الفصل الثالث عشر: استعمال اللّفظ في أكثر من معنى

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

الفصل الثالث عشر: استعمال اللّفظ في أكثر من معنى


وقبل الدخول في أصل البحث لا بدّ من بيان اُمور:

الأمر الأوّل:
المراد من استعمال اللّفظ في أكثر من معنى هو: استعماله في كلّ من هذه المعاني على نحو الاستقلال، وإرادة كلّ منها كذلك في استعمال واحد، كما يراد كلّ واحد من المعاني باللّفظ منفرداً، وليس المراد استعماله في مجموع المعاني، بحيث يعدّ كلّ منها جزءاً للمستعمل فيه، كالعامّ المجموعيّ؛ فإنّ هذا خارج عن محلّ البحث، وكذا استعماله في الجامع بين المعاني، بحيث يكون كلّ واحد فرداً لذلك الجامع، كاستعمال صيغة الأمر في مطلق الطلب الذي هو جامع بين الوجوب والندب.
وكذا استعمال اللّفظ في كلّ واحد لا بعينه، بحيث يكون المعنى هو الفرد المردّد بين المعاني.

والأمر الثاني:
أنّ المراد من الاستعمال هو: استعمال اللّفظ في المعاني الإفراديّة التصوّريّة، دون التركيبيّة؛ لأنّ الألفاظ موضوعة لذلك، وأمّا معاني الجمل فإنّها تستفاد من ضمّ المفردات بعضها إلى بعض.

الأمر الثالث:
هل هذا الاستعمال مجاز أم لا؟
قد يقال: بالمجازيّة؛ لأنّ اللّفظ وضع للمعنى مقيّداً بالوحدة، فاستعماله في المعنيين مستلزم لإلقاء قيد الوحدة، فيصبح استعمالاً في غير ما وضع وغير المعنى الحقيقيّ.
ويرد عليه: ما سيأتي: من أنّه لم يوضع للمعنى مع قيد الوحدة، بل لا دليل على اعتباره فيه؛ لأنّه لو اُريد من قيد الوحدة: لحاظ المستعملين للوحدة، فإنّه محال أخذه؛ لأنّه يوجب أخذ ما هو المتأخّر عن الوضع ـ أي اللّحاظ الناشئ عن الاستعمال الذي هو متأخّر ـ في الموضوع له.
وبعبارة اُخرى: فإنّنا نسأل: هل المراد من الوحدة التي تصوّرها قيداً هو أن تكون قيداً للموضوع له أو للاستعمال، بأن يكون الواضع قد شرط على المستعملين أنّه لا يجوز لهم استعمال اللّفظ في الموضوع له إلّا حال الانفراد، أي: انفراد المعنى ووحدته؟! إن كان هذا هو المراد، فهو شرط تعبّديّ ولا يجب اتّباعه، بل ـ وعلى فرض المخالفة ـ لا يضرّ بحقيقة الكلام.
وأمّا لو فرض أنّه شرط لتحقّق الوضع، فإن كان المراد: أنّ الوحدة قيد للموضوع له، فلابدّ من اتّباع الواضع عند الاستعمال، ولكنّ هذا غير ثابت.
وأمّا إذا كان قيداً لنفس الوضع، بحيث يكون ثبوت الوضع متوقّفاً على الاستعمال، ففيه: أنّه محال؛ لأنّ معناه: أن يكون الشيء المتأخّر دخيلاً في المتقدّم، وقد ذكرنا سابقاً: أنّ الاستعمال عبارة عن إفناء اللّفظ في الموضوع له، فلو توقّف الوضع عليه لدار.
وأمّا ما ذكره صاحب القوانين: من أنّ الوضع حصل حال وحدة المعنى، وبما أنّ اللّغات توقيفيّة، فلا يجوز استعماله في أكثر من معنى، بل لا بدّ من مراعاة الانفراد حين الاستعمال في المعنى. وأمّا استعماله في أكثر من معنىً فهو مناف لتوقيفيّة اللّغات.
قال: «لا أقول: إنّ الواضع يصرّح بأنّي أضع ذلك اللّفظ لهذا المعنى بشرط أن لا يراد معه شي‏ء آخر وبشرط الوحدة، ولا يجب أن ينوي ذلك حين الوضع أيضاً، بل أقول: إنّما صدر الوضع من الواضع مع الانفراد، وفي حال الانفراد، لا بشرط الانفراد، حتى تكون الوحدة جزءاً للموضوع له ـ كما ذكره بعضهم ـ فيكون المعنى الحقيقيّ للمفرد هو المعنى في حال الوحدة لا المعنى والوحدة...
إلى أن يقول: والحاصل: أنّ المعنى الحقيقيّ توقيفيّ لا يجوز التعدّي فيه عمّا علم وضع الواضع له، وفيما نحن فيه: لا نعلم كون غير المعنى الواحد موضوعاً له اللّفظ، فلا رخصة لنا في استعمال اللّفظ بعنوان الحقيقة إلّا في المعنى حالة الوحدة، لا بشرط الوحدة»().
فقد أجاب عنه صاحب الكفاية بما لفظه:
«فانقدح بذلك: امتناع استعمال اللّفظ مطلقاً ـ مفرداً كان أو غيره ـ في أكثر من معنى، بنحو الحقيقة أو المجاز، ولولا امتناعه فلا وجه لعدم جوازه، فإنّ اعتبار الوحدة في الموضوع له واضح المنع، وكون الوضع في حال وحدة المعنى، وتوقيفيّته، لا يقتضي عدم الجواز بعدما لم تكن الوحدة قيداً للوضع ولا للموضوع له، كما لا يخفى»().
وتوضيحه: أنّ الوضع وإن كان قد تحقّق حال وحدة المعنى وانفراده، إلّا أنّ هذا لا يمنع عن استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، وهو لا يعني: أنّ هذه الحال تجب متابعتها، وإلّا، فلو كانت متابعته واجبةً، لكانت متابعة سائر الحالات المقارنة للوضع أيضاً واجبة، ولكان تركها مانعاً عن صحّة الاستعمال، كما إذا أوقع الوضع في اللّيل ـ مثلاً ـ فيجب الالتزام حينئذ بعدم استعماله إلّا في اللّيل، وهو كما ترى. فالحقّ: أنّ اللّفظ قد وضع لذات المعنى، من دون قيد من الوحدة وغيرها. نعم، قد يوضع اللّفظ للمعنى المقيّد بشيء؛ كالرجل الموضوع للإنسان بقيد الذكوريّة، فهنا لا يكون محذور أصلاً في استعمال اللّفظ في أكثر من معنى.
نعم، يأتي المنع إذا فرض الانفراد قيداً للوضع، ويكون هذا القيد من قبيل الشرط على المستعملين من قبل الواضع، كأن يقال: لا تستعملوا اللّفظ إلّا في حال الانفراد، ولو كان الموضوع له هو طبيعيّ المعنى. وهذا نظير الشرط المأخوذ في ضمن العقد، ولكنّ الشرط على هذين النحوين لا يكون مانعاً؛ لأنّ الأوّل مستحيل والثاني لم يثبت. فلا مانع من جواز الاستعمال من هذه الجهة، بل المانع الامتناع العقليّ؛ إذ:
أوّلاً:
قد ذكرنا أنّ حقيقة الاستعمال عبارة عن جعل اللّفظ فانياً في المعنى ـ وليس بمعنى العلامة ـ بحيث يعدّ اللّفظ وجوداً لفظيّاً للمعنى في مقابل سائر الوجودات.
وملخّص ما ذكره صاحب الكفاية في الاستدلال على عدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى:
أنّ حقيقة الاستعمال عبارة عن جعل اللّفظ وجهاً للمعنى، ولا يمكن جعل اللّفظ وجهاً إلّا لمعنىً واحد، وذلك لأنّ لحاظ اللّفظ وجهاً في إرادة المعنى، ينافي جعله وجهاً لمعنىً آخر.
ووجه المنافاة: أنّ لحاظ اللّفظ وجهاً للمعنى، لا يكون إلّا بتبع لحاظ المعنى فانياً فيه اللّفظ، وكيف يمكن في نفس الحال إرادة معنىً آخر يفنى فيه اللّفظ أيضاً في استعمال واحد، مع استلزامه الجمع بين اللّحاظين في حال واحد.
وبعبارة اُخرى: فإنّه لا يمكن أن يجعل اللّفظ بتمامه وجهاً لتمام المعنى، وفي عين جعله كذلك يجعل أيضاً وجهاً بتمامه لتمام معنىً آخر في استعمال واحد، بل هذا ممتنع عقلاً، فإنّ اللّفظ بعد أن جعل بتمامه وجهاً لتمام المعنى الأوّل، فلا يبقى هناك شيء لكي يجعل بعينه وبتمامه وجهاً لتمام المعنى الآخر. أو فقل: إنّ اللّفظ بعد جعله فانياً بتمامه في المعنى الأوّل فهو لم يبق فارغاً لكي يجعل فانياً بتمامه في معنىً آخر، وهذا واضح.
والحاصل: أنّ استعمال اللّفظ في أكثر من معنى إنّما يكون معقولاً إذا كان على نحو الانضمام، وأمّا على نحو الانفراد والاستقلال فلا.
وبعد أن ذكرنا أنّ للشيء وجودات أربعة، هي: الوجود الخارجيّ والوجود الذهنيّ والوجود اللّفظيّ والوجود الكتبيّ، يتّضح: أنّ اللّفظ نحو من أنحاء الوجود للمعنى، فإذا كان استعمال اللّفظ إيجاداً المعنى بهذا الوجود اللّفظيّ، بعدما كان اللّفظ فانياً في المعنى وعنواناً له فكيف يمكن ـ في استعمال واحد ـ كون الشيء الواحد وجوداً لطبيعيّ هذا اللّفظ أو هذه الماهيّة أو ذلك اللّفظ أو تلك الماهيّة الاُخرى باستعمال واحد؟!
أو فقل: بما أنّ اللّفظ مرآة وحاك عن المعنى، وبما أنّ المرآتيّة ملحوظة حين استعمالها باللّحاظ الآليّ، فيلزم من استعمال اللّفظ الواحد في معنيين أو أكثر: أن يلاحظ اللّفظ الواحد في آنٍ واحد بلحاظين آليّين بعد صيرورته لذلك الاستعمال مرآتين حاكيتين عن معنيين، فيجتمع حينئذ اللّحاظان في استعمال واحد وفي واحد شخصيّ.
نعم، لو كان الوضع من باب وضع العلامة للمعنى لم يكن هناك مانع في استعمال اللّفظ في أكثر من معنى.
وأمّا ما قد يقال: من أنّه لا مانع في استعمال اللّفظ في أكثر من معنى من جهة لزوم أن يكون الواحد الشخصيّ علّةً لأكثر من واحد، مع أنّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد.
ففيه: أنّ اللّفظ، وإن صار بالوضع مقتضياً لحضور المعنى عند سماعه، إلّا أنّه لا يكون بعلّة تامّة لذلك فيما إذا كان مشتركاً؛ إذ لا يفهم المعنى منه إلّا مع القرينة المعيّنة للمراد، ومعه يخرج عن كونه واحداً ولا يلزم صدور الكثير عن الواحد.
وثانياً:
أنّ استعمال اللّفظ في معناه: إيجاد للمعنى به إيجاداً تنزيليّاً، فيكون وجود اللّفظ في الخارج وجوداً طبيعيّاً لماهيّة اللّفظ ووجوداً تنزيليّاً للمعنى، وعند استعمال اللّفظ في كلا المعنيين يلزم أن يكون وجود اللّفظ الحقيقيّ وجودين تنزيليّين، وصيرورة وجود واحد حقيقي وجودين تنزيليّين لمعنيين، بمعنى: وجود واحد بالذات لماهيّتين، وهذا محال.
وقد أُجيب عن هذا: بأنّ ثمّة فرقاً بين صيرورة وجود واحد بالذات وجوداً لماهيتين وبين تنزيل شيء منزلة شيء آخر؛ لأنّ هذا يكون محالاً، كما سنبيّنه.
أمّا محاليّة ذلك الوجود لماهيّتين لا يستلزم صيرورة الوجود الواحد بالذات وجودين تنزليّين لمعنيين؛ لأنّ امتناع الأوّل ذاتيّ، بلا فرق بين أصالة الماهيّة أو أصالة الوجود؛ لأنّ فرض الماهيّتين معناه: فرض الحدّين لهما، ونتيجته فرض وجودين، وهذا خلف.
وكذا بناءً على أصالة الوجود؛ لأنّ انتزاع الماهيّتين للوجود معناه: تعدّد الوجودين؛ لأنّ الماهيّة بناءً على أصالة الوجود حدّ للوجود، فيلزم تعدّد الحدود بتعدّد الوجود، وإلّا يكون الوجود حقيقةً واحدة.
ولكن في المقام يمكن تنزيل شيء منزلة شيء آخر بعدما كان المدار على نظر المعتبر من جهة السعة والضيق، غاية الأمر: أنّ كون الوجود الواحد وجوداً تنزيليّاً لوجودين، ولو كان ممكناً على نحو الاجتماع، إلّا أنّه ليس ممكناً على نحو الانفراد والاستقلال؛ لأنّ معنى الاتّحاد بين اللّفظ والمعنى هو الهوهويّة، وصيرورة الاثنين واحداً.
فلو أصبح اللّفظ وجوداً فانياً في المعنى الأوّل فلم يبقَ له وجود آخر حتّى يتّحد مع المعنى الثاني ويفنى فيه.
أمّا أنّ كون حقيقة الاستعمال فناء اللّفظ في المعنى كما قلنا، فيمكن أن نتصوّره من خلال بيان اُمور:
الأوّل: أنّ الوجود اللّفظيّ من أنحاء الوجود، وبعد أن فرضنا أنّ معنى الاستعمال فناء اللّفظ في المعنى على نحو يكون وجوداً لفظيّاً له، فتحقّق هذا الوجود للمعنى لا يمكن إلّا بعد فناء اللّفظ فيه.
والثاني: بعد أن قلنا: بأنّ هناك مغايرةً بين اللّفظ والمعنى وبأنّ هناك تنافياً بينهما، فلا يمكن أن يكون إلقاء اللّفظ إلقاءً للمعنى، إلّا بجعل الهوهويّة، وإلّا فكيف يمكن أن يكون إلقاء أحد الأجنبيّين إلقاءً للآخر، وهذه الهوهويّة متوقّفة على أن يكون اللّفظ فانياً في المعنى؟!
والثالث: أنّ قبح اللّفظ ـ كما هو معلوم ـ يسري إلى المعنى، وبالعكس، فلو لم يكن هذا الاتّحاد بينهما فكيف يتحقّق ذلك؟
فإن قلت: يكفي في السراية مجرّد القرب والجوار.
قلنا: هذا لا يمكن أن يسلّم في جميع الموارد وعلى نحو العموم.
فإذا عرفت هذا: فالحقّ عدم الجواز، وذلك من جهة عدم إمكان لحاظين مستقلّين في آن واحد، وعدم إمكان فناء لفظ واحد في شيئين مستقلّين باستعمال واحد.
وإذ قد اتّضح: أنّ الصحيح هو القول بعدم الإمكان، فلا وجه لتفصيل صاحب المعالم() والقول بالجواز على نحو الحقيقة في التثنية والجمع وعلى نحو المجاز في المفرد:
أمّا في التثنية والجمع: فبدعوى أنّهما بمنزلة تكرار اللّفظ، فكأنّ الذي لدينا لفظان أو ألفاظ لا لفظ واحد، ولا مانع من استعمال أحد اللّفظين أو الألفاظ في معنىً غير المعنى الذي استعمل فيه اللّفظ الآخر أو الألفاظ الاُخرى.
وأمّا في غير التثنية والجمع، وهو الإفراد، فبدعوى: أنّ الاستعمال في أكثر من معنىً واحد مستلزم لإلقاء قيد الوحدة وصيرورة المستعمل فيه جزءاً للمعنى الموضوع له.
فقد عرفت ممّا ذكرنا: أنّ عدم الجواز يأتي من جهة اجتماع اللّحاظين المتضادّين، فاستعمال اللّفظ في أكثر من معنى، بناءً على هذا، غير جائز مطلقاً، لا في التثنية والجمع ولا في المفرد، لا على نحو الحقيقة ولا على نحو المجاز.
وأمّا ما ذكر: من أنّ أقوى دليل على إمكان الشيء وقوعه، فإذا تحقّق الشيء في الخارج فلا معنى لاستحالته، ومثّلوا لذلك بتعدّد البطون في القرآن إلى سبع أو سبعين بطناً.
ففيه: أنّ هناك فرقاً بين إرادة المعاني العديدة من لفظ واحد، وبين استعمال اللّفظ الواحد في أكثر من معنى، ومحلّ كلامنا هو الثاني دون الأوّل. فهذه البطون مرادة من اللّفظ، لا أنّ اللّفظ قد استعمل في المعاني المتعدّدة باستعمال واحد.
ويحتمل أن يكون المراد من البطون بعد فرض كونها مرادةً بالاستقلال: أنّ الدلالة على هذه المعاني مقارنة لاستعمال اللّفظ في معناه، لا أنّ اللّفظ يدلّ عليها منفرداً، كما إذا قال قائل: «حان وقت أداء الدين»، وأراد ـ مقارنةً لهذا الكلام ـ معنىً آخر، وهو مثلاً: «دخلنا في شهر كذا».
ويحتمل أن يكون المراد من البطون لوازم المعنى الموضوع له، لا يكون اللّفظ مستعملاً في تلك المعاني، كما إذا كان مجيء زيد غالباً ملازم لنزول البركات، فإذا قيل: (جاء زيد) فهم منه هذا اللّازم من غير أن يكون اللّفظ مستعملاً فيه هو أيضاً.
وقد انقدح بما بيّنّاه: أنّ ما ذكره بعض شرّاح الكفاية بقوله: «فالجواب الصحيح أن يقال: إنّ الأخبار الدالّة على أنّ للقرآن بطوناً سبعةً أو سبعين، وإن كانت هي ظاهرة في استعمال اللّفظ في أكثر من معنى...». فغير تامّ.
وظهر أيضاً عدم تماميّة ما ذكره بقوله:
«وبالجملة: في إرادة البطون من القرآن المجيد احتمالان:
أحدهما: أن يكون من قبيل استعمال اللّفظ في المجموع، نظير استعمال ألفاظ المركّبات في مجموع الأجزاء، فيكون كلّ بطن جزءاً للمعنى، لا معنىً مستقلّاً برأسه.
وثانيهما: أن يكون من قبيل استعمال اللّفظ في القدر الجامع بين الجميع، نظير استعمال المشتركات المعنويّة في الجوامع بين المعاني العديدة، فيكون كلّ بطن فرداً للمعنى ومصداقاً له، لا معنىً مستقلّاً برأسه»().
فإنّ هذه الأخبار تكون ـ بهذا المحمل ـ خارجةً عن محلّ الكلام.
والإنصاف: أنّ حمل تلك الأخبار على أن تكون تلك البطون مرادةً من اللّفظ من دون أن يكون اللّفظ مستعملاً فيها، وكذا حملها على أن يكون المراد من البطون لوازم المعنى المستعمل فيه اللّفظ، على خلاف الظاهر.
ثمّ على فرض التنزّل وتسليم أنّ المراد من البطون من ظاهر الروايات هو جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، فلابدّ من تأويلها؛ لأنّها لا تتمكّن من معارضة الدليل العقليّ.
وممّا ذكرنا ظهر: أنّ عدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى إنّما يتمّ بناءً على الهوهويّة، وأمّا بناءً على أنّ حقيقة الاستعمال عبارة عن كونه علامةً على المعنى ـ كأماريّة النصب والعقود ـ فلا محذور أصلاً في استعمال اللّفظ الواحد في معنيين، بل في المعاني المتعدّدة.
كما ظهر أيضاً: فساد ما ذكره بعض المحقّقين: من أنّه بناءً على كونه علامة أيضاً لا يجوز؛ لأنّ شرط الاستقلال ومعناه: الانفراد وعدم انضمام معنى آخر معه، فحينئذ في فرض الاستعمال في اكثر من معنى لا يتصوّر الاستقلال.
وجه الفساد: أنّ المراد من الاستقلال عدم الارتباط والقيديّة بين المعنيين، أي لا يكون كلّ من المعنيين قيداً للآخر، كالعامّ المجموعيّ، بل المراد: عدم ارتباط كلّ منهما بالآخر، كمجيء زيد بالنسبة إلى مجيء عمرو، فإنّ كلّ واحد من المجيئين ليس مقيّداً بالآخر. نعم، كان مجيئهما في زمان واحد.
وكيف كان، فقد عرفت أنّ الحقّ في حقيقة الاستعمال أنّه عبارة عن الهوهويّة لا العلاميّة؛ لأنّ المراد من استعمال اللّفظ هو إيجاد المعنى باللّفظ، وهو ليس إيجاداً تكوينيّاً له، وإنّما هو الإيجاد التنزيلي، كإيجاد المعنى كتابةً.
كيف لا؟! ولو كان بمعنى العلامة فلا يكون إيجاده إيجاداً للمعنى، ولا وجوده وجوداً تنزيليّاً له.

الثمرة
هل هناك ثمرة لهذا البحث؟
والجواب: نعم؛ فإنّه لو قلنا بجواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى لأمكن في مثل المرويّ من قوله: «لا صلاة إلّا بأذان وإقامة»()، الحمل على الوجوب في الثاني والاستحباب في الأوّل ـ هذا إذا لم نقل باستحباب كلّ من الأذان والإقامة، وإلّا، فلا كلام كما لا يخفى ـ. وفي مثل: «اغتسل للجمعة والجنابة»()، الحمل على الاستحباب في الأوّل والوجوب في الثاني.
ولكن ـ وكما ذكرنا في محلّه ـ فإنّ هذه الثمرة ليست بثمرة؛ وذلك لأنّ الأمر ـ كما سيأتي في محلّه ـ موضوع لمطلق الطلب، والوجوب أيضاً أمر بسيط، وكذا الاستحباب.
فلا يكون معنى الوجوب عبارةً عن طلب الشيء مع المنع من الترك، ولا الاستحباب هو طلب الشيء مع جواز الترك، ولا أنّ الوجوب هو المرتبة الأكيدة، ولا الاستحباب هو المرتبة الضعيفة.
بل إنّما يعرف الوجوب والاستحباب من الدليل العقليّ ومن الخارج. فلا تنافي بين الوجوب والاستحباب بحسب الوضع، فاستعمال «اغتسل» وإرادة الوجوب والاستحباب ليس استعمالاً في أكثر من معنى حتّى تترتّب عليه هذه الثمرة. وكذا قوله: «لا صلاة إلّا بأذان وإقامة»؛ فإنّ الاستعمال هنا ـ أيضاً ـ ليس استعمالاً في أكثر من معنىً واحد.
ثمّ إنّه قد يُستشكل في القول بعدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنىً بإشكال نقضيّ، وهو: جواز استعمال العامّ الاستغراقي في جميع أفراده، بتقريب: أنّ حكم العامّ يتناول كلّ واحد من أفراده، وذلك يستلزم كون كلّ واحد من الأفراد ملحوظاً بلحاظ يخصّه، فإذا صحّ تعلّق الحكم الواحد باُمور متعدّدة، مع كون كلّ واحد منها ملحوظاً بلحاظ خاصّ به في إطلاق واحد وآن واحد، فلتكن صحّة استعمال اللّفظ في أكثر من معنى أيضاً كذلك.
ولكنّ هذا النقض غير تامّ؛ لأنّ العامّ الاستغراقيّ لا يكون ملحوظاً إلّا بعنوان عامّ وحداني، وهذا العنوان العامّ الوحدانيّ هو الذي يستعمل فيه اللّفظ ويشار به إلى تلك الأفراد.
وأمّا الأفراد، فليس كلّ واحد منها ملحوظاً بلحاظ خاصّ به، ولا أنّ الملحوظ جميع الأفراد، كالعامّ المجموعيّ. إذاً، فهذا النقض غير تامّ.
ثمّ، وعلى فرض التنزّل والقول: بأنّ الحكم في العامّ الاستغراقيّ يستلزم ملاحظة كلّ واحد من الأفراد بلحاظ خاصّ به، ولكن ليس هناك لحاظات متعدّدة في استعمال اللّفظ الواحد الشخصيّ ـ أعني به: اللّفظ العامّ ـ الذي هو عنوان لتلك الأفراد والمشار به إليها، بل ملاحظة تلك الأفراد كذلك إنّما تكون في مقام الجعل ووضع الحكم لها، لا في مقام الاستعمال، وكم من فرق بين المقامين.
وقد ذكرنا: أنّ المانع هو إرادة أكثر من معنىً واحد من اللّفظ في استعمال واحد له، لأنّه يستلزم تعدّد اللّحاظات المتنافية.
وإذ قد اخترنا القول بعدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، فلا فرق بين أن يستعمل اللّفظ المفرد أو المثنّى أو المجموع في النفي أو في الإثبات، على نحو الحقيقة أو المجاز، فإنّ الاستعمال في جميع هذه الموارد على حدّ سواء من عدم الجواز.