الفصل السادس: في أقسام الدلالة

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

الفصل السادس: في أقسام الدلالة


هل الألفاظ موضوعة لذوات المعاني من حيث هي هي أم أنّها موضوعة لها بما هي مرادة؟
لا إشكال في أنّ الألفاظ موضوعة لذوات المعاني بما هي هي، لا بما أنّها مرادة، وإلّا، لزم إشكالات:
الإشكال الأوّل: أنّ الإرادة وقصد المعنى من مقوّمات الاستعمال، فلو أخذت هذه الإرادة قيداً أو جزءاً، لزم تعدّد اللّحاظ، بل يكون مستحيلاً للزومه الدور؛ لأنّ هذه الإرادة والقصد ناشئة من طور الاستعمال المتأخّر عن المعنى، فيكون مقامنا كمقام استحالة قصد الأمر في المتعلّق المتقدّم عليه رتبة؛ لأنّ قصد الأمر يكون متأخراً عن متعلّقه، فإذا توقّف شيء من المتعلّق على الأمر لزم الدور.
فإن كان البناء على أنّ هذه الإرادة مغايرة للإرادة الاستعماليّة لزم من ذلك محاذير عدّة:
منها: وجود إرادتين: إحداهما: تكون جزءاً للمستعمل فيه، والثانية: هي التي يحتاج إلى وجودها في مقام الاستعمال.
ومنها: أنّ حمل الوصف على ذات مّا إنّما يلحظ فيه حمل الوصف الخارجيّ على الذات الخارجيّة، ففي قولك: (زيد قائم)، حمل الوصف على الذات في الخارج، فإذا كان الموضوع له لفظ (زيد) و(قائم)، هو المعنى المتعلّق بالإرادة، كان المعنى أمراً ذهنيّا، لتقييده بما هو ذهنيّ، وهو الإرادة، فكان لا بدّ من تجريده عن الإرادة عند الحمل، وهو يستلزم التجوّز، بل لغويّة أخذ الخصوصيّة في الموضوع.
ومنها: أنّه بناءً على ذلك فلابدّ من تجريده، ففي قولك: (نصر زيد) ـ مثلاً ـ يكون المسند هو ذات (نصر) لا (نصر) المرادة، ممّا يعني: أنّه لابدّ أن نلتزم بالمجاز في جميع الاستعمالات، أي: بأنّ اللّفظ الموضوع لمجموع المعنى والإرادة يستعمل دائماً في خصوص المعنى، دون المجموع، ممّا يعني: بقاء الوضع بلا فائدة ولا حكمة.
والإشكال الثاني: يلزم ـ بناءً على هذا ـ أن يكون الوضع في جميع الألفاظ عامّاً والموضوع له خاصّاً دائماً؛ لأنّ المفروض أنّ هذه الإرادة التي أصبحت جزءاً للموضوع له أو قيده موجبة لصيرورته جزئيّاً.
فإن قلت: وأيّ محذور يترتّب على ذلك؟
قلنا: إنّه خلاف ما ذهبوا إليه من تقسيم الوضع إلى أربعة أقسام.
والإشكال الثالث: لو كانت المعاني مقيّدةً بالإرادة لدخلت في الاُمور الذهنيّة، ولا يمكن حينئذ أن تصدق على الخارجيّات.
والإشكال الرابع: لو كان كذلك، لكان على خلاف المتبادر؛ لأنّ ما يتبادر إلى الذهن من اللّفظ هو نفس المعنى، لا المراد.
والإشكال الخامس: أنّه لا يبقى لأيّ لفظ معنى بسيط أصلاً؛ لاستلزامه تركّب جميع المعاني الموضوع لها اللّفظ من المعنى والإرادة.
وأمّا ما أفاده المحقّق العراقي():
من أنّ انحصار اللّفظ بذلك: ـ أي وضعه للمعنى مع قيد المراد ـ يستلزم كون اللّفظ موضوعاً للمركّب من المعنى الاسميّ، وهو ذات المعنى، والحرفيّ، وهو التقيّد، أي: من الآليّة والاستقلاليّة، وهو أمر ينافي سيرة الوضع بحسب الاستقراء والتتبّع.
فقد أورد عليه اُستاذنا الأعظم بأنّ «الاختلاف بين المعنى الحرفيّ والاسميّ ـ كما عرفت ـ اختلاف بالذات والحقيقة، لا باللّحاظ الآليّ والاستقلاليّ. فالمعنى الحرفيّ حرفيّ، وإن لوحظ استقلالاً، والمعنى الاسميّ اسميّ، وإن لوحظ آليّاً، و قد اعترف هو أيضاً بذلك. وعليه: فالإرادة معنىً اسميّ، وإن لوحظت آلةً، ولا تنقلب بذلك عن المعنى الاسميّ إلى المعنى الحرفيّ حتّى يلزم وضع اللّفظ لمعنىً مركّب من معنىً اسميّ وحرفيّ.
على أنّك قد عرفت أنّ المعنى الحرفيّ كالمعنى الاسميّ ملحوظ استقلالاً لا آليّاً، فلا وجه حينئذ لتخصيص الإيراد بصورة أخذ الإرادة قيداً لا جزءاً. إلّا أن يكون مراده من المعنى الحرفيّ نفس التقيّد بالإرادة لا نفس الإرادة، فإنّه معنىً حرفيّ.
ولكنّه مدفوع: أوّلاً: بالنقض بوضع الألفاظ للمعاني المركّبة أو المقيّدة، فإنّ معانيها متضمّنة للمعنى الحرفيّ لا محالة، إذ كلّ جزء مقيّد بجزء آخر، فالتقيّد معنىً حرفيّ.
وثانياً: أنّه لا مانع من وضع لفظ لمعنىً مركّب من معنىً اسميّ وحرفيّ إذا دعت الحاجة إليه، فإذا فرض أنّ الغرض تعلّق بوضع الألفاظ للمعاني المقيّدة بإرادة المتكلّم، فلا مانع من وضع الألفاظ لها كذلك، إذ الوضع فعل اختياريّ للواضع، فله أن يقيّد المعنى الموضوع له بأيّة قيود شاء، ولا محذور فيه، والاستقراء المدّعى في كلامه لو تمّ، فلا يدلّ على استحالة ذلك الوضع. على أنّ ذلك لو تمّ، فإنّما يتمّ إذا كان الواضع من أهل كلّ لغة واحداً أو جماعةً معيّنين ليثبت له الطريقة الخاصّة في الوضع، التي فرض عدم جواز التخلّف عنها، إلّا أنّه فرض في فرض.
وثالثاً: أنّه لا أساس لذلك الإيراد أصلاً، فإنّه مبتن على أخذ الإرادة في المعنى الموضوع له، وأمّا إذا لم تؤخذ فيه أبداً، بل كانت مأخوذةً في العلقة الوضعيّة، فلا مجال لذلك الإيراد»().
وأقول:
أوّلاً: إنّ هذا الإشكال إنّما يتمّ بناءً على القول بالفرق بين المعنى الحرفيّ والاسميّ باللّحاظ الآليّ والاستقلاليّ، ولكن الاختلاف بينهما ـ كما مرّ عليك ـ اختلاف بالذات، والمعنى الحرفيّ أيضاً ملحوظ استقلالاً.
وثانياً: إنّ جميع المعاني المركّبة أو المقيّدة مركّبة من معنى اسميّ وحرفيّ؛ لأنّ التقيّد معنىً حرفيّ.
ولكنّ هذا النقض إنّما يتمّ بناءً على ارتباط الأجزاء بعضها ببعض في الموضوع له.
وأمّا إذا قلنا بأنّ اللّفظ موضوع لذوات الأجزاء، فلا، وسيأتي تحقيق ذلك في الأبحاث الآتية، كمبحث الوضع للصّحيح والأعمّ ومبحث مقدّمة الواجب، وشمول المقدّمة للأجزاء، فإنّه يبتني على كون المركّب هل هو ذوات الأجزاء أو بوصف الاجتماع.
وثالثاً: لا مانع من ذلك إذا دعت إليه الضرورة ولم تؤخذ الإرادة قيداً للموضوع له، بل كانت مأخوذةً في العلقة الوضعيّة، كما أشار إليه اُستاذنا الأعظم فيما عرفت.
المراد من كلام العلمين:
قال صاحب الكفاية: 
«وأمّا ما حكي عن العلمين: الشيخ الرئيس والمحقّق الطوسيّ من مصيرهما إلى أنّ الدلالة تتبع الإرادة، فليس ناظراً إلى كون الألفاظ موضوعةً للمعاني بما هي مرادة، كما توهّمه بعض الأفاضل، بل ناظر إلى أنّ دلالة الألفاظ على معانيها بالدلالة التصديقيّة، أي: دلالتها على كونها مرادةً للافظها، تتبع إرادتها منها ويتفرّع عليها، تبعيّة مقام الإثبات للثّبوت، وتفرّع الكشف على الواقع المكشوف، فإنّه لولا الثبوت في الواقع، لما كان للإثبات والكشف والدلالة مجال.
ولذا، لا بدّ من إحراز كون المتكلم بصدد الإفادة في إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه ودلالته على الإرادة، وإلّا لما كانت لكلامه هذه الدلالة، وإن كانت له الدلالة التصوّريّة، أي: كون سماعه موجباً لإخطار معناه الموضوع له، ولو كان من وراء الجدار أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار.
إن قلت: على هذا: يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ والقطع بما ليس بمراد، أو الاعتقاد بإرادة شي‏ء، ولم يكن له من اللّفظ مراد.
قلت: نعم، لا يكون حينئذ دلالة بل يكون هناك جهالة وضلالة، يحسبها الجاهل دلالةً. ولعمري ما أفاده العلمان من التبعيّة على ما بيّنّاه واضح لا محيص عنه. ولا يكاد ينقضي تعجّبي كيف رضي المتوهّم أن يجعل كلامهما ناظراً إلى ما لا ينبغي صدوره عن فاضل، فضلاً عمّن هو علم في التحقيق والتدقيق»().
وحاصله: أنّ ما ورد عن العلمين: الشيخ الرئيس، والمحقّق الطوسيّ: من أنّ الدلالة تتبع الإرادة()، فليس المراد منه أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني المرادة، أي: أنّ الإرادة قد أخذت في المعنى الموضوع له شطراً أو شرطاً، بل المقام من باب أنّ التمسّك بالإطلاق إنّما يمكن بعد إحراز كون المتكلّم في مقام البيان، وهي الإرادة الجديّة، ومعناها: أنّ المعنى الموضوع له اللّفظ مراد للمتكلّم إرادةً جدّيّةً، بحيث يصحّ للمخاطب أن يحتجّ به عليه. وهذه الدلالة تتوقّف على إحراز كون المتكلّم في مقام البيان.
وتوضيح ذلك: أنّ الدلالة على أقسام ثلاثة:
القسم الأوّل: الدلالة التصوّريّة: بمعنى: خطور المعاني الإفراديّة من ألفاظها إلى نفس المخاطب بمجرّد التكلّم، وهذا لا يتوقّف على شيء سوى العلم بالوضع.
فكلّ من علم بالوضع ينتقل المعنى إلى ذهنه حين سماع اللّفظ، بلا فرق بين أن يكون المعنى مراداً للّافظ أم لا، بل حتّى لو فرض أنّه لم يرده، أو نصب قرينةً على عدم إرادته، بل ولو فرض صدروه من لافظ بلا شعور ولا اختيار، أو عن اصطكاك حجر بحجر، فإنّ هذه الدلالة تحصل وتتحقّق.
وعليه: فهذه الدلالة من الاُمور القهريّة الخارجة عن الاختيار، وهي لا تتوقّف على شيء كما بيّنّا، سوى العلم بالوضع وسماع اللّفظ.
القسم الثاني: الدلالة التصديقيّة: وهي حضور معنى الجملة إلى الذهن بعد ضمّ المعاني الإفراديّة بعضها إلى بعض وملاحظة القرائن والأخذ بظواهرها، وما يترتّب على هذه الدلالة هو صحّة إسناد مضمون الكلام إلى المتكلّم ظاهراً، بأن يقال: إنّ كلامه كان كذا وكذا... ويجب عند أهل المحاورة العمل على طبقها، والمشي على وفقها، وهذه الدلالة غير متوقّفة على إرادة المتكلّم، فيؤخذ بظهور كلامه، كان يريده في حاقّ الواقع أم لم يكن. نعم، تتوقّف هذه الدلالة على عدم العلم بإرادة الخلاف؛ لأنّه لو أتى بما يصلح للقرينيّة لهدم الظهور، وأصبح الكلام ـ بالتالي ـ غير قابل للأخذ بظهوره.
القسم الثالث: الدلالة التصديقيّة الجدّيّة: أيّ أن الإرادة الجدّيّة مطابقة للإرادة الاستعماليّة، وهذه الدلالة ثابتة ببناء العقلاء، إلّا أنّها تتوقّف على إحراز كون المتكلّم في مقام البيان وإرادة ما يقوله.
ولا شكّ في تبعيّة هذه الدلالة للإرادة، بل يكون ذلك من قبيل الضرورة بشرط المحمول، ومن المعلوم: أنّ احتجاج العبد إنّما يصحّ بعد إحرازه أنّ المولى كان في مقام البيان، ولو بأصل عقلائيّ.
وعليه: فما ذكره بعض المحقّقين من أنّ الأساس في كون الظواهر مرادةً هو بناء العقلاء على حجّيّة الظواهر، ولو مع عدم العلم بقصد المتكلّم لها، لا يمكن المساعدة عليه؛ لأنّ كون نفس الظواهر كاشفةً عن الإرادة الجدّيّة للمتكلّم، وترتيب الآثار على إرادته، كما هو الحال في التقارير والسجلّات محلّ تأمّل.
وقد ظهر: أنّ مراد المحقّق من تبعيّة الدلالة للإرادة هو الثالث من هذه الأقسام.
وخلاصة الكلام: أنّ الألفاظ قد وضعت لنفس المعاني، لا للمعاني المقيّدة بنحو من أنحاء الإرادة، بلا فرق بين أن يكون التقيّد داخلاً والقيد خارجاً، أو أن يكون كلاهما داخلاً، أو كلاهما خارجاً، بأن يكون المعنى ظرفاً للقيد.
وغاية ما يمكن أن يستدلّ به على مطلبهم هو: أنّ الوضع من الأعمال العقلائيّة، ولا شبهة في أنّ الواضع حينما أراد الوضع كان دافعه إلى ذلك هو تسهيل الطريق إلى الإفادة والاستفادة، وهو ـ طبعاً ـ يكون متعلّقاً لإرادة المتكلّم، وعليه: فيكون الموضوع له هو المعنى المقيّد بالإرادة.
وفيه: أنّه إن اُريد من كون الموضوع له هو المعنى الذي يكون مقيّداً بالإرادة، ولو كان التقيّد داخلاً والقيد خارجاً، فتأتي المحاذير السابقة.
وقد ظهر ممّا ذكرنا: أنّ لمثل قوله تعالى: ﴿وَأَحَلّ اللهُ الْبَيْعَ﴾()، دلالات ثلاثاً:
إحداها: الدلالة التصوّريّة: وهي أنّ معاني الأفراد تخطر في الذهن بمجرد السماع بعد إلقاء الألفاظ، وقد قلنا: بأنّ هذه الدلالة قهريّة لا تتوقّف على شيء غير العلم بالوضع وسماع اللّفظ، ولو كان صادراً من لافظ ساه أو نائم أو غير ذي شعور.
والثانية: حضور المعنى المتحصّل من الجملة في الذهن بعد ارتباط هذه المعاني بعضها ببعض وإلقائها إلى المخاطب وملاحظة القرائن، وبعد هذا الإلقاء يصحّ نسبة مضمون الكلام إلى المتكلّم بأن يقال: إنّه قال بجواز البيع ـ مثلاً ـ.
وهذه الدلالة قسم من الدلالة التصديقيّة نظراً إلى دلالة الجملة الملفوظة على المعنى المتحصّل الذي توقّف على إسناد المحمولات إلى موضوعاتها، والإذعان من السامع بأنّ مضمون كلامه كان كذا وكذا. وأمّا إذعانه بأنّ مضمون كلامه مراد له فهو لا يظهر من هذه الدلالة.
والثالثة: دلالة الكلام على كون المعنى المتحصّل منه مقصوداً ومراداً للمتكلّم، بحيث يصحّ للمخاطب أن يحتجّ بها عليه. وهذه الدلالة تتوقّف على إحراز أنّ المتكلّم كان في مقام البيان. والدلالة التصديقيّة التي تكون تابعةً للإرادة هي هذه الدلالة. ولا ينبغي الارتياب في تبعيّتها لها، كيف لا؟! وصحّة احتجاج العبد على مولاه بظاهر كلامه منوطة بإحراز كون المولى في مقام البيان، ولو بأصل عقلائيّ.
فحينئذٍ: يصحّ أن يقال ـ مثلاً: ـ إنّ المتكلّم أراد حلّيّة البيع، وإنّ هذه الحلّيّة التي هي مضمون الجملة كانت مرادةً ومقصودةً له، لا أنّه تكلّم بها على سبيل التقيّة أو الهزل مثلاً.
وبعبارة أُخرى: فهذه الدلالة هي بمعنى أنّ المتكلّم قال بمضمون الكلام، أي قال: بالحلّيّة ـ مثلاً ـ، فهي موجودة في القسم الثاني. وأمّا الدلالة على أنّه كان مراده جدّيّاً، وأنّه قال كلامه هذا لا عن تقيّة، فلا تثبت إلّا بعد الإحراز، كما بيّنّا.
وتحصّل: أنّ الدلالة التفهيميّة لا تتوقّف على شيء غير السماع، وإحراز أنّ المتكلّم كان في مقام التفهيم، وهي موجودة حتى فيما إذا علم بكذب المتكلّم، إلّا إذا نصب قرينةً منفصلةً على أنّه ليس في مقام التفهيم.
وأمّا الإرادة الجدّيّة ـ والتي هي القسم الثالث ـ فتحتاج، علاوةً على ذلك إلى شيء آخر، وهو الإحراز، حتى تجعل الإرادة الاستعماليّة موافقة للإرادة الجديّة، ومقام الإثبات مطابقاً لمقام الثبوت والواقع. وأمّا الإرادة التفهيميّة فهي موجودة دائماً، بمقتضى الوضع والقانون اللّغويّ، سواء كانت متصادقة مع الإرادة الجدّيّة أم لم تكن.