مقدّمة: وفيها اُمور

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

مقدّمة: وفيها اُمور


وقبل الخوض في تحقيق المسائل المبحوث عنها في علم الاُصول، فلابدّ من التعرّض لبيان اُمورٍ ترتبط بها وتمهّد لها:

الأمر الأوّل: في بيان معنى مصطلح «العلم»
كثيراً ما يطلق لفظ <العلم> ويراد به أحد معنيين:
المعنى الأوّل: وهو معناه الحقيقيّ، وهو: انكشاف الواقع للنفس، وهذا هو الاعتبار الذي لاحظه المنطقيّ في تقسيمه له إلى: التصوّر والتصديق.
والثاني: القواعد التي تمهّد لغرض تحصيل الفوائد المترتّبة عليها؛ فإنّها أيضاً تسمّى: علماً؛ إذ يقال ـ مثلاً ـ: علم النحو، وعلم الصرف، وعلم الاُصول، و... ويقال أيضاً: فلان يعرف علم النحو أو لا يعرفه. فيكون العلم بهذا المعنى الثاني متعلّقاً للعلم بالمعنى الأوّل، المقابل للجهل.
ثمّ إنّ العلم بالمعنى الأوّل، تارةً يكون بمعنى: (اليقين)، فقد يتعدّى إلى مفعولين، واُخرى يكون بمعنى: (المعرفة)، فيكون متعدّياً إلى مفعولٍ واحد فقط.
وسيأتي لاحقاً أنّ علم الاُصول هو: العلم بالقواعد الممهّدة ـ بفتح الهاء ـ لاستنباط الأحكام الشرعيّة، والتي هي قضايا جعليّة اعتباريّة، كما يأتي توضيحه، إن شاء الله تعالى.

الأمر الثاني: في رتبة هذا العلم
أعني: رتبته بالنسبة إلى سائر العلوم، وأنّه متقدّم عليها أو متأخّر عنها.
والكلام تارةً بالقياس إلى علم الكلام، واُخرى بالنسبة إلى سائر العلوم.
أمّا بالنسبة الى سائر العلوم:
فلا يخفى: أنّ العلوم ليست كلّها في عرضٍ واحد، وفي نفس المرتبة، بل ربّ علم يكون مقدّمة لعلم آخر، كما هو الحال في علم الفقه بالنسبة إلى علم الاُصول؛ فإنّ من الواضحات التي لا تكاد تخفى: أنّه متأخّر عن علم الاُصول؛ إذ الاُصول من جملة مقدّماته، بل الاُصول بالنسبة إليه كالعلّة التامّة، لمكان توقّف الاستنباط الفقهيّ على المسائل الاُصوليّة.
وكون الاُصول متقدّماً على علم الفقه لا ينافي تأخّره عن جملةٍ من العلوم الاُخرى، كما لا يخفى، كعلوم اللّغة والمنطق. كما أنّه لا ينافي كونه أجنبيّاً بالنسبة إلى علومٍ اُخرى، كالرياضيّات والطبّ وغيرهما.
وقضيّة تأخّر علم الفقه عن علم الاُصول، مع تأخّر الاُصول عن علومٍ اُخرى، أن يكون علم الفقه بدوره متأخّراً عن تلك العلوم؛ لأنّ ما يتأخّر عمّا هو متأخّر، يكون متأخّراً أيضاً، كما لا يخفى.
وبالجملة: فنسبة بعض العلوم إلى علم الفقه هي نسبة الجزء الأخير من العلّة إليها، وذلك من قبيل: علم الاُصول بالنسبة إليه.
وأمّا بعضها الآخر فنسبته إلى علم الفقه نسبة المقدّمات الإعداديّة للشيء إليه، وهي علوم كالنحو والصرف ومتن اللّغة، وكذا الرجال، على ما قيل.
وهذا النحو من العلوم، وإن كان من المقدّمات الدخيلة في استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلّتها، إلّا أنّها مع ذلك ليست بمثابة الجزء الأخير من العلّة، وإنّما هي من مقدّماته الإعداديّة.
وإن شئت فقل: إنّ وقوع مسائل هذه العلوم في مقدّمات الاستنباط ودخلها في الفقه لا يكون كافياً في استنتاج الحكم الشرعيّ بالاستقلال، بل لا بدّ أن تنضمّ إليها مسألة اُصوليّة تكون هي الكبرى في قياس الاستنباط، وتصبح معها مسائل هذه العلوم بمنزلة الصغرى، وإلّا فهي من دون انضمام هذه الكبرى إليها لا تكون منتجة، ولا يترتّب عليها شيء من الآثار الشرعيّة المطلوبة.
والوصول إلى استنباط الحكم الشرعيّ، وإن كان متوقّفاً على معرفة هذه العلوم، بحيث لا يمكن أن تتمّ عمليّة الاستنباط من دونها، كعلم النحو الذي لا مجال للوصول إلى الحكم الشرعيّ إلّا بتطبيق قوانينه وقواعده من حيث الإعراب والبناء، أو علم الصرف الذي تتوقّف عمليّة الاستنباط على معرفة أحكامه من حيث الصحّة والاعتلال مثلاً، أو كعلم الرجال ومدخليّته في الاستنباط من حيث وثاقة الرواة مثلاً، أو علم متن اللّغة ومدخليّته من حيث معرفة معاني الألفاظ العربيّة، إلّا أنّ معرفة هذه العلوم ومسائلها ليست دخيلةً في عمليّة استنباط الأحكام إلّا في الجملة، وذلك كما أشرنا آنفاً، لا على نحو الاستقلال، بل بشرط انضمام كبرى اُصوليّة إليها.
هذا كلّه من ناحية تراتبيّة هذه العلوم، ونسبة بعضها الى بعض، ونسبة العلوم الدخيلة في الاستنباط الفقهيّ إلى علم الفقه.
وأمّا من حيث الشرف والأفضليّة:
فقد يقال: بأنّ علم الفقه من أشرف العلوم، وأنّه أشرف حتّى من علم الكلام نفسه، وإن كان المبحوث عنه في علم الكلام هو المبدأ والمعاد.
ولكنّ التّصديق بدعوى أشرفيّة هذا العلم يتوقّف على معرفة فوائده والوقوف على الآثار التي من شأنها أن تترتّب عليه، فلابدّ لذلك من التعرّض لبيانها.

فوائد علم الفقه وآثاره
فمنها:
أنّ صحّة التقليد متوقّفة على علم الفقه، كما أنّ الوصول إلى مرحلةٍ يستغنى فيها عن التقليد ولا يحتاج إليه معها متوقّف أيضاً على هذا العلم؛ إذ ممّا يستقلّ العقل بحسنه ومرغوبيّته: أنّه لا بدّ من وجود الفقيه الذي تكون له القدرة على استنباط الأحكام الشرعيّة من مداركها.
وإنّما كان العقل يستقلّ بحسن ذلك؛ لما فيه من التأدّي إلى الارتقاء والعروج عن حضيض التقليد والجهل إلى حيث ذروة الاجتهاد وسنام العلم، وحيث إنّ الفقه هو الذي يسبّب هذا الارتقاء، دون غيره، فيكون هو الأشرف.
ومنها:
أنّ تحصيل مسائل علم الفقه يؤهّل الإنسان ويعدّه لمعرفة الطرق النافعة اُخرويّاً، ويمكّنه من تمييزها عن غيرها من الطرق المضرّة.
وظاهر: أنّه ليس في نظر العقل ما هو أهمّ من ذلك، ولمّا كان الفقه هو العلم المؤدّي إليه، فيكون ـ لا محالة ـ هو الأشرف والأهمّ.
ومنها:
أنّ معرفة الإنسان بعلم الفقه، وإلمامه بمسائله إلى أن يحصل على ملكة الاجتهاد وينال درجته الرفيعة التي تمكّنه من استنباط واستخراج الأحكام الشرعيّة هو سبب للتحلّي بحلية الرئاسة الإلهيّة التي خصّ الله تعالى بها أولياءه وأهل طاعته، ليصبح بذلك واحداً من خلفاء الأئمّة ونوّابهم، وممّا لا ريب فيه أنّ هذا ـ أيضاً ـ هو ممّا يرغب به العقل ويحثّ عليه الشرع.

فائدة علم الكلام
وأمّا علم الكلام، ففائدته منحصرة في الحفاظ على النفس وفي التمكين من دفع الشبهات والشكوك التي يواجه بها الدين الحقّ.
وأمّا تلك الفوائد المهمّة التي ذكرناها لعلم الفقه، فهي ليست من آثاره التي تترتّب عليه.
وفي ضوء ما تقدّم، نجزم بأنّ مكانة علم الفقه ورتبته في الشرف متقدّمة على غيره من العلوم، بما فيها علم الكلام.
وقد انقدح بذلك: أنّ كون علم الاُصول بمنزلة الجزء الأخير للعلّة بالنسبة إليه، لا يقتضي كونه ـ أي: علم الاُصول ـ أشرف منه وأعلى منزلةً؛ إذ لو كان الفقه أشرف من علم الكلام، فهو أشرف من علم الاُصول بطريقٍ أولى. كذا قد يقال.
ولكنّ التحقيق: أنّ شرف العلم إنّما يكون بشرافة موضوعه أو غايته، ولازم ذلك: أن يكون علم الكلام أشرف العلوم على الإطلاق؛ إذ:
أوّلاً: موضوعه أشرف الموضوعات على الإطلاق، وهو المبدأ، وهو الله تبارك وتعالى.
وثانياً: غايته أشرف الغايات، وهي معرفة اُصول الدين، التي هي من أجلّ الغايات وأسماها.

الأمر الثالث: الفرق بين المسائل الاُصوليّة والقواعد الفقهيّة
فرّق المحقّق النائينيّ بينهما بما لفظه:
«إنّ نتيجة المسألة الفقهيّة، قاعدةً كانت أو غيرها، بنفسها تلقى إلى العامّيّ غير المتمكّن من الاستنباط، فيقال له: كلّما دخل الظهر وكنت واجداً للشرائط وجبت الصلاة، فيذكر في الموضوع جميع قيود الحكم الواقعيّ، أو يقال: كلّما فرغت من عملٍ وشككت في صحّته وفساده، فلا يجب عليك الاعتناء به، فيذكر له جميع قيود الحكم الظاهريّ.
وهذا بخلاف المسألة الاُصوليّة، فإنّ إعمال نتيجتها مختصّ بالمجتهد، ولا حظّ للمقلّد فيها، ولا معنى لإلقائها إليه، بل الملقى إليه يكون الحكم المستنبط من تلك المسألة»().
وحاصله: أنّ النتيجة في المسائل الفقهيّة، قاعدةً كانت أو غيرها، يمكن إلقاؤها بنفسها إلى العامّيّ، على أن يذكر المجتهد في موضوع الحكم كافّة القيود المأخوذة في الحكم ثمّ يلقيه إليه، فيقول له ـ مثلاً ـ كلّما دخل عليك وقت صلاة الظهر، وكنت واجداً للشرائط، فقد وجبت عليك الصلاة.
وهذا بخلاف المسائل الاُصوليّة؛ فإنّها لا تفيد العامّيّ ولا تنفعه، فلا يمكن أن تلقى إليه ما دام غير متمكّن من الاستنباط، بل يكون إعمالها في مواردها من وظيفة المجتهدين فقط.
اعتراض اُستاذنا الأعظم():
لا يخفى: أنّ هذا الكلام المتقدّم، وإن كان تامّاً فيما يتعلّق بالمسائل الاُصوليّة ـ على ما أفاده الاُستاذ الأعظم ـ لأنّ إعمال هذه القواعد في مواردها وأخذ النتيجة منها إنّما يكون من وظائف المجتهدين فقط دون المقلّدين، إلّا أنّه ـ على إطلاقه ـ ليس تامّاً بالنسبة إلى المسائل الفقهيّة؛ فإنّ كثيراً من المسائل الفقهيّة لا يختلف حالها من هذه الجهة عن المسائل الاُصوليّة، وذلك ـ مثلاً ـ كمسألة استحباب كلّ عملٍ بلغ عليه الثواب، ولو بالخبر الضعيف، بناءً على أنّ هذا الاستحباب هو المستفاد من أخبار «من بلغ»()، وأنّ الظاهر منها كونها بصدد إثباته، وليست للإرشاد ولا لبيان حجّيّة الخبر الضعيف، بل هي لمجرّد بيان: أنّ العمل بهذا الخبر الضعيف يكون موجباً لترتّب الثواب؛ فإنّ هذه من المسائل الفقهيّة بلا إشكال، ولكنّها ـ مع ذلك ـ تعدّ من وظائف المجتهد التي لا يمكن إلقاؤها إلى العامّي، لعدم قدرته على تشخيص مواردها من الروايات وتطبيق أخبار الباب عليها.
ويمكن التمثيل لذلك ـ أيضاً ـ بقاعدة: «ما لا يضمن بصحيحه لايضمن بفاسده»؛ فإنّها ـ أيضاً ـ قاعدة فقهيّة، والذي يستفاد منها حكم كلّيّ، وهو ـ مثلاً ـ الحكم بعدم الضمان في الهبة الفاسدة.
ومن هذه القواعد أيضاً: قاعدة الطهارة، فيما إذا نزا كلب على شاةٍ فأولدها؛ فإنّه ـ حينئذٍ ـ لا يلحق بأحدهما لعدم شباهته بهما، فيكون مشكوك الطهارة ويحكم بطهارته للقاعدة.
أو كقاعدة نفي الضرر، التي يستفاد منها عدم وجوب الوضوء الضرريّ.
أو قاعدة نفي الحرج، التي يثبت بها عدم وجوب الوضوء الحرجيّ.
فهذه كلّها قواعد فقهية، ولكنّ استفادة الحكم الشرعيّ منها هو من وظيفة المجتهد، وليس بمقدور العامّي أن يطبّقها على مواردها وأن يقوم بتشخيص الحكم المستفاد منها().
أقول: بالنسبة إلى قاعدة (من بلغ)، يمكن القول: بأنّها تندرج في المسائل الاُصوليّة؛ لأنّ استفادة الاستحباب منها تتوقّف على معرفة الخبر الضعيف وتمييزه عن غيره، المتوقّف بدوره على الاطّلاع على أحوال رجال الحديث وشؤونهم. وبما أنّها من المسائل الاُصوليّة، فلا يمكن أن تلقى إلى العامّيّ، لعدم قدرته على استفادة الحكم منها. هذا من جهة.
ومن جهةٍ اُخرى، فإنّ مآل هذه القاعدة لمّا كان إلى إثبات الاستحباب، فيمكن القول بدخولها تحت المسألة الفقهيّة.
والحاصل: أنّ لهذه القاعدة اعتبارين ولحاظين، بأحدهما يمكن اعتبارها اُصوليّةً، وبالآخر تكون مندرجةً في القواعد الفقهيّة.
اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ قاعدة التسامح يمكن أن تعدّ من المسائل الاُصوليّة وليست من القواعد الفقهيّة.
ومن هنا يظهر: أنّ الاعتراض بقاعدة التسامح في أدلّة السنن بشأن القواعد الفقهيّة غير واردٍ أصلاً. هذا.
والصحيح في التفريق بين المسألتين أن يقال:
إنّ كلّاً من المسائل الاُصوليّة والقواعد الفقهيّة يمكن أن تقع كبرى في قياس الاستنباط، ولا فرق بينهما من هذه الناحية أبداً؛ وإنّما الفرق في أنّ الذي يستنتج من ضمّ الصغرى إلى الكبرى في المسائل الاُصوليّة يكون ـ دائماً ـ حكماً كلّيّاً، بخلاف المستنتج من ضمّ الصغرى إلى القاعدة الفقهيّة؛ فإنّه غالباً ما يكون حكماً جزئيّاً، وإن كان قد يتّفق في بعض الموارد أن يكون المستنتج منه حكماً كلّيّاً أيضاً، كما في قاعدتي: ما يضمن وما لا يضمن، وفي بعض فروع العلم الإجماليّ، وفي قاعدة الفراغ وغيرها.
فمثلاً: إذا علم المكلّف إجمالاً بعد فراغه من صلاتي الظهر والعصر بنقصان ركعةٍ من إحداهما، ولم يدرِ أنّها من الظهر أو العصر؛ فإنّ الحكم هنا حكم كلّيّ، وهو: الصحّة لقاعدة الفراغ. وفي هذا المورد وأمثاله لايتمكّن العامّيّ من تعيين الوظيفة بنفسه، بل يكون المرجع إلى المجتهد في ذلك.
وبعبارة اُخرى: فإنّ المائز بين المسألة الاُصوليّة والقاعدة الفقهيّة، إنّما هو أنّ القاعدة الفقهيّة، حتّى لو فرضنا أنّها دائماً تقع كبرى في قياس الاستنباط، كالمسائل الاُصوليّة، وأنّها لا فرق بينها وبين المسائل الاُصوليّة من هذه الجهة، إلّا أنّ النتيجة في مورد القاعدة تكون في الغالب حكماً جزئيّاً متعلّقاً بعمل آحاد المكلّفين وبلا واسطة، أي: من دون أن يكون المكلّف في مقام العمل بحاجةٍ إلى أيّـة مؤونةٍ اُخرى.
وهذا بخلاف المسائل الاُصوليّة؛ فإن النتيجة في مواردها لا يمكن أن تتعلّق بعمل الآحاد إلّا بعد تطبيقها على الموارد الخاصّة الجزئيّة، والذي يتمكّن من هذا التطبيق إنّما هو المجتهد.
وإن شئت فقل: إنّ النتيجة التي تتحصّل من المسائل الاُصوليّة تنفع المجتهد فقط، بمعنى: أنّه ليس هناك أيّة فائدةٍ تعود إلى العامّيّ المقلّد مباشرةً، ولذا، فليس للمجتهد أن يفتي بمضمون النتيجة التي أدّت إليها المسألة الاُصوليّة، كأن يفتي في رسالته العمليّة بحجّيّة خبر الواحد مثلاً؛ وذلك لما ذكرناه من أنّ تطبيق النتيجة على الصغريات إنّما هو من وظائف المجتهد وشؤونه دون المقلّد.
وأمّا القواعد الفقهيّة، فلمّا كانت نتيجتها غالباً ما تنفع المقلّد، جاز للمجتهد أن يفتي بها تاركاً أمر تطبيقها إلى المقلّد نفسه وبيده، كما إذا أفتى بحجّيّة قاعدة الضرر والتجاوز والفراغ، فإنّ تطبيقها على الصغريات بيد المقلّد نفسه.
كلام المحقّق الأصفهانيّ:
وبما بيّنّاه: يظهر صحّة ما أفاده المحقّق الأصفهاني: من أنّ الضابط للمسائل الاُصوليّة أنّها عبارة عن <القواعد الممهّدة لتحصيل الحجّة على الحكم الشرعيّ>.
وأمّا التعريف المشهور لعلم الاُصول فليس شاملاً للعديد من المسائل الاُصوليّة، كأصالة الإباحة ـ بناءً على كون المجعول فيها هو الحلّية الظاهريّة وأنّها ليست ناظرةً إلى الواقع لا من جهة الحكم المماثل ولا المعذّريّة ـ، وكذا مسألة الانسداد ـ بناءً على الحكومة()ـ.

الفرق بين المسائل الاُصوليّة ومسائل سائر العلوم
وأمّا المائز بين المسائل الاُصوليّة وبين مسائل سائر العلوم؛ فإنّ المسألة الاُصوليّة هي ـ كما اتّضح ـ عبارة عن الكبريات التي تقع، بعد ضمّ صغرياتها إليها، في طريق استنباط الأحكام الكلّيّة الشرعيّة.
وأمّا مسائل سائر العلوم، فهي، وإن كانت ـ بدورها ـ يمكن أن تقع في طريق الاستنباط، إلّا أنّها لا تقع كبرى في قياسه أبداً، بل هي دائماً: الصغرى التي تنضمّ إلى المسألة الاُصوليّة الواقعة في رتبة الكبرى.
فعلم الرجال ـ مثلاً ـ يتكفّل بتشخيص خبر الثقة، وأمّا المسألة الاصوليّة فنتيجتها حجّيّة خبر الثقة.
وصورة القياس من المسألة الاُصوليّة والاُخرى الرجاليّة كأن يقال:
إنّ وجوب صلاة الجمعة ممّا أخبر به الثقة.
وكلّ ما أخبر به الثقة يجب اتّباعه.
فتكون النتيجة: وجوب صلاة الجمعة.
وبعبارةٍ ثانية:
فالفرق بين المسألة الاُصوليّة ومسائل سائر العلوم: أنّ هذه الأخيرة بالنسبة إلى علم الاُصول إنّما تكون من المبادئ، أي: أنّها خارجة عن علم الاُصول ومن مبادئه والمعدّات له، فلا تذكر فيه إلّا على سبيل الاستطراد، وذلك كما لو بحث في علم الاُصول عن كلمة <الصعيد> هل هي ظاهرة في مطلق وجه الأرض أو التراب الخ الص؟ فإنّ هذا البحث لا يمكن أن يدّعى فيه كونه اُصوليّاً، كما هو أوضح من أن يخفى.

الأمر الرابع: موضوع علم الاُصول
جرت عادة المصنّفين واستقرّ ديدنهم على التمهيد لأبحاثهم باُمورٍ درجوا على بحثها تحت عنوان (المقدّمة). وقد تعارفوا على تسمية هذه الاُمور ﺑ «المبادئ»، لما لها من دخلٍ بالعلم الذي هم بصدد التصنيف فيه.
ومن جملة الاُمور التي بحثوها في المقدّمة: بحث «موضوع العلم»، وأنّه هل يجب أن يكون للعلم موضوع أم لا؟ وأنّه على فرض وجوبه، فهل يجب في هذا الموضوع أن يكون أمراً شخصيّاً نظير: الكلمة والكلام في علم النحو؟ أم يكفي فيه أن يكون كلّيّاً وعامّاً، كما في: (عمل المكلّف)، الذي هو الموضوع لعلم الفقه.
مذهب الاُستاذ الأعظم:
اختار اُستاذنا الأعظم أنّه لا دليل على اقتضاء كلّ علمٍ وجود الموضوع، وتقرير كلامه ـ على نحو الاختصار ـ كما يلي:
إنّ غايـة ما قيـل ـ أو يمـكن أن يقـال ـ في لزوم الموضوع في كلّ علمٍ:
إنّ الغرض من أيّ علمٍ من العلوم أمر وحدانيّ، فالغرض من علم الاُصول ـ مثلاً ـ هو: (الاقتدار على الاستنباط)، ومن علم النحو: (صون اللّسان عن الخطأ في المقال)، ومن علم المنطق: (صون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج)، وحيث إنّ هذا الغرض الواحد يترتّب على مجموع القضايا التي بالرغم من تباينها في الموضوعات والمحمولات، دوّنت في علمٍ واحدٍ، واُعطيت اسماً فارداً؛ فإنّه يستحيل ـ لذلك ـ أن يكون المؤثّر في هذا الغرض هو هذه القضايا بهذه الصفة؛ لاستلزامه تأثير الكثير بما هو كثير فـي الواحد بما هو واحد، ممّا يكشف إنّاً عن أنّ المؤثّر فيه جامع ذاتيّ وحدانيّ بقانون أنّ (الواحد لايصدر إلّا من واحدٍ).
إلّا أنّ هذا البرهان المزبور لا ينهض لإثبات المدّعى؛ إذ يرد عليه: أنّه، وإن سلّم في العلة والمعلول الطبيعيّين ـ دون الفواعل الإراديّة ـ إلّا أنّه إنّما يكون صحيحاً بالنسبة الى العلّة التي تكون بسيطةً من جميع الجهات، وإن استشكلوا فيه هناك أيضاً.
على أنّ الأصل في جريان هذه القاعدة هو العلّة الموجبة، وإن كانت قد وقعت ـ هناك أيضاً ـ محلاً للنّقاش().
وأمّا اُستاذنا المحقّق() فقد قسّم العلوم إلى قسمين:
القسم الأوّل: ما دوّن لأجل معرفة حقائق الأشياء. والعلوم من هذا القسم لا بدّ لها من موضوع، بل ـ والتعبير للمحقّق نفسه ـ: «لا يمكن أن لا يكون لها موضوع، بل القول بعدمه خلف، لأنّ المفروض، كما بيّنّاه، أنّهم عيّنوا حقيقةً من الحقائق ووضعوها للبحث عن حالاتها ومفاد هلّيّتها المركّبة»، كما هو الحال في علم الفلسفة.
والقسم الآخر: هو مجموع القضايا التي تختلف في الموضوعات والمحمولات، ولكنّها مع ذلك، جمعت ودوّنت لأجل غرض خاص وترتّب غاية مخصوصة عليها، بحيث لولا ذلك الغرض وتلك الغاية ما دوّنت ولا جمعت، فالذي تكفّل بجمع المسائل في هذا القسم ليس إلّا تلك الغاية().
وأمّا المحقّق العراقيّ: فقد ذهب إلى أنّ وحدة العلم لا تكون بوحدة الاعتبار بل هي إنّما تكون بوحدة الغرض. قال:
«إنّ وحدة العلم وتعدّده إنّما هو بلحاظ وحدة الغرض وتعدّده، وعليه: فمتى كان الغرض والمهمّ واحداً كانت القواعد الدخيلة في ترتّب ذلك الغرض بأجمعها من مسائل علمٍ واحد وكانت تفرد بالتدوين وإن كانت متعدّدةً موضوعاً ومحمولاً»().
وعلى هذا الأساس: فلا يتوقّف حقيقة العلم وصيرورته علماً ـ بنظر المحقّق المذكور ـ على تحقّق جامع وحدانيٍّ بين موضوعات مسائله ليكون ذلك الجامع هو موضوع العلم.

مناقشة أدلّة القائلين بلزوم وحدة الموضوع:
الدليل الأوّل:
أنّ الغرض من أيّ علمٍ من العلوم غرض وحدانيّ يترتّب على مسائله المتشتّتة، فالغرض في علم الاُصول ـ مثلاً ـ هو الاقتدار على الاستنباط، وفي علم النحو هو صون اللّسان والقلم عن الخطأ في المقال والكتابة، وفي علم المنطق صون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج؛ وإذا كان كذلك، لم يمكن لهذا الغرض الوحدانيّ أن يكون مترتّباً على مجموع القضايا المتباينة من حيث الموضوع والمحمول، وإن جعلت معاً في علمٍ واحد؛ إذ لا يمكن أن تكون هذه القضايا ـ لاختلافها ـ مؤثّرةً في شيء واحد؛ لأنّ لازم ذلك: تأثير الكثير بما هو كثير في الواحد بما هو واحد، وهو محال؛ وذلك لما قرّر في محلّه، من أنّ الاُمور المتباينة لا يمكن أن يكون لها أثر واحد، لقاعـدتي: «الواحـد لايصدر إلّا من الواحد»، أي: أنّ كلّ معلولٍ لا بدّ له من علّةٍ واحدة، و«أنّ الواحد لايصدر عنه إلّا الواحد»، أي: أنّ العلّة الواحدة لا يكون لها إلّا معلول واحد.
وهو واضح إذا التفتنا إلى المبدأ القائل بأنّه لا بدّ أن يكون هناك نوع من السنخيّة بين العلّة والمعلول، وهذه السنخيّة هي ما يبرّر صدور هذا المعلول عن هذه العلّة الخاصّة ـ مثلاً ـ وعدم صدوره عن علّةٍ اُخرى غيرها، واشتراط هذه السنخيّة لازم ولا بدّ منه، وإلّا، أمكن أن يؤثّر كلّ شيء في كلّ شيء، ويكون كلّ شيء علّةً لكلّ شيء.
وبالجملة: فالمعلولان المتخالفان لابدّ أن تكون علّتهما كذلك، والعلّة الخاصّة لهذا المعلول لايمكن أن تكون علّةً لمعلولٍ آخر.
وفي مقامنا، قالوا: لذلك، أي: لقاعدة الواحد، لا بدّ أن يكون المؤثّر في الغرض الوحدانيّ جامع ذاتيّ وحدانيّ، وهو الموضوع للعلم. فلكلّ علمٍ ـ إذاً ـ موضوع واحد.
ولكن فيه:
أوّلاً: أنّ هاتين القاعدتين لا تجريان في الواحد بالنوع، بل محلّهما الواحد البسيط من جميع الجهات، وهو ذات الباري تعالى، حيث يُقال: إنّ ذات الواجب تعالى، بما أنّه بسيط من جميع الجهات، فلا يمكن أن يكون له معلولات متعدّدة؛ لأنّ هذا يفترض أن يكون لكلّ معلولٍ جهة في ذاته، ولازم ذلك تركيب ذات الواجب، وهو محال. وهذا أجنبيّ عمّا نحن فيه، كما لا يخفى.
وثانياً: لا نسلّم أنّ هاتين القاعدتين تأتيان هناك أيضاً.
وثالثاً: يمكن أن يقال: بأنّ هذا الدليل إنّما يتمّ في مورد العلّة الموجبة ـ ولو أنّها في ذلك المورد أيضاً محلّ كلام كما نبّهنا عليه سابقاً ـ.
وأمّا الباري سبحانه، فبما أنّه تعالى فاعل مختار، فإنّ هذا الكلام لايصحّ في حقّه البتّة، بل يمكن أن يصدر عنه الأشياء الكثيرة المتباينة. وتفصيل الكلام في هذه المسألة في محلّه.
وأمّا ما أُورد على هذا الدليل من أنّ أغراض العلوم المذكورة ـ مثلاً ـ لا يمكن أن تترتّب على نفس مسائل العلم في حدّ ذاتها، وإلّا ـ لو كان الأمر كذلك ـ للزم ألّا يقع أيّ خطأٍ في الفكر أو المقال بعد تعلّم تلك المسائل وتحصيلها.
فقد أُجيب عنه: بأنّ مسائل كلّ علمٍ تكون ـ هي في نفسها ـ سبباً في ترتّب الغرض، وليست بعلّةٍ تامّة له، وإذا كان كذلك، فلا يكون تعلّم تلك المسائل موجباً لترتّب الغرض دائماً، بل إنّما يوجبه عند توفّر الشرائط وفقد الموانع فقط.
ومن هنا، كان من الأحسن أن يقال: إنّ تعلّم المسائل في علم المنطق أو النحو ـ مثلاً ـ ليس علّةً تامّةً لعدم الخطأ في الفكر أو المقال، بحيث لا يتخلّف ذلك عن تعلّمها، بل إنّما يكون تعلّمها سبباً لترتّب الغرض إذا وجدت الشرائط وفقدت الموانع.
والدليل الثاني:
أنّه لا بدّ لكلّ علمٍ من موضوع، لأنّ تمايز العلوم إنّما يكون بتمايز الموضوعات.
وخالف في ذلك صاحب الكفاية الذي ذهب إلى أنّ تمايز العلوم يكون بالتمايز بين أغراضها المترتّبة على المسائل المختلفة موضوعاً ومحمولاً، لا بتمايز الموضوعات، كما قد اشتهر بينهم؛ وذلك لتحسين العقلاء تدوين علمٍ واحدٍ للمسائل التي يترتّب عليها غرض واحد، وإن كانت هذه المسائل متشتّتةً ومختلفةً من حيث الموضوع والمحمول، وبالعكس أيضاً: لتقبيحهم تدوين علمٍ واحدٍ للمسائل التي يتعدّد الغرض المترتّب عليها، ولو كان الموضوع في جميعها واحداً ().
ولكن، يمكن أن يجاب عن ذلك:
بأنّ الغرض من العلم ليس إلّا الفوائد المترتّبة على نفس المسائل. وبديهيّ أنّ هذه الفوائد تكون متأخّرةً في الرتبة عن المسائل نفسها، وحينئذٍ: ففي مقام التعريف والتمايز، فلا محالة يكون التعريف بنفس المسائل أولى، إذ هي الأسبق رتبةً.
وربّما يستشكل على هذا الدليل أيضاً ـ ودفاعاً عن صاحب الكفاية ـ بما حاصله:
أنّ التمايز بين العلوم لو كان بتمايز موضوعاتها، فلو وجد علمان ـ أو أكثر ـ، وكانا متّحدين في موضوعهما، كما هي الحال بالنسبة إلى علمي النحو والصرف، المشتركين في أنّ موضوعهما هو: الكلمة والكلام اجمالاً، فحينئذٍ، كيف يمكن التمييز بينهما؟
ويُجاب عنه: بأنّ الكلمة والكلام لا يقعان موضوعين لهذين العلمين من حيثيّةٍ واحدة وبنفس اللّحاظ، بل بحيثيّتين ولحاظين مختلفين، فإنّ موضوع علم النحو هو: الكلمة والكلام من حيث الإعراب والبناء، وأمّا موضوع علم الصرف: فهو الكلمة، ولكن من حيث الصحّة والاعتلال.
ولكن قد يستشكل على هذا الجواب: بأنّ الحيثيّة المذكورة، هل هي حيثيّة تعليليّة أم أنّها تقييديّة؟ أمّا الاُولى: فلا معنى لها هنا، وأمّا الثانية: فهي لا تجدي نفعاً؛ لأنّها لا تصلح للتمييز بين العلمين المذكورين؛ إذ الكلمة حال تقييدها بحيثيّة الإعراب والبناء يبحث عنها في علم الفصاحة أيضاً.
ولكن يجاب عنه: بأنّ المراد من التقييد بالحيثيّة ليس هو حال التقييد بها، بل المراد: أنّ التقييد بها شرط.
وقد ظهر بما ذكرناه: أنّ تمايز العلوم إنّما يكون بتمايز الموضوعات، لا بتمايز الأغراض، ولا أيضاً بتمايز المحمولات ـ على فرض اختلافها كما في مسألتي: (الفاعل مرفوع) و(الفاعل ركن) ـ.
أمّا عدم كون الملاك في تمايز العلوم هو التمايز بالمحمولات: فلأنّه يقتضي أنّ المسائل المختلفة من حيث المحمول تكون علوماً مختلفةً، وهو ما لم يلتزم به أحد.
على أنّه لو سلّم حصول تمايز العلوم أحياناً بتمايز المحمولات، إلّا أنّه مع ذلك، فالقول بكون التمايز بالموضوع هو الملاك لتمايز العلوم أولى نظراً لأسبقيّة الموضوع وتقدّمه على المحمول رتبةً.
وأمّا عدم كون الملاك هو التمايز بالأغراض، فلجواز أن يكون لدينا علمان يشتركان في غرضٍ واحد، كما هو الحال في علمي النحو والصرف، فإنّ الغرض منهما واحد، وهو: صون اللّسان عن الخطأ في المقال، ومع ذلك، فقد جعلا علمين مستقلّين.
فالحقّ: أنّه لا بدّ لكلّ علمٍ من موضوع يبحث فيه عن العوارض الذاتيّة لهذا الموضوع، وبه يمتاز عن غيره من العلوم.

اعتراض الاُستاذين: الخوئيّ والبجنورديّ:
وقد اعترض على ذلك كلا الاُستاذين() بما حاصله:
أنّه إن اُريد من الجامع: الجامع الذاتيّ الماهويّ، حتى تكون نسبته إلى موضوعات المسائل نسبة الكلّيّ الطبيعيّ إلى أفراده، فهذا غير ممكن؛ لأنّ موضوعات مسائل الفقه ـ مثلاً ـ بعضها يندرج تحت مقولة الجوهر، كالماء والدم والمنيّ، وبعضها تحت مقولة الوضع، كالقيام والركوع والسجود، وثالث تحت مقولة الكيف المسموع، كالقراءة في الصلاة ونحوها، وآخر تحت الاُمور العدميّة، كالتروك في بابي الصوم والحجّ. فإنّ ترك المفطرات ـ كما ذكر المحقّق العراقيّ ـ يكون واجباً، حيث كان فعلها محرّماً.
بل حتّى لو فرضنا القدرة على تصوير الجامع الذاتيّ بين المسائل المختلفة؛ فإنّ ذلك لا يجدي أيضاً، إذ من المعلوم أنّ العوارض المبحوث عنها في علم الفقه ـ مثلاً ـ ليست ذاتيّةً لموضوعه الذي هو فعل المكلّف، فإنّ الفقه يبحث فيه عن الأحكام الخمسة، وواضح أنّ أيّ واحدٍ من هذه الأحكام الخمسة لا يعرض على فعل المكلف بما هو فعله مطلقاً، فالوجوب ـ مثلاً ـ لا يعرض على فعله بما هو فعله مطلقاً، بل بما هو صلاة، فالخصوصية الصلاتيّة التي يتقيّد بها الفعل مقوّمة لمتعلّق الوجوب، وكذا الحال في بقيّة العبادات..
ومن هنا، فلو أتى بالصلاة غير قاصدٍ عنوانها، بل كان قاصداً إلى مجرّد عنوان الفعل، أي: من حيث هو فعل صادر عن المكلّف، لما صحّ منه ذلك.
وعليه: وبما أنّ هذه العناوين والاعتبارات والخصوصيّات دخيلة في متعلّق الحكم والتكليف، وهي اُمور مختلفة متشتّتة، فلذا لم يكن من الممكن فرض وجود جامعٍ ماهويٍّ بينها، بل كما قال اُستاذنا الأعظم:
«أنّه لا يعقل وجود جامع ذاتيّ بين المقولات: كالجواهر والأعراض، لأنّها أجناس عالية ومتباينات بتمام الذات والحقيقة، فلا اشتراك أصلاً، بين مقولة الجوهر مع شيءٍ من المقولات العرضيّة، ولا بين كلّ واحدةٍ منها مع الاُخرى، وإذا لم يعقل تحقّق جامع مقوليّ بينها فكيف بين الوجود والعدم؟!»().
هذا كلّه إذا اُريد من الجامع: الجامع الذاتيّ المقوليّ.
وأمّا إذا قلنا: بأنّ المراد به: الجامع العرضيّ. فيرد عليه حينئذٍ:
أنّ المحمولات، هي أيضاً، يمكن فيها تصوير الجامع من هذا القبيل، فلماذا لا يكون تمايز العلوم بتمايز المحمولات؟
وأيضاً: فإنّ القول بالجامع العرضيّ لا يوافق ما ذهبوا إليه في بيان المقصود من موضوع العلم من أنّ «موضوع كلّ علمٍ هو ما يبحث في ذلك العلم عن عوارضه الذاتيّة»؛ إذ أنّى لمحمولات المسائل أن تكون من العوارض الذاتية لذلك الموضوع، والذي هو ـ بحسب الفرض ـ المفهوم العامّ العرضيّ؟!
ولكنّ الحقّ: أنّ مسائل علم الفقه، وإن كانت ترجع إلى قضايا جعليّةٍ واعتباريّة، إلّا أنّه ـ ومع ذلك ـ فبالإمكان تصوير موضوعٍ يكون جامعاً حقيقيّاً لموضوعاتها؛ وذلك لأنّ الأحكام الشرعيّة وإن كانت ـ كما قلنا ـ عبارةً عن قضايا اعتباريّة بلحاظ أنّها لا توجد ولا تثبت إلّا باعتبار المعتبر وإنشائه، إلّا أنّها بلحاظٍ آخر، وهو لحاظ نفس الاعتبار ومبادئ الحكم، تكون حقيقيّةً وتندرج تحت مقولة الكيف النفسانيّ.
وبهذا اللّحاظ لا يكون ثمّة محذور أصلاً في تصوير الجامع الحقيقيّ، بل يكون ذلك ممكناً، خلافاً لما ذهب إليه الاُستاذ الأعظم وجمع من المحقّقين من تلامذته، متذرّعين لذلك بما عرفت فساده من أنّ: المسائل في مثل علم الفقه قضايا جعليّة اعتباريّة، فلا يعقل في حقّها الجامع الحقيقيّ، لأنّ الجامع الحقيقيّ لا بدّ وأن يكون من سنخ أفراده، فإذا كانت هي جعليّةً واعتباريّةً بحسب الفرض، فكيف يتأتّى بعد ذلك أن يفرض لها جامع حقيقيّ وغير اعتباريّ؟

تمايز العلوم فيما بينها بأيّ شيءٍ هو؟
ثمّ إنّ اُستاذنا المحقّق، بعد ذهابه إلى أنّ تمايز العلوم إنّما يتحقّق بتمايز الأغراض لا الموضوعات، قال:
«ولا أدري!! أيّ ملزمٍ ألزمهم بالقول بوجود موضوعٍ واحد جامعٍ لجميع موضوعات المسائل...، حتى أنّ صاحب الكفاية ـ بعدما يئس من تعيين موضوعٍ كلّيٍّ متّحدٍ مع موضوعات مسائل علم الاُصول ـ قال بوجود جامعٍ مجهول العنوان()، كأنّه نزل وحي سماويّ أو دلّ دليل عقليّ ضروريّ على وجود موضوعٍ كلّيٍّ جامعٍ لجميع موضوعات المسائل في كلّ علم»().
إلّا أنّه عاد، بعد هذا الإنكار، ليعترف بأنّه لا بدّ من فرض وجود الموضوع في بعض العلوم، ونحن قد نقلنا عنه سابقاً أنّه يقسّم العلوم إلى قسمين، وأحد هذين القسمين «لا يمكن أن لا يكون لها موضوع، بل القول بعدمه خلف، لأنّ المفروض، كما بيّنّاه، أنّهم عيّنوا حقيقةً من الحقائق ووضعوها للبحث عن حالاتها ومفاد هلّيّتها المركّبة ـ إلى أن يقول ـ: كما أنّهم عرّفوا الحكمة بأنّها: العلم بأحوال أعيان الموجودات على قدر الطاقة البشريّة، وجعلوا موضوعها مفهوماً عامّاً يشمل جميع الحقائق، وهو مفهوم الموجود. وبهذا الاعتبار يقسّمون الحكمة إلى النظريّة والعمليّة، والنظريّة إلى الإلهيّة و الطبيعيّة والرياضيّة. فهي ـ بهذا الاعتبار ـ علم واحد، له موضوع واحد مندرج فيه جميع العلوم الحقيقيّة التي ليس الغرض منها إلّا معرفة حقائق الأشياء، ولكنّهم ـ مع ذلك ـ أفردوا البحث عن بعض الحقائق و جعلوه عامّاً على حده، وسمّوه باسم مخصوص ـ إلى أن يقول ـ: وقسم آخر عبارة عن مجموع قضايا مختلفة الموضوعات والمحمولات، جمعت ودوّنت لأجل غرضٍ خاصّ، وترتّب غايةٍ مخصوصةٍ عليها، بحيث لولا ذلك الغرض وتلك الغاية لم تدوّن تلك المسائل ولم تجمع، ولا فائدة في معرفتها وتسميتها باسمٍ مخصوص»(). هذا تمام كلامه نقلناه مع شيءٍ من الاختصار.
وملخّص القول: أنّ اُستاذنا المحقّق كان يرى بأنّ بعض العلوم ـ كما عرفت ـ يحتاج إلى الموضوع.
وهو ـ أيضاً ـ ما تبنّاه الاُستاذ الأعظم عندما قال: «الثاني: أنّه لامنافاة بين ما ذكرناه من عدم قيام الدليل على لزوم الموضوع في العلوم، و بين أن يكون لبعض العلوم موضوع، وذلك لأنّ ما ذكرناه إنّما هو من جهة عدم قيام البرهان على لزوم الموضوع في كلّ علم..»()؛ لأنّه لو قلنا بإمكان الموضوع، فلابدّ أن نلتزم بوجود الموضوع لكلّ علمٍ، أو أن لا نلتزم به أصلاً، حتّى بالنسبة إلى بعض العلوم، ضرورة أنّ أدلّة العقل وأحكامه أبيّة عن التخصيص.
فالحقّ: أنّ تمايز العلوم يكون بتمايز الموضوع، لا الأغراض، وأنّ قاعدة: إنّ كلّ علمٍ لا بدّ له من موضوعٍ واحدٍ تدور حوله بحوثه، ويمتاز به عن غيره من العلوم، هذه القاعدة، تشير إلى مطلبٍ ارتكازيٍّ.
ومن هنا ظهر الجواب عمّا أشار إليه الاُستاذ المحقّق بقوله: «ولا أدري! أيّ ملزمٍ ألزمهم بالقول بوجود موضوع واحد.... إلخ»:
إمّا بما ذكرناه آنفاً: من أنّ المحمولات متأخّرة في الرتبة عن نفس الموضوعات، فالتعريف والتمييز بالموضوع يكون أولى؛ لمكان أسبقيّته.
وإمّا بأنّ المحقّقين من العلماء متّفقون على أنّه لا بدّ لكلّ علمٍ من موضوع، ولا يضرّ أن يكون الموضوع هو الكلّيّ الذي يكون عين وجود أفراده في الخارج. وهذا الجامع حقيقيّ، وليس عرضيّاً ومن قبيل المفاهيم العامّة، كما لا يخفى تماماً، كالذي ذكره الاُستاذ المحقّق تحت عنوان: القسم الأوّل من العلوم.
نعم، يبقى الإشكال بأنّ موضوعات المسائل الفقهيّة بعضها يندرج تحت مقولة الجوهر، كالدم، وبعضها الآخر من قبيل الأعراض، ولا جامع حقيقيّ بين الجوهر والعرض.
وكيف كان، فينبغي أن يعلم:
أنّه يكفي في التمييز تصوير جامعٍ بين الموضوعات، ولسنا بحاجةٍ إلى تصوير جامعٍ بين المحمولات والموضوعات معاً ـ كما نسب الى المحقّق العراقيّ ـ() مضافاً إلى أنّه لم يلتزم به أحد.
وممّا ذكرنا عرفت أنّه يمكن أن يتصوّر للعلم موضوع، ويكون هذا الموضوع هو الجامع، كما أنّ هذا الموضوع الجامع هو ـ في المحصّلة ـ ما يكون مناطاً لوحدة العلم، لا الغرض.
خلافاً لما يظهر من قول اُستاذنا المحقّق: «أنّ وحدة العلم بوحدة الغرض لا الموضوع، وأنّ القضية الواحدة يمكن أن تترتب عليها غاية واحدة بسيطة مع اختلاف موضوعها مع محمولها»()؛ فإنّ ما ذكره غير تامٍّ بعد الذي ذكرناه من أنّ موضوع العلم هو الكلّيّ الذي يكون نفس موضوعات المسائل خارجاً.
نعم، إنّما يرد هذا الإشكال، لو تصوّرنا الموضوع أمراً شخصيّاً. هذا.
وقد ظهر ممّا قدّمناه ـ أيضاً ـ:
عدم تماميّة ما ذكره الاُستاذ الأعظم من أنّه «لا دليل على اقتضاء كلّ علم وجود الموضوع، بل سبق: أنّ حقيقة العلم عبارة عن جملةٍ من القضايا والقواعد المختلفة بحسب الموضوع والمحمول، التي يجمعها الاشتراك في الدخل في غرضٍ واحدٍ دعا إلى تدوينها علماً»().
وذلك لما ذكرناه ـ غير مرّة ـ من أنّ الدليل على هذا الاقتضاء موجود، وهو الأسبقيّة والأولويّة وشبه الاتّفاق بين المحقّقين على أنّ تمايز العلوم يكون بالموضوع لا بالغرض، بل ـ وكما قال بعض المحقّقين المعاصرين ـ فإنّ «قاعدة أنّ لكلّ علمٍ موضوعاً تدور حوله بحوثه، ويمتاز به عن غيره من العلوم، تشير إلى مطلبٍ ارتكازيٍّ مقبولٍ بأدنى تأمّل»().

العوارض الذاتيّة
المشهور بينهم: أنّ موضوع كلّ علمٍ هو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة، بلا خلافٍ في ذلك.
والمشهور بينهم ـ أيضاً ـ: أنّ الأعراض تنقسم إلى أقسامٍ سبعة، على خلافٍ ـ نقل ـ بين القدماء والمتأخّرين في تفسير معنى العرض.
فقيل: إنّ (العوارض) جمع ﻟ (عرض)، وإنّ المراد به هنا: مطلق ما يحمل على الشيء ممّا يكون خارجاً عنه، وهو المعبّر عنه في لسان أهل المعقول ﺑ (العرضيّ)، كالبياض والسواد. وأمّا (العرض) الذي هو مقابل للجوهر فهو ليس مشمولاً له، كما قال المحقّق السبزواريّ في منظومته():
وعرضيّ الشيء غير العرض ذا كالبياض ذاك مثل الأبيض
فالذي هو العرض حقيقةً هو البياض، لا الأبيض، وإنّما الأبيض ذات ثبت له البياض.
والعرض بهذا المعنى ـ أعني: العرضيّ ـ ينقسم إلى الخاصة والعرض العامّ، وهما محمولان خارجان عن ذات موضوعيهما، بل ربّما اتّسع ليشمل غير ذلك أيضاً، أي: المحمول الذي يكون من ذاتيّات الموضوع، كالجنس المحمول على النوع، كما في: (الإنسان حيوان)، وعلى الفصل، كما في: (الناطق حيوان).
أقول: المراد من (العرض) الذي يقع محلاً للبحث في هذا العلم إنّما هو القسم الأوّل خاصّةً، دون الثاني، أي أنّ المراد به هنا: خصوص المحمول الذي يكون خارجاً عن ذات الموضوع، دون ما يكون مقوّماً له ومن ذاتيّاته.
كما أنّه لا يراد من (العرض) هنا: مطلق ما يحمل على الشيء كما ذكره اُستاذنا الأعظم().

تقسيم العرض
وإذا اتّضح ذلك نقول: ينقسم العرض عندهم إلى عرض ذاتيّ وعرض غريب. وذلك أنّهم قالوا:
العرض:
1) إمّا أن يلحق الشيء لذاته، كالتعجّب للإنسان.
2) أو لجزئه المساوي، كالتكلّم العارض للإنسان بواسطة الناطق الذي هو ذاتيّ ومساوٍ له.
3) أو للخارج عنه المساوي له، كالضحك الذي يعرض للإنسان بواسطة التعجّب، وهو وإن كان خارجاً عن ذات الإنسان، إلّا أنّه مساوٍ له.
4) أو لجزئه الأعمّ، كالحركة الإراديّة التي تعرض للإنسان بواسطة الحيوان، والذي هو جزؤه الأعمّ.
5) أو للخارج الأعمّ، كالتحيّز العارض للأبيض بواسطة الجسم، وهو خارج عن حقيقة الأبيض.
6) أو للخارج الأخصّ، كالضحك الذي يعرض الحيوان بواسطة الإنسان، وهو ـ كما هو واضح ـ أخصّ من الحيوان.
7) أو بواسطة الأمر المباين، كالحرارة العارضة للماء بواسطة أمرٍ مباينٍ له، وهو النار.
وقد وقع الخلاف بينهم في العارض للجزء الأعمّ: فعن القدماء: أنّه من العوارض الغريبة.
ولكنّ ما نسب الى بعض المتقدّمين ـ وهو المشهور لدى المتأخرين ـ أنّه من جملة العوارض الذاتيّة.
وعلى كلّ حال، فقد رأى جماعة من المحقّقين ـ منهم: صاحب الكفاية والمحقّقان النائينيّ والعراقيّ () ـ:
أنّه بناءً على التعريف الذي تبنّاه القوم لمفهوم (موضوع العلم)، فإنّ البحث عن كثيرٍ من مسائل العلوم سوف يكون ـ لا محالة ـ بحثاً عن العوارض الغريبة لهذا الموضوع.
ومن هنا، وجدوا أنّه لا محيص من العدول عن التفسير المشهور للقوم واعتماد تفسيرٍ آخر، حاصله: أنّ المناط في كون العرض ذاتيّاً، هو ألّا يتوسّط بين العرض وبين معروضه أيّ شيءٍ آخر يكون هو المعروض في الحقيقة.
ولذا، فقد عرّفه الآخوند الخراسانيّ في الكفاية، بأنّه: «ما يعرض للشّيء بلا واسطةٍ في العروض»().
ومن هنا، كان لا بدّ ـ أوّلاً وقبل كلّ شيء ـ من بيان وتحديد ما هو المقصود من (الواسطة)، فنقول:
الواسطة تارةً تكون واسطةً في العروض، وثانيةً واسطة في الثبوت، وثالثةً في الإثبات.
والواسطة ـ أيضاً ـ: تارةً تكون جليّة، كالحركة للسّفينة، واُخرى تكون خفيّةً، كالسطح الذي هو واسطة في نسبة البياض الى الجسم، فإنّه في الحقيقة والواقع يعرض على السطح، ولو كان بنظر العرف ليس عارضاً عليه، بل على الجسم.
فأمّا الواسطة في الثبوت، فالمقصود بها: ما كان علّةً لثبوت العرض لمعروضه حقيقةً، بلا فرق بين أن يكون هذا العرض قائماً به، كالنار التي تكون واسطةً في عروض الحرارة للماء؛ أم لا، كالحركة التي تكون سبباً وعلّةً لعروض الحرارة على الجسم.
وأمّا الواسطة في الإثبات، فيراد منها: ما يكون علّةً للعلم بوجود الشيء، كعلّيّة العلم بالدخان للعلم بوجود النار.
وأمّا الواسطة في العروض، فهي: أن ينسب العرض إلى الواسطة حقيقةً، وإلى ذي الواسطة مجازاً، كحركة السفينة، فإنّها ـ أي: الحركة ـ محمولة على السفينة حقيقةً، وتنسب الى الجالس فيها مجازاً.

العرض الذاتيّ بين المتقدّمين والمتأخّرين
إذا عرفت هذا، فاعلم:
أنّ المعيار في صدق العرض الذاتيّ عند المتأخّرين من المحقّقين، هو أنّه: ما يصحّ حمله على الشيء بلا عنايةٍ وتجوّز في، فالعرض الذاتيّ عندهم هو كلّ ما يصحّ حمله على الشيء وإسناده إليه حقيقةً.
أو فقل: هو كون العارض محمولاً حقيقةً على المعروض، ويكون إسنـاده إليه من إسناد الشيء إلى ما هو له، بحيث لا يصحّ سلبه عنه حقيقةً.
ففي علم النحو ـ مثلاً ـ: لمّا كان يصحّ حمل عوارض النوع، كالرفع العـارض للفاعل والنصب العارض للمفعول، على الجنس ـ وهو الكلمة ـ حقيقةً، فإنّ البحث عن رفع الفاعل ونصب المفعول في هذا العلم، وإن كان بحثاً عن أعراض أنواع الكلمة ـ والتي هي موضوع علم النحو ـ لا نفسها، إلّا أنّه يصدق عليه حقيقةً أنّه بحث عن الكلمة نفسها، وذلك لإمكان حمل هذه العوارض على الكلمة وإسنادها إليها حقيقةً ومن باب إسناد الشيء إلى ما هو له.
وعلى هذا الأساس، فلا يكون للعرض الذاتيّ إلّا مصداق واحد، وهو ما كان عروضه للشيء بلا بواسطةٍ في العروض، كحركة السفينة بالنسبة الى الجالس فيها؛ فإنّها بالنسبة إليه مجاز، وبالنسبة إلى السفينة حقيقة.
وجميع ما لا يكون عروضه بواسطةٍ في العروض، فهو عندهم داخل في العرض الذاتيّ، حتّى ذاك الذي يكون عروضه للشيء بواسطة أمرٍ مباينٍ له وخارجٍ عنه، كعروض الحرارة للماء، بواسطة الأمر المباين له وهو النار؛ إذ ما دام عروضها للماء حقيقيّاً، بحيث لا يصحّ سلبها عنه في الحقيقة، فتكون بالنسبة إلى الماء من أعراضه الذاتيّة، ولو أنّ عروضها عليه لم يكن إلّا بواسطة مباينه.
وأمّا بناءً على تعريف القوم؛ فإنّ هذا يكون داخلاً في العرض الغريب.
ولكنّ تعريف المتأخّرين أحسن ممّا ذكروه؛ وذلك لسلامته من أن يخرج عن العلم جلّ مسائله، ألا ترى أنّ الرفع والنصب المبحوث عنهما في علم النحو، لا يعرضان على الكلمة والكلام إلّا بواسطة الفاعليّة والمفعوليّة، اللّذان هما بالنسبة إلى الكلمة والكلام من قبيل الخارج الأخصّ، فلا يندرجان في الأعراض الذاتيّة إلّا إذا أخذنا بتعريف المتأخّرين؟!
وكذا الحال فيما يرتبط بالبحث عن حجيّة الخبر الواحد في علم الاُصول ـ مثلاً ـ، فإنّ الحجيّة، وإن كانت لا تعرض على الخبر إلّا بواسطة الجعل الذي هو مباين لنفس الخبر، إلّا أنّ البحث عنها مع ذلك بحث عمّا هو من الأعراض الذاتيّة، لكونها محمولةً على الخبر حقيقةً ولا يمكن سلبها عنه.
اعتراض المحقّق الأصفهانيّ:
ومن هنا ظهر: عدم ورود الإشكال الذي أفاده المحقّق الأصفهانيّ وحاصله: أنّ مسائل العلوم كثيراً ما تشتمل على البحث عمّا لا يكون عرضاً ذاتيّاً لموضوع العلم، لدخالته في الغرض المطلوب().
وكذا لا يرد ما ذكره الاُستاذ الأعظم ـ في السياق عينه ـ من أنّ ما يبحث عنه في العلم قد لا يكون من العوارض الذاتيّة لموضوعات المسائل، فضلاً عن موضوع العلم، وذلك لترتّب الغرض عليه، كما هي الحال في كثيرٍ من المحمولات في مسائل علم الفقه().
وجه عدم الورود: أنّ المقصود من العوارض الذاتيّة عند صاحب الكفاية: ما لا تكون أعراضاً غريبة.
ولذلك قال: «بلا واسطة في العروض»().

تعريف موضوع العلم
قال صاحب الكفاية في تعريفه: «وهو نفس موضوعات مسائله عيناً»().
وقد يشكل فيه: بأنّ موضوع المسألة في بعض العلوم قد يكون جزءاً من موضوع العلـم، لا عينه ومتّحداً معـه، وذلك كما في علم الطبّ ـ مثلاً ـ فإنّ موضوعه هو بدن الإنسان إجمالاً، مع أنّ ما يبحث عنه في هذا العلم هو أجزاؤه، كالرأس والرقبة واليد والرجل وغيرها، والكلّ ـ كما لا يخفى ـ لا يصدق على الجزء، ولا ينطبق عليه خارجاً، وإنّما هو مباين له. وإنّما الكلّيّ هو الذي ينطبق على الجزئيّات.
ولكنّ هذا الإشكال إنّما يتمّ فيما لو قلنا: بأنّ موضوع علم الطبّ هو البدن، وأمّا لو قلنا: بأنّه هو الكلّيّ، وإن لم يتشخّص، فحينئذٍ لا ورود له، كما هو ظاهر.
وبهذا التعريف لموضوع العلم، لا يرد ما ذكره علماء الميزان: من أنّ موضوع العلم قد يكون مغايراً لموضوعات مسائله، وحينئذٍ: فلا تكون محمولات المسائل أعراضاً ذاتيّةً بالنسبة إلى موضوع العلم، إذ المفروض أنّه غير موضوعات المسائل، وليس متّحداً معها.
نعم، ما يرد على صاحب الكفاية أنّ قوله ـ بعد التعريف المذكور ـ: «وما اتّحد معها خارجاً»()، غير تامٍّ؛ لأنّ الاتّحاد لا ينحصر في الاتّحاد الخارجيّ، بل يشمل الاتّحاد الواقعيّ أيضاً، وبناءً على اشتراط الاتّحاد بين موضوع العلم وموضوعات المسائل خارجاً فقط، كما صنعه الآخوند في العبارة المذكورة، تخرج المسائل المنطقيّة، فإنّ موضوعاتها من المعقولات الثانويّة باصطلاح أهل المنطق.
وهذه ـ كما هو معلوم ـ لا وجود لها في الخارج حتى يتّحد معها الموضوع خارجاً، فلذلك، لا بدّ من إصلاح العبارة أعلاه، بأن يراد من الاتّحاد: الاتّحاد الواقعيّ والنفس الأمريّ، أعمّ من أن يكون اتّحاداً في الذهن أو في الخارج. هذا.
وإنّ اشتراطنا في موضوع العلم أن يكون كلّيّاً ومتّحداً مع موضوعات المسائل يدفع إشكالاً آخر يمكن أن يطرح في البين، وهو: أنّهم يقولون: موضوع علم النحو ـ مثلاً ـ هو الكلمة والكلام:
فإن اُريد: أنّ الموضوع لعلم النحو هو كلّ منهما على سبيل الانفراد والاستقلال، تحوّل علم النحو إلى علمين اثنين.
وإن اُريد: أنّ الموضوع له واحد معيّن منهما، لم يكن هذا الواحد المعين موضوعاً، لعدم كونه جامعاً لجميع موضوعات المسائل حينئذٍ.
وإن اُريد: أنّ الموضوع له واحد غير معيّنٍ منهما، صار الموضوع مبهماً.
وإن اُريد: أنّهما موضوع له على سبيل الاجتماع، لزم عدم صدقه على كلّ واحد من موضوعات المسائل.
وقد يقال ـ في الدفـاع عن صاحب الكفاية ـ: بأنّه إنّما جعل الموضوع نفس موضوعات المسائل فراراً عن مخالفة القاعدة التي ذكرناها سابقاً ـ أعني: قاعدة أنّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد، ويستحيل صدوره عن كثير ـ بدعوى أنّ الغرض الذي يترتّب على علم الاُصول غرض وحدانيّ، وهو: القدرة على الاستنباط، وبما أنّه وحدانيّ فارد، لم يمكن صدوره عن الكثير، أي: عن المسائل المختلفة موضوعاً ومحمولاً، فكان لا بدّ ـ بنظر صاحب الكفاية ـ من جعل الموضوع كلّياً، وإلّا، لورد عليه هذا الإشكال.
ولكن يجاب عنه: بأنّ مورد القاعدة ـ على ما أسلفنا ـ هو الواحد البسيط من جميع الجهات، دون ما له جهات متعدّدة، فإنّ القدرة على الاستنباط التي تترتّب على مباحث الألفاظ هي غير القدرة المترتّبة على مبحث حجّيّة الأمارات، فكما أنّ الموضوعات كثيرة ومتعدّدة، فإنّ الأغراض كذلك أيضاً. وبالجملة: فليس هناك أيّ مخالفةٍ لقاعدة الواحد، حتّى لو سلّمنا أنّها تشمل المورد أيضاً.

موضوع علم الاُصول
هل لهذا العلم موضوع أم لا؟!
مختار المشهور والمحقّق القمّيّ:
قد يقال ـ كما هو المشهور واختاره المحقّق القمّيّ() ـ: بأنّ موضوع علم الاُصول هو الأدلّة الأربعة، بوصف دليليّتها.
ولكن قد يرد عليه: بأنّه بناءً على ذلك: يخرج عن علم الاُصول جملة من مهمّات المسائل الاُصوليّة، كمباحث الحجّيّة والأمارات وأمثالهما، لتدخل هذه المسائل ـ التي هي من صميم علم الاُصول ـ في المبادئ؛ إذ البحث عن العوارض بحث عمّا هو مفاد «كان» الناقصة لا التامّة، فلو كانت الحجّيّة قيداً للأدلّة، التي هي موضوع العلم؛ فإنّ البحث عن الحجّيّة والدليليّة ـ حينئذٍ ـ سيكون بحثاً عن وجود الموضوع، والذي هو مفاد «كان» التامّة، فيكون البحث عن ظواهر الكتاب مثلاً، بل البحث عن حجّيّة الظواهر مطلقاً.
وكذلك، فإنّ البحث عن حجّيّة العقل والإجماع والاُصول العمليّة والملازمات العقليّة، لن يكون بحثاً عن عوارض الأدلّة، بل سيكون بحثاً عن ثبوت الموضوع.
وهذا يعني: أنّ هذه المسائل المهمّة ستدخل في مبادئ وتخرج عن مسائل الاُصول ومقاصده. هذا أوّلاً.
وثانياً: ما ذكره المحقّق العراقيّ، من أنّ مسائل علم الاُصول تنقسم إلى أربعة أقسام:
أ ـ قسم يدور البحث فيه عن أنّ الأمر الكذائي حجّة أم لا، وعن تشخيص الحجّة وتمييزها عن غيرها، كمباحث الأمارات ومباحث التعادل والتراجيح.
ب ـ وقسم يبحث فيه عمّا ينتهي إليه أمر الفقيه بعد الفحص واليأس عن الدليل.
ج ـ وقسم يبحث فيه عن أحوال الألفاظ، وظهورها فيما يذكر لها من المعاني، كمباحث الألفاظ.
د ـ وقسم يبحث فيه عن أحوال الأحكام الخمسة، كاستلزام وجوب الشيء لوجوب مقدّمته.
ولا شيء من هذه الأقسام يبحث عن أحوال واحدٍ من الأدلّة:
أمّا القسم الأوّل: فلأنّه يعالج السؤال حول كون الشيء تثبت له الحجّيّة والدليليّة أم لا، لا أنّه يبحث فيه عن أحوال الدليل.
وأمّا الثاني: فلعدم ارتباطه بالأدلّة الأربعة.
وأمّا الثالث: فلأنّه يبحث عن أحوال الأحكام بما هي أحكام، من دون نظرٍ إلى كونها مستفادةً أو غير مستفادةٍ من الأدلّة.
وأمّا الرابع: فلأنّ البحث فيه ليس عن أحوال الأدلّة، بل هو يبحث عن أحوال الألفاظ بما هي ألفاظ، لا من حيث كونها من ألفاظ الكتاب والسنّة. فالبحث عن دلالة الأمر على الوجوب مثلاً، ليس بحثاً عنه بعنوان أنّه أمر واقع في الكتاب والسنّة، بل بلحاظ كونه كلاماً عرفيّاً، وبما أنّه أحد أفراد الكلام الكلّيّ والمطلق، لا بما أنّه أمر كتابيّ بخصوصه.
مختار الفصول ومناقشته:
نعم، لو فرضنا بأنّ موضوع علم الاُصول هو ذوات الأدلّة، لا بوصف الدليليّة ـ كما هو مختار الفصول() ـ اندرج البحث عن الحجيّة حينئذٍ في البحث عن عوارض الأدلّة، لا في المبادئ.
ولكن يرد عليه الإشكال أيضاً: بخروج كثيرٍ من المسائل عن كونها مسائل اُصوليّة، كالبحث عن حجّيّة الخبر الواحد ـ مثلاً ـ، فإنّه ليس بحثاً عن عوارض الأدلّة: أمّا أنّه ليس بحثاً عن عوارض الكتاب والإجماع والعقل، فظاهر، وبلا فرقٍ بين أن تكون هذه الثلاثة موضوعاً لعلم الاُصول بذاتها، أو بوصف دليليّتها. وأمّا أنّه ليس بحثاً عن عوارض السنّة، فظاهر أيضاً، لأنّ السنّة هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره، بل هو بحث عن عوارض الخبر، وليس الخبر نفس السنّة حتى يكون البحث عن حجيّتها من عوارضها، كما لا يخفى.
وكذا الحال بالنسبة للبحث عن حجّيّة أحد الخبرين ـ أعني: مبحث التعادل والتراجيح ـ فإنّه أيضاً ليس بحثاً عن حجّيّة الأدلّة، سواء كانت النتيجة هي الترجيح أو التخيير.. وهكذا أيضاً: البحث عن المرجّحات ومباحث الملازمات العقليّة، فإنّ البحث في مسألة الملازمات يرجع إلى البحث عن الاستحالة والإمكان، وهذا ليس بحثاً عن أحوال الأدلّة مطلقاً.
فإن قلت: لا نحتاج إلى العدول عن الرأي المشهور، وهو ـ كما مرّ ـ: أنّ الموضوع لعلم الاُصول هي الأدلّة الأربعة بوصف الدليليّة، ولا إلى ما اختاره صاحب الفصول من أنّ الموضوع هو ذوات الأدلّة، لا نحتاج إلى ذلك، لكي ندخل مسألة حجيّة خبر الواحد في المسائل الاُصوليّة، ولكي يكون البحث عن حجيّة الخبر بحثاً عمّا هو من عوارض الموضوع.
وذلك لأنّه بناءً على أن يكون الموضوع هو الأدلّة بوصف الدليليّة أيضاً، فإنّ البحث المذكور يكون بحثاً عن عوارض السنّة؛ إذ البحث عن حجّيّة الخبر يرجع في حقيقته إلى البحث عن أنّ السنّة الواقعيّة هل تثبت بخبر الواحد أم لا.
وبناءً على ذلك: تدخل مسألة حجّيّة الخبر في ضمن المسائل الاُصوليّة، ولا يلزم أن تكون من المبادئ التصديقيّة الخارجة عن مقاصد الفنّ. وكذا يقال بالنسبة إلى البحث عن أحد الخبرين المتعارضين.
قلنا: إنّ البحث عن العوارض ـ كما نبّهنا عليه آنفاً ـ لا بدّ وأن يكون راجعاً إلى البحث عن المحمولات المترتّبة ممّا ينطبق عليه أنّه مفاد «كان» الناقصة والهليّة المركّبة. والمرجع في البحث عن حجّيّة الخبر حينئذٍ ـ بناءً على هذا القول ـ يرجع إلى ثبوت السنّة ووجود الموضوع، والبحث عن وجود الموضوع ليس بحثاً عن المحمولات المترتّبة، وإنّما هو بحث عن الوجود المحموليّ، وعليه: فلا يكون هذا البحث من المسائل، بل يكون من جملة المبادئ. هذا.
بالإضافة إلى أنّنا نسأل عن المراد من الثبوت، ثبوت السنّة بالخبر ما هو؟
فإن اُريد منه: الثبوت التكوينيّ الواقعي، أي: أن يصبح خبر الواحد واسطةً وعلّةً لثبوت السنّة واقعاً، فهو غير معقولٍ، كما لا يخفى؛ لأنّ خبر الواحد لا يقع في سلسلة علل وجود السنّة حتّى يكون علّةً لثبوتها واقعاً، كيف؟ وهو متأخّر عنها، ودوره بالنسبة إليها دور الحاكي، وبديهيّ أنّ الحكاية عن الشيء تقع في مرتبةٍ متأخّرةٍ عنه.
وإن أُريد منه: الثبوت التعبّديّ الذي مرجعه إلى حكم الشارع بالحجّيّة ولزوم العمل بمضمون الخبر تعبّداً، فحينئذٍ يندرج في العوارض، ولكنّه لا يجدي شيئاً، إذ يكون من عوارض الخبر لا السنّة، أو فقل: يندرج في عوارض السنّة المشكوكة، لا السنّة الواقعيّة، والذي هو الموضوع لعلم الاُصول إنّما هي السنّة الواقعيّة، ونتيجة البحث في هذه المسألة ـ حينئذٍ ـ ترجع إلى البحث العوارض الغريبة عن السنّة الواقعيّة.
والحاصل: أنّه لا ينفع في دفع الإشكال أن يقال: بأنّ هذا الثبوت من عوارض السنّة لا من عوارض الخبر. هذا.
بالإضافة ـ أيضاً ـ إلى بقاء الإشكال على حاله بالنسبة إلى المستلزمات العقليّة.
والمتحصّل من كلّ ما ذكرنا:
أنّ موضوع علم الاُصول هو الجامع الذي ينطبق على موضوعات مسائله في نفس الأمر والواقع، لا ذوات الأدلّة، ولا الأدلّة بقيد الدليليّة. أو فقل: هو الجامع للأدلّة التي تشترك في الاستدلال الفقهيّ. والبحث في هذا الفنّ عن حجّية هذه الأدلة من حيث إنّها يمكن للفقيه أن يستند اليها في مقام الاستنباط الفقهيّ.
لا يقال: إنّ البحث في جملةٍ من المسائل الاُصوليّة لا يصدق عليه أنّه بحث عن الحجّيّة، كما هي الحال في مسألة: الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته.
فإنّه يقال: النتيجة المتحصّلة من البحث في هذه المسألة هي: دليليّة أو عدم دليليّة الأمر بالشيء على وجوب مقدّمته.
وكذا الحال في نظائر هذه المسألة.. كمسألة قبح العقاب بلا بيان؛ فإنّ مآل البحث فيها إلى أنّ عدم البيان هل يكون دليلاً، عقلاً أو شرعاً، على المعذّريّة وعدم الوجوب، أم لا يكون كذلك؟! فتكون داخلةً في مسائل هذا العلم بلا أدنى تأمّل.
فتلخّص: أنّه بناءً على ما اخترناه في موضوع هذا الفنّ، لا يرد الإشكال بخروج جملةٍ من أهمّ المسائل والمقاصد عنه.

الأمر الخامس: تعريف علم الاُصول
والمشهور بينهم في تعريف هذا العلم أنّه: «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة».
وقد عدل عن هذا التعريف صاحب الكفاية قائلاً: «وإن كان الاُولى تعريفه بأنّه: صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام»().
وقد يقال في الاعتراض على التعريف المشهور ـ أوّلاً ـ:
إنّ التعريف الثاني أولى من التعريف الأوّل، لعدم اشتماله على كلمة (العلم)، بخلاف الأوّل؛ وعليه: فيكون التعريف الثاني ـ لذلك ـ متطابقاً مع المعرّف، الذي هو علم الاُصول، أكثر؛ لأنّ حقيقة هذا العلم ـ ككلّ علمٍ من العلوم ـ: أنّه عبارة عن نفس المسائل، لا العلم بها.
ولكنّ الحقّ: أنّ قولهم: «العلم بالمسائل» لا يضرّ؛ لأنّ الغرض في أيّ علمٍ كان لا يترتّب على واقع قواعده، وإنّما يترتّب على العلم بها، ألا ترى أنّ القدرة على الاستنباط ـ مثلاً ـ تتوقّف على العلم بقواعد الاُصول، لا على نفس القواعد بوجودها الواقعيّ فقط؟!
وقد يرد على التعريف المشهور ـ ثانياً ـ:
أنّ ظاهره كون المناط في المسألة الاُصوليّة هو فعليّة وقوع هذه القواعد في طريق الاستنباط، وأنّه لا يكفي شأنيّتها، مع أنّ هذه المسائل لا يترتّب عليها الاستنباط الفعليّ إلّا بعد ضمّ صغرياتها إليها.
ولعلّه لأجل هذا أيضاً كان عدول صاحب الكفاية عن التعريف المشهور إلى التعريف الثاني، جاعلاً إيّاه أولى من التعريف الأوّل.
ولكن نقول: لو قلنا في تعريف هذا العلم: هو «العلم بالقواعد الممهّدة التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام» لسلم من ورود هذا الإشكال عليه، كما لا يخفى؛ لاشتماله على ما يدلّ على أنّ المعتبر في اُصوليّة المسألة هو شأنيّة وقوعها في طريق الاستنباط، لا وقوعها الفعليّ.
وقد يرد عليه ـ ثالثاً ـ:
أنّه بناءً عليه: يلزم أن يكون البحث في كثيرٍ من المسائل المهمّة التي يتمّ تناولها في الكتب الاُصوليّة بحثاً استطراديّاً، كمسائل الاُصول العمليّة، وكمسألة حجّيّة الظنّ في حالة الانسداد، بناءً على الحكومة.
أمّا استطراديّة الاُولى:
فلأنّها وظائف للشّاكّ في مقام العمل، وليست ممّا يمهّد لاستنباط الأحكام كما هي وظيفة المسألة الاُصوليّة، بل هي إمّا أحكام بأنفسها، بناءً على إمكان الجعل للحكم الظاهريّ، وإمّا مجرّد ترخيصٍ في الترك بناءً على عدمه.
وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الاُصول العمليّة: إمّا أن لا يكون مفادها حكماً شرعيّاً، ولا يتوصّل بها إلى حكمٍ شرعيٍّ، وهي الاُصول العقليّة، كالبراءة والاشتغال العقليّين، فإنّ مفادهما فقط هو المعذّريّة والمنجّزيّة، من دون أن تكون إحداهما واسطةً في الاستنباط. وإمّا أن يكون مفادها حكماً شرعيّاً، وذلك كأصالة الحلّ ونحوها، والاستصحاب، بناءً على كونه يتكفّل بإثبات حكمٍ مماثلٍ؛ فإنّ هذه لا تعين على استنباط حكمٍ شرعيٍّ، وإنّما تكون، هي بنفسها، حكماً شرعيّاً، وهو الحلّيّة ـ مثلاً ـ.
ولهذا، فقد زاد صاحب الكفاية على هذا التعريف جملةً اُخرى وهي قوله: «أو التي ينتهى إليها في مقام العمل»().
ولكن، إذا فسّرنا التعريف المشهور، فقلنا: بأنّ المراد من وقوع تلك القواعد في طريق الاستنباط إنّما هو: أنّ هذه القواعد كبريات لا بدّ من انضمام صغرياتها إليها حتى يمكن أن يستنتج الحكم الكلّيّ الإلهيّ، سواء كان هذا الحكم حكماً واقعيّاً أو ظاهريّاً، شرعيّاً أو عقليّاً.
وبعد هذا التفسير، فلا يبقى مجال للإشكال المزبور، ومعه: فلا نحتاج إلى زيادة جملة: «أو التي ينتهى إليها في مقام العمل».
نعم، يرد الإشكال: بأنّ الكبرى العقليّة لا تثبت الحكم الكلّي الإلهيّ إلّا بعد إثبات الملازمة أوّلاً. فلو اُريد من وقوع تلك القواعد في طريق الاستنباط: أنّها أمارة وحجّة على إثبات الحكم الواقعيّ، لكان الإشكال متّجهاً، ولكنّا بحاجةٍ إلى هذه الزيادة.
ولكن الحقّ أنّ التعريف ليس تامّاً، وذلك من جهتين:
الاُولى: أنّ الحكم الموجود في موارد الاُصول العمليّة ليس حكماً يصار إلى استنتاجه من القاعدة الاُصوليّة، وإنّما هو نفس القاعدة الاُصوليّة، ونفس الأصل العمليّ.
وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ الاُصول العمليّة ـ والتعبير للاُستاذ الأعظم() ـ لا تقع في طريق الاستنباط للحكم الشرعيّ الكليّ لأنّ إعمالها في مواردها إنّما هو من باب تطبيق مضامينها بنفسها على مصاديقها وأفرادها، كتطبيق الطبيعيّ على أفراده، وهو ليس من باب استنباط الأحكام الشرعيّة منها وتوسيطها لإثباتها.
وأمّا الاُصول العقليّة والظنّ الانسداديّ: فهما لا ينتهيان إلى حكمٍ شرعيٍّ أصلاً، لا واقعاً ولا ظاهراً.
والجهة الثانية: أنّ قسماً من الاُصول العمليّة لا ينتج حكماً شرعيّاً، حتى الظاهريّ منه، وإنّما هو مجرّد وظيفةٍ عمليّةٍ يقرّرها العقل بعد العجز عن الوصول إلى الحكم الشرعيّ.

وأمّا استطراديّة حجيّة الظنّ الانسداديّ بناءً على الحكومة
فلأنّه لا علم هناك بالحكم في مورده، لا واقعاً: لأنّ باب العلم مسدود بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة؛ ولا ظاهراً: لعدم جعلٍ هناك من قبل الشارع أصلاً.
ولا فرق في ذلك:
بين أن يكون المراد من الظنّ: الظنّ على مسلك الحكومة، أعني: حكم العقل بجواز التبعيض في الاحتياط وبجواز الاكتفاء بالامتثال الظنّيّ والعمل بالمظنونات؛ لأنّ جواز الاقتصار على الامتثال الظنّيّ وعدم لزوم الامتثال اليقينيّ لا دخل له بعالم استنباط الأحكام، بل إنّما يرتبط بعالم فراغ الذمّة والامتثال والتعذير عن الواقع، ولو في ظرف الموهومات.
وبين أن يكون المراد: أنّ العقل يرى، ببركة مقدّمات الانسداد، الحجّيّة للظّنّ، أي: أنّ للمكلّف أن يقتصر في الامتثال وأداء التكليف على المظنونات استناداً إلى مرجعيّةٍ معيّنةٍ، وهي: حجيّة الظنّ بنظر العقل. وبناءً على ذلك، فإنّ حجّيّة الظنّ عقلاً لا تعني إلّا كونه ـ أي: الظنّ ـ منجّزاً وحجّةً على العبد، وأين هذا من كونه يستنبط منه أيّ حكمٍ من الأحكام؟! فتأمّل.

وقد يستشكل في هذا التعريف أيضاً
بأنّه ليس مانعاً للأغيار، لتناوله للقواعد الفقهيّة، فإنّها ـ أيضاً ـ ممّا يستنبط منه حكم شرعيّ.
ولكن، يردّه: أنّ القواعد الفقهيّة، وإن كانت تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعيّة الإلهيّة، إلّا أنّ ذلك أبعد ما يكون عن باب الاستنباط، وإنّما هو من باب التطبيق.
وبعبارةٍ اُخرى أدقّ: فهي نفس الحكم الشرعيّ، لا أنّه يستخرج منها الحكم الشرعيّ. فإنّ قاعدة «ما يضمن بصحيحه» هو لجميع الضمانات الموجودة في البيع والإجارة وغيرهما، لا أنّها مجرد طريقٍ للحكم أو كاشفٍ عنه.
وأمّا عدول صاحب الكفاية عن التعبير ﺑـ(العلم) إلى التعبير ﺑـ(الصناعة)، وقوله: بأنّ ذلك أولى، فقد قيل في وجهه: إنّ أولويّة التعريف الثاني من جهة أنّ علم الاُصول ليس له قواعد مضبوطة كسائر العلوم حتى يعرّف بأنّه عبارة عن (العلم بالقواعد).
ولكنّ الصواب: عدم تمامية ذلك ـ لو كان هو المراد له حقّاً كما قيل ـ لأنّنا لا نسلّم عدم كون قواعد علم الاُصول قواعد مضبوطةً، بل هي مضبوطة ومدوّنة في كتب الاُصول.
بل نزيد على ذلك: أنّ الإشكال يرد على التعريف الذي جاء به هو، والذي أخذ فيه قيد (صناعة)؛ فإنّ لازمه ـ لو قلنا: بأنّ الصناعة هي الملكة ـ هو كون ذوات القواعد خارجةً عن علم الاُصول.
فالاُولى لذلك ـ وخلافاً للكفاية ـ أن يعرّف علم الاُصول بما جاء في التعريف الأوّل، أي: بأن يقال: هو العلم بالقواعد ... إلخ.
هذا كلّه، لو لم نقل: بأنّ المقصود من العلم هو نفس القواعد ـ كما فيما إذا قيل: العلم الكذائي موضوعه كذا، والغرض منه كذا ـ وإلّا، فلو قلنا بذلك، لكان لفظ العلم زائداً ومستدركاً، كما لا يخفى.
وقد اعترض على هذا التعريف أيضاً، بأنّه يشمل بعض القواعد الفقهيّة، كقاعدة الطهارة، ويدخلها تحت المسألة الاُصوليّة.
واعتذر عن هذا الاعتراض: بالمنع، لأنّ قاعدة الطهارة ـ مثلاً ـ تختصّ ﺑ «باب الطهارة»، والمسألة الاُصوليّة هي التي لا تختصّ ببابٍ دون باب().
ولكن هذا الاعتذار لا يتمّ إلّا إذا أخذنا هذا القيد، أعني: عدم الاختصاص ببابٍ دون باب، في تعريف علم الاُصول، أو لو أخذنا بالتعريف الذي تبنّاه بعض محقّقي المعاصرين لعلم الاُصول وهو أنّ «علم الاُصول هو العلم بالعناصر المشتركة في الاستدلال الفقهيّ ... إلخ»().
وأمّا على التعريف المشهور، وكذا على تعريف الكفاية، فالإشكال وارد ومتّجه، إلّا أن يقال: بأنّها من المسائل الاُصوليّة وليست بخارجةٍ عن المسائل الاُصوليّة حقيقةً.
وأمّا ما ذكره الاُستاذ المحقّق في ردّ هذا الاعتراض: من أنّ القاعدة المذكورة من المسائل الاُصوليّة، وليست بخارجةٍ عنها، غاية الأمر: أنّهم لم يتعرّضوا لها في الاُصول العمليّة، وما ذلك إلّا لكونها متّفقاً عليها، فلا تحتاج الى البحث هناك():
فلا يمكن المساعدة عليه بوجهٍ: لأنّ بعض المسائل الاُصوليّة اتّفاقيّة أيضاً، ومع ذلك فقد ذكروها في علم الاُصول وجعلوها من المسائل الاُصوليّة.
ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ أفاد:
«أنّ المراد بوقوع تلك القواعد [يعني: القواعد الاُصوليّة] في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة هو أن تكون ناظرةً إلى إثبات الحكم بنفسه، أو بكيفيّة تعلّقه [أي: الحكم] بموضوعه»().
وقال أيضاً:
«إنّ مباحث العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمفهوم والمنطوق، [على سبيل المثال] ناظرة الى كيفيّة تعلّق الحكم بالموضوع، فهي داخلة في علم الاُصول».
إلى أن يقول: وهذا «بخلاف مبحث المشتقّ ونظائره، ممّا هو راجع إلى تشخيص الموضوع، فهي خارجة، لأنّها ليست ناظرةً إلى إثبات الحكم بنفسه ولا إلى كيفيّة تعلّق الحكم بالموضوع».
ولكنّ الحقّ: أنّ البحث في مسألة العامّ والخاصّ لا يدور حول كيفيّة تعلّق الحكم بالموضوع فيها، بل إنّما هو راجع إلى تشخيص الموضوع من جهة السعة والضيق، فعلى غرار ما أفاده المحقّق العراقيّ في مسألة المشتقّ ـ مثلاً ـ: فلابدّ من القول بخروجها من هذا العلم.
فالظاهر ـ إذاً ـ: أنّ أحسن التعاريف لعلم الاُصول أن يقال: «إنّه القواعد التي يمكن أن تقع في كبرى القياس، بحيث لو انضمّت إليها صغرياتها استنتج منها الحكم الكلّي الإلهيّ أو الوظيفة العمليّة».
وأمّا الاُستاذ الأعظم، فقد ذكر في تعريف علم الاُصول:
أنّه «هو العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة الكلّيّة الإلهيّة من دون حاجةٍ إلى ضميمة كبرى أو صغرى اُصوليّةٍ اُخرى إليها».
وفي تحديد الضابطة للمسألة الاُصوليّة يقول:
«أن تكون استفادة الأحكام الشرعيّة الإلهيّة من المسألة من باب الاستنباط والتوسيط، لا من باب التطبيق، أي: تطبيق مضامينها بنفسها على مصاديقها، كتطبيق الطبيعيّ على أفراده. والنكتة في اعتبار ذلك في تعريف علم الاُصول هي: الاحتراز عن القواعد الفقهيّة، فإنّها قواعد تقع في طريق استفادة الأحكـام الشرعيّة الإلهيّة، ولا يكون ذلك من باب الاستنباط والتوسيـط، بل من باب التطبيق، وبذلك خرجت عن التعريف».
ثمّ إنّه ذكر بعد ذلك اعتراضاً أورده على هذه الضابطة التي اختاره لنفسه، وحاصله:
«أنّ اعتبار ذلك يستلزم خروج عدّةٍ من المباحث الاُصوليّة المهمّة عن علم الاُصول: كمباحث الاُصول العمليّة الشرعيّة والعقليّة، والظنّ الانسداديّ بناءً على الحكومة...».
وقد تولّى، هو بنفسه، مهمّة الجواب عن هذا الإشكال لاحقاً، إذ قال:
«إنّ هذا الإشكال مبتنٍ على أن يكون المراد بالاستنباط المأخوذ ركناً في التعريف: الإثبات الحقيقيّ، بعلمٍ أو علميٍّ، إذ على هذا لا يمكن التفصّي عن هذا الإشكال أصلاً، ولكنّه ليس بمرادٍ منه، بل المراد به معنىً جامع بينه وبين غيره، وهو الإثبات الجامع بين أن يكون وجدانيّاً أو شرعيّاً أو تنجيزيّاً أو تعذيريّاً. وعليه: فالمسائل المزبورة تقع في طريق الاستنباط، لأنّها تثبت التنجيز مرّةً والتعذير مرّةً اُخرى، فيصدق عليها ـ حينئذٍ ـ التعريف، لتوفّر هذا الشرط فيها، ولا يلزم إذاً محذور دخول القواعد الفقهيّة فيه»().
وبهذا يتمّ الكلام فيما أردنا ذكره في هذه المقدّمة.


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com