الفصل الثالث: في المعنى الحرفيّ

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

الفصل الثالث: في المعنى الحرفيّ


وفيه أقوال:

القول الأوّل:
ما اختاره صاحب الكفاية() تبعاً للرضيّ، وحاصله:
أنّه لا فرق بين المعنى الاسميّ وبين المعنى الحرفيّ، لا من جهة المعنى الموضوع له ولا المستعمل فيه، بل الموضوع له والمستعمل فيه في كليهما عامّان، أي: أنّ المعنى الحرفيّ هو نفس المعنى الاسميّ.
ومن هنا نجد: أنّ المعنى الذي يؤدّى بالحرف قد يعبر عنه، هو نفسه، بواسطة الاسم، كلفظ (الابتداء) الذي يعبّر به عن معنى (من)، فيقال مثلاً: إنّ (من) تدلّ على (الابتداء).
وعليه: فكلمة «من» وكلمة «الابتداء» موضوعتان لمعنىً واحد ومسمّىً فارد.
فإن قلت: المستفاد من لفظ (الابتداء) هو الابتداء الاستقلاليّ وأمّا المستفاد من لفظ (من) فهو الابتداء الآليّ، وحينئذٍ: فكيف يكون كلاهما بمعنىً واحد؟!
قلت: ليس لحاظ الآليّة والاستقلاليّة في كلٍّ منهما جزءاً للمعنى الموضوع له ولا للمعنى المستعمل فيه، وإنّما يكون اللّحاظ من قيود الوضع ومميّزاته؛ إذ كما أنّ معنى الاستقلاليّة لا يكون جزءاً لأحدهما في باب الأسماء، فكذلك معنى الآليّة لا ينبغي أن يكون جزءاً لأحدهما في باب الحروف.
وبالجملة: فإنّنا نسأل القائلين بكون المعنى المستعمل فيه في الحروف خاصّاً عن مرادهم من الخصوصيّة؟
فإن أرادوا بها: الخصوصيّة الخارجيّة، ليكون المعنى المتخصّص بها جزئيّاً خارجيّاً، ففيه: أنّ المستعمل فيه في الحروف كثيراً ما يكون كلّيّاً بحيث يصدق على كثيرين ولو بالعموم البدليّ، كقولك: «سر من البصرة إلى الكوفة»، ألا ترى أنّ المخاطب لو جعل ابتداء سيره من أيّة نقطةٍ من نقاط البصرة لكان ممتثلاً لهذا الأمر المتوجّه إليه؟!
وإن كان المراد بها: الجزئيّة الذهنيّة، ففساده واضح.
أمّا أوّلاً: فلأنّه لو كان اللّحاظ جزءاً للموضوع له والمستعمل فيه في الحروف لكان هذا المعنى ـ حينئذٍ ـ من قبيل الكلّيّ العقليّ، فيلزم عدم صدقه على الخارجيّات؛ لأنّ المستعمل فيه حينئذٍ يكون مركّباً من جزأين اثنين: أحدهما: ذات المعنى، والآخر: اللّحاظ.
ومعه: فلا يكاد يمكن امتثال الأمر في مثل قولك: «سر من البصرة إلى الكوفة»، لأنّ ما هو موجود في الذهن بقيد الذهنيّة مباين لما هو موجود في الخارج، كما هو معلوم، ولا يصدق أحدهما على الآخر، فلا يكون من الممكن ـ حينئذٍ ـ إيجاده؛ فإنّ تركّب المستعمل فيه من المعنى واللّحاظ، يوجب تقيّده بالوجود الذهنيّ؛ لأنّ اللّحاظ أمر ذهنيّ، موطنه الذهن، والشيء المقيّد بالوجود الذهني لا يمكن أن يحصل في الخارج، كما لا يخفى.
ممّا يعني: أنّه لا بدّ حين الاستعمال من تجريد المعنى عن التقيّد بالأمر الذهنيّ الذي هو خصوصيّة اللّحاظ، ليصبح الابتداء مثلاً ـ بعد التجريد ـ في مثل قوله: «سر من البصرة إلى الكوفة» كلّيّاً طبيعيّاً قابلاً للانطباق على الخارجيّات.
وثانياً: لو كان المعنى في باب الحروف جزئيّاً للزم الاحتياط في مقام الامتثال عند ورود الأمر في مثل قوله: «سر من البصرة»، وذلك بالسير من جميع نقاط البصرة؛ لأنّ المطلوب بحسب الفرض هو الابتداء الخاصّ، أي: من نقطةٍ خاصّة، غاية الأمر: أنّها مردّدة بين العديد من النقاط، وليس ذلك على نحو البدليّة، ليكفي الابتداء من أيّة نقطةٍ كانت، وحينئذٍ: فيكون المقام من باب الاشتباه في المكلّف به، والحكم في مثل هذا المورد هو الاحتياط، ولكن، ليس بناء العقلاء على ذلك في مثل هذا الأمر المذكور.
وثالثاً: المفروض أنّ الاستعمال يتقوّم بلحاظ كلٍّ من اللّفظ والمعنى معاً، فلو كان اللّحاظ المذكور جزءاً للموضوع له أو المستعمل فيه، لكان لا بدّ عند الاستعمال من لحاظٍ آخر يتعلّق بهذا اللّحاظ.
فمثلاً: عند استعمال كلمة «من»، المزعوم أنّ معناها مركّب من معنى (الابتداء) ومن اللّحاظ، فلابدّ من لحاظين اثنين يكون أحدهما متعلّقاً بالآخر:
أمّا الثاني منهما: فهو بحسب الفرض جزء من المعنى.
وأمّا الأوّل: فهو المقوّم للاستعمال؛ إذ لا معنى للاستعمال إلّا لحاظ ما يراد من المعنى وإلقاء اللّفظ بإزائه، ومن المعلوم: أنّ تعدّد اللّحاظ في مقام الاستعمال على خلاف الوجدان، وعليه: فلا يمكن إلّا أن يكون المستعمل فيه هو ذات المعنى صرفاً، لا مركّباً من ذات المعنى ومن اللّحاظ.
وبعبارةٍ اُخرى: فلو كان اللّحاظ جزءاً من معنى الكلمة، فلابدّ عند استعمالها من لحاظين:
أوّلهما: اللّحاظ الوضعيّ، وهو الذي يكون دخيلاً فيه بحسب الوضع.
والثاني: اللّحاظ الاستعماليّ، وهو الذي يلاحظه المستعمل كمقدّمةٍ للاستعمال. وحينئذٍ: فيجتمع اللّحاظان.
ثمّ إنّ الاستعمال متوقّف على تصوّر المستعمل فيه، فلو فرض أنّ اللّحاظ جزء من المعنى ومقوّم له، لزم تعلّق اللّحاظ بالمعنى الملحوظ، وهو باطل؛ لأنّ الموجود لا يقبل الوجود ثانياً.
ولو كان اللّحاظ مقوّماً للمعنى، للزم عدم صدقه على الخارجيّات إلّا بالتجريد، لأنّ المقيّد بالوجود الذهنيّ يكون محلّه الذهن لا الخارج، فبدون التجريد يمتنع الامتثال الخارجيّ، ومع التجريد فلا يكون الاستعمال إلّا مجازيّاً، وهذا يعني: أن لا يستعمل اللّفظ في معناه الموضوع له أبداً، وهو كما ترى.

تنبيه:
لا يخفى: أنّ مراد القائلين بجزئيّة المعنى هو جزئيّته باللّحاظ، أي: بمصداق اللّحاظ، لا بمفهومه، أي: أنّه لا بدّ من توفّر مصداقٍ للّحاظ في مقام الاستعمال، بحيث يكون هذا المصداق دخيلاً في المستعمل فيه، شطراً أو شرطاً.
ومعلوم: أنّ اللّحاظ المصداقيّ جزئيّ ذهنيّ، فكذا يكون ما يقيّد به.
وإذا كان المعنى المستعمل فيه في الحرف جزئيّاً دائماً، فلا معنى للقول بكلّيّة المعنى الموضوع له؛ لاستلزامه المجاز بلا حقيقة؛ إذ لا يتحقّق الاستعمال في نفس ذلك الكلّيّ الموضوع له أبداً.
ومن هنا ظهر: ما في القول المنسوب إلى التفتازانيّ في كيفيّة وضع الحروف، وهو: أنّ كلّاً من الوضع والموضوع له فيها عامّ، وإنّما الخاصّ المستعمل فيه().
وأمّا بحسب المفهوم: فالاختلاف بين المفهومين محلّ اتّفاقٍ.
وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الموجود الخارجيّ على قسمين:
أحدهما: ما كان موجوداً في نفسه، أي: لا في موضوع، كالجوهر.
والآخر: ما كان موجوداً في غيره، كالأعراض، وكالموجود الذهنيّ الذي تقوّمه باللّحاظ، فالوجود الذهني ـ والذي هو عبارة عن نفس اللّحاظ ـ تارةً يكون مستقلاً في نفسه، ومستقلاً بالمفهوميّة بحسب اللّحاظ، واُخرى يكون موجوداً في غيره، وغير مستقلٍّ بالمفهوميّة بحسب اللّحاظ، بمعنى: أنّ لحاظ الذهن له يكون في ضمن لحاظ الغير.
وخلاصة القول:
أنّ لحاظ الاستقلاليّة والآليّة في كلٍّ منهما ليس جزءاً للموضوع له ولا للمستعمل فيه، وإنّما يكون من قيود الوضع ومميزاته، وأنّه كما أنّ اللّحاظ الاستقلاليّ ليس جزءاً لأحدهما في الأسماء، فليكن اللّحاظ الآليّ أيضاً في الحروف كذلك.
وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية() من أنّ المقام يكون من باب الكلّيّ العقليّ، فمحلّ تأمّل؛ لأنّ الكلّيّ العقليّ ـ في اصطلاحهم ـ هو المجموع من العارض والمعروض، كالإنسان الكلّيّ، لأنّ ما قيّد به المفهوم ـ وهو الكلّيّة ـ لا موطن له إلّا العقل.
ولكنّ هذا المصطلح، بهذا المعنى، لا ينطبق على مقامنا؛ إذ إنّ ما قيّد المعنى هنا هو اللّحاظ لا وصف الكلّيّة، ولعلّ التعبير عنه ﺑ (الكلّي العقليّ) لأجل أنّ نفس المعنى يكون كلّيّاً، وأمّا قيده ـ وهو اللّحاظ ـ فيكون عقليّاً، حيث كان موطنه هو العقل، وإلّا، فالاُولى بعد كون المقيّد به المعنى هو اللّحاظ أن يعبّر عنه ﺑ (الجزئيّ الذهنيّ).
ورابعاً: إنّ لحاظ المعنى الحرفيّ هو كلحاظ المعنى الاسميّ، ولكنّ اللّحاظ في الأوّل هو بمعنى كونه حالةً لغيره، وأمّا الثاني فهو بمعنى كونه مستقلّاً. وكما أنّ أحداً لم يتوهّم أنّ اللّحاظ الاستقلاليّ يكون مأخوذاً في المعنى الاسميّ، فكذلك اللّحاظ الآليّ.
ولكن ناقش في ذلك المحقّق العراقي()، بما حاصله:
أنّ المعنى الموضوع له اللّفظ يستحيل فيه أن يكون مهملاً، بل هو في حدّ ذاته إمّا مستقلّ وإمّا غير مستقلّ، وإلّا، يلزم ارتفاع النقيضين، ولا جامع بين النقيضين حتّى يكون هو الموضوع له.
ولكنّ ما ذكره المحقّق المذكور إنّما يصحّ بلحاظ النسبة إلى حاقّ الواقع، فإنّ (الرقبة) في حاقّ الواقع ـ مثلاً ـ إمّا أن تكون مقيّدةً بالإيمان وإمّا أن لا تكون كذلك، ولا يمكن لها، بهذا اللّحاظ، أن تخلو من قيد الإيمان ومن نقيضه معاً.
ولكنّ عدم إمكان خلوّها منهما في الواقع لا ينافي عدم تقيّدها بذلك القيد ولا بنقيضه، بل يمكن أن يكون ما وضع له لفظ (الرقبة) غير مقيّدٍ بالإيمان ولا بعدمه.
ومقامنا أيضاً من هذا القبيل، فإنّ الموضوع له إنّما هو الماهيّة المهملة، والتي لم تقيّد حتّى بقيد الإطلاق، فيمكن أن تكون في حدّ نفسها لا مستقلّةً ولا غير مستقلّة.
وتلخّص: أنّ المعنى الحرفيّ لا يصير جزئياً باللّحاظ الآليّ حتى يقال: بأنّ المستعمل فيه في باب الحروف يكون خاصّاً، وأنّ التفكيك بين اللّحاظين يحتاج إلى دليل.
فلا فرق بين المعنى الحرفيّ والاسميّ، وكلّ من الآليّة والاستقلاليّة خارجتان عن حريم المعنى؛ لأنّ المعنى في حدّ ذاته لا يتّصف بهما.
ثمّ إنّ صاحب الكفاية أورد على نفسه فقال:
«إن قلت: على هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى، ولزم كون مثل كلمة (من) ولفظ (الابتداء) مترادفين صحّ استعمال كلٍّ منهما في موضع الآخر، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها، وهو باطل بالضرورة كما هو واضح»().
وحاصله: أنّه لو كان هناك ترادف بين كلمة (من) ولفظة (الابتداء) ـ مثلاً ـ لصحّ استعمال أحدهما مكان الآخر، كما هو الشأن في كلّ الألفاظ المترادفة، ولكنّ بطلان هذا الاستعمال في غاية الوضوح، لعدم جواز أن يقال: (سرت ابتداء البصرة)، مكان قولك: (سرت من البصرة).
ثمّ أجاب عنه بما لفظه:
«قلت: الفرق بينهما إنّما هو في اختصاص كلٍّ منهما بوضعٍ، حيث إنّه وضع الاسم ليراد منه معناه بما هو هو وفي نفسه، والحرف ليراد منه معناه لا كذلك، بل بما هو حالة لغيره، كما مرّت إليه الإشارة غير مرّةٍ، فالاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكون موجباً لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر وإن اتّفقا فيما له الوضع. وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّ نحو إرادة المعنى لا يكاد يمكن أن يكون من خصوصيّاته ومقوّماته»().
وتوضيح كلامه: أنّ الاختلاف في كيفيّة الوضع بين الاسم والحرف هو الذي أوجب عدم الترادف بينهما، وذلك أنّ الاسم وضع ليراد به المعنى في نفسه، وأمّا الحرف فقد وضع واُريد به أن يكون آلةً لملاحظة مدخوله.
فالاستقلاليّة والآليّة ملحوظتان للواضع من جهة كيفيّة وضعه لكلٍّ من الاسم والحرف.
وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ المعنى في كلٍّ من الاسم والحرف واحد، وإنّما يفترقان من جهة اللّحاظ في عمليّة الوضع، أي: في أنّ الواضع وضع الاسم للمعنى لكن في حال إرادته بنفسه، وأمّا الحرف فقد وضعه لنفس المعنى ولكن في حال إرادته آلةً وحالةً لغيره، من دون أن يكون شيء من ذلك قيداً في المعنى، فالاسم والحرف بمعنىً واحد، غاية الأمر: أنّ دائرة الوضع ضيّقة من أوّل الأمر، من باب (ضيّق فم الركيّة)، لأنّ وضع الحروف للمعنى في حالٍ من الأحوال، ووضع الأسماء يكون في حالٍ آخر، من دون أن تكون الحالة قيداً للمعنى.
وقد يرد على جوابه هذا:
بأنّ المرجع في ما ذكر من الاختلاف في كيفيّة الوضع: لو كان إلى ما هو من قبيل الاشتراط على المستعمل، كما قد يتوهّم، ليكون ـ حينئذٍ ـ مثل الشروط الواقعة في ضمن العقد، فيرد عليه: أنّه لا دليل على لزوم الوفاء بهذا الشرط في مثل المقام بعد ما كان الاستعمال فيما خالف الشرط لا يستلزم الخروج عن المعنى الموضوع له إلى غيره. وأيضاً: فهذا يستوجب ـ لا محالة ـ تقييد الموضوع له، وهو ليس إلّا رجوعاً عمّا هو فرضه.
وأمّا إذا قلتم: بأنّه لا يرجع الشرط إلى الموضوع له، بل يكون من باب تعدّد المطلوب، فحينئذٍ: يتحقّق الامتثال بمجرّد الإتيان بالموضوع له بدون القيد، لفرض تعدّد المطلوب.
فتكون النتيجة: جواز استعمال الحرف في مكان الاسم وبالعكس، بعدما كان الشرط خارجاً عن حيّز الموضوع له، وهذا خلف، وعليه لا يكون هذا الاستعمال غلطاً ولا مستهجناً.
وليس هذا الشرط من الشروط الشرعيّة حتى تحرم مخالفته.
ولو تنزّلنا عن ذلك، فهو إنّما يتمّ إذا كان الواضع شخصاً معيّناً.
بل حتّى لو فرضنا أنّه شخص معيّن، فلا يمكن المساعدة عليه ـ أيضاً ـ من جهةٍ اُخرى، وهي: أنّ جعل هذا الشرط ليس من وظيفة الواضع، وإنّما وظيفته مجرّد جعل العلقة بين الألفاظ ومعانيها، وأمّا تعيين طريقة الاستعمال أو إلزامهم بشروطٍ معيّنة، فخارج عن حدود صلاحيّاته.
إشكال بعض المحقّقين:
وقد استشكل بعض المحقّقين() على هذه الإرادة ـ أعني: إرادة المعنى بما هو في نفسه في الاسم، وإرادته بما هو حالة لغيره في الحرف ـ فوجّهها: بأنّ الوضع للاسم والحرف ينشأ بشرطين، بنحو الشرط المتأخّر، نظير الإنشاءات التعليقيّة الشرعيّة، كالوصيّة التمليكيّة، فإن الملكيّة هناك منوطة بالموت.
والوضع ـ أيضاً ـ من الاُمور الاعتباريّة، فيمكن للواضع أن يضع اللّفظ لمعنىً ما، ولكن معلّقاً على إرادة المستعملين، فإرادة المعنى في نفسه شرط للواضع ـ كشرطيّة الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحجّ ـ ومع حصول الشرط، وهو هنا: الإرادة المذكورة، يصير الموضوع له فعليّاً. إذاً، فحصول الوضع وفعليّته منوطة بتحقّق الشرط.
ولكنّه عاد ليستشكل على هذا التوجيه: بأنّ هذه الإرادة المزعومة هل هي الإرادة الاستعماليّة أم غيرها؟
فإن كانت الاُولى: لزم المحال؛ إذ يلزم أن يكون الوضع بعد الإرادة الاستعماليّة التي هي متأخّرة عن الوضع، ضرورة ترتّب الاستعمال على الوضع وتأخّره عنه، فيلزم تأخّر الوضع عمّا هو متقدّم عليه رتبةً. وهذا لايتمّ إلّا بناءً على القول بتبعيّة الدلالة للإرادة.
وإن كانت غيرها: فيكذّبها الوجدان؛ إذ إنّ إرادة المعاني إنّما تحصل باعتبار اللّفظ الذي هو موضوع له، ممّا يعني إرادتها تكون متأخّرة عن الوضع.
أقول: الإشكال الذي أورده هذا المحقّق على الشقّ الأوّل ـ أعني: أن تكون الإرادة هي الإرادة الاستعماليّة ـ إنّما يتمّ لو قلنا: بأنّ الوضع مقدّم على الاستعمال، وأمّا لو قلنا: إنّه عين الاستعمال، فلا.
وإن كان المرجع في هذا ـ أي ما قاله صاحب الكفاية  ـ إلى أنّ اللّحاظ قد أخذ على نحو الداعي، أي: أنّ الداعي للواضع في وضعه الحروف لمعانيها هو أن تكون هذه المعاني حالةً للغير.
ففيه: أنّه أيّ دليلٍ قام على اعتبار هذا الداعي؟ وقد ذكرنا: أنّه لا يضرّ تخلّف الشرط فكيف بتخلّف الداعي؟!
اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ وزانه كوزان الملاكات بالنسبة إلى الأوامر، فكما أنّ الأوامر تكون تابعةً للمصالح والأغراض الداعية إلى الطلب والأمر، فإذا كانت هذه المصالح ضيّقةً فلا يبقى مجال لإطلاق الأمر وتوسعته بحيث يشمل ما هو أزيد عن مقدار المصلحة الموجودة فيه؛ لأنّ ضيق المصالح والأغراض موجب لضيق دائرة المنشأ والمجعول.
ففي المقام ـ أيضاً ـ إذا كان غرض الواضع هو وضع اللّفظ للمعنى لا على نحو الإطلاق، بل لكي يدلّ على معناه بما هو حالة للغير وباللّحاظ الآليّ، فإنّ دائرة الموضوع ووضعه ستتضيّق، لا محالة.
وهذا التقييد ليس على سبيل التقييد في المعنى ليرد الإشكال بأنّه يستحيل تقييد المعنى باللّحاظ المتأخّر عنه، بل اللّازم من تضييق دائرة الوضع هو عدم صحّة استعمال أحدهما في مكان الآخر.
ولكن يرد عليه أيضاً: أنّ ضيق الوضع يوجب عدم صحّة استعمال أحدهما مكان الآخر حقيقةً، ولكنّه لا يوجب عدم صحّته مجازاً، وهذا الذي ذكره يرجع في مآله إلى مفهوم اللّحاظ، وكلامنا هنا ـ كما عرفت ـ في مصداق اللّحاظ؛ إذ هو الجزء وهو الذي يكون دخيلاً في المعنى الموضوع له والمستعمل فيه.
وأيضاً: فلو كانت الحروف والأسماء مشتركةً في المعنى، وكان كلّ من الاستقلاليّة والآليّة وعدمهما خارجاً عن حريم المعنى، فلازم هذا: جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر، ولو مجازاً، مع أنّه من أفحش الأغلاط؛ لأنّ العلقة الداخليّة موجودة هنا، فإذا كان استعمال اللّفظ في غير ما وضع له جائزاً من جهة العلّة الخارجيّة، فاستعماله هنا يكون جائزاً بطريق أولى، لأنّها هنا ذاتيّة.
وبالجملة: فعدم جواز استعمال أحدهما في مكان الآخر، ولو مجازاً، دليل على أنّ بين المعنيين تبايناً ذاتيّاً. هذا.
مضافاً إلى أنّ هذا الفرق المذكور ليس بقاعدةٍ كلّيّة ومطّردة لكي تجري في كلّ الحروف والأسماء، فمثلاً: لو قلنا: بأنّ الملاك في الحرفيّة هو أن يكون لحاظ المعنى على نحو الآليّة، فإنّ جملةً من الاسماء ستتحوّل لتصبح حروفاً.
وقد مثّل لذلك الاُستاذ الأعظم ﺑـ«التبيّن المأخوذ غايةً لجواز الأكل والشرب في قوله تعالى: ﴿وَكُلُوُاْ وَاشْرَبُواْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأبْيَضُ﴾ الآية() فإنّه قد أخذ مرآةً وطريقاً إلى طلوع الفجر، من دون أن يكون له دخل في حرمة الأكل والشرب وعدمها، فبذلك يعلم: أنّ كون الكلمة من الحروف لا يدور على لحاظه آليّاً»().
ولكنّ ما ذكر إنّما يتمّ لو لم نأخذ التبيّن على أنّه تمام الموضوع للحكم المذكور في الآية، وإلّا، فلا يكون لحاظه آليّاً، بل يكون استقلاليّاً حينئذٍ، كما هو واضح.
وفيما أفاده الاُستاذ الأعظم أيضاً: أنّ الحرف ينقلب اسماً في مثل جملة: «جاء زيد مع عمرو»، «فإذا كان مجيء زيدٍ معلوماً، ولكن كانت كيفيّة مجيئه مجهولةً عند أحدٍ، فلم يعلم أنّه جاء مع غيره أو جاء وحده، فسأل عنها، فقيل: إنّه جاء مع عمروٍ، فالمنظور بالاستقلال والملحوظ كذلك في الإفادة والاستفادة في مثل ذلك إنّما هو هذه الخصوصيّة التي هي من المعاني الحرفيّة، دون المفهوم الاسميّ، فإنّه معلوم، بل إنّ الغالب في موارد الإفادة والاستفادة عند العرف: النظر الاستقلاليّ والقصد الاُولى بإفادة الخصوصيّات والكيفيّات المتعلّقة بالمفاهيم الاسميّة»().
فالحقّ: هو المباينة بين المعنيين تبايناً ذاتيّاً. وما أبعد ما بين هذا القول وبين قول من التزم بأنّه لا معنى للحرف أصلاً، كما سنبيّن.

القول الثاني:
ما عن نجم الأئمّة الرضيّ(): من أنّ الحروف لا معنى لها، أي: ليس لها معنى بحيث يوضع لها لفظ الحرف، بل جعل علامةً على خصوصيّة المعنى في مدخوله، ويكون حالها كحال وجوه الإعراب، فكما أنّ الرفع يدلّ على فاعليّة الفاعل، ﻛ (زيد) في قولك: (قال زيد)، فإنّ (من) كذلك تدلّ على ابتدائيّة مدخولها، وهو (البصرة) في قولك ـ مثلاً ـ: (سرت من البصرة)، و(في) أيضاً تدلّ على ظرفيّة مدخولها ﻛ (الدار) في قولنا ـ مثلاً ـ: (زيد في الدار).
والحاصل: أنّه وكما أنّ الرفع علامة للفاعليّة، ولا معنى له في نفسه أصلاً، فكذلك الحرف، فهو ليس إلّا علامةً لمعرفة معنى الغير، ولا يدلّ على معنىً أصلاً.
ويرد عليه:
أوّلاً: أنّ نفس الخصوصيّة التي دلّت عليها الحروف هي بعينها نفس معانيها؛ إذ بعدما ثبت أنّ الألفاظ موضوعة لذات معناها، كلفظ (زيد) الموضوع لذات المعنى، ولفظ (الدار) الموضوعة لنفس معنى الدار، فإنّ بين (زيد) و(الدار) أو (البصرة) و(الكوفة) مثلاً خصوصيّةً ما تكون خارجةً عمّا وضعت له هذه الألفاظ من المعاني. وما يدلّ على تلك الخصوصيّة إنّما هو الحرف.
فلو لم تكن تلك الخصوصيّة مستفادةً من كلمة (في)، بل من نفس لفظ (الدار) عند الاستعمال، لكان هذا الاستعمال غلطاً، ولا نظنّ أحداً يلتزم بذلك.
وإن كانت تلك الخصوصيّة مدلولاً عليها بالحروف، فهذا اعتراف بأنّ للحروف معنىً، وهو المطلوب.
ومن هنا يظهر الحال فيما ذكره في أجود التقريرات بقوله: «ومنه يظهر الحال في المقيس عليه وهو الإعراب، فإنّا نلتزم فيه بما نلتزمه في الحروف من دلالتها على معانٍ قائمةٍ بمدخولها»()؛ فإنّا لا نحتاج في المقيس عليه ـ وهو الإعراب ـ أن نلتزم بما ذكره هذا المحقّق؛ وذلك لأنّ الدلالة على الإعراب هي النسبة الصدوريّة أو الوقوعيّة أو الحلوليّة، فلا يكون الإعراب دالاً على ذلك، وهذا بخلاف المقام، فإنّ ما يدلّ على النسبة هو الحروف.
وممّا ذكرنا ظهر ما في كلام بعض المحقّقين المعاصرين.
وأمّا منعه دلالة حركات الإعراب على معنىً لنفس الوجه، ففيه: أنّه يستفاد من حركات الإعراب معانٍ وخصوصيّات خارجة عن أصل مدلول الاسم، ولذلك يتغيّر المعنى بتغيّرها وتبدّلها، وذلك ظاهر جدّاً.
وثانياً: إنّ هذا القول مخالف لما اتّفقت عليه كلمة النحويّين في تقسيمهم للكلمة إلى ثلاثة أقسام: الاسم والفعل والحرف؛ فإنّا لو جرّدنا الحرف عن المعنى لم يصحّ أن تقسّم الكلمة إلّا إلى قسمين فقط. فتأمّل.

القول الثالث:
وهو المنسوب إلى المحقّق النائينيّ()، وحاصله:
أنّ معاني الحروف إيجاديّة، وليست إخطاريّةً كمعاني الأسماء، فالمعنى الحرفيّ يباين المعنى الاسميّ من جهة الذات والصفة، فالأسماء تدلّ على المعاني الاستقلاليّة، وأيضاً: فالمعاني الاسميّة عبارة عن الصور التي تحضر في الذهن ويكون لها مطابق في الخارج.
وأمّا الحروف: فليس لها مفهوم متصوّر في الذهن كالمفاهيم الاسميّة، فإنّ ما تحكي عنه كلمة (من) ـ مثلاً ـ ليس هو النسبة الابتدائيّة المقرّرة في الذهن، وإنّما هو عبارة عن وجودٍ ذهنيٍّ يحصل به الربط بين المعاني الاسميّة أو بين الاسم والفعل، فتحقّق هذا الربط بآلة هي آلة الحروف الموضوعة لإيجاد تلك المعاني المربوطة، فكلمة (من) موضوعة لإيجاد الربط الابتدائيّ بين السير والبصرة في مثل قولك: (سرت من البصرة)، وكلمة (على) لإيجاد النسبة الاستعلائيّة بين (زيد) و(السطح)، في مثل: (زيد على السطح).
وبعبارةٍ اُخرى: فالحروف لا مفهوم لها، ولا يمكن تصوّرها على نحو الاستقلال، وتصوّر الشيء فرع وجوده؛ لأنّ تصوّره بصورته منوط بإدراكه بإحدى الحواسّ الظاهرة؛ فإنّ المفهوم مترتّب على التصوّر، وهو على الوجود، فإذا قلت مثلاً: (البصرة، سير)؛ فإنّ هاتين الكلمتين تدلّان على مفهومين لا ربط بينهما، فتأتي كلمة (من) لتكون هي ـ في أصل وضعها ـ ما يوجد الربط الابتدائيّ بين هذين المفهومين.
وبعبارةٍ أوضح: فبما أنّ المعاني الاسميّة لا ارتباط لبعضها مع الآخر، احتيج في مقام تأليف الكلام منها إلى رابطٍ يربط بعضها بالآخر، ولا يمكن أن يكون ذلك الرابط من سنخ المعاني الإخطاريّة، لأنّه لو كان كذلك لاحتاج إلى رابطٍ آخر، وهكذا.. فيتسلسل الأمر إلى غير النهاية؛ لأنّ المعاني الإخطاريّة مستقلّة في نفسها وليست برابطة.
فتعيّن: أنّ ما يراد له أن يكون رابطاً، فلابدّ فيه أن يكون من سنخ حقيقة الربط، وهو الوجود الذهنيّ الذي يصل بين المعاني الإخطاريّة فيربط بعضها ببعض، والموضوع للرّبط بين هذه المعاني في الذهن إنّما هو الحروف.
وملخّص القول:
أوّلاً: أنّ المائز بين المعنى الاسميّ والحرفيّ هو أنّ المعاني الاسميّة إخطاريّة وأمّا الحرفيّة فإيجاديّة، وحقيقة الحروف هي الربط، فحال الحرف كحال اللّاصق الذي به تلتصق الأجزاء المتفرّقة بعضها ببعض.
وثانياً: أنّ المعاني الحرفيّة لا استقلال لها في هويّة ذاتها، بل هي قائمة بغيرها، فالارتباط الذي تدلّ عليه الحروف والهيئات يكون قائماً بالطرفين.
وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الحروف لا معنى لها في حدّ ذاتها وبالاستقلال، وإنّما يوجد معناها في موطن الاستعمال لا قبل ذلك، إذ لا وجود لها قبل ذلك لكي يتصوّر ثمّ يتعقّل، لما ذكرناه من توقّف التعقّل على التصوّر، وهو على وجوده خارجاً حتى يدرك بإحدى الحواس.
فالحاصل: أنّ معاني الحروف لا موطن لها إلّا وعاء الاستعمال ـ كما مرّ ـ وليس لها تقرّر في وعاء الواقع والذهن؛ فإنّ الموضوع له في الحروف ليس هو مفاهيم النسب والارتباطات، بل مصاديقها التي توجد في مواطن الاستعمال، فإذا قلنا: (زيد، الدار، الكتاب ..)، فإنّ لكلّ واحدٍ من هذه الألفاظ مفهوماً مستقلاً، وعندما نلقيهما إلى المخاطب تقع في ذهنه صورتهما ومعناهما الواقعيّ، ولكنّ مفهوم لفظ (في) لا يكاد يحضر في الذهن إلّا مع حضور متعلّقيه وركنيه، وهما (زيد) و(الدار)، فالمعنى الاسميّ مستقلّ في التصوّر، ولا كذلك المعنى الحرفيّ، بل هو يدور مدار الاستعمال حدوثاً وبقاءً.
أو فقل: إنّ حال المعنى الحرفيّ حال العرض في معروضه، إذ ما يلتفت إليه إنّما هو نفس وجود العرض، وأمّا قيامه بالمحلّ وفناؤه فيه فمغفول عنه، فإذا قلنا: (زيد قائم) حضر إلى ذهننا مفهوم زيد ومفهوم القيام، ولكنّ هذين المعنيين إذا أُخذا مستقلّين كان بينهما التباين، ولا يفهم منهما المعنى الجمليّ إلّا بعد تحقّق الربط بينهما، فلو لم يوجد الربط لم يتمّ الكلام ولم يصحّ الإخبار بقيام زيد. فحال هذا الربط إذاً، هو حال ربط العرض بالمحلّ، ويكون مغفولاً عنه كحال العرض مع معروضه.
وثالثاً: لو كان المعنى الحرفيّ إخطاريّاً، وهو عين المعنى الاسميّ، فلابدّ أن يصحّ استعمال الاسم مكان الحرف، وبالعكس، مع أنّ هذا الاستعمال غير جائزٍ، لا حقيقةً ولا مجازاً، الأمر الذي يكشف، كشفاً قطعيّاً عن المباينة وعدم السنخيّة بينهما أصلاً، فللحروف معانٍ، ولكن ليس لها مفاهيم، ولا يجب أن يكون المفهوم لكلّ ما له معنى؛ لما ذكرناه من أنّ معناها لا يوجد إلّا في موطن الاستعمال، لا قبل ذلك حتّى يكون موجوداً ويدرك بإحدى الحواسّ وقابلاً للتصوّر والتعقّل.
وإنّ المعنى الحرفيّ مغفول عنه وغير ملتفتٍ اليه، بخلاف الاسميّ، لأنّه ـ أي: المعنى الحرفيّ ـ لا يكون من المفاهيم المتقرّرة حتّى يكون قابلاً للّحاظ.
وممّا ذكرناه من المباينة بينهما، يظهر:
عدم فرض إمكان وجود جامعٍ بينهما حتّى يحتاج في تمييزها عن الآخر بمميّز.
وظهر أيضاً: أنّ للحرف فناءين، وأمّا الاسم فليس له إلّا فناء واحد، وهو فناؤه في المعنى.
وأمّا فناءا الحرف: فأوّلهما: نفس فناء الاسم ـ أي فناء اللّفظ في المعنى ـ والآخر: فناء المعنى الحرفيّ في معنىً آخر اسميّ، فإذا قلت: (زيد على السطح) مثلاً، فإنّ كلمة (على) في هذه الجملة موجدة للاستعلائيّة القائمة بالسطح، كقيام العرض بمعروضه.
وبالجملة: فالمعاني الحرفيّة إيجاديّة؛ لأنّها لا وجود لها قبل الاستعمال ولأنّها غير ملتفتٍ إليها، ولا تقرّر لها في أيّ وعاءٍ من أوعية الواقع، لا ذهناً ولا خارجاً، بل لا موطن لها حتى في عالم الاعتبار قبل الاستعمال؛ لأنّ الالتفات إليها متوقّف على تصوّرها وإحضارها في الذهن، فإذا فرض أنّه لا وجود لها في غير موطن الاستعمال، وأن ليس لها قبل الاستعمال أيّ وجودٍ أصلاً، فلا يمكن تصوّرها ولا الالتفات إليها في المرتبة السابقة على الاستعمال؛ لأنّ الالتفات إليها قبل الاستعمال إنّما يكون ممكناً مع فرض إمكان وجودها في الذهن، والمفروض ـ كما ذكرنا ـ أن لا وجود لها في أيّ وعاءٍ غير وعاء الاستعمال، وإذا لم يكن لها وجود قبل الاستعمال، امتنع إطلاق وتقييد اللّحاظين فيه.
وقد استدلّ المحقّق النائينيّ على مبناه هذا بوجوه():
الأوّل: بما روي عن أبي الأسود الدؤليّ، عن أمير المؤمنين أنّه قال: «الاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، والحرف ما أوجد معنىً في غيره»().
ثمّ ذكر أنّه يظهر من عدوله عن الإنباء إلى الإيجاد بالنسبة إلى الحرف: أنّ المعنى الحرفيّ لا تقرّر له في أيّ وعاءٍ غير وعاء الاستعمال حتى يدلّ عليه الحرف ويحكي عنه كحكاية أخويه عن معنييهما. ممّا يعني: أنّ الحرف هو فقط آلة لإيجاد معناه.
قال : «وأمّا قوله: (والحرف ما أوجد معنىً في غيره)، فكذلك، أي: أنّه منطبق على ما ذكرناه من أنّ معاني الحروف إيجاديّة بقيودها الأربعة، إذ لازم كونه ما أوجد معنىً في غيره، هو أن يكون المعنى إيجاديّاً، وأن يكون ذلك المعنى قائماً في غيره، وأن لا يكون له موطن غير الاستعمال، وأن يكون مغفولاً عنه، على ما عرفت: من أنّ القيدين الأخيرين من لوازم كون المعنى في الغير»().
ومّما يؤيّد ذلك: ما يظهر من تعبير أهل العربيّة وقولهم: «كلمة (في) للظرفيّة»، حيث لم يقولوا: «(في) هي الظرفيّة».
الثاني: أنّ حرف النداء مثل (يا) في «يا زيد»، لا يمكن أن يكون منبئاً وحاكياً عن النسبة الابتدائيّة المتقرّرة في غير موطن الاستعمال، إذ قبل الاستعمال لا منادىً ولا منادٍ، بل هذه العناوين إنّما توجد بنفس الاستعمال.
الثالث: لا شكّ ولا شبهة في أنّ مفاهيم أجزاء الجملة مفاهيم بسيطة في الأذهان، لا يرتبط بعضها ببعض، بلا فرق بين أن تكون تلك الجمل اسميّةً أو فعليّةً، خبريّةً أو إنشائيّة، ناقصةً أو تامّة.
مثلاً: في مثل قولك: «الماء في الكوز»، لو تصوّرت كلاً من الماء والكوز لوجدت أنّهما موضوعان لمفهومين متغايرين لا ربط لأحدهما بالآخر، ولا يمكن تأليف الكلام منهما لولا كلمة (في)، فلو أنّك استعملت كلمة (في) في مفهوم النسبة الظرفيّة، لا في حقيقة الظّرفيّة ومصداقها، لأصبحت دالّةً ـ هي أيضاً ـ على معنىً مستقلّ.
وحينئذٍ: فلابدّ أن نسأل: ما هو الرابط بين هذين المفهومين المستقلّين المتغايرين، وكيف تحقّق الربط بينهما؟!
ومن هنا يظهر: أنّ الموجد للربط بين المعاني المتغايرة إنّما هو الحروف والهيئات، ولا بدّ حينئذٍ أن تكون الحروف والهيئات موضوعةً لمصاديق النسب والارتباطات، لا لمفاهيمهما؛ إذ من دون ذلك لا يكاد يمكن أن يحصل الربط بين هذه الاُمور المستقلّة والمتباينة من حيث المفهوم.
وأمّا ما قد يقال: من أنّ الرواية عامّيّة لا يعتمد عليها.
ففيه ـ كما نسب إلى المحقّق الجليل السيّد علي البهبهانيّ ـ : «أن ّ الرواية مشتهرة بين أهل العربيّة اشتهار الشمس في رابعة النهار»()، بل هي مشهورة بين العامّة والخاصّة.
هذا وينبغي أن يعلم: أنّ ما ذكره المحقّق النائينيّ في الاستدلال على مبناه هذا فغير تامٍّ.
عدم تماميّة أدلّة المحقّق النائينيّ:
أمّا أوّلاً: فلأنّ الرواية قد حكيت بأشكالٍ مختلفة، منها: «الاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ به، والحرف ما جاء لمعنىً»، ومنها: «الاسم ما دلّ على المسمّى، والفعل ما دلّ على حركة المسمّى، والحرف ما أنبأ عن معنىً ليس باسمٍ ولا فعل» ومنها: «إنّ الاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى، والحرف ما أوجد معنىً في غيره». كما قد رويت أيضاً بألفاظٍ اُخرى().
ومن الروايتين الأوليين: تظهر الإخطاريّة لا الإجاديّة. نعم، الرواية الأخيرة تدلّ على مبناه. وعليه: فمع اختلاف المتن، فلا يمكن الاستدلال بهذه الرواية، حتّى وإن كانت متواترةً من جهة الصدور.
وأمّا ثانياً: فلأنّه لا فرق بين القضيّة المعقولة والقضيّة الملفوظة، فكما أنّ القضيّة الملفوظة تحتاج إلى رابط، فالقضيّة المعقولة أيضاً تحتاج إليه، وبناءً على إيجاديّة المعنى الحرفيّ، يلزم إنكار القضيّة المعقولة؛ لعدم ربطٍ ذهنيٍّ يربط بين الطرفين، اللّهمّ إلّا أن يلتزم بإمكان تحقّق القضيّة وتأليفها من دون ربطٍ بين طرفيها، وهو كما ترى.
وأمّا ثالثاً: فلا شكّ في أنّ المتكلّم إذا أراد أن يلقي كلاماً إلى مخاطبه، فلابدّ له أن يتصوّر أجزاء الكلام بما فيه من النسب والارتباطات، حتى تكون الجملة الملفوظة مطابقةً للجملة المعقولة من المسند والمسند إليه، وكذا يعتبر تصوّر النسب والارتباطات التي تدلّ عليها الحروف والهيئات.
وبعبارةٍ اُخرى: فبعد ما ذكرناه من أنّه لا بدّ من تطابق القضيّة المعقولة مع الملفوظة فالكلام الملقى إلى المخاطب كما أنّه يشتمل على ألفاظٍ تدلّ على مفاهيم مستقلّة لا بدّ من تصوّرها قبل إلقائها إلى المخاطب، فهو كذلك يشتمل على الحروف والهيئات التي تحكي عن الارتباطات والنسب، وهذه لا بدّ من تصوّرها أيضاً.
وهل يعقل إلقاء كلام مفيد إلى المخاطب من دون تصوّر أطرافها بعدما ذكرناه من لزوم التطابق بين القضيّتين؟! فإذا اُلقيت مفاهيم متعدّدة يرتبط بعضها مع بعض، فكما أنّ إبراز تلك المفاهيم والمعاني المستقلّة يكون بالألفاظ من الأسماء والأفعال، فكذلك إبراز تلك النسب يكون بواسطة الحروف والهيئات، فالحاكي عن نفس تلك المفاهيم والمعاني المستقلّة لا يغني عن ما يحكي عن خصوصيّاتها؛ لعدم دلالتها عليها؛ لأنّ المفروض أنّ اللّفظ لا يدلّ إلّا على نفس الطبيعة المهملة المعرّاة عن كلّ خصوصيّةٍ وارتباط.
وعليه: فكما أنّ المفاهيم تحتاج إلى دالٍّ، فالخصوصيّات تحتاج إلى دالّ آخر.
ونتيجة ما ذكرنا: أنّ مداليل الحروف والهيئات هي تماماً كمداليل الأسماء إخطاريّة، وليست إيجاديّة.
وعليه: فما ذكره المحقّق النائينيّ من أنّ المعنى الحرفيّ والاسميّ بينهما تباين بالذات هو الحقّ، وقد مرّ: أنّ التباين بينهما ذاتيّ، وليس من جهة اللّحاظ، ولكنّنا لا نوافقه فيما ذهب إليه من التفريق بين معاني الحروف ومعاني الأسماء بجعل الاُولى إيجاديّة، والثانية إخطاريّة، بل نقول: إنّ معاني الحروف كمعاني الأسماء إخطاريّة، ولا فرق بينهما من هذه الجهة، وإنّما الفرق من جهة اُخرى، وهو: أنّ الأسماء تحكي عن مفاهيم استقلاليّة، وأمّا الحروف فتحكي عن مفاهيم غير استقلاليّة.
وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ الحروف تدلّ على معانيها التي وضعت بإزائها، أي: التي تكون سبباً للرّبط في الكلام بين المفاهيم المتباينة، والتي لم تكن مرتبطةً بعضها ببعض لولا الحروف، لا أنّ الحروف توجب الربط في نفس ذلك التركيب بحيث لا يكون لها واقع خارج تركيب الكلام.
وتحصّل: أنّ للحرف نحو ثبوت في وعاء المفاهيم المستقلّة، ومن هنا نرى أنّ بعض هذه الحروف ليست بمغفولٍ عنها، بل يتعلّق بها اللّحاظ الاستقلاليّ، كما لو أردت أن تسأل عن كيفيّة مجيء زيدٍ مع علمك بأصل مجيئه.
ومعه: فلا وجه للقول بأنّ المعاني الحرفيّة لا مفهوم لها بما هي معانٍ حرفيّة خارجاً عن التراكيب الكلاميّة. إلّا أن يقال: إنّ الحرف بمجرّد تعلّق اللّحاظ الاستقلاليّ به يخرج عن كونه حرفاً، ويدخل في المعنى الاسميّ، كما في قولك: إنّ (على) للاستعلاء، فإنّ هذا الحرف تحوّل عن الحرفيّة ليصير اسماً مبتدءاً، إذ كلّ ما يكون مغفولاً عنه مع البقاء على مغفوليّته فهو حرفيّ، ولكنّه وبمجرّد استقلاله يلحظ مستقلّاً، فيصير معنىً اسميّاً.

القول الرابع:
ما في هداية المسترشدين من التفصيل في الحروف، فبعض الحروف إيجاديّ، كحروف النداء والتمنّي والترجّي، وبعضها إخطاريّ، ﻛ (من) و(إلى) و(على) و(في)، فاستعمال (من) في قولك: «سرت من البصرة إلى الكوفة» ـ مثلاً ـ موجب لإخطار ما وقع في الخارج من نسبة الابتداء، واستعمال (إلى) فيه موجب لإخطار ما وقع في الخارج من نسبة الانتهاء، فهما حاكيان عمّا وقع في الخارج من باب حكاية الألفاظ عن معانيها.
وإليك نصّ ما أفاده:
«الغالب في أوضاع الألفاظ أن تكون بإزاء المعاني التي يستعمل اللّفظ فيها، كما هو الحال في معظم الألفاظ الدائرة في اللّغات، وحينئذٍ: فقد يكون ذلك المعنى أمراً حاصلاً بقصده في نفسه، مع قطع النظر عن اللّفظ الدالّ عليه، فليس من شأن اللّفظ إلّا إحضار ذلك المعنى ببال السامع. وقد يكون ذلك المعنى حاصلاً بقصده من اللّفظ من غير أن يحصل هناك معنىً قبل أداء اللّفظ، فيكون اللّفظ آلةً لإيجاد معناه وأداةً لحصوله.
ويجري كلّ من القسمين في المركّبات والمفردات: فالأوّل من المركّبات: الإخبارات، والثاني منها: الإنشاءات؛ ولذا قالوا: إنّ الخبر ما له خارج يطابقه أو لا يطابقه، والإنشاء ما ليس له خارج، بل يحصل معناه بقصده من اللّفظ.
والنوع الأوّل من المفردات معظم الألفاظ الموضوعة، فإنّها إنّما تقضي بإحضار معانيها ببال السامع من غير أن تفيد إثبات تلك المعاني في الخارج، وهي أعمّ من أن تكون ثابتةً في الواقع أو لا.
والنوع الثاني منها: كأسماء الإشارة والأفعال الإنشائيّة ـ بالنسبة إلى وضعها النسبيّ ـ وعدّة من الحروف، كحروف النداء والحروف المشبّهة بالفعل ونحوها؛ فإنّ كلّاً من الإشارة والنسبة الخاصّة والنداء والتأكيد حاصل من استعمال (هذا) و(اضرب) و(يا) و(إنّ) في معانيها»(). انتهى موضع الحاجة من كلامه.
ولكن، ومّما ذكرنا لك ظهر بطلان هذا التفصيل، وأنّه لا معنى لإيجاديّة الحروف مطلقاً.

القول الخامس:
ما اختاره المحقّق العراقيّ(): وحاصله: أنّ المعنى الحرفيّ هو من قبيل الوجود الرابطي، كالأعراض.
وبيان ذلك: أنّ الفلاسفة ـ على ما قيل ـ يقسّمون الوجود إلى أقسامٍ أربعة:
الأوّل: الوجود في نفسه ولنفسه وبنفسه، وهو وجود الواجب تعالى شأنه، فإنّه موجود قائم بذاته، وليس معلولاً لغيره.
الثاني: الوجود في نفسه و لنفسه ولكن بغيره، وهو وجود الجوهر، فإنّه قائم بذاته، ولكنّه معلول لغيره.
الثالث: الوجود في نفسه ولكن لغيره، وهو وجود العرض؛ فإنّه غير قائم بذاته، بل متقوّم بموضوع في الخارج، فلا يعقل وجود عرض بدون موضوع متحقّق في الخارج. ويعبّر عن هذا القسم في الاصطلاح ﺑـ(الوجود الرابطيّ).
والرابع: الوجود لا في نفسه، وهو المعبّر عنه ﺑـ(الوجود الرابط)، في قبال (الوجود الرابطيّ)، وهو وجود النسبة والربط، فإنّ حقيقة النسبة لا وجود لها في الخارج إلّا بتبع وجود المنتسبين، بلا استقلالٍ لها أصلاً، فهي بذاتها متقوّمة بالطرفين لا في وجودها.
بخلاف العرض، فإنّه بذاته غير متقوّمٍ بموضوعه، وإنّما التقوّم بموضوع من لوازم وضروريّات وجوده.
وإذا اتّضح ذلك، فإنّ الحروف قد وضعت لمعنىً ملحوظٍ بما أنّه حالة للغير ونعت له؛ لأنّه لا يتصوّر بنفسه في الذهن مع غضّ النظر عن الغير، بل لا يمكن وجوده في الذهن مستقلّاً وفي غير الموضوع، كالأعراض الخارجيّة التي لا توجد مستقلّاً وفي غير الموضوع، بل وجوداتها في أنفسها عين وجوداتها لموضوعاتها.
فمفهوم (من) ـ مثلاً ـ ليس هو في الذهن بمعنى: طبيعة الابتداء، حتّى يمكن أن يخبر عنها وأن تلاحظ مستقلّة، وإنّما معنى (من): خصوص الابتداء الذي هو حالة للبصرة ـ مثلاً ـ وبما أنّ معناه غير مستقلّ، فلا يكون من الممكن أن يخبر عنه، وهذا يعني: أنّ (من) لا تدلّ على شيءٍ.
وبالجملة: فالمعنى الحرفيّ حاله حال الأعراض، فكما أنّ الأعراض لا توجد في الخارج مستقلّةً، ولا توجد فيه إلّا في الموضوع، فإنّ الحرف كذلك أيضاً، لا يوجد إلّا حالةً لمعنىً آخر وقائماً به، وليس قيامه بنفسه كقيام المعنى الاسميّ بنفسه.
ولعلّ هذا هو المراد من قولهم: «الحرف ما دلّ على معنىً في غيره». وعليه: فالمعنى الحرفيّ من قبيل الوجود الرابطي، لا الوجود النفسيّ ولا الوجود الرابط.
وفيه:
أوّلاً: قد ذكرنا سابقاً: أنّ المعنى الحرفيّ من قبيل الوجود الرابط، وليس من قبيل الوجود الرابطيّ، كما أنّه ليس من قبيل الوجود النفسيّ المحض؛ إذ من المعلوم بالضرورة عدم استقلاليّة معناه، ولو كان من قبيل الأعراض والوجود الرابطيّ لاحتاج إلى طرفٍ واحد فقط، والوجدان حاكم بأنّه يحتاج إلى طرفين.
وثانياً: المتكلّم حينما يريد أن يلقي جملةً ما، فلابدّ له من تصوّرها أوّلاً، ليلقيها لاحقاً على طبق ما تصوّره، ولا شكّ في أنّ الربط الذهنيّ كالربط الخارجيّ، فكما أنّ الربط الخارجيّ قائم بالطرفين، ولا استقلال له بدونهما، فكذلك الربط الذهنيّ.
وعليه: فالحروف والهيئات تربطان بين الاُمور المستقلّة التي لا ارتباط فيما بينها، فإنّ كلمة (زيد) و (قيام) الموجودين في الجملة ـ مثلاً ـ لو قمنا بتصوّر مفهوم كلّ واحدٍ منهما على حدة، فلا مجال لتصوّر أيّ ارتباط بينهما، وكذا لو فرض وجود زيد في الخارج بلا قيام، أو وجود قيام بلا زيد، فهل يمكن الارتباط بين هذين الموجودين اللّذين لا وجود للارتباط بينهما؟! وكذا الحال في موطن الذهن، فإنّه لا يمكن جعل الارتباط بين شيئين لا ارتباط بينهما، إلّا بواسطة الآلة.
فتحصّل: أنّه كما أنّ الربط الخارجيّ قائم بالطرفين، فكذلك الربط الذهنيّ.
ثمّ إنّه حسب تقسيم الفلاسفة: فوجود العرض وجود في نفسه لغيره، والوجود الرابط وجود لا في نفسه، وهو في مقابل الوجود الرابطيّ.

القول السادس:
ما ذكره الاُستاذ الأعظم، قال:
«التحقيق: أنّ المعاني الحرفية و المفاهيم الأدوية، وإن كانت مرتكزةً في أذهان كلّ أحدٍ ومعلومة لديه إجمالاً، ولذا يستعملها فيها عند الحاجة إلى تفهيمها، إلّا أنّ الداعي إلى البحث عنها في المقام: حصول العلم التفصيليّ بها.
وبيان ذلك: أنّ الحروف والأدوات تباين الأسماء ذاتاً وحقيقةً، ولا اشتراك لهما في طبيعيّ معنىً واحد. وقد تبيّن حكم هذه الناحية من مطاوي كلماتنا فيها، وأنّه لا شبهة في تباين المعنى الاسميّ والحرفيّ بالذات، فلا حاجة إلى الإعادة و البيان. ونتكلّم فيها فعلاً من ناحيةٍ اُخرى ـ بعد الفراغ عن تلك الناحية ـ وهي أنّ المعاني الحرفيّة التي تباين الاسميّة بتمام الذات ما هي؟ فنقول:
إنّ الحروف على قسمين: أحدهما: ما يدخل على المركّبات الناقصة و المعاني الإفراديّة ﻛ (من) و(إلى) و(على) ونحوها. والثاني: ما يدخل على المركّبات التامّة ومفاد الجملة، كحروف النداء والتشبيه والتمنّي والترجّي وغير ذلك.
أمّا القسم الأوّل: فهو موضوع لتضييق المفاهيم الاسميّة في عالم المفهوم والمعنى وتقييدها بقيودٍ خارجةٍ عن حقائقها، ومع هذا، لا نظر لها إلى النسب والروابط الخارجيّة، ولا إلى الأعراض النسبيّة الإضافيّة، فإنّ التخصيص والتضييق إنّما هو في نفس المعنى سواء كان موجوداً في الخارج أم لم يكن.
توضيح ذلك: أنّ المفاهيم الاسميّة، بكلّيّتها وجزئيّتها، وعمومها وخصوصها، قابلة للتقسيمات إلى غير النهاية باعتبار الحصص أو الحالات التي تحتها، ولها إطلاق وسعة بالقياس إلى هذه الحصص أو الحالات، سواء كان الإطلاق بالقياس إلى الحصص المنوّعة، كإطلاق (الحيوان) ـ مثلاً ـ بالإضافة إلى أنواعه التي تحته؛ أو بالقياس إلى الحصص المصنّفة أو المشخّصة، كإطلاق (الإنسان) بالنسبة إلى أصنافه أو أفراده؛ أو بالقياس إلى حالات شخصٍ واحدٍ، من كمّه وكيفه وسائر أعراضه الطارئة وصفاته المتبادلة على مرّ الزمن.
ومن البديهيّ: أنّ غرض المتكلّم، في مقام التفهيم والإفادة، كما يتعلّق بتفهيم المعنى على إطلاقه وسعته، كذلك قد يتعلّق بتفهيم حصّةٍ خاصّةٍ منه، فيحتاج ـ حينئذٍ ـ إلى مبرزٍ لها في الخارج. وبما أنّه لا يكاد يمكن أن يكون لكلّ واحدٍ من الحصص أو الحالات مبرز مخصوص، لعدم تناهي الحصص والحالات، بل عدم تناهي حصص أو حالات معنىً واحدٍ، فضلاً عن المعاني الكثيرة، فلا محالة، يحتاج الواضع الحكيم إلى وضع ما يدلّ عليها ويوجب إفادتها عند قصد المتكلم تفهيمها، وليس ذلك إلّا الحروف والأدوات وما يشبهها من الهيئات الدالّة على النسب الناقصة، كهيئات المشتقّات وهيئة الإضافة والتوصيف، فكلّ متكلّمٍ متعهّد في نفسه بأنّه متى ما قصد تفهيم حصّةٍ خاصّةٍ من معنىً، أن يجعل مبرزه حرفاً مخصوصاً أو ما يشبهه، على نحو القضيّة الحقيقيّة؛ لا بمعنى أنّه جعل بإزاء كلّ حصّةٍ أو حالةٍ حرفاً مخصوصاً، أو ما يحذو حذوه، بنحو الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ، لما عرفت: من أنّه غير ممكنٍ من جهة عدم تناهي الحصص. فكلمة (في) في جملة: (الصلاة في المسجد حكمها كذا)، تدلّ على أنّ المتكلّم أراد تفهيم حصّةٍ خاصّةٍ من الصلاة، وفي مقام بيان حكم هذه الحصّة، لا الطبيعة السارية إلى كلّ فرد. وأمّا كلمتا (الصلاة) و(المسجد)، فهما مستعملتان في معناهما المطلق واللّابشرط، بدون أن تدلّا على التضييق والتخصيص أصلاً.
ومن هنا: كان تعريف الحرف ﺑ (ما دلّ على معنىً قائمٍ بالغير) من أجود التعريفات وأحسنها، وموافق لما هو الواقع ونفس الأمر ومطابق لما ارتكز في الأذهان من أنّ المعنى الحرفيّ خصوصيّة قائمة بالغير وحالة له».
إلى أن قال: «وبكلمةٍ واضحة: إنّ وضع الحروف لذلك المعنى من نتائج وثمرات مسلكنا في مسألة الوضع، فإنّ القول بالتعهّد ـ لا محالة ـ يستلزم وضعها لذلك، حيث عرفت: أنّ الغرض قد يتعلّق بتفهيم الطبيعيّ وقد يتعلّق بتفهيم الحصّة، والمفروض أنّه لا يكون عليها دالّ ما عدا الحروف وتوابعها، فلا محالة يتعهّد الواضع ذكرها أو ذكر توابعها عند قصد تفهيم حصّةٍ خاصّة...».
إلى قوله: «ولا فرق في ذلك بين أن تكون الحصص موجودةً في الخارج أو معدومةً، ممكنةً كانت أو ممتنعةً.
ومن هنا: يصحّ استعمالها في صفات الواجب تعالى، والانتزاعيّات: كالإمكان والامتناع ونحوهما، والاعتباريّات: كالأحكام الشرعيّة والعرفيّة، بلا لحاظ عنايةٍ في البين.
مع أنّ تحقّق النسبة في تلك الموارد ـ حتّى بمفاد هل البسيطة ـ مستحيل. وجه الصحّة هو: أنّ الحروف وضعت لإفادة تضييق المعنى في عالم المفهوميّة، مع قطع النظر عن كونه موجوداً في الخارج أو معدوماً، ممكناً كان أو ممتنعاً، فإنّها على جميع التقادير تدلّ على تضييقه وتخصيصه بخصوصيّةٍ ما على نسقٍ واحد، فلا فرق بين قولنا: (ثبوت القيام لزيد ممكن)، و(ثبوت القدرة لله تعالى ضروريّ) و(ثبوت الوجود لشريك الباري ممتنع)، فكلمة (اللاّم) في جميع ذلك استعملت في معنىً واحدٍ، وهو: تخصّص مدخولها بخصوصيّةٍ ما في عالم المعنى، بلا نظرٍ لها إلى كونه محكوماً بالإمكان في الخارج أو بالضرورة أو بالامتناع، فإنّ كلّ ذلك أجنبيّ عن مدلولها.
ومن هنا: يكون استعمالها في الواجب والممكن والممتنع على نسقٍ واحدٍ، بلا لحاظ عنايةٍ في شيءٍ منها».
انتهى ما أردنا نقله من كلامه().
والذي يظهر: أنّ السبب في اختياره لهذا القول اُمور:
أوّلها: أنّ المعنى المشار إليه يشترك في جميع الموارد لاستعمال الحرف في الواجب تعالى والممكن والممتنع على نسقٍ واحد.
الثاني: بطلان سائر الأقوال.
الثالث: أنّ ما سلكه في حقيقة الوضع من أنّه التعهّد ينتج ضرورة أنّ المتكلّم إذا قصد تفهيم حصّةٍ خاصّةٍ فتفهيمه منحصر بواسطة الحرف ونحوه.
والرابع: موافقة ذلك للوجدان والارتكاز العرفيّ؛ فإنّ الناس يستعملونها لإفادة الحصص في المعاني وتضييقها في عالم المعنى، غافلين عن وجود تلك المعاني في الخارج أو عدم وجودها، وعن إمكان تحقّقها أو عدم إمكانه. وعدم العناية في ذلك كلّه يكشف كشفا قطعيّاً عن أنّ الموضوع له الحرف هو ذلك المعنى وفي نفس المعاني، كان له وجود خارجيّ أم لا.
وقداُجيب عن ذلك:
بأنّ ما ذكر أوّلاً: من التباين بين المعنى الاسميّ والحرفيّ تبايناً ذاتياً حقيقيّاً هو الحقّ، كما مرّ بأنّه ليس التباين بينهما هو باللّحاظ.
وأمّا ما ذكر ثانياً: من أنّه من نتائج ثمرات مسلكنا ـ وهو التعهّد ـ فإنّه غير تامٍّ؛ لأنّه بناءً على الهوهويّة أيضاً ، يمكن لنا أن نقول به.
مع أنّه لا ملازمة بين البحثين أصلاً؛ لأنّ ما يقع البحث هنا هو أنّ الملاك الذي أحرزنا كونه موجوداً في الشيء، بأيّ مقدارٍ يكون موجوداً فيه؟ وهل هذا الملاك مأخوذ على نحو الإطلاق أم التقييد ـ أي الحصّة الخاصّة ـ؟ أو فقل: هل تحصل الحاجة على نحو الاستيعاب؟ أم أنّه يكفي ولو بالحصّة الخاصّة؟ فإذا كان على نحو الاستيعاب فيضع اللّفظ له، وإذا كان على نحو الحصّة الخاصّة فلابدّ من تقييده، بلا فرق بين أن يكون الوضع هو التعهّد أو الهوهويّة أو غير ذلك.
ولكنّ النسبة موجودة، والكلام في البحث اللّفظيّ، وعروض النسبة إنّما هو ممنوع بين الذات المقدّسة والوجود في الخارج، بل في الذهن، وأمّا الألفاظ والربط الذهنيّ فقوامه ـ كما هو ظاهر ـ بالمفاهيم، لا بالوجودات الخارجيّة.
وقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ معنى (من) إخطاريّ، ولكنّ وعاءه بعد ثبوت المفاهيم المتباينة، وبعد وجود ركنيه، فما لم تتمّ ملاحظة السير والبصرة ـ مثلاً ـ ولم تلاحظ النسبة بينهما بحيث يفهم عند إلقاء الكلام بأنّ المراد ليس مطلق السير، بل السير من مكانٍ خاصّ، فلذلك لا ينطبق السير هنا على غير السير من البصرة، وحيث إنّ المراد منحصر في هذه الحصّة الخاصّة من السير، فإنّ ملاحظة المفهومين مع النسبة الكائنة بينهما أمر ضروريّ، وإذا لوحظت هذه المفاهيم في المرتبة السابقة، فعند ذلك تحصل الحصّة وتتحقّق.
فظهر بذلك: أنّ المعنى الحرفيّ موضوع للنّسبة الحاصلة بين السير والبصرة. أي: أنّه موضوع لشيء يكون سبباً للتحصّص، إذ بعدما دلّ كلّ من السير والبصرة على معنىً خاصّ، وبعد أن كان ما يدلّ على النسبة بينهما هو الحرف، فيكون الحرف هو الذي بسببه يحصل التحصّص، لا أنّ الحرف هو بمعنى التحصّص لكي يصبح مدلوله معنىً اسميّاً، والحصّة لا تخرج بالتحصّص عن المفهوميّة الاسميّة، وهي موضوعة للنسب والرابط والتحصص والتضييق سبب لا مسبب، فلا يمكن التضييق بدون النسبة والربط بين مفهومٍ ومفهومٍ آخر.
فمراده: إن كان المسبّب، فهو عين ما قاله الميرزا النائيني؛ وإن كان المسبّب، أعني: نفس مفهوم التضييق أو مصداقه، فيلزم ـ بناءً على الأوّل ـ أن يكون من المعاني الاسميّة، وأمّا بناءً على إرادة المصداق والوجود الخارجيّ، فيرد عليه: أنّ الوجود الخارجيّ لا يقبل الانتقال.
ثمّ إنّ الحكمة إنّما تقتضي تعلّقه بتفهيم نفس الحصّة، لا بالتحصيص والتضييق، وحينئذٍ: فيكون مقتضى الحكمة هو وضع الحرف لنفس الخصوصيّة الموجبة للتضييق، لا لنفس التضييق والتحصيص.
وأيضاً: فلو وضع لنفس المصداق، لزم تحقّق الترادف بين مصاديق التضييق، مع أنّه ليس بينها أيّ ترادف، وإنّما هو التباين؛ لأنّ مفهوم أحدها غير الآخر.
ثمّ إنّه حتّى لو قلنا ببطلان بقيّة الوجوه، فإنّ هذا لا يستلزم صحّة ما ذكره.

الخبر والإنشاء
ثمّ إنّ صاحب الكفاية بعد أن اختار اتّحاد المعنى الحرفيّ والاسميّ بالذات والحقيقة، وأنّ الاختلاف بينهما مقصور على الاختلاف باللّحاظ، قال:
«ثمّ لا يبعد أن يكون الاختلاف في الخبر والإنشاء أيضاً كذلك، فيكون الخبر موضوعاً ليستعمل في حكاية ثبوت معناه في موطنه، والإنشاء ليستعمل في قصد تحقّقه وثبوته، وإن اتّفقا فيما استعملا فيه»().
وحاصل ما أفاده: أنّ الاختلاف بين الخبر والإنشاء اختلاف باللّحاظ فقط دون الذات والحقيقة، وأنّ الإخباريّة والإنشائيّة هما من شؤون مقام الاستعمال، من دون دخلٍ لهما في المعنى، وأنّ طبيعيّ الموضوع له فيهما واحد، وهو نسبة المبدأ إلى الذات، فيكون الخبر عبارةً عن الكلام الذي يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه، والإنشاء ما لا يكون لنسبته خارج كذلك.
وعليه: فإن قصد بالكلام الحكاية عن النسبة كان خبراً، وإن قصد إيجادها في الخارج كان إنشاءً.
مختار المحقّق الأصفهانيّ:
اختار المحقّق الأصفهاني أنّ المعنى الحرفيّ هو كالوجود الرابط، من حيث كونه متقوّماً بالطرفين، ولا وجود ولا تحقّق له إلّا في ضمن طرفين، وأنّ وجوده ليس منحازاً عن وجوديهما، وإنّما نقطة الاختلاف بين المعنى الحرفيّ وبين الوجود الرابط: أنّ المعنى الحرفيّ موطنه الذهن، والوجود الرابط موطنه الخارج.
بل يمكن أن يقال: إنّ المعنى الحرفيّ قسم من الوجود الرابط، وهو: الوجود الرابط في الذهن القائم بمفهومين، والذي قد يعبّر عنه ﺑ«النسبة والربط بين المفاهيم» دون الوجود الرابط في الخارج المعبّر عنه ﺑ«النسبة الخارجيّة».
والذي يشهد على أنّ اختياره هو كون المعنى الحرفيّ الربط في الذهن هو ما ذكره في كتابه «الاُصول على النهج الحديث»، من أنّ الفرق بين المعنى الاسميّ والحرفيّ كالفرق بين الوجود الرابط والوجود المحموليّ().
وقد أورد عليه اُستاذنا الأعظم بوجهين:
الأوّل: أنّه لو سلّمنا تحقق وجود للرّابط والنسبة خارجاً غير وجود الجوهر والعرض، فلا نسلّم وضع الحروف والأدوات لها؛ لما تقدّم من امتناع الوضع للموجودات الذهنيّة والخارجيّة، وتعيّن وضع الألفاظ لذوات المفاهيم والماهيّات؛ لأنّ المقصود من الوضع هو التفهيم، وهو يحصل بحصول صورة المعنى في الذهن باستعمال اللّفظ، والموجود الخارجيّ لا يقبل الإحضار في الذهن؛ لأنّه خلف كونه خارجيّاً، وأمّا الموجود الذهنيّ فهو غير قابل للإحضار ثانياً؛ لأنّ الموجود الذهنيّ لا يقبل وجوداً ذهنيّاً آخر.
وعليه: فيمتنع الوضع للموجود، خارجيّاً كان أم ذهنيّاً، للغويّته وعدم ترتّب أثر الوضع عليه.
والثاني: أنّه لو تنزّلنا عن ذلك، وسلّمنا إمكان الوضع للموجود بما هو موجود، فلا نسلّم وضع الحرف للنّسبة؛ لاستعماله بلا مسامحةٍ في موارد يمتنع فيها تحقّق نسبةٍ ما، حتّى بمفاد (هل) البسيطة، فلا فرق بين قولنا: (الوجود للإنسان ممكن)، و(لله ضروريّ)، و(لشريك الباري ممتنع). فإنّ (اللّام) مستعملة في جميع هذه الأمثلة على نسق واحد، بلا عناية في أحدها، مع أنّه يستحيل فرض استعمالها في النسبة في بعضها، حتّى بمفاد (كان) التامّة، لعدم تحقّق أيّ نسبةٍ بين الواجب وصفاته، لأنّ النسبة إنّما تتحقّق بين ماهيّةٍ ووجودها، نظير ما في قولك: (زيد موجود)().
ولكن، لا يخفى:
أنّ هذا الكلام مجرّد دعوىً بلا دليل، ولا يمكن أن يدّعى إلّا في خصوص الألفاظ المشتركة، كصيغة (بعت) و(ملكت) و (قبلت) وغيرها ممّا يستعمل في الإخبار تارةً وفي الإنشاء اُخرى. وأمّا الألفاظ المختصّة بأحدهما ـ كصيغة (افعل) المستعملة دائماً في الإنشاء، وكالجملة الاسميّة، المستعملة دائماً في الإخبار، نحو: (زيد قائم) ـ فإنّه لم تعهد هناك صحّة قصد الإخباريّة بالألفاظ المختصّة بالإنشاء، ولا الإنشائيّة بالألفاظ المختصّة بالإخبار.
فكلامه ـ إذاً ـ مختصّ بالصيغ المشتركة التي تستعمل فيراد بها الإنشاء تارةً والإخبار اُخرى؛ فإنّ المعنى ـ كما أفاده صاحب الكفاية ـ في مثلها واحد، كما ذكرنا، وهو نسبة المبدأ إلى الذات.
والإخباريّة والانشائيّة ليستا إلّا من الأغراض الداعية إلى الاستعمال، فإنّ الداعي في مقام الإنشاء إنّما هو إيجادها في الخارج، وفي مقام الإخبار الحكاية عنها.
وعليه: فليس الاختلاف بينهما ذاتيّاً، لا من جهة الموضوع له، ولا من جهة المستعمل فيه، وإنّما يختلفان بحسب الداعي، فاستعماله في الإنشاء ليس بمجازٍ، ولا هو على خلاف الموضوع له، بل المعنى في مثله واحد، وهو نسبة المبدأ إلى الذات.
فاتّضح: أنّ الانشائيّة والإخباريّة هما من الأغراض التي تكون داعيةً إلى الاستعمال، بمعنى: أنّه لو قصد المستعمل الإيجاد فهو الإنشاء، وإن قصد الحكاية عن النسبة الواقعيّة فهو الإخبار، وإلّا، فإنّ الصيغة، كما ذكرنا، تستعمل في كلٍّ من الإنشاء والإخبار، وأمّا مدلولها الذاتيّ فليس شيئاً سوى إيقاع النسبة بين المسند والمسند اليه، فكلمة (بعت) ـ مثلاً ـ تستعمل في معناها الموضوع له، وهو نسبة البيع إلى الفاعل، لا أنّها تستعمل تارةً في الإنشاء واُخرى في الإخبار، بل لو قصد المتكلّم الحكاية عن النسبة كان إخباراً، وإن قصد إيجادها كان إنشاءً. فالإنشائيّة والإخباريّة هما نظير الاستقلاليّة والآليّة، خارجتان عن كلٍّ من المعنى الموضوع له والمستعمل فيه.
وعليه: فإن قصدت بها الإنشاء واستعملتها في الإنشاء، فلا يكون ذلك مجازاً؛ لأنّ المفروض أنّه قد استعمل في الموضوع له.
الأقوال في معنى الإنشاء:
ثمّ إنّ في بيان ما هو المراد من الإنشاء احتمالاتٍ ووجوهاً، بل أقوال أربعة:
الأوّل: إيجاد المعنى باللّفظ في نفس الأمر.
والثاني: إيجاده باللّفظ بالعرض، أي: في وعاء الاستعمال.
والثالث: إيجاده باللّفظ في الوعاء المناسب له.
والرابع: إبراز الصفات النفسانيّة باللّفظ.
وأمّا الموضوع له في الجملة الخبريّة فهو عند المشهور ثبوت النسبة أو لا ثبوتها في الخارج.
أمّا القول الأوّل: فهو مختار المحقّق صاحب الكفاية()، وتوضيحه:
أنّ الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى في نفس الأمر، لا الحكاية عن ثبوته وتحقّقه في موطنه، من الذهن أو الخارج، بخلاف الخبر؛ فإنّه عبارة عن الحكاية عن ثبوت المعنى في موطنه. والمراد من وجوده في نفس الأمر هو: ما لا يكون بمجرّد فرض فارضٍ، لا أنّه ما يكون بحذائه شيءٍ في الخارج، فملكيّة المشتري للمبيع لم يكن لها أيّ ثبوتٍ قبل إنشاء التمليك، وإنّما ثبوتها لا يعدو الفرض، كفرض إنسانيّة الجماد وبحر من زئبق وأنياب أغوال، ولكن بعد إنشائها حصل لها نحو ثبوتٍ وخرجت عن مجرّد الفرض، وإن لم يكن بإزائها شيء في الخارج.
فالمعنى الإنشائيّ يوجد بوجودٍ إنشائيّ، ويحصل له نحو تقرّر في عالم الإنشاء، وهذا غير مختصٍّ بالاُمور الاعتباريّة، بل يتعدّاها ليشمل الخارجيّة منها، كالتمنيّ والاستفهام، ممّا يعني: أنّ إنشاء الصفات الواقعيّة النفسانيّة هو ـ أيضاً ـ أمر ممكن.
وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الإنشاء يتحقّق، ولو لم يكن للصّفة الحقيقيّة وجود في الخارج أصلاً، ويترتّب عليه آثاره، لو كانت له آثار. كما أنّه لا يعتبر في الوجود الإنشائيّ ترتّب أثرٍ شرعيٍّ أو عرفيٍّ عليه، ولذا لو تكرر اللّفظ الواحد المنشأ مراراً، فإنّه لا يخرج كلّ منها عن الإنشاء، بل يوجد المعنى بكلّ إنشاءٍ بوجودٍ إنشائيّ مستقلّ غير الآخر، ولا يكون من قبيل إيجاد الموجود كي ينفي كونه إنشاء.
وبكلمةٍ: فالإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى بوجود إنشائيّ اعتباريّ غير إيجاده في عالمه المناسب له من اعتبار وواقع، ومن أجل ذلك كان خفيف المؤونة، ولا يتوقّف على ترتّب أثر عقلائيّ عليه، ولذا، كان إنشاء المجنون لا عن قصد إنشاء، كما أنّه يصلح لأن يسري في الصفات الحقيقيّة الواقعيّة، ولا تتوقّف صحّته على ثبوت تلك الصفات في نفس الأمر والواقع في عالمها الخارجيّ. كما في قول الشاعر: (ألا ليت الشباب يعود يوماً).
والفرق بين الإنشاء والخبر من جهتين:
الاُولى: أنّ مفاد الإنشاء مفاد كان التامّة لا الناقصة.
والثانية: أنّ مفاد الإنشاء يوجد ويحدث بعد أن لم يكن، ومفاد الخبر يحكى به بعد أن كان أو يكون.
وقد يستشكل على هذا:
أوّلاً: بأنّ الإنشاء ـ وكما يظهر من العبارة ـ يكون متقوّماً بقصد الإيجاد، وأمّا الإخبار فهو متقوّم بقصد الحكاية، فلو فرض أنّ كلاماً لم يقصد به شيء من الأمرين فإنّه لا يكون إنشاءً ولا إخباراً، وهذا مخالف لما صدر من أهل الأدب من حصرهم الكلام التامّ الذي يصحّ السكوت عليه في قسمي الإنشاء والإخبار. ولذا نراهم يدخلون كلام الهازل والساخر في الإخبار لو كان قد صدر منهما بنّحو الحكاية، ولو لم يكن لهما أيّ قصد في ذلك، وأمّا لو صدر منهما بنحو الإنشاء فإنّهم يدخلونه في الإنشاء، على الرغم من صدور هذا الكلام بلا قصدٍ.
وثانياً: لو كان الإنشاء متقوّماً بقصد الإيجاد، والإخبار متقوّماً بقصد الحكاية، للزم ـ عند الاستعمال ـ تعلّق القصد بالقصد؛ لأنّ هذا القصد مقوّم للإنشاء أو الإخبار، فلو أراد ـ مثلاً ـ إيجاد البيع وحصوله في الخارج، فلابدّ من قصده ثانياً عند الإنشاء، وكذا في الإخبار، مع أنّا لا نرى ـ بالوجدان ـ إلّا قصداً واحداً.
وقد أورد الاُستاذ الأعظم():
على الإشكال الأوّل: بأنّه لا وجود لكلامٍ لا يقصد به الإنشاء أو الحكاية، بل الكلام التامّ المفيد لا ينفكّ عن قصد أحدهما؛ لأنّ دلالته تصديقيّة لا تصوّريّة.
وعلى الإشكال الثاني: بأنّه أنما يتمّ لو أخذنا قصد الإنشائيّة أو الإخباريّة في الموضوع له أو المستعمل فيه كي يقال: إنّ أحد القصدين هو جزء الموضوع والثاني متعلّق به، ولكنّ الأمر ليس كذلك، وأنّ الموضوع مطلق وليس مقيّداً بقصد الحكاية ولا الإيجاد، بل هذا القصد مأخوذ في العلقة الوضعيّة، بمعنى: أنّها في مقام الاستعمال تقيّدت في الإنشاء بقصد الإيجاد وفي الإخبار بقصد الحكاية.
فهو لا يخرج عن حقيقيّة الاستعمال، بل هو استعمال واحد؛ لأنّ المراد من ثبوت المعنى باللّفظ: إمّا أن يكون بحيث ينسب الثبوت إلى اللّفظ بالذات وإلى المعنى بالعرض، أو أن يراد ثبوته منفصلاً عن اللّفظ بآليّة اللّفظ، بحيث ينسب الثبوت إلى كلٍّ منهما بالذات.
لا مجال للثاني، لأنّ وجود الماهيّات ـ بالذات ـ منحصر في العينيّ والذهنيّ، وسائر أنّحاء الوجود من اللّفظيّ والكتبيّ وجود بالذات للّفظ والكتابة وبالجعل والمواضعة وبالعرض للمعنى.
ولا يخفى: أنّ آليّة وجود اللّفظ وعلّيّته لوجود المعنى بالذات لا بدّ من أن يكون في أحد الموطنين من الذهن والخارج، ووجود المعنى بالذات في الخارج يتوقّف على حصول مطابقه في الخارج أو مطابق ما ينتزع عنه، والواقع بخلافه، إذ لا يوجد باللّفظ موجود آخر يكون مطابقاً للمعنى أو مطابقاً لإيجاد اللّفظ بالمعنى.
والحقّ: هو الوجه الأوّل، وهو أن ينسب وجود واحد إلى اللّفظ والمعنى بالذات في الأوّل، وبالعرض في الثاني، وهو إيجاد المعنى باللّفظ بالعرض. وهذا هو القول الثاني، وهو قول المحقّق الأصفهانيّ وادّعى أنّه مراد صاحب الكفاية().
وإنّما قيّدوه بنفس الأمر مع أنّ وجود اللّفظ في الخارج وجود للمعنى فيه أيضاً بالعرض، تنبيهاً على أنّ اللّفظ بواسطة العلقة الوضعيّة وجود للمعنى تنزيلاً في جميع النشآت، فكأنّ المعنى ثابت في مرتبة ذات اللّفظ بحيث لا ينفكّ عنه في مرحلةٍ من مراحل الوجود.
فإن قلت: هذا جارٍ في جميع الألفاظ بالنسبة إلى معانيها من دون الاختصاص بالإنشائيّات.
قلت: الفرق أنّ المتكلّم قد يتعلّق غرضه بالحكاية عن النسبة الواقعة في موطنها باللّفظ المنزّل منزلتها، وقد يتعلّق غرضه بإيجاد نفس هذه النسبة بإيجاد اللّفظ المنزّل منزلتها، ﻓ (بعت) ـ مثلاً ـ إنشاءً وإخباراً واحد، وهي النسبة المتعلّقة بالملكيّة، وهيئة (بعت) وجود تنزيليّ لهذه النسبة الإيجاديّة القائمة بالمتكلّم والمتعلّقة بالملكيّة، فقد يقصد وجود تلك النسبة خارجاً بوجودها التنزيليّ والجعليّ اللّفظيّ، فليس وراء قصد الإيجاد بالعرض وبالذات أمر آخر وهو الإنشاء.
وقد يقصد ـ زيادةً على ثبوت المعنى تنزيلاً ـ الحكاية عن ثبوته في موطنه أيضاً، وهو الإخبار.
وكذلك في صيغة (افعل) ﻛ (اضرب) فإنّه يقصد به ثبوت البعث الملحوظ نسبةً بين المتكلّم والمخاطب والمادّة، فيوجد البعث في الخارج بوجوده الجعليّ التنزيليّ اللّفظيّ، وهذا لا يقاس ولا ينتقض بالأسماء المفردة، فإنّها لا تلاحظ، ولعدم النظر إلى وجودها خارجاً ثبوتاً لفظيّاً.
وأمّا القول الثالث: فهو المشهور في تفسير الإنشاء، وحاصله:
أنّ الإنشاء بمعنى إيجاد المعنى باللّفظ في عالم الاعتبار العقلائيّ. أي: أنّ المعنى الاعتباريّ في نفسه يوجد له فرد حقيقيّ بواسطة اللّفظ، فيكون إلقاء اللّفظ سبباً لتحقّق اعتبار العقلاء للمعنى، فالإنشاء هو التسبيب باللّفظ إلى الاعتبار العقلائيّ للمعنى.
إذاً، فهذا القول يتّفق مع قول صاحب الكفاية في أنّه إيجاد للمعنى بنحو وجودٍ، وفي عالمٍ آخر غير عالم اللّفظ أو الخارج أو الذهن. وإنّما يختلف عنه: في أنّ وجوده على اختيار صاحب الكفاية نحو وجودٍ إنشائيٍّ من سنخ الاعتباريّات، بحيث يختلف عن سائر الاعتباريّات، فالملكيّة بإنشائها ﺑ (ملكت) توجد ـ على اختيار صاحب الكفاية ـ بوجودٍ إنشائيٍّ اعتباريٍّ غير وجودها الاعتباريّ الثابت لها في نفسها وفي وعائها المفروض لها.
وأمّا على هذا القول: فهي توجد بوجودها الاعتباريّ الثابت لها في حدّ ذاتها، وتتحقق في وعائها المقرّر لها، وهو عالم الاعتبار العقلائيّ.
وتظهر الثمرة في اختلاف القولين فيما يحرّر في محلّه من بطلان الصيغة مع التعليق، وأنّه يعتبر في صحّة العقد تنجيزه، وكذا في نفوذه، ويستثنى من ذلك ما إذا كان التعليق قهريّاً، فإنّه لا يضرّ التعليق عليه وعدمه، بل لا ثمرة فيه إن كان قهريّاً، كما في التعليق على رضا المالك في بيع الفضولي فإنّ الأثر بحسب الاعتبار العقلائيّ إنّما يترتّب مع رضا المالك، فالإنشاء لا ينفذ إلّا على تقدير الرضا.
ووجه ظهور الثمرة في هذا البحث: أنّه إذا التزم بأنّ معنى الإنشاء ما هو المشهور من أنّه استعمال اللّفظ بقصد إيجاد المعنى في عالم الاعتبار العقلائيّ، يتصوّر حينئذٍ قهريّة تعليق هذا على أمرٍ ما، كما لو كان الاعتبار العقلائيّ متوقّفاً على شيءٍ ـ كالمثال السابق ـ.
وأمّا لو التزم بأنّ معناه ما اختاره صاحب الكفاية من أنّه استعمال اللّفظ بقصد إيجاد المعنى بوجود إنشائيّ، فلا يتصوّر قهريّة التعليق على شيء؛ لأنّه مرتبط بنفس المنشئ، بمعنى: أنّ هذا الوجود الإنشائيّ وإن كان عقلائيّاً، إلّا أنّه بقصد الإنشاء، فارتباطه بالمنشئ، لا بالعقلاء كي يتوقّف عندهم في بعض الصور على شيءٍ ما؛ لأنّ ما يقصد إيجاده ليس هو المعنى في وعائه الاعتباريّ العقلائيّ، بل المقصود إيجاده: هو المعنى بوجود إنشائيّ غير وجوده في وعائه المقرّر له، من اعتبار أو غيره، وذلك لا يتوقّف على رضا المالك.
وبالجملة: فلو التزم بما هو المشهور أمكن تحقّق مصداقٍ لصورة التعليق القهريّ، بخلاف ما لو التزم بما التزم به صاحب الكفاية، فإنّه يلزم أن نقول ببطلان العقد في التعليقيّ مطلقاً، قهريّاً كان أم غيره، كما عليه صاحب الكفاية.
ولكن يشكل ـ بناءً على هذا ـ بأنّه يلزم اختصاص إنشاء بعض العقود والإيقاعات بما كان وعاؤه الاعتبار، ولا يشمل ما يكون من الاُمور الحقيقيّة الواقعيّة التي لها ما بإزاء في الخارج، كبعض الصفات النفسيّة مثل التمنّي والترجّي والطلب والاستفهام؛ لأنّ وجودها في وعائها تابع لتحقّق أسبابها التكوينيّة، سواء تحقّق اعتبارها أم لم يتحقّق، اذ ليست هي من الاعتبارات التي تدور مدار اعتبارها وجوداً وعدماً، فلا معنى للتسبيب لإيجادها باللّفظ، كما لا يخفى.
مع أنّ عدّها من الإنشائيّات وكون صيغها من الاُمور الإنشائيّة محلّ اتّفاق.
وأيضاً: فإنّ معرفة تحقّق الاعتبار العقلائيّ تكون بترتيب الآثار من العقلاء عليه، ومعاملته معاملة الثابت حقيقةً، ومع عدم ترتّب الأثر عليه يعلم بعدم الاعتبار، لأنّه لغو مع عدم ترتيب الأثر.
فعليه: يلزم عدم تحقّق الإنشاء في المورد الذي يعلم بعدم ترتيب الأثر، لعدم قصد التسبيب من المنشئ، مع علمه بعدم تحقّق المسبّب والمفروض تقوّم الإنشاء بقصد التسبيب للاعتبار العقلائيّ، وذلك يوجب خروج كثير من الموارد عن الإنشاء:
منها: الإنشاء المكرّر والصيغ المتكرّرة، لوجود المعنى في عالم الاعتبار بأوّل إنشاءٍ، فلا يوجد بالإنشاء الثاني والثالث، إذ لا يوجد المعنى في عالم الاعتبار العقلائيّ مرّةً ثانيةً مع فرض ثبوته للغويّة الاعتبار ثانياً.
ومنها: بيع الغاصب، فإنّه يعلم بعدم ترتيب الأثر على إنشائه.
ومنها: بيـع الفضـوليّ مـع علمـه بعدم لحوق الإجـازة، فإنّ العقلاء لا يعتبرون الملكيّة بأثر إنشائه.
ومنها: بيع غير مقدور التسليم.
ومنها: المعاملة الغرريّة.
وغير ذلك من الموارد التي لا يترتّب عليها الأثر بنظر العقلاء، مع صدق الإنشاء عليها عرفاً، ولذا لا يصحّ إنشاء الغاصب أو المجنون أو الصبيّ والطفل غير المميّز.
وقد اُجيب عن الأوّل: بأنّ معنى الإنشاء ليس هو استعمال اللّفظ في المعنى بقصد إيجاده في عالم الاعتبار، بل استعماله لا بقصد الحكاية، سواء قصد به الإيجاد أو لم يقصد، فالمأخوذ في معنى الإنشاء هو عدم قصد الحكاية لا قصد الإيجاد.
وأمّا الإشكال بلزوم خروج أكثر الإنشائيّات عن الإنشاء فقد اُجيب عنه في مورد الصيغ المتكرّرة: بالالتزام فيما لا يقبل التأكيد والشدّة والضعف، كالملكيّة، بلغويّة الإنشاء الآخر، وأنّه لا يعدّ إنشاءً، وفيما يقبل الشدّة والضعف، كالطلب ونحوه، بأنّ الإنشاء الآخر تأكيد للأوّل، بحيث يكون كلّ منهما دالّاً على مرتبةٍ ما من الإرادة والطلب، فيتأكّد ولا يكون لغواً.
وأمّا بيع الغاصب، فقد اُجيب عن الإشكال به بأنّ الغاصب وإن علم بعدم كونه مالكاً، إلّا أنّه حيث يكون في مقام الإنشاء يدّعي لنفسه الملكيّة، ويبني على أنّه هو المالك ومن له حقّ التصرّف، من باب الحقيقة الادّعائيّة، وعليه: فيترتّب عليه ما يترتّب على المالك من إمكان قصد الإيجاد، ولو لم يتحقّق الإيجاد حقيقةً.
ولكنّ هذا الجواب لا يتأتّى في بيع الفضوليّ، لأنّه لا يدّعي لنفسه الملكيّة كالغاصب، فيبقى الإشكال فيه على حاله. كما يبقى الإشكال في بيع غير المقدور والمعاملة الغرريّة وبيع الفضوليّ مع علمه بعدم لحوق الإجازة.
وأمّا القول الرابع: فهو ما التزم به اُستاذنا الأعظم، قال:
«فالصحيح هو أنّ الجملة الإنشائية موضوعة لإبراز أمرٍ نفسانيٍّ غير قصد الحكاية، ولم توضع لإيجاد المعنى في الخارج. والوجه في ذلك هو:
أنّهم لو أرادوا بالإيجاد: الإيجاد التكوينيّ، كإيجاد الجوهر والعرض، فبطلانه من الضروريّات التي لا تقبل النزاع، بداهة أنّ الموجودات الخارجيّة بشتّى أشكالها وأنواعها، ليست ممّا توجد بالإنشاء، كيف؟! والألفاظ ليست واقعةً في سلسلة عللها وأسبابها كي توجد بها.
وإن أرادوا به: الإيجاد الاعتباريّ كإيجاد الوجوب والحرمة أو الملكيّة والزوجيّة وغير ذلك، فيردّه: أنّه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفسانيّ من دون حاجةٍ إلى اللّفظ والتكلّم به، ضرورة أنّ اللّفظ في الجملة الإنشائيّة لا يكون علّةً لإيجاد الأمر الاعتباريّ، ولا واقعاً في سلسلة علّته، فإنّه يتحقّق بالاعتبار النفسانيّ، سواء كان هناك لفظ يتلفّظ به أم لم يكن. نعم، اللّفظ مبرز له في الخارج، لا أنّه موجد له، فوجوده بيد المعتبر وضعاً ورفعاً، فله أن يعتبر الوجوب على ذمّة أحدٍ وله أن لا يعتبر، وله أن يعتبر ملكيّة مالٍ لشخصٍ، وله أن لا يعتبر ذلك، وهكذا...
وأمّا الاعتبارات الشرعيّة أو العقلائيّة، فهي وان كانت مترتّبةً على الجمل الإنشائيّة، إلّا أنّ ذلك الترتّب إنّما هو فيما إذا قصد المنشئ معاني هذه الجمل بها لا مطلقاً، والمفروض في المقام: أنّ الكلام في تحقيق معانيها، و فيما يترتّب عليه تلك الاعتبارات.
و بتعبيرٍ آخر: إنّ الجمل الإنشائية وإن كانت ممّا يتوقّف عليها فعليّة تلك الاعتبارات وتحقّقها خارجاً، ولكن لا بما أنّها ألفاظ مخصوصة، بل من جهة أنّها استعملت في معانيها.
على أنّ في كلّ موردٍ من موارد الإنشاء ليس فيه اعتبار من العقلاء أو من الشرع، فإنّ في موارد إنشاء التمنّي والترجّي والاستفهام ونحوها، ليس أيّ اعتبارٍ من الاعتبارات، لا من الشارع ولا من العقلاء حتّى يتوصّل بها إلى ترتّبه في الخارج.
إذا عرفت ذلك فنقول: قد ظهر ممّا قدّمناه أنّ الجملة الإنشائيّة ـ بناءً على ما بيّنّاه من أنّ الوضع عبارة عن التعهّد والالتزام النفسانيّ ـ موضوعة لإبراز أمرٍ نفسانيٍّ خاصّ، فكلّ متكلّمٍ متعهّد بأنّه متى ما قصد إبراز ذلك يتكلّم بالجملة الإنشائيّة، مثلاً: إذا قصد إبراز اعتبار الملكيّة يتكلم بصيغة (بعت) أو (ملكت)، وإذا قصد إبراز اعتبار الزوجيّة يبرزه بقوله: (زوّجت) أو (أنكحت)، وإذا قصد إبراز اعتبار كون المادّة على عهدة المخاطب يتكلّم بصيغة (افعل) ونحوها، وهكذا...
ومن هنا قلنا: إنّه لا فرق بينها وبين الجملة الخبريّة في الدلالة الوضعيّة والإبراز الخارجيّ، فكما أنّها مبرزة لاعتبارٍ من الاعتبارات، كالملكيّة والزوجيّة ونحوهما، فكذلك تلك، مبرزة لقصد الحكاية والإخبار عن الواقع ونفس الأمر.
فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا وجه لما ذكره المحقّق صاحب الكفاية من أنّ طبيعيّ المعنى في الإنشاء والإخبار واحد، وإنّما الاختلاف بينهما من ناحية الداعي إلى الاستعمال، فإنّك عرفت اختلاف المعنى فيهما، فإنّه في الجملة الخبريّة شي‏ء، وفي الجملة الإنشائيّة شي‏ء آخر.
وممّا يؤكّد ما ذكرناه: أنّه لو كان معنى الإنشاء والإخبار واحداً بالذات و الحقيقة، وكان الاختلاف بينهما من ناحية الداعي، كان اللّازم أن يصحّ استعمال الجملة الاسميّة في مقام الطلب، كما يصحّ استعمال الجملة الفعليّة فيه، بأن يقال: المتكلّم في الصلاة معيد صلاته، كما يقال: إنّه يعيد صلاته، أو إنّه إذا تكلّم في صلاته أعاد صلاته، مع أنّه من أفحش الأغلاط، ضرورة وضوح غلطيّة استعمال (زيد قائم) في مقام طلب القيام منه، فإنّه ممّا لم يعهد في أيّ لغةٍ من اللّغات. نعم، يصحّ إنشاء المادة بالجملة الاسميّة، كما في جملة (أنت حرّ في وجه اللّه)، أو: (هند طالق)، و نحو ذلك»().
وفيه:
أوّلاً: أنّ ما اعتبره من الاعتبار الشخصيّ لا يحتاج إليه، فإنّه يكفي الاعتبار العقلائيّ.
نعم، لو لم يكن هناك اعتبار عقلائيّ فحينئذٍ تصل النوبة إلى الاعتبار الشخصيّ.
وثانياً: إنّ معنى اعتبار العقلاء هو بناء المعتبر على ما اعتبره، فيقال عند اعتبار العقلاء الملكية لزيد: إنّهم بنوا على أنّه مالك، وأنّهم يرونه مالكاً، ونحو ذلك من التعابير المترادفة. وعليه: فاعتبار الشخص زيداً مالكاً ـ عند إرادة بيعه شيئاً ـ معناه أنّه بنى على أنّه مالك، ثمّ بعد ذلك يقوم بإبراز هذا الاعتبار باللّفظ.
ولكنّ الاعتبار بهذا المعنى لا أثر له، وهو مخالف للوجدان، فإنّ الشخص قبل إجراء الصيغة لا يبني على أنّه مالك، ولو فرض، فلا يرتّب عليه آثار الملكيّة في نفسه، ولا ينظر إليه نظر المالك، بل هو يقصد تمليكه بالصيغة، بحيث يبني على مالكيّته بعد إجراء الصيغة لا قبله.
وقد أورد على أصل المبنى: بأنّ هذا الكلام إنّما يتمّ بناءً على ما هو المتسالم عليه بينهم، من أنّ الجملة الخبريّة موضوعة لثبوت النسبة أو لا ثبوتها، فإذا كانت الجملة حينئذٍ على نحو الحكاية، فتتّصف بالصدق والكذب، أي: فإذا طابقت النسبة الكلاميّة النسبة الخارجيّة فتكون صادقةً، وإلّا فهي كاذبة.
وأمّا الجمل الإنشائيّة، فهي موضوعة لإيجاد المعنى في الخارج ـ ويعبّر عنه بالوجود الإنشائيّ ـ ولا واقع هناك حتّى تطابقه أو لا تطابقه. وقالوا: إنّ الوجود الإنشائيّ نحو من الوجود، ولذا لا تتّصف بالصدق ولا الكذب.
فبناءً على هذا المبنى يصحّ أن نقول: لا مانع من أن يكون المعنى واحداً في كلتا الجملتين، والاختلاف بينهما إنّما يقع من ناحية الداعي إلى الاستعمال().
ولكنّ الحقّ: أنّه بناءً على القول بالتعهّد في الوضع ـ أي: بأنّه متى ما أراد معنىً يتعهّد أن يتكلّم بلفظٍ مخصوص ـ فبما أنّ ثبوت النسبة وعدمها ليس من الاُمور الاختياريّة، فلا يتعلّق بهما التعهّد؛ لأنّه إنّما يتعلّق بأمرٍ اختياريٍّ.
وعليه: فالجملة الخبريّة ليست موضوعةً لثبوت نسبة أو عدم ثبوتها، وإنّما الذي يمكن أن يلتزم به هو: قصد الحكاية والإبراز عن الأمر النفسانيّ؛ بأن تكون الجملة الخبريّة قد وضعت ـ بمقتضى تعهّد الواضع ـ لقصد الحكاية عن الثبوت أو النفي عن الواقع، والجملة إنّما تكون مبرزةً لما يريده الواضع، فهي بنفسها تكون مصداقاً للحكاية، ودلالتها هذه دلالة تصوّريّة، لأنّها غير منفكّةٍ عنها، ولو لم يكن المتكلّم في مقام التفهيم والإفادة، بشرط ألّا ينصّب في مقام الإثبات القرينة على الخلاف.
نعم، كلامه حينئذٍ يكون على خلاف تعهّده، ولذا نرى: أنّ المتكلّم إذا أتى بالجملة الخبريّة، فبما أنّ الدلالة تكون موجودة فظاهر كلامه حجّة عليه ببناء العقلاء، وليس هذا إلّا من جهة التزامه وتعهّده، وليست الجملة الخبريّة إلّا حاكيةً عن الواقع أو مبرزةً له، ولا تتّصف من جهة الدلالة الواقعيّة بالصدق أو الكذب؛ لأنّ هذه الدلالة ثابتة، سواء كانت الحكاية مطابقةً للواقع والخبر صادقاً، أم لم تكن وكان هو كاذباً.
فقولك: (زيد عادل) ـ مثلاً ـ يدلّ على أنّ المتكلّم في مقام قصد الحكاية عن ثبوت العدالة لزيد، وأمّا ثبوت العدالة له واقعاً حتّى تكون الجملة الخبريّة مطابقةً له، أو عدم ثبوتها له كذلك حتّى تكون كاذبةً، فخارج عن الدلالة بالكلّيّة.
فظهر ممّا ذكرنا: أنّه لا فرق بين الجملة الخبريّة والإنشائيّة بالنسبة إلى الدلالة الوضعيّة، فكما أنّ الجملة الإنشائيّة لا تتّصف بالصدق والكذب، بل هي مبرزة، فكذلك بالنسبة إلى الجملة الخبريّة، فإنّها حاكية ومبرزة، حتّى ولو كان المخاطب على علمٍ بكذب المتكلّم في إخباره، فعلى هذا: تكون الجملتان مشتركتين في أصل الإبراز والحكاية؛ وإنّما الفرق بينهما في أنّ أمر الخبريّة متعلّق بالخارج، فإن طابقها كانت صادقةً، وإلّا فكاذبة. وأمّا الإنشائيّة، فأمرها غير مرتبطٍ بالخارج بتاتاً، بل هو أمر نفسانيّ، ومن هنا كانت لا تتّصف بالصدق ولا بالكذب.
وعلى هذا الأساس: فالصدق والكذب في الجملة الخبريّة بحسب ما لها من المدلول، لا بحسب الجملة نفسها، وإنّما تتّصف نفس الجملة بهما بالتّبع والمجاز.
وبالجملة: فما في الجملة الإنشائيّة هو ـ أيضاً ـ عبارة عن الإبراز، ولكنّه إبراز نفسانيّ، مغاير لقصد الحكاية، وليس بمعنى الإيجاد؛ لما عرفت من أنّ المقصود من الإيجاد فيها لو كان هو الإيجاد التكوينيّ، كان باطلاً بالضرورة؛ لأنّ الموجودات الخارجيّة لا تقع في سلسلة عللها.
وإن كان المراد: الإيجاد الاعتباريّ ـ كإيجاد الوجوب والحرمة أو الملكيّة والزوجيّة ـ فإنّا لا نحتاج فيها إلى اللّفظ والتكلّم به، بل يكفي في ذلك نفس الاعتبار؛ لأنّ اللّفظ في الجملة الإنشائيّة ليس بعلّةٍ لإيجاد الأمر الاعتباريّ، كما أنّه ليس واقعاً في سلسلة علله، بل هو يتحقّق بالاعتبار النفسانيّ، سواء أكان هناك لفظ يتلفّظ به أم لم يكن.
فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ اللّفظ مبرز له في الخارج، لا أنّه موجد له، بل وجوده يكون بيد المعتبر، فبناءً على أنّ الوضع هو التعهّد والالتزام النفسانيّ ـ كما ذكرنا ـ فإنّ الجملة مبرزة لإنشاء الأمر النفسانيّ ـ كما قلناه ـ فإذا قصد أن يبرز اعتبار الملكيّة فهو ـ على وفق تعهّده ـ يأتي بالجملة بالإنشائيّة ﻛ (بعت) أو (ملّكت).
ومن هنا ظهر: أنّ هناك اختلافاً بين الجملة الإنشائيّة والإخباريّة في المعنى، وليس في الداعي فقط.
نعم، لا فرق بينهما من جهة الدلالة الواقعيّة والإبراز الخارجيّ؛ بل الجملة الإنشائيّة مبرزة لاعتبارٍ من الاعتبارات، كالملكيّة والزوجيّة، والخبريّة مبرزة لقصد الحكاية والإخبار عن الواقع ونفس الأمر. فليس الفرق والاختلاف بينهما من جهة الداعي.
وأمّا ما ذكر: من أنّ معنى الإنشاء والإخبار، لو كان واحداً من جهة الذات والحقيقة، وكان الاختلاف بينهما من جهة الداعي، لكان اللّازم أن يصحّ استعمال الجملة الاسميّة في مقام الطلب، كما يصحّ استعمال الجملة الفعليّة فيه، مع أنّه من أفحش الأغلاط.
فغير تامٍّ؛ لأنّ المراد في محلّ البحث إنّما هو ما يكون ﻛ (بعت)، التي تستعمل تارةً في الإنشاء واُخرى في الإخبار. وأمّا الجملة الاسميّة ﻛ (زيد قائم)، والإنشائيّة ﻛ (اضرب)، فهذه لم يقل أحد بجواز استعمال كلّ واحدةٍ منهما بدلاً عن الاُخرى، بمن في ذلك صاحب الكفاية نفسه.
والصواب: أنّ الإنشائيّة والإخباريّة خارجتان عن الموضوع له؛ لأنّ الهيئة لا تدلّ على أكثر من نسبة المبدأ إلى الذات، وأمّا كيّفيّة النسبة فهي إنّما تستفاد من الخارج. مضافاً، إلى أنّ المتيقّن هو نسبة العرض إلى المعروض، وأمّا قصد الحكاية أو الإيجاد فخارج عن حقيقة معاني الهيئات، ولو فرض في معنى الإنشاء أنّه الإنشاء باللّفظ للزم أن تكون الألفاظ سبباً.
وحينئذٍ: يأتي ما أورده الاُستاذ الأعظم من أنّه هل المراد به السبب التكوينيّ أم الاعتباريّ؟ وكلاهما غير تامٍّ، فراجع ما ذكره ثمّة().
ولكن يمكن الجواب عن هذا:
بأنّ السببيّة إنّما تضرّ بناءً على التأسيسيّة، وأمّا بناءً على الإمضائيّة، بأن تكون السببيّة من الاُمور العقلائيّة، غاية الأمر: أنّ الشارع أمضى تلك الملكيّة العقلائيّة المنشأة باللّفظ، دون تلك التي تنشأ بالحصى والمنابذة، فلا مانع في أن يكون الإنشاء بهذا المعنى.
هذا. مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: بأنّ اللّفظ ليس سبباً، وإنّما هو من قبيل الآلة ـ كآليّة المفتاح لفتح الباب ـ وحينئذٍ: فيمكن أن يقال: بأنّ الإنشائيّة والإخباريّة دخيلتان في الموضوع له، فيقال ـ مثلاً ـ: صيغة (افعل) موضوعة لإنشاء الطلب، وهكذا..
والتحقيق: أنّهما خارجتان، كخروج الآليّة والاستقلاليّة في الحروف ـ كما قيل ـ، إذ سواء كانت الجملة الخبريّة بالفعل الماضي أو المضارع، فإنّها تدلّ على نسبة المبدأ إلى الذات.
وأمّا الكيفيّة التحقيقيّة أو التلبّسيّة فتفهم من الخارج.
نعم، بما أنّ المتبادر من الفعل الماضي هو أنّ المتكلّم في مقام الإخبار، فلو اُريد أن تستعمل في الإنشاء فلابدّ من نصب قرينةٍ لذلك، بخلاف ما لو اُريد منها قصد الحكاية، فإنّها حينئذٍ لا تحتاج إليها.


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com