التعبّديّ والتوصّليّ

تقييم المستخدم: 3 / 5

تفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

 

التعبّديّ والتوصّليّ

إطلاق الصيغة هل يقتضي التعبّديّة أم التوصّليّة؟
ولابدّ أوّلاً من التمهيد ببعض المقدّمات:

المقدّمة الاُولى: في بيان معنى التعبّديّ والتوصّليّ:
قال صاحب الكفاية:
«الوجوب التوصّليّ هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرّد حصول الواجب، ويسقط بمجرّد وجوده، بخلاف التعبّديّ؛ فإنّ الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك، بل لابدّ ـ في سقوطه وحصول غرضه ـ من الإتيان به متقرّباً به منه تعالى»( ).
ورأى اُستاذنا الأعظم أنّ التعبّديّ هو ما اعتُبِر فيه قصد القربة، والتوصّليّ ما لم يُعتَبَر فيه ذلك( ).

المقدّمة الثانية: هل التعبّديّة موجودةٌ عند غير المسلمين من أهل الملل الاُخرى؟
لا يخفى: أنّ التعبّديّة موجودة في جميع الملل والنحل؛ فإنّ للجميع تحرّكاتٍ خاصّةً يُؤدّونها لمعبودهم، وتكون هذه الحركات كاشفةً عن تذلّلهم وإظهارهم العبوديّة له. ويقابل ذلك: الأفعال التوصّليّة، التي لا يقومون بها لأجل إظهار العبوديّة.

المقدّمة الثالثة: خلاصة الفرق بين التعبّديّ والتوصّليّ:
أنّ الغرض من الأوّل يحصل منه بمجرّد الإتيان بالفعل وحصوله في الخارج، سواء أتى المكلّف به اختياراً أو جبراً، بداعي أمر المولى أو بداعٍ آخر، وذلك ـ مثلاً ـ كغَسل الثوب؛ فإنّ الغرض منه يحصل بأيّ قصدٍ كان، بل ولو لم يقصد، أو كان غير ملتَفت، بل ولو قَصَد الخلاف، بل يَسقط بفعل مثل النائم، ولا يُعتَبَر فيه المباشرة فيَسقط بفعل الغير أيضاً، كما أنّه يحصل مع فعل الحرام، كما إذا غسله بماءٍ مغصوب.
نعم، لو جيء بالعمل التوصّليّ بداعي الأمر والإطاعة؛ فإنّه يحصل منه عنوان الإطاعة، ويستحقّ بذلك المثوبة، وأمّا إذا لم يقصد منه ذلك، فلا يكون هناك استحقاق للثواب، ولكنّ هذا لا يعني أنّ الغرض من الأمر به لم يتحقّق.
وأمّا التعبّديّ، فإنّ الغرض منه لا يحصل إلّا بالإتيان بالمأمور به مع القربة، وإلّا، فبمجرّده لا يترتّب الثواب، ولا تتحقّق المصلحة، وذلك كالاُمور العباديّة، من الصوم والصلاة وغيرهما.
وبعبارةٍ أُخرى: فالفرق بينهما إنّما هو من جهة الاختلاف في الملاك؛ إذ الحكم ـ كما هو معلوم ـ يكون تابعاً للملاك سعةً وضيقاً. فقد يكون الملاك القائم بالواجب في نفس متعلّق التكليف مجرّداً عن أيّ قصدٍ آخر معه، فحينئذٍ: يكفي مجرّد إتيانه ولو بغير داعٍ قربيّ، وقد يكون الملاك قائماً بإيجاده وإتيانه، ولكن مع قصد القربة، فلا يكفي فيه مطلق الإتيان.
فالأوّل: بمجرّد وجوده في الخارج، ولو بغير الداعي الإلهيّ، يحصل الغرض منه، ويسقط الأمر به، لوفاء مطلق الإتيان بالمصلحة والغرض.
وأمّا الثاني: فلو أتيتَ به بنفسه من دون قصد التقرّب، فلا يسقط التكليف المتعلّق به؛ لأنّ الغرض الداعي إلى تشريعه لم يُستوفَ مع عدم الإتيان به متقرّباً به، ولو تحقّق له وجود في الخارج.

المقدّمة الرابعة: تقسيم الواجب التعبّديّ:
ينقسم الواجب التعبّديّ إلى قسمين:
فمنه ما يُعتَبَر فيه المباشرة، كالصلوات اليوميّة، ولا يسقط بفعل غيره.
ومنه ما لا يُشترط فيه المباشرة، كالزكاة؛ فإنّها أمر عباديّ يحتاج إلى قصد القربة، ومع ذلك: فهي تحصل بفعل الغير، إمّا لأنّه قائمٌ مقامه، أو لأجل تبرئة ذلك إذا كان مع الإذن ـ وأمّا بدونه فالسقوط محلّ تأمّلٍ ـ ومنها ـ أيضاً ـ: صلاة الاستنابة وغيرها.

المقدّمة الخامسة:
أنّ القصد والاختيار في التعبّديّ شرط؛ لأنّه بحاجةٍ إلى قصد القربة، دون التوصّليّ. وهل هو جزء أو شرط شرعيّ مأخوذ في المأمور به بأمرٍ واحدٍ ـ بناءً على إمكان أخذه في المتعلّق ـ أو بأمرين؟ يأتي تحقيق ذلك.

المقدّمة السادسة: معنىً آخر للتعبّديّ والتوصّليّ:
قد يُعرّف التعبّديّ والتوصّليّ بتعريفٍ آخر، وهو: أنّ التوصّليّ ما كان الداعي إلى الأمر به معلوماً، وفي قباله: التعبّديّ، وهو ما لم يُعلم الغرض منه. وإنّما سُمّي تعبّديّاً؛ لأنّ الغرض الداعي للإتيان مأمور به ليس إلّا التعبّد فقط.
ولكنّ الذي يكون محلّاً للبحث هنا، ليس هو التعبّديّ والتوصّليّ بهذا المعنى، بل المعنى الذي ذكرناه لهما سابقاً.
وإذا اتّضحت هذه المقدّمات، فنقول:
لا يخفى: أنّ التقرّب المعتَبر في المأمور به بحيث يكون العمل عباديّاً على أقسام:
الأوّل: الإتيان بالفعل بقصد الأمر فقط، كما ذهب إليه جمع من الفقهاء، منهم صاحب الجواهر( )، وعلى هذا الأساس: أنكر البهائيّ( ) الثمرة في بحث الضدّ؛ لأنّ العبادة تتوقّف على قصد الأمر، ولا أمر هنا لضدّ الأهمّ، ولو لم نقل بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ.
ولكن أُجيبَ عن ذلك: بأنّ عباديّة العبادة ليست متوقّفةً على قصد الأمر فقط، بل يكفي قصد المصلحة أو قصد ابتغاء وجه اﷲ ومرضاته. مضافاً إلى أنّ قصد العلّة قصدٌ للمعلول، فقصد الملاك بما هو علّةٌ للأمر قصدٌ للأمر.
ولكن قد استشكلنا في محلّه: بأنّه من أين لنا أن نكتشف الملاك، إذ إنّنا إنّما نفهم الملاك من وجود الأمر، أي: من طريق اللّمّ، أي: من المعلول إلى العلّة، فإذا لم يكن هناك أمرٌ فكيف يمكن استكشاف الملاك أصلاً حتّى يتمّ استكشاف الأمر؟
الثاني: ما يراد به مطلق ما يُوجب التقرّب.
الثالث: العمل بداعي حسن الفعل.
الرابع: الإتيان به بقصد كونه محبوباً عند اﷲ.
الخامس: الإتيان به بداعي كونه ذا مصلحة وملاك.
السادس: الإتيان بالعمل بداعي كون الباري جلّ وعلا أهلاً للعبادة ومستحقّاً لأن يُطاع، كما في قوله: «ما عبدتُكَ طمعاً في جنّتك، ولا خوفاً من نارك، لكن وجدتُكَ أهلاً للعبادة فعبدتُك»( ).
السابع: الإتيان به لأجل الخوف من عذابه والفرار من عقابه.
الثامن: الإتيان به قاصداً رجاء ثوابه وطمعاً لحصول شيء منه، ومن جملته: الجنّة.
التاسع: الإتيان بالعمل جزاءً وشكراً لما أعطاه اﷲ جلّ وعلا من نعمه.
والعمدة في محلّ البحث هو القول الأوّل.
وهل تدلّ الصيغة على اعتبار مقدوريّة المكلّف أم لا؟
لا يخفى: أنّ موضوع الحكم قد يكون مقدوراً وقد يكون غير مقدور، ولكنّ متعلّق الحكم والخطاب لابدّ وأن يكون مقدوراً دائماً، لأمرين:
أوّلهما: حكم العقل بقبح مطالبة العاجز. وهذا الحكم ليس فيه أيّ شكٍّ أو ريبٍ عند العقلاء.
والثاني: أنّ نفس الخطاب يقتضي ذلك؛ لأنّه بعد أن كانت إرادة المولى تابعةً لإرادة العبد، فيكون الخطاب محرّكاً للعبد وداعياً له إلى إيجاد المتعلّق. ولا يخفى: أنّ الإرادة لا تتعلّق إلّا بما هو مقدورٌ للعبد.

الكلام في أقسام القدرة:
لا يخفى: أنّ للقدرة قسمين: عقليّ وشرعيّ:
أمّا الأوّل: فهو الذي لا يمكن الإتيان بالفعل بدونها.
وأمّا الثاني: فليس كذلك؛ فإنّ الحجّ ـ مثلاً ـ يمكن إتيانه بدون الزاد والراحلة، بالمشي والتسكّع، ولكن مع ذلك، فقد اعتبرهما الشارع، وتُسَمّى ﺑ (القدرة الشرعيّة). وهي أعمّ من (القدرة العقليّة)؛ فإنّ غاية ما يقتضيه الخطاب هو أن يكون الشيء مقدوراً للمكلّف عقلاً، وأمّا ما هو أزيد من ذلك، أي: القدرة الشرعيّة، فلابدّ للشارع من التكليف به، كالراحلة المعتَبرة شرعاً في وجوب الحجّ مع تمكّنه من السير ماشياً.
وهنا لابدّ من طرح هذا السؤال:
وهو أنّه: إذا عارض المقدور العقليّ المقدور الشرعيّ فأيّهما يجب تقديمه على الآخر؟
قد يقال: يكون هذا ـ حينئذٍ ـ من باب التزاحم، وتقدّم القدرة العقليّة، من جهة أنّ اعتبارها كان من قبل العقل، وأنّ فهمها كان من نفس الخطاب، مضافاً إلى أنّ العقل يحكم بقُبح مخاطبة العاجز، فيكون المرجّح للقدرة العقليّة موجوداً فهي التي تُقَدّم.
ولكن يمكن أن يقال: بأنّ المرجّح ينحصر في الأهمّ، فيُقدَّم ما فيه الأهمّيّة، وقد ذكروا هنا فروعاً فيما إذا تعارض المقدور الشرعيّ والعقليّ:
منها: ما إذا استلزم الحجّ ترك الواجب، كالصلاة، فلا يجب الحجّ حينئذٍ؛ لأنّه يكون غير مقدور شرعاً، لأنّ وجوبه منوطٌ بعدم استلزامه لترك واجبٍ آخر. فتكون الصلاة مقدّمةً عليه.
وفيه: أنّه لم يَرِد في وجوب الحجّ أنّه مشروط بعدم استلزامه لترك واجبٍ آخر، ولا سيّما بعد وضوح شرائط وجوب الاستطاعة، وظهور أنّ القيد المذكور ليس منها. وعليه: فإذا اجتمعت الاُمور المشروط بها وجوب الحجّ، فإنّه يجب. وحينئذٍ: فإذا كان مزاحماً لواجبٍ آخر فلابدّ من ملاحظة الأهمّيّة.
ومنها: مسألة ما إذا نذر زيارة الإمام الحسين في كلّ يوم عرفة، ثمّ حصلت له الاستطاعة، فلابدّ من ملاحظة الأهمّيّة هنا ـ أيضاً ـ فيقدّم الحجّ؛ لأنّ وجوب الوفاء بالنذر، مضافاً إلى كونه مشروطاً بالقدرة الشرعيّة، فهو مشروط ـ أيضاً ـ بأن لا يكون مفوّتاً للمصلحة الدينيّة أو الدنيويّة، وأن لا يكون سبباً لفوت واجبٍ أو فعل حرام، كما هو مفاد بعض الأخبار.
كما عن أبي جعفرٍ قال: «قال رسول اﷲ لا رضاع بعد فطام... إلى أن قال: ولا نذر في معصية ولا يمين في قطيعة»( ).
وعن إسحاق بن عمّار عن عليّ بن إبراهيم، قال: «سألته، أقال رسول اﷲ: لا نذر في معصية؟! قال: نعم»( ). إلى غير ذلك من الروايات الواردة.
ومن أجل ذلك يكون الحجّ مقدّماً عليه، وذلك لأنّ وجوب الوفاء به مشروط بأن لا يكون مفوّتاً لمصلحة الواجب، وهو هنا يكون مفوّتاً لمصلحته؛ ولأنّ حقيقة النذر إلزام نفسه بشيءٍ والالتزام به، ولا شكّ في أنّ العاقل لا يلتزم بشيءٍ غير مقدورٍ له، فالمنذور باقتضاءٍ من النذر نفسه يكون مقيّداً بكونه مقدوراً في ظرفه، وهذا غير مقدورٍ هنا.

كلام الاُستاذ الأعظم
وللاُستاذ الأعظم كلام في هذا الباب، وهو أنّ المشهور إنّما التزموا بتقديم النذر على الحجّ لالتزامهم القدرة الشرعيّة في موضوع الحجّ، ولازم ذلك: أنّ كلّ واجبٍ يزاحم الحجّ، فإنّه يزيل موضوعه، وهو الاستطاعة، فلا يكون المكلّف معه قادراً على الحجّ، بل يصبح عاجزاً عن الإتيان به.
وبعبارةٍ أوضح: فقد أُخذ في موضوع الحجّ أن لا يزاحمه واجب آخر، فإذا وجب على المكلّف شيء في أوان الحجّ وزاحمه، بحيث لا يتمكّن من الجمع بينهما، سقط وجوب الحجّ لعدم القدرة عليه، والحالة هذه، ولكنّ الظاهر: أنّه لا دليل على ما ذكروه أصلاً، وقد ذكرنا في بعض المباحث السابقة: أنّ الحجّ ليس مشروطاً بالقدرة الشرعيّة المصطَلحة، وإنّما الحجّ ـ كسائر الواجبات الإلهيّة ـ مشروط بالقدرة العقليّة. نعم، قد فُسّرت القدرة المأخوذة في الحجّ في الروايات بقدرة خاصّة، وهي: واجديّته للزاد والراحلة وصحّة البدن وتخلية السرب، ولكنّ ذلك لا يؤول إلى أخذ القدرة الشرعيّة فيه، بحيث يزاحمه أيّ واحدٍ من الواجبات الشرعيّة، بل إنّ حال وجوب الحجّ هو حال سائر التكاليف الإلهيّة في أنّه يكون مشروطاً بالقدرة العقليّة، فعند مزاحمته لواجبٍ آخر، لابدّ من ملاحظة الأهمّ منهما، كما هو الشأن في بقيّة الواجبات المتزاحمة.
هذا كلّه بحسب الكبرى.
إلّا أنّه في خصوص المقام، وهو ما لو نذر زيارة الحسين في كلّ يوم عرفة، وغير ذلك من النظائر، فإنّه لا يصل الأمر إلى التزاحم أصلاً.
والوجه فيه: أنّ وجوب الوفاء بالنذر ليس واجباً ابتدائيّاً مجعولاً على المكلّفين من قبل الشريعة المقدّسة، نظير وجوب الصلاة والصيام وأمثالهما، بل إنّما هو واجب إمضائيّ، بمعنى: أنّه إلزام من اﷲ تعالى بما ألزم المكلّف به نفسه من القيام بشيءٍ ﷲ تعالى، نظير باب العقود، حيث يُلزِم البائع نفسه بتمليك ماله للمشتري، ويمضي الشارع المقدّس التزامه هذا، ويلزمه بالوفاء بالتزامه. ومعلوم أنّ العمل الذي يلتزم به الناذر ﷲ تعالى لابدّ أن يكون قابلاً للإضافة إليه تعالى ومرتبطاً به نحو ارتباط، ومن هنا نجد: أنّهم اعتبروا الرجحان في متعلّق النذر؛ لأنّه لو كان خالياً من وجوه الرجحان، لم يكن قابلاً للإضافة إليه تعالى، وذلك كنذر المباحات الأصليّة التي لا رجحان فيها، ولا ترتبط به جلّ اسمه، ولذا، عبّر بعضهم عن ذلك بأنّه يجب أن لا يكون المتعلّق في نفسه محلّلاً للحرام.
قال:
«إنّه لابدّ من تقديم وجوب الحجّ على وجوب الوفاء بالنذر وأشباهه في مقام المزاحمة، وذلك لوجهين:
الأوّل: أنّ وجوب النذر أو ما شابهه لو كان مانعاً عن وجوب الحجّ ورافعاً لموضوعه، لأمكن لكلّ مكلّفٍ رفع وجوبه عن نفسه بإيجاب شيءٍ ما عليه بنذرٍ أو نحوه في ليلة عرفة، المنافي للإتيان بالحجّ، كمن نَذَر أن يصلّي ركعتين من النافلة ـ مثلاً ـ في ليلة عرفة في المسجد الفلانيّ، كمسجد الكوفة أو نحوه، أو نذر أن يقرأ سورةً ـ مثلاً ـ في ليلة عرفة فيه أو في أيّ مكانٍ آخر ـ مثلاً ـ، وهكذا... ومن الواضح جدّاً: أنّ بُطلان هذا من الضروريّات، فلا يحتاج إلى بيانٍ وإقامة برهان. كيف؟! فإنّ لازم ذلك هو أن لا يجب الحجّ على أحدٍ من المسلمين، إذ لكلٍّ منهم أن يمنع وجوبه ويرفع موضوعه بنذرٍ أو شبهه يكون منافياً ومضادّاً له، وهذا ممّا قامت ضرورة الدين على خلافه، كما هو ظاهر.
الثاني: أنّه قد ثبت في محلّه: أنّ صحّة النذر وما شاكله مشروطة بكون متعلّقه راجحاً، فلو نَذَر ترك واجبٍ أو فعل حرامٍ لم يصحّ، بل لو نذر ترك مستحبٍّ أو فعل مكروهٍ كان كذلك، فضلاً عن أن ينذر ترك واجبٍ أو فعل محرّم...».
إلى أن يقول:
«وعلى هذا الأساس: نستنتج من ذلك كبرىً كلّيّة، وهي: أنّ كلّ واجبٍ لم يكن وجوبه مشروطاً بعدم كون متعلّقه في نفسه محلّلاً للحرام، يتقدّم في مقام المزاحمة على واجبٍ كان وجوبه مشروطاً بذلك، كالواجبات الإلهيّة التي ليست بمجعولةٍ في الشريعة المقدّسة ابتداءً، بل هي مجعولة بعناوين ثانويّةٍ، كالنذر والعهد والحلف والشرط في ضمن عقدٍ، وما شاكل ذلك، فإنّ وجوب الوفاء بتلك الواجبات جميعاً مشروط بعدم كونها مخالفةً للكتاب أو السنّة ومحلّلةً للحرام، فتُؤخذ هذه القيود العدميّة في موضوع وجوب الوفاء بها.
وعلى ذلك يترتّب: أنّ تلك الواجبات لا تصلح لأن تزاحم الواجبات التي هي مجعولة في الشريعة المقدّسة ابتداءً، كالصلاة والصوم والحجّ وما شابه ذلك، لعدم أخذ تلك القيود العدميّة في موضوع وجوبها. وعليه: ففي مقام المزاحمة لا موضوع لتلك الواجبات، فينتفي وجوب الوفاء بها بانتفاء موضوعه.
فالنتيجة: أنّ عدم مزاحمة تلك الواجبات معها لقصور أدلّتها عن شمولها في هذه الموارد ـ أعني بها: موارد مخالفة الكتاب أو السنّة وتحليل الحرام في نفسها ـ لانتفاء موضوعها، لا لوجود مانعٍ في البين. ومن هنا قلنا: إنّ أدلّة وجوب الوفاء بها ناظرة إلى الأحكام الأوّليّة، ودالّة على نفوذ تلك الواجبات ووجوب الوفاء بها فيما إذا لم تكن مخالفةً لشيءٍ من تلك الأحكام. وأمّا في صورة المخالفة، فتسقط بسقوط موضوعها، كما عرفتَ، وتمام الكلام في ذلك في محلّه»( ).
ولكنّ ما ذكره من أنّ المأخوذ في الحجّ هو القدرة العقليّة محلّ كلامٍ؛ لما ذكرناه من أنّ القدرة العقليّة هي ما لا يمكن الإتيان بالفعل من دونها، وأمّا القدرة الشرعيّة فليست كذلك، والإتيان بالحجّ قد يكون ممكناً بدون الزاد والراحلة، كأن يذهب إليه ماشياً على الأقدام، أو متسكّعاً، فالقدرة المأخوذة في الحجّ هي القدرة الشرعيّة، لا محالة.

ما هو مقتضى الأصل؟
لا يخفى: أنّ الفعل التعبّديّ يحتاج إلى المباشرة، أي: إلى أن يأتي العبد بالعمل بنفسه، بخلاف التوصّليّ.
ثمّ إنّه لو علمنا بأنّ هذا الوجوب الذي بين أيدينا ينتمي إلى أيّ واحدٍ منهما بعينه، فهو، وأمّا لو شككنا في ذلك، فهل مقتضى الإطلاق هو التعبّديّة أم التوصّليّة؟؟
وعلى فرض عدم جريان الأصل اللّفظيّ هنا، فما هو مقتضى الأصل العمليّ؟! هل هو المباشرة؟ أم كفاية الإتيان بالفعل مطلقاً ولو من الغير؟!
لا يخفى: أنّ فعل الغير تارةً يكون مقدوراً له وأُخرى غير مقدور، والثاني يدخل فيما ذكرناه من أنّ المتعلّق لابدّ أن يكون مقدوراً حتّى يمكن توجّه الخطاب إليه.
وأمّا إذا كان مقدوراً، فقد يكون الفعل من الأسباب والمسبّبات التوليديّة ـ وهو أن لا يتوسّط بينه وبين الأثر إرادة فاعلٍ مختار، كالإحراق للنّار؛ فإنّ الإحراق ولو كان من فعل النار، ولكن لأجل عدم شعور النار فهو يُنسب إلى المحرق لا إليها ـ ولكنّ مقامنا، كما لا يخفى، ليس من هذا القبيل، بل إنّ الفعل الصادر من الغير لابدّ وأن يصدر عن شعور، وأن يكون مقدوراً للغير، وحينئذٍ: فهل يُشترط فيه المباشرة إذا توجّه الخطاب إلى الغير أم لا؟ وهل مقتضى إطلاق الخطاب لزوم المباشرة أو عدمه؟
وبعبارةٍ أُخرى: فهل مقتضى الإطلاق هو العينيّة، أي: أن يكون واجباً عليه مطلقاً، أتى به الغير أم لا؟
الحقّ: هو كونه من قبيل العينيّة، وأنّ صدوره لابدّ وأن يكون من المكلّف نفسه، وأمّا صدوره عن غيره بالاستنابة أو بالتبرّع فيحتاج إلى دليل، وما لم يدلّ عليه الدليل فلا يكاد يمكن التعدّي من العينيّ إلى غيره.
قد يقال: إنّ مقتضى الإطلاق هو الإتيان به مباشرةً؛ لأنّ الإطلاق يدفع كلّ ما يحتاج إلى مؤونةٍ زائدة، وهنا يكون الإطلاق موجباً لضيق دائرة الانطباق ـ بناءً على أنّ الإطلاق الوجوبيّ يقتضي أن يكون الواجب نفسيّاً عينيّاً وتعيينيّاً ـ لأنّ مقابل كلّ واحدٍ من هذه الثلاثة يحتاج إلى مؤونةٍ زائدة تُدفع بالأصل، وبناءً على جريان الأصل اللّفظيّ، فبما أنّ الشكّ يكون في السقوط، فمقتضى قاعدة الاشتغال عدم براءة الذمّة بفعل الغير لأنّه قبل إتيان النائب أو المتبرّع كان الخطاب متوجّهاً إلى شخص المكلّف، فبعد إتيانهما بالفعل يكون الشكّ شكّاً في السقوط لا في الثبوت.
ولكن يمكن أن يجاب عنه: بأنّ المقام من قبيل الشكّ في الثبوت، لا السقوط، أي: أنّ الشكّ يكون في مورد الاشتغال، لا الشكّ في السقوط بعد الاشتغال؛ لأنّه لا يُعلم من أوّل الأمر بأنّ الوجوب مطلق، حتّى يجب إتيان المكلّف به، ولو بإتيان النائب أو المتبرّع به، أو أنّه مشروط، فبناءً على عدم الاشتراط لا يجب عليه الإتيان بالعمل، بل لا يُشرّع بعد إتيان الغير به.
وأمّا بناءً على الاشتراط، فلا يُجزي الإتيان به من قبل النائب أو المتبرّع، فالوجوب يكون مشكوكاً من الأوّل. وعليه: فيكون الشكّ في الثبوت لا في السقوط، ومعه: فالمرجع إلى البراءة من وجوب المباشرة.
ولا يخفى: أنّ سقوط الخطاب بفعل الغير تارةً لا يكون متوقّفاً على إذن المكلّف، كما إذا تبرّع شخصٌ بأداء الدين الذي على الغير، وأُخرى: يتوقّف عليه، كالتبرّع بالزكاة؛ إذ إنّ ولاية الدفع إلى المستحقّ تكون بيد المالك.
هذا فيما إذا شكّ في التوصّليّة أو التعبّديّة من جهة المباشرة وعدم المباشرة.
وأمّا إذا كان الشكّ فيهما من جهة الإرادة والاختيار، بمعنى عدم سقوطه بدونهما فعند الشكّ في ذلك يكون المرجع هو أصالة التعبّديّة، وذلك لأمرين:
الأوّل: أنّه يُحتمل في توجيه التكليف أن يكون المتعلّق صادراً من الفاعل على نحو الحسن، أي: يُعتبر عقلاً أن يكون متعلّق التكليف مقدوراً للمكلّف ليتمكّن من امتثال الأمر على وجهٍ يصدر منه حسناً، ومن المعلوم: أنّ صدوره على نحو الحسن يتوقّف على الإرادة والاختيار؛ إذ الأفعال غير الاختياريّة لا تتّصف بالحسن والقبح، فما يصدر بلا إرادةٍ واختيار يكون خارجاً عن دائرة الأمر.
إن قلت: فماذا تقولون ـ إذاً ـ في التوصّليّ؟
نقول: الملاك المأخوذ في التوصّليّ يكون على نحو مجرّد إيجاد الفعل في الخارج، ولذا يكفي صدوره بأيّ نحوٍ كان؛ لأنّ الأمر فيه قد ورد هكذا.
وأمّا التعبّديّ، فحيث إنّ التكليف فيه متوجّه إلى شخصٍ خاصّ، ولابدّ من إتيان الفعل منه على وجه حسن، فذلك لا يمكن إلّا بالاختيار والقصد.
والثاني: اقتضاء نفس الأمر؛ فإنّ نفس الأمر يقتضي اعتبار الإرادة والاختيار مع قطع النظر عن الحكم العقليّ؛ لأنّ الأمر الشرعيّ هو بمعنى توجيه العبد نحو المطلوب لتحرّك عضلاته، فهو نفسه يقتضي الإرادة والاختيار، وإن قام الدليل على سقوط التكليف ولو صدر بلا إرادةٍ واختيار، لكان حاله حال ما يسقط بفعل الغير، وهو يرجع إلى تقييد الموضوع.
والحاصل: أنّه لو شكّ في التعبّديّة والتوصّليّة بهذا المعنى، فالأصل العمليّ يقتضي عدم السقوط عند الإتيان به بدون إرادةٍ واختيار، أي: أنّ الأصل تقييد الموضوع، ومقتضى الأصل العمليّ عدم السقوط لو أتى به بلا إرادةٍ واختيار.
وأمّا لو شكّ في التعبّديّة والتوصّليّة، وأنّه هل يكفي الإتيان بالفعل ولو بفعل الحرام أم لا؟
فلا يخفى: أنّ السقوط بالفعل الذي يكون متعلّقاً للأمر والنهي لا يمكن إلّا أن يكون هناك اتّحاد بين متعلّق الأمر ومتعلّق النهي خارجاً؛ إذ لا معنى للسقوط بدون هذا الاتّحاد.
وهذا الاتّحاد، تارةً يُتصوّر من جهة أنّ النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، وأُخرى من جهة أنّ النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه.
فإن كانت النسبة على النحو الأوّل: فتندرج المسألة في مسألة النهي في العبادة، ويخرج المحرّم عن عموم دائرة الأمر وسعته، ويتقيّد الأمر بما عدا ذلك، بلا فرقٍ بين أن يكون الواجب توصّليّاً أو تعبّديّاً.
وأمّا إذا كان الاتّحاد بينهما على النحو الثاني، فهذا يدخل في اجتماع الأمر والنهي:
فإن قلنا في تلك المسألة بالامتناع مع تقدّم جانب النهي أيضاً، فتدخل في مسألة النهي عن العبادة، كما هو مذكور في مسألة جواز الاجتماع وعدمه.
وأمّا إن قلنا في تلك المسألة بالجواز فيهما، فالمتعلّق، وإن لم يتّحد، يدخل فى مسألة التزاحم، ولكن، مع ذلك، فلا يكون الفرد المحرّم قابلاً للتقرّب به؛ لعدم انفصاله عن الحرام، ولعدم إمكان الإشارة إليه حسّيّاً في الخارج على نحو الانفراد، ولعدم حسنه الفاعليّ، فهو وإن كان فيه ملاك للأمر، إلّا أنّه يقع مبغوضاً لا محالة، لمكان مجامعته للحرام، ولا يصلح لأن يُتقرّب به، وبالتالي: فلا يسقط الأمر به.
ولكنّ الحقّ: أنّ المكلّف ـ في التركيب الانضماميّ ـ تارةً يكون ملتفتاً لمجامعته مع الحرام، وأُخرى غير ملتفت:
ففي الصورة الأُولى: لا يكون مسقطاً؛ لعدم تمشّي قصد القربة.
وأمّا مع الغفلة: فلا مانع في البين، وليس هناك قبح فعليّ أو فاعليّ، فالملاك، بل الأمر، كلاهما موجودان، ويمكن إتيانه بقصد القربة. هذا بالنسبة إلى الأصل اللّفظيّ.
وأمّا الأصل العمليّ، فقد يقال: إنّه ـ هو أيضاً ـ يقتضي عدم السقوط بفعل المحرّم.
ولكن الحقّ: أنّ هذا الكلام غير تامّ، وأنّ هناك فرقاً بين التعبّديّ والتوصّليّ، وأنّ إطلاق الخطاب يقتضي كفاية الامتثال بالفرد المحرّم في التوصّليّ، والبغض الفاعليّ ممّا لا أثر له، بلا فرقٍ بين أن تكون النسبة بينهما هي العموم من وجه أو العموم المطلق، وبلا فرقٍ بين أن نقول بجواز الاجتماع أو عدم جوازه؛ لأنّ إطلاق الخطاب يكشف عن وجود مصلحةٍ ملزمة، وعن اشتمال الفعل على تمام الملاك في متعلّقه مطلقاً، حتّى ولو كان بعض أفراده محرّماً.
نعم، إذا كان ملاك النهي غالباً على ملاك الأمر، فإنّه يُوجب رفع فعليّة الأمر عند اجتماعه مع النهي، لانتفاء أصل ملاك الأمر.
ومعه: لا يحصل الامتثال بالفرد المحرّم، ولا يتحقّق الغرض الداعي إلى أصل الخطاب.
وعليه: فهو يسقط بانتفاء الموضوع، لا بالامتثال.
بل يمكن أن نقول: بوجود الأمر وفعليّته بناءً على التزاحم، ولكنّه يكون مشروطاً بعصيان النهي، فحينئذٍ: يكون سقوطه من جهة الامتثال أيضاً.
وأمّا بناءً على عدم جريان الأصل اللّفظيّ: فيكون المرجع حين الشكّ هو البراءة، أي: أنّ الشكّ يكون في الثبوت دون السقوط، كما مرّ في البحث السابق.
ومن هنا ظهر الحال فيما ذكره الاُستاذ المحقّق: من أنّه في التوصّليّ إذا كانت النسبة بين الدليلين عموم وخصوص مطلق، فمرجعه إلى تقييد دليل الوجوب، وأنّه لا يسقط بالفرد المحرّم لعدم الملاك، بلا فرقٍ بين أن يكون الواجب توصّليّاً أو تعبّديّاً. وأمّا إذا كانت النسبة بين الدليلين هي العموم والخصوص من وجه، فإن قلنا بالتركيب الاتّحاديّ، فالأمر كذلك، وأمّا إن قلنا بالتركيب الانضماميّ، فيصحّ مطلقاً ويكون إتياناً للواجب( ).
وذلك أنّه قد يقال ـ كما ذكرنا ـ: الأمر إذا كان توصّليّاً، فيمكن أن يقال بصحّته مطلقاً؛ لأنّه ولو لم يكن للأمر وجود في جميع الأقسام والصور، إلّا أنّ الملاك في الجميع يكون موجوداً.
ولكنّ الحقّ: أنّ استكشاف وجود الملاك إنّما يكون بوجود الأمر ـ كما أشرنا سابقاً ـ وإلّا، فمن أين نفهم وجود الملاك.

وعليه: ففي التوصّليّ، يصحّ في خصوص صورة الانضمام، لا مطلقاً. وأمّا إذا كان تعبّديّاً، فإنّه لا يصحّ مطلقاً.

 


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com