها لما قد يكون أو لم يكن له إلّا في عالم الاعتبار، كاعتبار الشخص رئيساً.
وأمّا ما ذكره ـ هذا المعاصر نفسه ـ من الإشكال: من أنّ الإنسان إذا تصوّر بعض المعاني ولم يذكر اللّفظ لم يعدّ مخالفاً لتعهّده وناقضاً لبنائه، إذ لا يرى الشخص ملزماً بذكر ألفاظ جميع ما يتصوّره من المعاني، ولو بلغت من الكثرة إلى حدٍّ كبير، كما لو قرأ الشخص كتاباً طويلاً في ليلةٍ واحدة، أو كانت من المعاني التي لا يستحسن التصريح بها().
ففيه: أنّه ليس المراد من التعهّد تصوّر المعاني على الإطلاق، بل عند الاستعمال.
وقد يستشكل: بأنّه إذا اُريد به التعهّد والبناء على ذكر اللّفظ عند إرادة تفهيم المعنى، فيستلزم أن يكون مدلول اللّفظ هو نفس إرادة التفهيم، لا المعنى، وإنّما يكون المعنى حينئذٍ من قيود المدلول لا نفسه. بمعنى: أنّ المدلول هو الحصّة الخاصّة من الإرادة، وهي الإرادة المتعلّقة بهذا المعنى ـ نظير ما إذا تعهّد بالإشارة بالإصبع عند مجيء زيد، فإنّ مدلول الإشارة يكون نفس المجيء، لا زيداً، بل يكون زيد من قيود المدلول ـ().
ولكنّ الحقّ: أنّ إرادة التفهيم ـ حتّى بناءً على هذا التفسير للتعهّد ـ لا تكون مدلولاً للّفظ، بل مدلول اللّفظ هو المعنى، وإرادة التفهيم ما هي إلّا نوع تعهّدٍ منه، وتكون خارجةً عن مدلول اللّفظ.
وما قيل: من أنّه لا يلزم الترجيح بلا مرجّح، بل مقامنا من باب سلوك الهارب أحد الطريقين وتناول الجائع أحد الرغيفين.
فمردود: بأنّه مغالطة واضحة، فالهارب من الأسد السالك لأحد الطريقين، والجائع الآكل لأحد الرغيفين المتساويين، خارج عن محلّ البحث.
إذ الكلام هنا إنّما هو عن إرادة الفاعل المختار، لا عن فعله الذي يكون خارجاً عن اختياره لجوعٍ أو خوفٍ أو غير ذلك ـ دون ما يكون خوفه أو جوعه قليلاً بحيث لا يضطرب ولا يخرج عن الاختيار ـ.
وبالجملة: فمورد هذين المثالين خارج عن محلّ البحث وأجنبيّ عن مسألة الترجيح بلا مرجّح؛ فإنّ المورد الدقيق لما نحن فيه: ما إذا كان هناك شيئان متساويان من جميع الجهات، ولا ميز لأحدهما على الآخر أصلاً؛ فاختيار الفاعل المختار لأحدهما، والحالة هذه، يكون من باب الترجيح بلا مرجّح.
وبما حقّقناه، ظهر:
بطلان ما أفاده المحقّق الكبير السيّد محمود الشاهروديّ من التمثيل للمورد بأنّه إذا بني سقف ـ مثلاً ـ على جدارين، وكان ثقل ذلك السقف من جميع الجوانب بنسبةٍ واحدة، فإذا مال الجدار من جانبٍ دون آخر، مع انحفاظ تلك النسبة، فإنّه يلزم الترجيح بلا مرجّح ووجود ذلك الميل بلا علّةٍ.
وجه البطلان: أنّ ما ذكره هو الترجّح بلا مرجّح، لا الترجيح بلا مرجّح. مع أنّه الميل كذلك غير ممكنٍ، إلّا أن يكون هناك ضعف في ذلك الجانب، فيكون هو المرجّح.
وكيف كان، فلازم ما أثبتناه من القول المختار، وهو: أنّ الوضع عبارة عن الهوهويّة، أن يكون الوضع قابلاً للإنشاء والإيجاد.
وأورد عليه: أنّ بين الألفاظ والمعاني مباينةً واضحة، ولا يمكن إيجاد المعنى باللّفظ.
وفيه: أنّه بعد الالتفات إلى ما ذكرناه سابقاً ـ من أنّ العلاقة بين اللّفظ والمعنى حقيقيّة، وإن لم تكن تكوينيّةً، بل تحصل هذه العلاقة بعد الوضع، والوضع يكون سبباً لها وعلّةً لحدوثها ـ فلا يبقى مجال لهذا الإيراد أصلاً.

من هو الواضع؟!
هل الواضع هو الله تعالى أم البشر ـ كيعرب بن قحطان على ما قيل من أنّه هو الواضع للغة العرب ـ أم كلاهما؟
اختار بعضهم() القول الأوّل: أي: أنّ الواضع هو الله عزّ وجلّ. وقد استدلّ القائلون بذلك:
تارةً: بعدم تناهي المعاني، وعدم إحاطة أحدٍ غيره تعالى بها، إذ إنّ ما سوى الباري تبارك وتعالى من المخلوقات متناهٍ، وإذا لم يكن للمخلوق الإحاطة بها، فكيف ـ يا ترى ـ يمكنه أن يتصوّر المعاني غير المتناهية ليضع الألفاظ لها؟ بل هو عاجز عن الإحاطة بألفاظ لغةٍ واحدة فضلاً عن جميع اللّغات.
وفيه: أنّ الإنسان يضع من الألفاظ بمقدار حاجته، وأمّا الزائد عن ذلك فيكون لغواً، فهو لا يحتاج إلى الإحاطة بجميع الألفاظ، بل إنّما يحتاج إلى الإحاطة بما يحتاج إليه منها.
واُخرى: بما نشاهده من استيعاب الأوضاع اللّغويّة لدقائق فنّيّةٍ عالية ـ سواء ما كان منها مرتبطاً بجانب اللّفظ أو بجانب المعنى ـ تفوق عادةً طاقة جماعةٍ من الناس وقدرتهم على نسجها وإبداعها. فما ظنّك بشخصٍ واحد؟!
وفيه: أنّ هذا الإشكال ـ على فرض وروده ـ فإنّما هو فيما إذا قلنا بكون الواضع واحداً.
والتحقيق أن يقال: بأنّ الواضع هم البشر أنفسهم، ولكن بسبب القوّة المودعة فيهم، والتي تسنّت لهم وحصلوا عليها من قبل ربّهم وخالق الكائنات جلّ وعلا، وأنّ البشر إنّما يضعون الألفاظ على حسب ما تدعو إليه حاجتهم، ولإبراز ما في ضمائرهم من المعاني.
وكما أنّ الله تبارك وتعالى قد أودع القوّة في البشر التي بواسطتها اخترعوا صناعاتٍ عجيبة، وتوصّلوا إلى ما توصّلوا إليه، كما نراه جليّاً في هذا العصر، فكذلك أودع الله في الإنسان قوّةً تمكّن بواسطتها من وضع الألفاظ للمعاني. وأمّا سعة دائرة الوضع وضيقها، فهي تبع لدائرة الحاجة سعةً وضيقاً.
وحيث كان كذلك، فالوضع ـ بهذا الشكل ـ لا يستلزم سبق إحاطة الواضع بجميع الألفاظ، بل لو فرضنا إمكان إحاطة البشر بجميع الألفاظ، فإنّ وضعها للمعاني غير المتناهية، مع عدم احتياجهم إلى الجميع، وإمكان استغنائهم بأقلّ من هذا المقدار، لغو محض.
لا يقال: ليس، ولم يكن، بمقدور الإنسان البدائيّ أن يستفيد من اللّفظ لإخطار المعنى الكذائيّ لولا الإلهام من الله تبارك وتعالى، الذي بواسطته تعرّف على كيفيّة وضع اللّفظ، والذي بواسطته فقط، تمكّن من درك التعهّد والهوهوية وأمثالهما. وعلى فرض أنّه كان بإمكانه ذلك، فكيف كان في وسعه أن يفهم الآخرين بأنّه متى ما استعمل اللّفظ الكذائيّ فإنّه يكون قاصداً لإخطار المعنى الكذائيّ.
فإنّه يقال: قد ظهر من جميع ما ذكرنا: أنّ الوضع ليس من الله تعالى، لا بوحيٍ منه إلى نبيٍّ من أنبيائه، ولا بإلهامٍ منه إلى البشر، بل إنّما كان بالقوّة المودعة فيهم، بحيث كانوا يبرزون مقاصدهم بحسب فطرتهم.
وقد يستشكل ـ استنصاراً للقول بإلهيّة الوضع ـ: بأنّه لو كان هناك واضع بشريّ معيّن كان هو الذي أبدع كلّ هذا النظام اللّغويّ المنسّق والمتكامل، لنقل ذلك في التاريخ، ولخلد ذكره في الشعوب، بينما لا يوجد شيء من ذلك كلّه في تاريخ أي ملّةٍ من الملل، ولا أيّة لغةٍ من اللّغات، ولا أخبر أحد عن حدوث وضعٍ في أيّ عصرٍ من العصور، مع أنّ من وظيفة المؤرّخين، كما لا يخفى، تصدّيهم لضبط الأخبار السابقة().
ولكنّ هذا الإشكال: إنّما يتمّ فيما لو قلنا بأنّ الواضع شخص واحد معروف أو جماعة معيّنون؛ وأمّا لو كنّا نقول: بأنّ الواضع كلّ واحدٍ من أفراد البشر، فإنّ الناس كان يضعون الألفاظ للمعاني، كلّ على حسب حاجته، وإن لم تكن موضوعةً من قبل، فلا محلّ لهذا الإشكال أصلاً.
ألا ترى أنّنا لو جعلنا طفلين صغيرين في معزل عن الناس كافّةً لاخترعا لنفسيهما لغة خاصّة بهما بواسطة القوة المودعة فيهما من قبل الله تبارك وتعالى، يبيّن بها كلّ واحدٍ للآخر ما في ضميره؟! وقد تنبّه إلى ذلك بعض اللّغويّين().
وليس المراد من الوضع هو وضع الشيء من باب وضع الحجر على الحجر، أو التعهّد، حتّى يكون الوضع مسبوقاً بالاستعمال، بل إنّ كلّ مستعملٍ يكون واضعاً.
كما أنّه ليس من المجعولات الإنشائيّة ـ من قبيل: التمليك بعوضٍ معلومٍ في باب البيع مثلاً ـ. وتكون دلالة اللّفظ على المعنى تصوّريّةً عندما ينتقل المعنى إلى ذهن السامع بمجرّد استعمال اللّفظ، ولو كان قد صدر منه من دون اختيارٍ، ولو كان صدوره من متكلّمٍ غير ذي شعور.
وأمّا ما قيل: من أنّ الواضع هو الله جلّ وعلا، كما يظهر من قوله تعالى: ﴿وَعَلّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلّهَا﴾()، بتقريب: أنّ تعليم الشيء فرع وجود ذلك الشيء، وعليه: فالوضع لجميع اللّغات كان ثابتاً حين تعليمه سبحانه وتعالى إيّاه، فلا جرم يكون الواضع هو الله تعالى. وما قيل ـ أيضاً ـ في تفسير قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلّمَهُ البَيَانَ﴾(): «إنّ المراد من (الإنسان) هو آدم، والمراد من (البيان) اللّغات كلّها»().
فمردود: لأنّ المراد من الأسماء في الآية الشريفة هو المسمّيات، لا اللّغات. كلفظ «الاسم»، فإنّه لمّا كان إشارةً إلى اللّفظ الدالّ على المسمّى، ومن جملة المسمّيات: لفظ «الاسم» نفسه، فقد دلّ عليه. وقد يكون مغايراً كلفظ «الجدار» الدالّ على معناه المغاير، و قد يطلق «الاسم» على نفس المسمّى أيضاً، وهو المراد هنا لبعض القرائن الموجودة في نفس الآية، كقوله تعالى: ﴿ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ﴾()، إذ على تقدير كون الأسماء مراداً بها مظاهرها كان اللّازم أن يقال: (ثمّ عرضها على الملائكة)، لا (عرضهم). ولهذا نظير أيضاً، وهو ما قيل: من أنّ المراد بالاسم في ﴿بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ﴾، هو المسمّى.
والمتحصّل: أنّ معنى تعليمه الأسماء هو أنّه تعالى علّمه المسمّيات، أي: أراه الأجناس التي خلقها، وعلّمه بأنّ هذا ـ مثلاً ـ «فرس»، وذاك «بعير»، وهكذا.. وكذا علّمه أحوالها وما يتعلّق بها من المنافع الدينيّة والدنيويّة.
وعليه: فالواضع ليس هو البشر بمعنى أنّ الإنسان هو الذي يلتزم أو يتعهّد، لأنّه لو كان هناك واضع خاصّ كذلك لوصلت إلينا أخباره.
فإن قلت: فإنّ قسماً من البشر أرادوا لأنفسهم لغةً فيما اختار الآخرون لغةً اُخرى خاصّةً بهم. وهذا شاهد أكيد على أنّ وضع اللّغات كان بالتزام البشر وتعهّدهم هم أنفسهم.
قلنا: بل كان ذلك بإرادةٍ من الله وتعليمه البشر. فهو الذي أراد هذا الاختلاف في الألسن، كما دلّ عليه قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالْأرْضِ وَاخْتِلافُ ألْسِنَتِكُمْ وَألْوَانِكُمْ﴾()، كما أنّه هو تعالى من أراد للنّاس أن يكونوا شعوباً وقبائل: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبَاً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ﴾().

في حقيقة الوضع
قد عرفت وقوع الخلاف في معنى الوضع.. فهل هو بمعنى الالتزام والتعهّد ـ كما نسب إلى المحقّق النهاونديّ ـ أو هو عبارة عن جعل اللّفظ علامةً على المعنى أو بمعنى الهوهويّة والاتّحاد بين اللّفظ والمعنى ـ كما هو قول اُستاذنا المحقّق ـ كما عرفت سابقاً ـ؟!
أمّا القول الثاني: وهو جعل اللّفظ علامةً على المعنى، فوضع الألفاظ بناءً عليه يكون كالوضع الحقيقيّ، نظير: وضع العلم على رأس الفرسخ، غاية الأمر: أنّ الوضع في الأوّل اعتباريّ وفي الثاني حقيقيّ، ومعنى كونه اعتباريّاً: أنّ اللّفظ لم يجعل يدلّ واقعاً على أمرٍ خارجيٍّ على نحو الحقيقة، كوضع العلم خارجاً في الموضع الخاصّ للدّلالة على شيءٍ معيّن.
وقد اعترض الاُستاذ الأعظم على هذه المماثلة بما لفظه:
«أنّ وضع اللّفظ ليس من سنخ الوضع الحقيقيّ كوضع العلم على رأس الفرسخ. والوجه في ذلك هو: أنّ وضع العلم يتقوّم بثلاثة أركانٍ: الركن الأوّل: الموضوع، وهو العلم. الركن الثاني: الموضوع عليه، وهو ذات المكان. الركن الثالث: الموضوع له، وهو الدلالة على كون المكان رأس الفرسخ. وهذا بخلاف الوضع في باب الألفاظ، فإنّه يتقوّم بركنين: الأوّل: الموضوع، وهو اللّفظ. الثاني: الموضوع له، وهو دلالته على معناه، و لا يحتاج إلى شي‏ءٍ ثالثٍ ليكون ذلك الثالث هو الموضوع عليه. وإطلاقه على المعنى الموضوع له، لو لم يكن من الأغلاط الظاهرة، فلا أقلّ من أنّه لم يعهد في الإطلاقات المتعارفة والاستعمالات الشائعة. مع أنّ لازم الصيغة المذكورة هو أن يكون المعنى هو الموضوع عليه»().
ولكن يمكن الجواب عن هذا: بأنّه يكفي التعدّد الاعتباريّ، ولا حاجة إلى التعدّد الخارجي؛ فإنّ المعنى: من جهة أنّه وضع اللّفظ عليه، فهو مكان الفرسخ، وبمثابة الموضوع عليه؛ ومن جهة أنّه يدلّ باللّفظ عليه، فبهذا الاعتبار يقال له: الموضوع له. على أنّه يمكن فرض التعدّد هنا أيضاً، فالواضع حينما يريد وضع اللّفظ للمعنى، فإنّه ـ أوّلاً ـ يتصوّر المعنى في الذهن، ثمّ بعد ذلك يقوم بوضع اللّفظ له. فالموضوع عليه ـ إذاً ـ هو الصورة الذهنيّة الدالّة على الشيء الخارجيّ، و الموضوع له هو الدلالة على أنّه صورة الشيء.
وأمّا ما قد يقال: من أنّ الوضع عبارة عن الملازمة بين طبيعيّ اللّفظ وبين المعنى الموضوع له، وهذه الملازمة هي ـ وكسائر الاُمور الاعتباريّة ـ اعتبارها بيد المعتبر.
ففيه: أنّ الصحيح كونها من الاُمور الواقعيّة، وأنّها ليست من الاُمور الاعتباريّة المحضه ـ خلافاً لما ذكره بعض المعاصرين ـ ولا من الاُمور التكوينيّة، وإنّما هي موجودة في حاقّ الواقع وفي نفس الأمر. فالوضع ـ بناءً على ذلك ـ أمر واقعيّ غير قابلٍ للجعل، بل إذا كان السامع عالماً بالوضع فينبغي أن يحصل الانتقال من اللّفظ إلى المعنى عنده بمجرّد أن يلقى اللّفظ إليه، بل إنّ هذا الانتقال بالنسبة إليه ينبغي أن يكون بديهيّاً.
وأمّا على القول الأوّل ـ الذي يرى بأنّ الوضع هو بمعنى التعهّد ـ: فالوضع، بناءً عليه، ليس أمر اعتباريّاً، وإنّما حقيقته هي التعهّد والتباني. وهذا التباني يكون من قبل الواضع بأن لا يتلفّظ بالكلمة إلّا إذا اُريد إبراز ما تعلّق به قصد المتكلّم بتفهيمه بلفظٍ مخصوص، فأيّ متكلّمٍ فهو متعهّد في نفسه، مهما كان الشعب أو الملّة التي ينتمي إليها، ومضمون هذا التعهّد: أنّه متى ما أراد معنى خاصّاً فإنّه يبرزه بلفظٍ خاصّ().
ونتيجة هذا التعهّد: أنّه متى سمع السامع بما ينطق به المتكلّم من كلمةٍ خاصّة، فإنّ ذهنه ينتقل ـ مباشرةً ـ إلى تصوّر معناها، ليفهم أنّ المتكلّم أراد ذلك، وأنّه قاصد تفهيمه له.
وبناءً على هذا، فكلّ مستعملٍ واضع حقيقةً، ولا فرق بين المستعمل العاديّ وبين الواضع، إلّا في أنّ الأخير هو الأسبق في الوضع، لا أنّ الأوّل هو الوحيد الواضع حقيقةً دون غيره.
وبعبارةٍ اُخرى: أنّ العلاقة الخاصّة التي تربط بين اللّفظ والمعنى لا تتحقّق إلّا بعد النطق باللّفظ لإفهام المعنى، وتعتبر هذه الدلالة من الدلالات التصديقيّة لا التصوّريّة؛ إذ بعد حصول هذا التعهّد فإنّ هذا اللّفظ بالكشف التصديقيّ عن إرادة المتكلّم، وعن أنّه في مقام إفهام المعنى.
ولكنّ الحقّ ـ كما أشرنا إليه سابقاً ـ: أنّ معنى الوضع هو الاتّحاد والهوهويّة بين اللّفظ والمعنى.
ويحصل هذا الاتّحاد تارةً من جعل اللّفظ بإزاء المعنى، واُخرى من كثرة الاستعمال، وهو من الاُمور الاعتباريّة كما مرّ، وليس بأمرٍ تكوينيٍّ، لأنّه لا يحصل إلّا بواسطة الجعل والإنشاء.
وبما ذكرنا ظهر: أنّ حقيقة الوضع حقيقة ادّعائيّة، وليس الوضع في باب الألفاظ كوضع العلم على رأس الفرسخ ليدلّ على أنّ المكان الموضوع هو فيه هو رأس الفرسخ، كما عرفت، لأنّ هذا معناه: أنّ دلالة العلم على رأس الفرسخ من باب الانتقال من اللّازم إلى الملزوم، كالانتقال من تصوّر الدخان إلى تصوّر النار.
بل فيما نحن فيه، فإنّ السامع حين يسمع الكلام وينتقل منه إلى المعنى المراد، فإنّ هذا الانتقال يكون بمعنى فناء اللّفظ في المعنى، وليس من باب تصوّر شيءٍ للانتقال منه إلى شيءٍ آخر، بل كأنّه، ومنذ البداية، أحسّ بالمعنى بسبب سماعه للّفظ، وهذا يعني: أنّه يكون حين سماع اللّفظ غافلاً عن وجود اللّفظ، ومتّجهاً في تصوّره إلى المعنى فقط، كما حين النظر إلى المرآة، فإنّ الناظر إليها لا يرى فيها ابتداءً إلّا صورته، لا أنّه يرى صورته بواسطة النظر إلى المرآة، وليس هذا الفناء بمعنى فناء الواسطة في ذي الواسطة.
ومعلوم: أنّ إلقاء الشيء لا يكون إلقاء شيء آخر، إلّا إذا حصل بينهما الهوهويّة والاتّحاد، وبديهيّ أنّه لا يكفي في ذلك مجرّد التعهّد أو جعل العلامة أو غيرهما.
وبتعبيرٍ آخر: أنّ التباين بين اللّفظ والمعنى قائم وموجود، فلا يمكن أن يكون إلقاء أحدهما إلقاء الآخر بجعل اللّفظ وجوداً تنزيلياً للمعنى، الأمر الذي يوجب حصول الاتّحاد و الهوهويّة.
هذا بالإضافة إلى أنّهم ذكروا أنّ للشيء وجوداتٍ أربع: الأوّل: الوجود الخارجيّ، والثاني: الوجود الذهنيّ، والثالث: الوجود الكتبيّ، والرابع: الوجود اللّفظيّ.
فلو لم يكن هناك اتّحاد بين الشيئين، فكيف يمكن أن يصبح وجود شيءٍ أجنبيٍّ وجوداً للآخر.
وأيضاً: فلولا هذا الاتّحاد والفناء، فكيف يسري حسن اللّفظ أو قبحه وبالعكس؟! والتعهّد بمجرّده غير كافٍ.
بل، وعلى كلّ حال، فالسراية من اللّفظ إلى المعنى، وبالعكس، متوقّفة على الاتّحاد والهوهويّة.
وأمّا الإشكال الذي أورده الاُستاذ الأعظم() على أصل المبنى القائل بأنّ (الوضع بمعنى الهوهويّة) بما حاصله:
أنّ تفسير الوضع بهذا المعنى تفسير بمعنىً دقيقٍ بعيدٍ عن أذهان عامّة الواضعين غاية البعد، ولا سيّما القاصرين منهم، كالأطفال والمجانين الذين قد يصدر الوضع منهم عند الحاجة، بل قد يصدر الوضع عن بعض الحيوانات أيضاً.
فمردود عليه: لأنّ هذا الإشكال ـ هو بعينه ـ يرد على ما اختاره هو في تفسير حقيقة الوضع، لأنّ الوضع بمعنى التعهّد أيضاً دقيق وبعيد عن الأذهان غاية البعد. وعلى تقدير تحقّقه، فكيف ينتقل المعنى إلى الذهن بصرف السماع لولا وجود هوهويّةٍ واتّحادٍ بينهما؟! ولا يكفي لذلك مجرّد التعهّد.

 


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com