أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 


أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّق الأمر

لا يخفى: أنّ جميع ما عدا قصد امتثال الأمر من وجوه قصد الأمر يمكن أخذه في المتعلّق، ولا يلزم هناك أيّ محالٍ، وإنّما الكلام في أنّ قصد القربة هل هو منحصر في قصد الأمر أم لا؟
إنّ معنى العبادة هو كلّ ما يصلح أن يكون موجباً لمرضاة اﷲ، فأيّ وجهٍ يقصد، حتّى تلك الوجوه التي قد مضت، يحصل به التقرّب، كما أنّ في بعضها يكون قصد الملاك الذي وقع في سلسلة العلل قصداً للأمر الذي هو المعلول.
وإنّما الكلام في إمكان أخذ قصد الأمر في المأمور به أم لا؟
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى امتناع أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر، معلّلاً ذلك باستحالة أخذ ما لا يتأتّى إلّا من قبل الأمر في متعلّق ذلك الأمر مطلقاً، شرطاً كان أم شطراً، فما لم تكن نفس الصلاة متعلّقة للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها( ).
وما يظهر من كلامه محذوران:
الأوّل: أنّ متعلّق الأمر متقدّم على الأمر، والأمر متأخّر عنه؛ لأنّ العرض يكون متأخّراً عن معروضه، فقصد الأمر متأخّر عن نفس الأمر، فكيف يمكن أخذه في المتعلّق؟!
الثاني: اشتراط القدرة في إتيان المتعلّق، وأنّ الطلب من العاجز قبيح عقلاً، والذي هو ممكن هو الإتيان بنفس المتعلّق، وأمّا الإتيان بالمتعلّق بداعي أمره، فغير ممكنٍ؛ إذ لا يكون هناك إلّا أمر واحد تعلّق بذات الصلاة ـ مثلاً ـ، فالإتيان بالمتعلّق بداعي الأمر يحتاج إلى أمرٍ آخر يتعلّق به الأمر الأوّل حتّى يمكن إتيانه بداعي أمره، أي: أمره الأوّل، بعد أن صار موضوعاً للأمر الثاني، فإذا لم يكن هناك أمر ثانٍ، فلا يمكن الإتيان به بداعي أمره؛ لأنّ اعتبار القدرة شرط في متعلّق التكليف.
وقبل الدخول في صلب هذا البحث لابدّ من بيان مقدّمات:

الاُولى: في بيان التقابل بين الإطلاق والتقييد.
لا يخفى: أنّ التقابل الكائن بين الإطلاق والتقييد هو ليس من تقابل السلب والإيجاب، أي: تقابل النقيضين، بل التقابل بينهما هو تقابل العدم والملكة، فما لا يمكن الإطلاق فيه، لا يمكن التقييد فيه ـ أيضاً ـ فالقدرة على أحدهما ملازمة للقدرة على الآخر، أو عينه، كما أنّ امتناع أحدهما هو عين امتناع الآخر.

الثانية:
أنّ نسبة الموضوع إلى الحكم هي نسبة العرض إلى المعروض، والعلّة إلى المعلول، ولا يعقل تقدّم الحكم على الموضوع، وإلّا، يلزم عدم موضوعيّة ما قد فُرض موضوعاً.

الثالثة:
أنّ الإطلاق والتقييد تارةً يُلاحظ في الواجبات بالنسبة إلى التقسيمات الأوّليّة وطروّ الحالات والخصوصيّات، أي: أن يتعلّق بذات الشيء قبل ورود الحكم وتعلّق الأمر، بلا فرقٍ بين متعلّق التكليف ومتعلّق المتعلّق والموضوع، كالصلاة ـ مثلاً ـ فإنّها تارةً تُلاحظ من جهة الأجزاء، كذات السورة وفاقدتها، وذات التسليمة وفاقدتها؛ وأُخرى من جهة الشرائط، كذات الطهارة وفاقدتها، بناءً على كونها شرطاً وليست بجزءٍ، وما استقبِلت فيها القبلة وما لم تستقبَل فيها القبلة، وغير ذلك من الأجزاء والشرائط. وتسمّى هذه التقسيمات ﺑ «التقسيمات الأوّليّة».
فإنّ الصلاة في مرحلة الواقع والثبوت:
تارةً: تلاحظ بالنسبة إلى هذه الاُمور بشرط شيءٍ، أي: كالصلاة بالنسبة إلى الأجزاء أو الشرائط، من الطهارة والاستقبال والسورة والركوع والسجود.
واُخرى: تلاحظ بشرط لا، كالصلاة بالنسبة إلى القواطع.
وثالثةً: لا بشرط، كالصلاة بالنسبة إلى القنوت.
وإنّما سمّيت هذه التقسيمات ﺑ «التقسيمات الأوّليّة»؛ لأنّها تقسيمات لاحقة لذاتها مع قطع النظر عن ورود الأمر بها.
هذا في مرحلة الثبوت.
وأمّا في مرحلة الإثبات والدلالة:
فإن دلّ دليل على وجود قيد أو عدمه فبه، وإلّا، فالمرجع في ذلك أصالة الإطلاق إذا توفّرت الشروط التي يمكن مع وجودها التمسّك بهذا الأصل، فبأصالة الإطلاق يُستكشف أنّ إرادة الأمر قد تعلّقت في الواقع بالمطلق، فإنّ الواجب لم يقيّد بشيءٍ، بل هو قد أخذ بالنسبة إلى الشكّ في جزئيّته لا بشرط.
وأمّا «التقسيمات الثانويّة»، وهي التي تأتي للواجب بعد ورود الحكم والأمر، وتنقسم إلى ما يؤتى به في الخارج بداعي أمره، وبعدم داعي أمره. وإنّما سمّيت ﺑ «الثانويّة»؛ لأنّها يرد البحث عليها بعد ورود الحكم، وإلّا، فقبل تحقّق الحكم لا معنى للبحث بأنّه هل لابدّ من إتيان الصلاة بداعي أمرها أم لا؟ إذ في تلك الحالة ليس هناك أمر ولا حكم حتّى يتأتّى هذا البحث، وحتّى يمكن فرض قصده.
وبعبارةٍ اُخرى: فهي إنّما سمّيت ﺑ «التقسيمات الثانويّة»؛ لأنّ هذا التقسيم لا يرد على هذه الاُمور أوّلاً وبالذّات، بل يرد عليها ثانياً وبالعرض.
وهذا بخلاف التقسيمات الأوّليّة، فإنّها ترد عليها أوّلاً وبالذات، لا من ناحية الأمر والحكم.
فإذا عرفت هذا: فلو شككنا في اعتبار قيدٍ في المأمور به، فيمكن لنا التمسّك بأصالة الإطلاق، وكما ذكرنا، فإنّ التمسّك بها يستكشف منه أنّ الواجب قد أُخذ بالنسبة إليها لابشرط، فلو أتى به بدون شرطٍ فإنّه يكون مجزياً.
وأمّا بالنسبة إلى التقسيمات الثانويّة: فجواز التمسّك بالإطلاق متوقّف على إمكان تقييد المأمور به بالأمر، فإذا قلنا بعدم إمكانه واستحالة التقييد به، فيستحيل التمسّك بالإطلاق، لما مرّ من أنّ التقابل بينهما هو تقابل العدم والملكة، فلا يمكن فرض إمكان الإطلاق إلّا في مكانٍ يمكن التقييد بالنسبة إليه.
وإذا عرفت ذلك، وعرفت ما قلناه: من أنّ النسبة بين الموضوع والحكم هي النسبة بين العلّة المعلول، بلا فرقٍ بين أن يراد به المتعلّق أو متعلّق المتعلّق أو نفس المكلّف أو الموضوع بجميع أجزائه وشرائطه، وعرفت ـ أيضاً ـ ما قلناه: من أنّ الموضوع حكمه حكم المعروض؛ لأنّه لابدّ وأن يكون متقدّماً على الحكم بجميع أجزائه وشرائطه بعد ما فُرض من رجوع جميع القيود إلى الموضوع. فقوله تعالى: ﴿وِللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾( )، معناه: عليك أيّها المستطيع أن تحجّ.
فإذا فُرض أنّ القربة ـ أي: قصد الأمر ـ هو من قيود المأمور به، كبقيّة القيود، فيدخل في حيّز الخطاب، ويكون الخطاب متعلّقاً بالصلاة مع قصد القربة والأمر، مع أنّ القربة تتولّد من قصد الأمر، فهي قبل أن يرد الأمر تكون معدومةً. ففي الرتبة السابقة على الأمر لا قربة؛ لأنّها ـ كما ذكرنا ـ متولّدة من نفس الأمر، والمفروض: أنّه لابدّ أن يكون الشيء موجوداً حتّى يتعلّق الأمر به، فقبل ورود ذلك الأمر يكون فرض وجود القربة محالاً.
وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ الحكم حينما يرد على نحو القضيّة الحقيقيّة، فهي ترجع إلى القضايا الشرطيّة التي مقدّمها عبارة عن وجود الموضوع وتاليها عبارة عن ثبوت المحمول له، فإذا قلت: يجب على المستطيع الحجّ، فيكون وجوب الحجّ مشروطاً بوجوب الاستطاعة، وكذا فعليّته، فإنّها ـ أيضاً ـ تدور مدار فعليّة الاستطاعة، فرجع القيد إلى الموضوع.
وبما أنّ هذا القيد يأتي من قبل الأمر والحكم، فلا يمكن أخذه في الموضوع؛ لأنّ المشروط لا يقتضي وجود شرطه، والحكم لا يثبت موضوعه في الخارج، والمفروض في محلّ الكلام هو: تولّد القربة من قصد الأمر، وهو معدوم قبل ورود الأمر عليها، ففي الرتبة السابقة، لا قربة؛ لأنّها متولّدة من الأمر، ولابدّ من وجود الموضوع أوّلاً حتّى يتعلّق به الأمر، الأمر الذي يعني: أنّ وجود القربة قبل ورود الأمر غير معقول.
وبعبارةٍ أُخرى: فإذا فُرض أنّ الموضوع هو الصلاة المقيّدة بقصد الأمر، فإنّ الأمر لو تعلّق بالصلاة بقصد الأمر، فإنّ قصد الصلاة بهذا القيد متوقّف على وجود الموضوع الذي أحد أجزائه قصد الأمر، والجزء الثاني هو الصلاة، والمفروض: توقّف قصدها على الأمر، لكونه من الاُمور المتأخّرة عن الأمر، مع أنّ الأمر يكون متأخّراً عن قصد الأمر؛ لأنّه بالنسبة إليه ـ كما قدّمنا ـ كالمعلول بالنسبة إلى العلّة، أو كالعرض بالنسبة إلى المعروض، ولازمه: أن يكون الأمر متوقّفاً على قصده، وهو متوقّف على الأمر.
ولكن في حقيقة الأمر: هذا الإشكال إنّما يرد لو تعلّق الأمر بالفرد وبالموضوع الخارجيّ، وأمّا لو فرضنا وروده على الطبيعة، كما إذا تصوّر المتعلّق وتصوّر الموضوع، فهو كافٍ في ورود الأمر عليه، فلا يكون هناك من دور أصلاً، وهذه الطبيعة تنطبق على الفرد الخارجيّ والفعل الصادر من المكلّف؛ لأنّ الموضوع هو الطبيعة الكلّيّة المقيّدة بإنشائها بداعي الأمر، ولا يحتاج تصوّرها إلى وجود الأمر في الخارج، فلو تصوّر الموضوع هكذا، فيمكن أن يرد عليه الأمر في الخارج، ولا دور هناك.
فبناءً على هذا: لا يتوقّف مفهوم قصد امتثال الأمر الذي هو جزء المتعلّق على الأمر الخارجيّ حتّى يلزم الدور.
ولكن مع ذلك، يمكن أن يقال: بأنّ التقييد بقصد الأمر مستحيل بالنسبة إلى كلتا المرحلتين: أعني: مرحلة الإنشاء، ومرتبة الفعليّة.
أمّا في مرحلة الإنشاء: فلعدم إمكان لحاظ شيئين لحاظاً واحداً في آنٍ واحدٍ مع كونهما في رتبتين مختلفتين كالعلّيّة والمعلوليّة.
وأمّا في مرتبة الفعليّة: فلاستحالة وجود قصد الأمر قبل الأمر الذي هو متقدّم على القصد الذي هو متأخّر عن الأمر.
وكذا إذا كان المراد بالقربة قصد المصلحة، فإنّه لا يمكن أخذها في المتعلّق؛ لأنّ المصلحة ـ التي هي موضوع القصد ـ متقدّمة على القصد، وإذا لم توجد لم يتحقّق القصد، فقصد المصلحة منوط بوجود المصلحة، لكون المصلحة موضوعاً للقصد، كموضوعيّة الأمر له، فالقصد ـ إذاً ـ موضوع للمصلحة، لقيامها به وبغيره من الأجزاء.
ففي الحقيقة: يكون قصد المصلحة موقوفاً على وجود المصلحة سابقاً، والمصلحة موقوفة على القصد، لقيام المصلحة بالقصد، هذا دور.
وهكذا يحسب بالنسبة إلى الانقسامات الثانويّة، كالعلم والجهل؛ لأنّه بعد استحالة تقييد الموضوع بالعلم، واستحالة أن يكون الخطاب مختصّاً بالعالمين، يرد الإشكال نفسه أيضاً.
هذا إذا كان هناك أمر واحد.
ولكن يمكن أن يقال: إنّ قصد الأمر في المتعلّق، وإن لم يمكن أخذه، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق؛ لأنّ التقييد غير ممكنٍ بحسب الفرض. ولكنّ نتيجته ممكنة، أي: أنّه يمكن إدخاله في المتعلّق بأمرٍ آخر، لا بنفس الأمر الأوّل؛ لأنّ الأمر الأوّل قد تعلّق بالأجزاء والشرائط طرّاً عدا قصد الأمر؛ لمكان قصور الأمر عن شموله له، فالأمر الثاني قد تعلّق بالصلاة بقصد الأمر الأوّل.
والحاصل: أنّ لحاظ كلٍّ من الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى الأمر الأوّل، وإن كان ممتنعاً، إلّا أنّه بنتيجته لا يكون ممتنعاً.
وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ استحالة تعلّق الوجوب بالقصد مختصّة بالخطاب الأوّل الذي له تعلّقات عديدة من جهة الأجزاء والشرائط، ولا يكون الأمر الأوّل متعلّقاً بالفعل بقصد الأمر، وإنّما الذي له تعلّق به هو الأمر الثاني، فلذا يصحّ التمسّك بالإطلاق المقاميّ لنفي اعتباره.
وقد يُستشكل على هذا: بعدم فائدة الأمر الثاني، وأنّه لا وجه لهذا الخطاب؛ لأنّ الإتيان بما تعلّق به الأمر الأوّل إن أوجب سقوطه، فلا حاجة إلى الأمر الثاني، وإلّا، فلابدّ من القول بعدم السقوط لأجل بقاء الغرض الأوّل، والعقل المستقلّ في باب الإطاعة حاكم بوجوب إتيانه ثانياً، إذاً: فلا حاجة إلى الأمر الثاني أصلاً.
ولكن يمكن الجواب عن هذا: بأنّ هناك فرقاً بين قصد الأمر الذي هو جزء من المتعلّق والموضوع وبين سائر أجزاء الموضوع والملاك، والمفروض أنّ قصد الأمر دخيل في الملاك، وبدونه لا ملاك ولا مصلحة لسائر الأجزاء والشرائط، ولا تجري قاعدة الميسور عند فقدانه، بخلاف بقيّة الأجزاء والشرائط؛ لأنّ قصد الأمر روح العمل، وغيره أجزاء لجسمه، كاليد والرجل بالنسبة إلى الإنسان، فمع وحدة الملاك يكون الأمران بمنزلة أمرٍ واحد، والإشكال إنّما يأتي بناءً على تعدّد الملاك، ويكون الأمر الثاني متعلّقاً بواجبٍ آخر.
وأمّا إذا قلنا بأنّ الأمر الثاني يكون إرشاداً إلى أنّ قصد القربة شرط ودخيل، أي: مشير إلى الشرطيّة، كالأوامر المتعلّقة بالأجزاء والشرائط كالركوع والسجود وغيرها؛ فإنّ الأمر المتعلّق بقصد القربة كغيره من الأوامر الواردة على الأجزاء والشرائط تنشأ عن غرضٍ وملاكٍ واحد، لا ملاكين، حتّى لا تحتاج إلى الأمر في الإتيان بقصد الأمر.
إذاً، ففي صورة الشكّ، ولو لم يمكن التمسّك بالإطلاق اللّفظيّ؛ لاستحالة تقييد الموضوع بالقيود المتأخّرة، لما عرفت من أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، فإذا لم يمكن التقييد لم يمكن الإطلاق، ولكن ـ مع ذلك ـ يمكن التمسّك بالإطلاق المقاميّ، كما مرّ؛ لأنّ سكوت المولى عن هذا القيد، وهو في مقام البيان ـ أي: عدم تعرّضه للإخبار عن لزوم الإتيان بقصد القربة ـ كاشف عن عدم اعتباره إيّاه، فعند الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة تكون النتيجة البناء على التوصّليّة.
ثمّ على فُرض عدم إمكان جريان الأصل اللّفظيّ فما هي الوظيفة بالنسبة إلى الأصل العمليّ؟
قد يقال: إنّ مقتضى الأصل العمليّ هو أصالة الاشتغال.
ولكنّ الحقّ: أنّ المقام من باب التردّد بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ويكون المرجع هنا هو البراءة.
هذا. وأمّا إذا قلنا بأنّ التقابل بينهما هو تقابل السلب والإيجاب، فيمكن على هذا أن يتمسّك بالإطلاق، ولا يلزم بناءً على هذا استحالة الإطلاق، بل على العكس، وكذلك، فإنّ استحالة التقييد توجب تعيين الإطلاق، لعدم إمكان ارتفاع النقيضين، كذا إذا كان التقابل بينهما تقابل التضادّ كما نُسب إلى الشيخ؛ لاستحالة ارتفاع الضدّين اللّذين لا ثالث لهما.

ما استدلّ به على التعبّديّة:
إذا عرفت هذا فقد استدلّ على التعبّديّة باُمور:

الأمر الأوّل:
إذا شكّ في كون واجبٍ ما تعبّديّاً أو توصّليّاً، فمقتضى قاعدة الاشتغال: أن يكون تعبّديّاً؛ وذلك لأنّ المطلوب الحقيقيّ في الواجبات هو تحصيل الغرض والملاك اللّذين صارا سبباً لتشريع الحكم كما ذكرنا؛ لأنّ الحكم يدور مدار الملاك سعةً وضيقاً، فيجب تحصيل الغرض، ولهذا الغرض في الخارج محصّلات لا يمكن تحصيله بدونها، فالمحصّلات في باب الصلاة ـ مثلاً ـ هي الأجزاء والشرائط، فإذا أتينا بهذه الأجزاء بدون قصد القربة، مع أنّ هناك شكّاً في كونها جزءاً ومحصّلاً أم لا؟ فحينئذٍ: فمآل الشكّ في دخله إلى الشكّ في المحصّل فتجري قاعدة الاشتغال. فلابدّ أن يأتي بالصلاة مع القربة حتّى يتيقّن بحصول الغرض في الخارج.
قال في الجواهر: «أمّا العبادات فلا إشكال في اعتبار القصد فيها، لعدم صدق الامتثال والطاعة بدونه، واعتبارهما في كلّ أمر صدر من الشارع معلوم بالعقل والنقل، كتاباً وسنّةً، بل ضرورةً من الدين، بل لا يصدقان إلّا بالإتيان بالفعل بقصد امتثال الأمر، فضلاً عن مطلق القصد، ضرورة عدم تشخّص الأفعال بالنسبة إلى ذلك عرفاً إلّا بالنيّة، فالخالي منها عن قصد الامتثال والطاعة لا ينصرف إلى ما تعلّق به الأمر، إذ الأمر والعبثيّة، فضلاً عن غيرها، على حدٍّ سواء بالنسبة اليه، ومن هنا: إذا كان الأمر متعدّداً توقّف صدق الامتثال على قصد التعيين، لعدم انصراف الفعل بدونه إلى أحدهما.
إلى أن يقول: أمّا القربة بمعنى القرب الروحانيّ الذي هو شبيه بالقرب المكانيّ فهو من غايات قصد الامتثال المزبور ودواعيه، ولا يجب نيّة ذلك وقصده قطعاً»( ).
وفيه: أنّ الغرض يكون واقعاً في سلسلة الأمر ويكون داعياً إليه، فلا يمكن أن يكون موضوعاً للأمر حتّى يتعلّق به الأمر، فلا يكون الغرض مأموراً به حتّى إذا شكّ في اعتبار قصد القربة، فلا يكون شكّاً في المحصّل ويكون المقام أجنبيّاً عن الشكّ في المحصّل الذي مرجعه إلى قاعدة الاشتغال. وفي الحقيقة: فإنّ المأمور به هو نفس الأجزاء فقط.
وقد نُسب إلى المحقّق الشيرازيّ( ): أنّ العباديّة ليست للأمر، ولا مأخوذة في المأمور به، بل العباديّة عبارة عن الوظيفة التي شرّعت لأجل أن يتعبّد بها، فالصلاة التي جيء بها بعنوان التعبّد، وإظهاراً للعبوديّة، هي المأمور بها، فيمكن أن يرد الأمر على الصلاة بهذا الوجه، ولا استحالة ـ حينئذٍ ـ ولا دور؛ فإنّ المكلّف يتمكّن من الإتيان بالصلاة تارةً بعنوان التعبّد وإظهاراً للعبوديّة، واُخرى: بعنوان قصد الأمر وقصد القربة، فلو قلنا بأنّ المأمور به هي الصلاة المأتيّ بها بعنوان التعبّد، فالدواعي: إمّا عن قصد الأمر أو الجهة أو غيرها وهي محقّقة لعنوان العبادة ومحصّلة لها، من دون أن يتعلّق الأمر بها، لأنّها ليست بمنحصرةٍ، لحصول العبادة في الخارج، فكما يمكن الإتيان بالصلاة بعنوان العبوديّة، فيمكن الإتيان بها كذلك بعنوانٍ آخر، وهو تلك الدواعي.
ولكنّ الحقّ: انحصار العبادة بما يؤتى بها بعنوان العبوديّة، والعبرة بما ورد في تلك الأخبار. ولو أتى بالفعل لا بتلك الدواعي تبطل، وهذه الدواعي كما ذكرنا لا يمكن أخذها في المأمور به. فما نُسب إلى المحقّق المذكور لا يرجع إلى معنىً محصّل.

الأمر الثاني:
أنّ الغرض من الأوامر ليس إلّا تحريك العباد وحثّهم على إيجاد متعلّقات الأمر، فلابدّ أن يكون الإتيان بالواجب ﷲ سبحانه حتّى يكون من الأمر، لا من الشهرة والرياء ـ مثلاً ـ فالغرض من الأوامر هو نفسه يقتضي التعبّديّة.
وفيه: أنّه ليس الغرض من الأمر إلّا تحريك المكلّف على إيجاد متعلّقه في الخارج، فيكون ورود الأمر سبباً لإلزامه بإيجاد المأمور به، وأمّا كون هذا الإيجاد بداعي أمره وقصد الأمر لم يظهر من الغرض فالتمسّك بالغرض إنّما يكون لإثبات تعبّديّة المأمور به حتّى يتمسّك في مقام الشكّ في التعبّديّة بها، وإثبات التعبّديّة للفرد المشكوك بالغرض لا يرجع إلى محصّل.

والأمر الثالث:
قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾( ).
وقد قالوا في تفسير هذه الآية الكريمة: إنّهم لم يؤمروا إلّا لأجل العبادة، فيكون الغرض من كلّ أمرٍ هو العبادة.
ولكنّ الاستدلال بالآية على اعتبار التعبّد في الأوامر كافّةً ظاهر الفساد؛ لأنّ الآية وردت لبيان معنىً آخر، وهو: أنّ العبادة لابدّ وأن تكون ﷲ تعالى دون غيره من الأصنام، ويظهر من صدر الآية ومن الآيات المتقدّمة: أنّ الخطاب متوجّه للكفّار، وأنّ الكفّار لم يؤمروا بالتوحيد إلّا لكي يعبدوا اﷲ ويعرفوه ويكونوا مخلصين له غير مشركين، فالآية واردة في مقام بيان تعيين المعبود ومعرفته وبيان كيفيّة عبادته، لا لبيان أنّ الأمر يكون عباديّاً.
وعليه: فتكون الآية الشريفة أجنبيّةً عمّا نحن فيه؛ لأنّ الاحتمال الثاني الذي ذكرناه في تفسيرها، إمّا أن يكون أظهر من الأوّل، فهو المطلوب، أو لا أقلّ من أنّه يكون مساوياً له، فتصبح الآية ـ حينئذٍ ـ مجملةً.
وأمّا ما ذكروه من أنّ المراد من الآية أنّهم لم يؤمروا إلّا لأجل العبادة، فإنّه لو كان صحيحاً لاستلزم تخصيص الأكثر، لعدم غلبة الواجبات التعبّديّة على التوصّليّة.
ولكن نجيب عن هذا: بأنّ الاستهجان في تخصيص الأكثر إنّما يتصوّر إذا كان التخصيص إفراديّاً، كما إذا قال: (كل كلّ ما في البستان من رمّان)، ثمّ قال: (لا تأكل هذه الرمّانة وتلك الرمّانة... إلى تسع مائة وتسعٍ وتسعين)، وكان كلّ ما في البستان ألف رمّانةٍ، فإنّ هذا يكون مستهجناً لا محالة، وأمّا إذا كان تخصيص الأكثر نوعيّاً، فلا استهجان هناك، كما إذا قال: (لا تُكرم شاربي التتن من العلماء) وكان أكثرهم من شاربي التتن.
وأيضاً: فلا يفيد الاستدلال للتعبّديّة بقوله: «إنّما الأعمال بالنيّات»( )، وفسّروه بأنّ النيّة هي قصد القربة وامتثال الأمر، أي: فالعمل الذي لا قربة فيه فهو كالمعدوم.
ولكن يرِد عليه: أنّه لم يظهر من الرواية هذا المعنى، بل المراد: أنّ العمل الذي وقع قهراً أو بلا إرادةٍ واختيار، ليس بعملٍ يترتّب عليه الثواب.
أو نقول: بأنّ عنوان العمل لا يتحصّل ولا يتعيّن إلّا بالقصد، فإن كانت عبادةً، فلا يتعيّن بعنوان العباديّة إلّا بالقصد، ولو كانت التوصّليّة غير محتاجةٍ إلى القصد. وليست هذه الرواية ناظرةً إلى إثبات عباديّة الأوامر الشرعيّة أصلاً.
ويؤيّد ذلك: ما ورد عن النبيّ أيضاً: «لكلّ امرءٍ ما نوى»( )، أي: أنّ العمل تابع لقصده، ﷲ تعالى كان أم لغيره.
فظهر: أنّه يمكن التمسّك بالإطلاق المقاميّ إذا شكّ في تعبّديّة شيءٍ أو توصّليّته، بناءً على إمكان قصد الأمر بنتيجة الإطلاق.
أمّا إذا لم يمكن التمسّك بذلك الإطلاق، ولو بورود ألف أمرٍ، فلابدّ حينئذٍ من القول بالتوصّليّة ببركة الأصل العمليّ، لا بالتعبّديّة بواسطة أصالة الاشتغال.