مبحث الأوامر

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

 

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه
وأشرف بريّته، سيّدنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

مبحث الأوامر


ويقع البحث فيه في اُمور:

الأمر الأوّل: هل الأوامر من المسائل الاُصوليّة أم لا؟
وقد مرّ في أوائل البحث في المجلّد الأوّل تعريف المسألة الاُصوليّة، وهي: أن تقع كبرى لقياساتٍ يُستنتج منها الحكم الكلّيّ الإلهيّ، كما في مبحث الخبر الواحد، فيقال ـ مثلاً ـ: «صلاة الجمعة ممّا أخبر بوجوبها العادل، أو الثقة، وكلّ ما كان كذلك، فهو واجب».
فبناءً على هذا: لا يمكن إدخال الأوامر في المسألة الاُصوليّة؛ لأنّ البحث فيها في أصل الظهور، لا في إثبات الحجّيّة التي هي من المسائل الاُصوليّة. ومن المعلوم: أنّ إثبات الظهور يندرج في المسائل اللّغويّة.
إن قلت: يكفي في كون المسألة اُصوليّةً دخلها في قياس الاستنباط ولو على نحو الإعداد.
قلنا: هذا غير تامّ؛ لأنّه لو قلنا بكفاية دخلها، ولو بنحو الإعداد، لكان علم الرجال والعلوم الأدبيّة أيضاً داخلين في المسألة الاُصوليّة؛ لكونهما داخلين في قياس الاستنباط على نحو الإعداد.
أو تقول: إنّ المسألة الاُصوليّة هي إثبات الحكم: إمّا بنفسه، أو بكيفيّة تعلّقه بالموضوع، ومسألتنا هذه ليس من شأنها إلّا إحراز نفس موضوع الحكم، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً في مسألة المشتقّ.
ولكنّ الحقّ ـ كما عرفت ـ دخول المشتقّ في المسألة الاُصوليّة؛ فإنّها تدلّ ـ كما ذكرنا ـ على ثبوت الحكم، إمّا منوطاً ببقاء المبدأ إذا فُرِض أنّه للأخصّ، أو مستمرّاً إذا فُرِض أنّه موضوع للأعمّ، إذاً، هي دخيلة في كيفيّة تعلّق الحكم بموضوعه وتبيّن هذه الكيفيّة بأنّها هل تكون للأعمّ أو الأخصّ؟
وكذلك هنا، فإنّ مسألة الأوامر دخيلة في إثبات تعلّق الحكم بموضوعه، بأنّه هل يكون على نحو الوجوب أو الندب، أي: أنّ الطلب هل يكون حتميّاً أو ترخيصيّاً؟

الأمر الثاني: قد يستعمل الأمر في عدّة معان:
منها: الطلب، والحادثة، والشيء، والغرض، والفعل، كقولك: (أمره بكذا)، و(جاء زيد لأمر كذا)، و(شغله أمر كذا)، وقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا﴾()، وقولك: (رأيت اليوم أمراً عجيباً)، وهكذا...
فهل هذه كلّها معانٍ للأمر أم لا؟!
الحقّ: أنّ للأمر معنيين تبعاً لصاحب الكفاية الذي قال:
«ولا يبعد دعوى كونه حقيقةً في الطلب في الجملة، والشيء، هذا بحسب العرف واللّغة»().
والمراد من قوله: «في الجملة»، أي: بلا تعيين كونه للوجوب أو أعمّ منه. والشيء أعمّ من أن يكون بمعنى العين أو الصفة أو الفعل، فالأوّل: كالماء؛ فإنّه شيء، والثاني: كالعلم، والثالث: كالأخذ والعطاء.
والفرق بين المعنيين: أنّ لفظ «الأمر» الدالّ على المعنى الأوّل «الطلب» يكون مشتقّاً، ويُجمع على «أوامر»، وأمّا لفظ «الأمر» الدالّ على المعنى الثاني فإنّه يكون جامداً ويُجمع على «اُمور».
وأمّا بقيّة الموارد فاللّفظ مستعمل في مصاديقها، لا في المفاهيم.
وهل يكون بين الأوّل والثاني: اشتراك لفظيّ، أم معنويّ، أم هناك تفصيل؟
أمّا الأقوال في المسألة فهي:
الأوّل: الاشتراك اللّفظيّ في الجميع.
الثاني: الاشتراك المعنويّ بين جميع تلك المعاني.
الثالث: التفصيل، بالقول: بالاشتراك المعنويّ بين تلك الاُمور ما عدا الطلب، والاشتراك اللّفظيّ بينها وبين الطلب، كما في الفصول().
وذهب المحقّق النائيني() إلى أنّ الأمر موضوع لهذه المعاني على نحو الاشتراك المعنويّ، وبعبارةٍ اُخرى: فعنده: أنّ مادّة الاُمور موضوعة لمعنىً كلّيٍّ ومفهومٍ جامع للمعاني السبعة المتقدّمة نحو جامعيّة الكلّيّ لمصاديقه. ثمّ اختلف القائلون بالاشتراك المعنويّ في تعيين الجامع بين ما عدا الطلب، فقال بعضهم: هو الشيء، وقال بعض آخر: هو الفعل، واحتمل بعض أن يكون هو: الشغل والشأن.
وقد استدلّ المحقّق النائيني() على مبناه هذا: بأنّ الاشتراك اللفظيّ هنا بعيد لا يمكن المصير إليه، فلابدّ من الالتزام بالاشتراك المعنويّ ولو لم نتمكّن من تعيين جامع لهذه المعاني؛ فإنّ العجز عن تعيينه لا يدلّ على عدم وجوده، فضلاً عن أنّه لا يدلّ على عدم إمكانه.
وقد ردّه الاُستاذ المحقّق بأنّ مجرّد الاحتمال لا يجدي بل يبقيه في بقعة الإمكان.
ثمّ استدرك بأنّه: إذا لم يمكن فرض الاشتراك اللّفظيّ بين الكلّ، ولم يكن ها هنا احتمال آخر غير الاشتراك المعنويّ بين الكلّ، ثبت الاشتراك المعنويّ، لا محالة، كما هو شأن القياس الاستثنائيّ.
ثمّ ذكر: أنّه يمكن أن يقال بالاشتراك المعنويّ في بقيّة المعاني غير الطلب، وبالاشتراك اللفظيّ بينها وبين الطلب، أي: بين الجامع لتلك المعاني وبين الطلب.
وذكر بعد ذلك: أنّه يمكن تصوير الجامع بين الكلّ، وذلك ببيان:
«أنّ الفعل باعتبار معناه المصدريّ يشمل جميع ما تعلّقت به إرادة اللّه جلّ جلاله، حتّى أنّه بهذا الاعتبار تكون الأحكام الشرعيّة ـ أيضاً ـ فعلاً، لأنّها أيضاً تعلّقت بها الإرادة الشرعيّة، أي: أنّها فعل ومجعول في عالم الاعتبار والتشريع، فالطلب ـ الذي ينتزع عن إبراز الإرادة التكوينيّة أو التشريعيّة بالقول أو الفعل أو الكتابة، الذي هو أحد معاني الأمر ـ أيضاً داخل تحت هذا المعنى؛ لأنّه أيضاً فعل، ومن مصاديقه بهذا المعنى.
نعم، لا يطلق على الذوات والأعيان باعتبار وجوداتها في أنفسها، كما أنّ الأمر في الأمر أيضاً كذلك»().
ولكنّ الحقّ: أنّه لا يمكن تصوير الجامع بين هذه الاُمور، خصوصاً بين الأمر الذي بمعنى «الطلب» ـ وهو المعنى الحدثيّ ـ وبين الأمر بمعنى «الشيء» الذي هو من الجوامد. هذا أوّلاً.
وثانياً: إنّ الأمر بالمعنى الأوّل ـ كما أسلفنا ـ يجمع على «أوامر»، وبالمعنى الثاني يجمع على «اُمور»، فكيف يمكن الجمع بينهما؟!

الأمر الثالث: في اعتبار العلوّ والاستعلاء في مادّة الأمر:
أمّا اعتبار العلوّ:
فلا شكّ ولا شبهة فيه، ولذا يذمّ العقلاء خطاب المساوي لمن هو مساوٍ له أو أعلى منه إذا كان بلفظ الأمر، ويوبّخونه بمثل: إنّك لِمَ تأمره؟!
وقد يقال: بأنّ هذا لا يدلّ على أنّ الأمر منه غير دالٍّ على الطلب؛ لأنّ نفس التوبيخ كاشف عن كون الطلب أمراً، وإطلاق الأمر على طلبه كافٍ في مقام التوبيخ.
ويدلّ على كفاية الاستعلاء من الطالب في صدق الأمر على طلبه، وأنّه لا يُشترط العلوّ: تقبيح الطالب السافل من العالي وتوبيخه.
ولكن لا إشكال في أنّ الطلب الذي كان موجّهاً إلى الشخص، إذا لم يكن فيه العلوّ والاستعلاء فإنّه لا يعدّ أمراً. وإنّما الكلام في كفاية أن يكون الشخص عالياً، أو يشترط فيه الاستعلاء أيضاً؟
وقد أُجيب عن الأوّل: بأنّ التوبيخ كان على استعلائه، لا على كون طلبه أمراً.
وعن الثاني: بأنّه إطلاق لفظ الأمر على طلبه، إنّما كان على حسب اعتقاده؛ لأنّه يرى نفسه بمنزلة الآمر، فالتوبيخ يكون على اعتقاده. هذا.
ولكنّ الحقّ: عدم صدق الأمر على طلبه، لأنّه يقع محلّ الاستهزاء، وأنّ العرف لا يراه أمراً.
وقد انقدح بما ذكرناه: عدم اتّجاه ما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين بقوله: «وأنت خبير: بأنّ تحقيق هذه الجهة لا أثر له أصلاً؛ لأنّ الأمر الذي نبحث فيه: ما يصدر من المولى جلّ شأنه، وهو مستجمع للعلوّ والاستعلاء كما لا يخفى»().
إذ فيه: أنّ البحث في الاُصول يكون دائماً بحثاً كلّيّاً، وعلى نحو القاعدة الكلّيّة، فالبحث هنا ليس في خصوص أمر المولى الحقيقيّ حتّى يجاب عنه بهذا الجواب.
قد يقال: بأنّ الطلب من المساوي يكون التماساً، ومن الداني يكون دعاءً.
ولا يخفى ـ كما قال بعض المحقّقين () ـ: أنّ «العالي» ليس بمعنى: أن يكون الطالب عالياً واقعاً، كأن يكون متّصفاً بأوصافٍ معنويّة معيّنة، وملكات علميّة، بل هو أمر اعتباريّ يختلف بحسب الزمان والمكان، فالملك ـ مثلاً ـ إذا كان نافذ الكلمة ومسموع القول، فإنّ طلبه يكون أمراً. وأمّا إذا خُلِع أو سُجِن بحيث لم يعد نافذ الكلمة، وأصبح غير قادرٍ على إجراء أوامره وتكليفه، فإنّ طلبه لا يعدّ أمراً والحالة هذه، بل يكون التماساً، بل يكون هناك من يكون أمره نافذاً بالنسبة إليه، كرئيس السجن الذي هو فيه؛ لأنّه نافذ الكلمة بالنسبة إلى كلّ من يكون في محيط السجن.
وهل الاستعلاء شرط أم لا؟
قيل: يشترط فيه كلا الأمرين.
وقيل: أحدهما كافٍ على نحو مانعة الخلوّ.
ولكنّ الحقّ: أنّه يعتبر العلوّ فقط.
أمّا عدم صحّته من غير العالي، فلما مرّ، وأمّا الصحّة من العالي، ولو لم يكن مستعلياً، بل كان خافضاً جناحه، فإنّما هو لشهادة العرف والوجدان، وأمّا إذا لم يكن عالياً، وكان طلبه بنحو الاستعلاء، فإنّ طلبه هذا لا يكون أمراً حقيقيّاً.
فظهر: أنّ عنوان الآمريّة متقوّم بصدور البعث من العالي فقط، ولو كان خافضاً للجناح، فالطلب من الداني، ولو كان مستعلياً، ليس بأمرٍ ـ لما ذكرنا ـ. كما أنّه إذا كان خافضاً للجناح، فطلبه ليس بأمرٍ بطريقٍ اُولى، بل لو أمر المساوي والداني لوبّخهما العقلاء.
ومن هنا ظهر: فساد ما ذكره بعض المحقّقين بقوله:
«والظاهر: أنّ الاستعلاء أيضاً مأخوذ فيه، فلا يعدّ مكالمة المولى مع عبيده على طريق الاستدعاء والالتماس أمراً، كما هو واضح، فحينئذٍ: لا مناص عن القول بأنّ معنى الأمر ومفهومه أمر مضيّق، لا ينطبق إلّا على الأمر العالي المستعلي عند التحليل»().
فإنّ الدليل على أنّ الاستعلاء ليس بشرطٍ أنّه يكفي أن يكون عالياً؛ لأنّه لو طلب المولى من العبد على نحو الاستدعاء ولم يفعل العبد، فللمولى أن يعاقبه.

الأمر الرابع: الأمر ينقسم إلى المولويّ والإرشاديّ:
الأمر المولويّ: وهو ما كانت المصلحة موجودةً في متعلّقه، وهذه المصلحة لو كانت ملزمةً فيترتّب عليه ـ بحكم العقل ـ استحقاق الثواب، وكذا إذا لم تكن ملزمة. كما يترتّب على مخالفته العقاب بشرط كونها ملزمةً، فإذا ورد الأمر من المولى على شيءٍ ما، كامتثال الصلوات، فإذا امتثله العبد ترتّب عليه أمران:
الأوّل: أنّ غرض المولى قد حصل من أمره لمكان المصالح الموجودة في المتعلّق.
والثاني: يُحكم عليه بأنّه يستحقّ الجزاء والمثوبة بواسطة امتثاله للفعل وإطاعته لما أُمِر به.
والأمر الإرشاديّ: وهو البعث الصوريّ، وليس بطلبٍ حقيقةً. وقد يقال: بأنّه إخبار بأنّ في الفعل مصلحةً وإرشاداً إلى فعلٍ ذي مصلحة، وهو عند العقلاء ليس إلّا لأجل الوصول إلى العمل الذي فيه مصلحة، فليس في مخالفته إلّا حرمة ترك مصلحة العمل المرشد إليه. فإذا أمر المولى بوجوب الصلاة للظهر، فيجتمع في هذا الواجب أمران:
أحدهما: الأمر الإرشاديّ، ويسمّى ﺑ «الأمر الثانويّ»، من جهة انطباقه ودخوله في كلّيّ ﴿أَطِيعُواْ ٱللهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ﴾().
والثاني: الأمر المولويّ، وهو يكشف عن وجود مصلحةٍ في المتعلّق، فإذا أتى حينئذٍ بالظهر، لم يترتّب على موافقة الأمر الإرشاديّ أيّ جزاءٍ ومثوبة. نعم، يترتّب الثواب لأجل إطاعة الأمر المولويّ، كما أنّه لو خالف، ولم يأتِ بالظهر، فليس هناك إلّا عقاب واحد، وذلك من جهة ترك الأمر المولويّ بوجوب إتيان صلاة الظهر.
ولا يخفى: أنّه لابدّ في الأوامر من المصلحة، وإلّا، يكون لغواً، فعلى هذا: المصلحة موجودة ـ أيضاً ـ في الأمر الإرشاديّ، وهي: الإرشاد والهداية إلى فعلٍ ذي مصلحة، هذا إذا علِم الشخص بكون الأمر مولويّاً أو إرشاديّاً، ويكون تميّز أحدهما عن الآخر بدون الرجوع إلى حكم العقل. فلابدّ من بيان معنى الإرشاديّ:
وقد اختلفت كلماتهم في ذلك:
فقالوا: إنّ الأمر في كلّ مورد حكم به العقل على نحو الاستقلال فهو حكم إرشاديّ، كقبح الظلم وحُسن العدل؛ إذ في هذين الفعلين وأمثالهما، يوجد فيهما ـ بحسب ذاتهما ـ القيّم الذاتيّ في نظر العقل قبل فرض الشرع، ولذا، فلو ورد من الشارع حكم أو أمر فإنّه يكون إرشاديّاً، فالعقل له القدرة على درك الحَسَن والقبيح منهما مستقلّاً، وبدون أيّة واسطةٍ أو بيانٍ من الشارع، فبعد أن فُرِض للشيء الحُسن أو القُبح، فاللّازم على الشارع أن يحكم على طبق حكمه بقاعدة الملازمة، كما في حجّيّة القطع، وليس له أن يحكم على خلافه.
وقال آخرون: إنّ كل موردٍ لا يلزم من أمر الشارع فيه محذور عقليّ، كالدور أو التسلسل وكأوامر الإطاعة، فإنّه يكون أمراً إرشاديّاً.
وقال البعض الآخر: إنّ كلّ مورد يلزم من إعمال المولويّة فيه اللّغويّة، فهو إرشاد.

الأمر الخامس: ما وُضِع له الأمر:
هل الأمر موضوع لخصوص الوجوب أو الاستحباب ـ كما ذكر في المعالم بالنسبة إلى لسان الشارع()ـ أو للجامع بينهما؟!
الظاهر: أنّ الأمر إنّما هو موضوع لمطلق الطلب، ولو فُرِض تبادر الوجوب منه عند إطلاقه، إلّا أنّ الوجوب والاستحباب غير مأخوذين فيه وضعاً، وخارجان عمّا وُضِع له، فحينئذٍ: يمكن أن يُدّعى ظهور إطلاقيّ للوجوب عند عدم القرينة، ولو كان الوجوب داخلاً في لفظ الأمر فلم يكن للبحث الثالث ـ وهو البحث عن أنّ الأمر هل هو من العالي أو الداني أو المساوي ـ ثمرة.
وبناءً على هذا، فقد قالوا بدلالته على الوجوب، واستدلّوا له: بالتبادر.
ولكن: لم يُعلم أنّ التبادر الذي ادّعوه مستفاد من حاقّ اللّفظ، بل هو إنّما يُفهم من إطلاق اللّفظ. وممّن ادّعى هذا التبادر وتمسّك به صاحب الكفاية، قال:
«لا يبعد: كون لفظ الأمر حقيقةً في الوجوب لانسباقه عنه عند إطلاقه، ويؤيّده قوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه ِ﴾()، وقوله: (لولا أن أشقّ على اُمّتي لأمرتهم بالسواك)()، وقوله لبريرة بعد قوله (أتأمرني يا رسول اﷲ؟): (لا، بل إنّما أنا شافع)()، إلى غير ذلك... وصحّة الاحتجاج على العبد، ومؤاخذته بمجرّد مخالفة أمره، وتوبيخه على مجرّد مخالفته، كما في قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾()».
كما وأنكر أن يكون الأمر موضوعاً للأعمّ، بقوله:
«وصحّة تقسيمه إلى الوجوب والاستحباب إنّما يكون قرينةً على إرادة المعنى الأعمّ منه في مقام تقسيمه، وصحّة الاستعمال في معنىً أعمّ من كونه على نحو الحقيقة، كما لا يخفى»().
ولكنّ الحقّ: أنّ الأمر لا يدلّ إلّا على إرادة جامع الطلب، لا على خصوص الوجوب ـ كما ادّعى صاحب الكفاية وغيره ـ وأمّا صحّة مؤاخذه العبد: فإنّما هي لأجل مقام العبوديّة والربوبيّة، حيث إنّ العقل يحكم بالإتيان حتماً، بل وفوراً، لا أنّ الأمر وُضِع للوجوب والفوريّة.
وكذا بالنسبة إلى الآية الشريفة، أعني: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه ِ﴾()، فإنّها لا تصلح لإثبات المدّعى.
لا يقال: إنّه تعالى قد حذّر من مخالفة الأمر، والتحذير يدلّ على الوجوب؛ إذ لا معنى لندب الحذر وإباحته، وهو، وإن لم يدلّ على الوجوب رأساً، ولكن لا أقلّ من أنّه يدلّ على حسن الحذر من مخالفة الأمر، ومعلوم: أنّ حسنه يكشف عن ثبوت المقتضي له، وإلّا، كان التحذّر سفهاً وعبثاً، وهو محال على اﷲ عزّ وجلّ، فإذا ثبت المقتضي له، فقد ثبت وجوبه بعدم القول بالفصل، فالآية تدلّ على كون الأمر حقيقة في الوجوب.
فإنّه يقال: إنّ هذا الوجوب مستفاد من الإطلاق، لا من حاقّ اللّفظ.
ومن هنا ظهر الحال فيما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين بقوله:
«ولكن يعارض هذا الدليل ـ بدواً ـ: صحّة مؤاخذة العبد بمجرّد الأمر؛ فإنّه ظاهر في ظهور الأمر في الوجوب»().
وأمّا قوله: «لولا أن أشقّ على اُمّتي لأمرتهم بالسواك»؛ فإنّ الأمر هنا ـ أيضاً ـ يدلّ على الوجوب بالقرينة، وهي كلمة «أشقّ»، وكذا بالنسبة إلى قوله: «أتأمرني يا رسول اﷲ؟»، فإنّه لا يدلّ على الوضع للوجوب، بل إنّما نفهم الوجوب من جهة القرينة، وهي: أنّ ما يأمر به رسول اﷲ لابدّ من اتّباعه، وأنّه كان واجب الاتّباع، ولذا سُئِل: «أتأمرني يا رسول اﷲ؟». فالأمر هناك، وإن كان للوجوب، إلّا أنّه بواسطة القرينة، وذلك غير مجدٍ كما عرفت.
وأيضاً: توبيخه على مجرّد المخالفة في قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ﴾()، إنّما هو لمقام العبوديّة والمولويّة، كما سبق؛ لأنّه لابدّ أن يأتي العبد بالعمل فوراً، ولا يجوز له التأخير إلّا إذا رخّص المولى في الترك أو التأخير، فالتقسيم حينئذٍ يكون تقسيماً حقيقيّاً بعد أن بُرهن على كونه موضوعاً للطّلب.
وقد ظهر بذلك: فساد ما ذكره صاحب الكفاية أخيراً من أنّ تقسيمه إلى الإيجاب والاستحباب إنّما يكون قرينةً على إرادة المعنى الأعمّ منه في مقام تقسيمه، وأنّ غايته: صحّة الاستعمال، وهي أعمّ من كونه على نحو الحقيقة.
ثمّ ذكر أنّ «الاستدلال بأنّ فعل المندوب طاعة، وكلّ طاعة فهو فعل المأمور به، فيه ما لا يخفى: من منع الكبرى لو اُريد من المأمور به معناه الحقيقيّ، وإلّا، لا يفيد المدّعى»().
لكنّ الحقّ: وجود الدليل على كونه موضوعاً للمأمور به الحقيقيّ، كما سنبيّن.
أمّا ظهور الوجوب من الإطلاق: فلأنّ كلّ ما يحتاج إلى مؤونةٍ زائدةٍ على إلقاء أصل الطبيعة، ولم يأتِ المتكلّم بتلك المؤونة أو لم يُشِر إليها في كلامه، ولو بالقرينة، فإنّ الإطلاق يرفعها، سواء كانت نتيجته التوسّع أو التضييق، ولذا قالوا: إنّ إطلاق الأمر يقتضي كون الوجوب نفسيّاً؛ لأنّ الغيريّ يحتاج إلى مؤونةٍ زائدة، وهي: بيان أنّ الإتيان يكون لأجل التوصّل به إلى الغير؛ وعينيّاً؛ لأنّ الكفائيّ يحتاج إلى ذكر «أو غيرك»، وتعيينيّاً؛ لأنّ التخييريّ يحتاج إلى ذكر شيءٍ آخر.
إذاً، فإذا أمر وأطلق في أمره، ولم يأتِ بالقرينة، ولم يشِر إلى شيءٍ آخر، حُمِل على الوجوب، فبالإطلاق نحكم بالوجوب، وإلّا، فإنّ نفس الأمر لا يدلّ إلّا على مطلق الطلب، والخصوصيّة ـ كما مرّ ـ تُفهم من الخارج، وهو: مولويّة المولى وعبوديّة العبد.
ولذا، فلو أمر المولى لم يتمكّن من ترك امتثال أمره، والعقلاء يوبّخونه لو تركه، وإن اعتذر بأنّي كنت أتخيّل بأنّه ليس للوجوب، ويقولون: بأنّ الأمر لو كان غير إلزاميّ، لكان على المولى الإشارة إليه بالترخيص.
وبالجملة: فنحن نفهم الوجوب من الظهور الإطلاقيّ، وهذا لا يعني: أنّ الأمر مركّب من طلب الفعل مع المنع من الترك، وأنّ الاستحباب مركّب من الطلب والإذن في الترك، ولا أنّ الوجوب هو الطلب الشديد، وأنّ الاستحباب هو الطلب الضعيف كما قد يقال؛ إذ:
أوّلاً: إنّ اللّزوم والشدّة لا يُعرفان إلّا من جهة الملاك الملزم والعقل لا يدركه، ولا يد له فيه.
وثانياً: لا فرق في كيفيّة الطلب بين الوجوب والاستحباب، ولا بين اللّزوم وعدم اللّزوم؛ فالطلب يشملهما معاً.
وقد استدلّ للوضع للطلب باُمور:
الأوّل: تقسيم الأمر إلى الوجوب والاستحباب، والمقسم لابدّ وأن يكون غير الأقسام، و هو يدلّ على أنّ الأمر موضوع للجامع، وهو مطلق الطلب.
الثاني: لو لم يكن الأمر موضوعاً للجامع، لكان إمّا موضوعاً لكلّ واحدٍ منهما، فيلزم منه الاشتراك اللفظيّ، أو للوجوب، فيكون استعماله للنّدب مجازاً، وكلاهما على خلاف الأصل.
الثالث: أنّه به يرتفع الإشكال الذي ورد في قوله: «اغتسل للجمعة والجنابة»()؛ لأنّه بناءً على قولهم: يلزم استعمال الأمر في أكثر معنىً إذا أراد في استعمالٍ واحدٍ الوجوب والندب، كما في هذا الخبر، فلابدّ أن يكون الأمر دالّاً على الطلب، وليس للوجوب والاستحباب مركّباً، ولولا أنّنا فهمنا الترخيص في إتيان غسل الجمعة من الخارج لقلنا بوجوبه هو أيضاً.
فإذا التزمنا بكون الوجوب هو الطلب الشديد والاستحباب هو الطلب الضعيف، كما نُسِب إلى المحقّق الأصفهانيّ، أو بأنّ الوجوب هو الطلب التامّ غير المحدود والاستحباب هو الطلب الناقص المحدود، فيلزم أيضاً نفس الإشكال، مضافاً إلى الإشكال الوارد في أصل كلامه؛ إذ ـ كما ذكره الاُستاذ المحقّق() ـ كأنّه قاس المقام بحقيقة الوجود، حيث يقول الحكماء: بأنّ مرتبة منه غير محدودةٍ وهي الوجود الصرف، وصرف الوجود، وهو وجود الواجب جلّ جلاله، لأنّه في غاية الكمال، ولا نقص فيه، ولا حدّ له أصلاً، وهو غير متناهٍ. وأمّا المراتب الاُخرى: فكلّها ناقصة محدودة؛ لأنّها مركّبة من ذات الوجود وحدّه الذي هو عبارة عن الماهيّة.
ولكنّ هذا القياس في غير محلّه:
إذ المفهوم ـ أعني: مفهوم الطلب ـ لا يتّصف بالنقص والتمام قطعاً، وكذا الإرادة. نعم، بحسب الملاك يكون كذلك.
مضافاً: إلى أنّ كون الإرادة تامّةً وغير محدودة هو أمر لا معنى ولا محصّل له، لأنّ جميع الوجودات ـ ما عدا الواجب ـ محدودة، وحدودها ماهيّاتها.
وقد استدلّوا على ذلك ـ أيضاً ـ بالتبادر.
وفيه: أنّه ليس بحجّةٍ أوّلاً، كما سبق، ولو سلّمنا بكونه حجّة فيما لو كانت دلالته من حاقّ اللّفظ.
ومن هنا ظهر: أنّ ما ذكره بعض المحقّقين() من أنّ الدليل الوحيد هو التبادر، ليس على ما ينبغي.
وللمحقّق العراقيّ هنا كلام في أنّ دلالة الأمر على الوجوب في هذه الموارد وصحّة الاستدلال على هذا المبنى مبنيّة على صحّة التمسّك بالعامّ لإثبات كون المشكوك الفرديّة فرداً للعامّ بعد اليقين بخروجه عن حكم العامّ.
بيان الملازمة: أنّ تلك اللّوازم ـ من لزوم الخطر والتوبيخ والمشقّة ـ لا تترتّب على الطلب الاستحبابيّ يقيناً، فهل خروج الطلب الاستحبابيّ عمّا هو مترتّب على الأمر هو بنحو التخصّص؛ ليكون لفظ العامّ حقيقةً في ملزوم هذه اللّوازم،وهو الوجوب ؟ أو بنحو التخصيص؛ ليكون الأمر حقيقةً في الأعمّ؟ فإذا قلنا بأصالة العموم وعدم التخصيص في المقام، لزم كون الأمر حقيقةً في خصوص الطلب الإلزاميّ().
ولكنّ الحقّ: أنّ أصالة العموم لا تجري هنا؛ لأنّها من الاُصول العقلائيّة، وإنّما تكون حجّةً في مقام الشكّ في المراد من اللّفظ للعمل به، لا لإثبات أنّ اللّفظ موضوع لما اُريد منه.
فالحاصل: أنّ الصحيح في لفظ الأمر أنّه موضوع لمطلق الطلب، لا للوجوب خاصّةً ولا للندب خاصّةً؛ لأنّه لا يُفهم من مادّته إلّا الطلب الأعمّ من الوجوب والندب

 


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com