المرّة والتكرار

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

المرّة والتكرار


ذهب بعضهم إلى أنّ الأمر يدلّ على التكرار.
وقال آخرون: بل هو يدلّ على المرّة.
واستدلّ الأول: بالأمر بالصلاة، فإنّ امتثاله بتكرار الإتيان بالصلاة كلّ يوم.
وفيه: أنّ دلالته على التكرار ليس من حاقّ الأمر، بل من دليل خارجيّ؛ لأنّ الأمر إنّما ورد على الطبيعة، فيكون من قبيل الأوامر الانحلاليّة التي تتعدّد حسب تعدّد موضوعاتها، وليس هذا محلّ الكلام، بل محلّ الكلام في التكرار إنّما هو بالنسبة إلى موضوع واحد، كتكرار إكرام العالم الواحد، كما إذا قال: أكرم عالماً. ولا نظنّ أنّ هناك من يلتزم بذلك.
كما أنّ نفس الصيغة في مثل هذا الاستعمال لا تدلّ على المرّة بالدلالة اللّفظيّة، بل الاكتفاء بالمرّة من جهة أنّ الأمر لا يقتضي إلّا طرد العدم، وهو يتحقّق بأوّل الوجود؛ فإنّ العقل بعد إدراكه أنّ انطباق الطبيعيّ على الفرد قهريّ، فإنّه يحكم بالإجزاء.
ولا يخفى: أنّ الأمر لا يدلّ على المرّة ولا على التكرار، لا بهيئته، ولا بمادّته، ولا بمجموع مادّته وهيئته.
أمّا الثالث: فمحلّ وفاق؛ لأنّ المجموع المركّب من المادّة والهيئة ليس له وضع آخر، فإذا كان كلّ من الهيئة والمادّة لا يدلّ على المرّة ولا على التكرار؛ فإنّ المجموع المركّب لا يمكن أن يكون دالّاً على شيءٍ منهما.
فبقي الوجهان الآخران، وهما المادّة والهيئة، فهل تدلّان على المرّة أو على التكرار؟
الحقّ: عدم دلالة المادّة عليهما؛ لأنّ المادّة في جميع المشتقّات ـ ومنها الأمر ـ إنّما وضعت لنفس الحدث الذي يصدر عن الفاعل من دون ملاحظةٍ لأيّ انتسابٍ فيه، أو فقل: هي موضوعة للطبيعة المهملة والمعرّاة عن كلّ قيد وشرط.
ومن هنا، كانت المادّة هي الأصل في الاشتقاق، على ما هو الصحيح. وأمّا القول بأنّ أصل الاشتقاق هو المصدر، فقول لا أساس له من الصحّة؛ إذ المصدر مشتقّ من المشتقّات، شأنه في ذلك شأن سائر الصيغ، وذلك لملاحظة النسبة إلى فاعلٍ ما فيه ـ أيضاً ـ، فلا يمكن أن يكون مادّة محفوظة في سائر المشتقّات؛ لوضوح أنّ هذه النسبة الملحوظة فيه لا يمكن أن تكون محفوظة في جميعها.
قال في الكفاية:
«ضرورة أنّ المصدر ليس مادّة لسائر المشتقّات، بل هو صيغة مثلها، كيف؟! وقد عرفت في باب المشتقّ مباينة المصدر وسائر المشتقّات بحسب المعنى، فكيف بمعناه يكون مادّة لها؟! فعليه يمكن دعوى اعتبار المرّة أو التكرار في مادّتها، كما لا يخفى»( ).
وحاصل ما أفاده: أنّ المصدر أُخِذ فيه نحو من اﻟ (بشرط لائيّة)، فيمتنع أن يكون هو الأصل في الكلام؛ إذ لا يكون أصلاً في الكلام ومادّة للاشتقاق إلّا ما كان مأخوذاً بنحو اللّابشرط، حتى يجوز فيه أن يكون سارياً في جميع المشتقّات.
وعليه: فللمصدر معنىً مباين لمعنى سائر المشتقّات. ومعه: فكيف يمكن أن يكون المصدر بمعناه المباين لها الملحوظ بشرط لا مادّة لسائر المشتقّات، وعليه: فلا مانع من تصحيح دعوى اعتبار المرّة والتكرار في مادّة المشتقّات، وإن كنّا نقول بأنّ المصدر لا يدلّ على المرّة ولا على التكرار.
والصحيح: أنّ نفس المادّة ولو لم تدلّ إلّا على الحدث ونفس المعنى، إلّا أنّ المرّة والتكرار يمكن استفادتهما من القرائن.
وأمّا ما قاله فيمكن دفعه: بأن يقال: بأنّ المصدر وإن لم يكن هو الأصل للمشتقّات، إلّا أنّ مادّته هي عين مادّة المشتقّات.
وحيث كانت كذلك، ولكن بما أنّ النسبة غير محفوظة في الجميع، فلا محالة: لا يؤخذ فيها، لا المرّة، ولا التكرار، بل هي إنّما تدلّ على الطبيعة ونفس الحدث فقط.
وأمّا الهيئة ـ أي: هيئة الأمر ـ فلا دلالة لها إلّا على طلب وجود ذلك الحدث، لا على خصوصيّةٍ أُخرى، فلا دلالة لها ـ هي أيضاً ـ لا على المرّة ولا التكرار.
ولنعم ما أفاده اُستاذنا الأعظم في المقام بقوله:
«فالنتيجة: أنّ هذا النزاع لا يقوم على أساس صحيح وواقع موضوعيّ، فعندئذٍ: إن قام دليل من الخارج على تقييد الطلب بإحدى الخصوصيّات المذكورة فهو، وإلّا، فالمرجع ما هو مقتضى الأصل»( ).
فلابدّ من معرفة أنّ مقتضى الأصل أيّ شيءٍ هو؟
فنقول: إذا عرفنا من الخارج أنّ المطلوب من الأمر هو صرف الوجود، كالحجّ، يحصل الامتثال ويسقط الأمر بالمرّة. كما أنّه لو عرفنا أنّ المطلوب منه هو الوجود الساري، فلا يحصل الامتثال بالفرد، وليس معنى ذلك: إثبات دلالة الأمر على التكرار، بل إنّما هو من ناحية أنّ الأمر الانحلاليّ يتعدّد بتعدّد الموضوع.
فوجوب الصلاة في قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾( )، يتعدّد بتعدّد الدلوك؛ لأنّ الظاهر منه: أنّه متعلّق بالوجود الساري، فلا يحصل الامتثال ـ كما ذكرنا ـ بمجرّد وجود أحد أفراده، بل لابدّ فيه من الإتيان بجميع الأفراد، وإن كانت نتيجته هو التكرار وإيجاد الطبيعة مراراً، ولمّا كان هذا لا يستفاد من ناحية الدلالة اللّفظيّة، فمن الواضح أنّه لا يصحّ معه أن يقال: إنّ صيغة الأمر تدلّ على التكرار، بل التكرار ـ كما اتّضح ـ إنّما يُفهم من انحلال القضيّة الكلّية إلى قضايا متعدّدة، ولا فرق في ذلك بين القضايا الكلّية والجزئيّة، بل حتى القضايا الجزئيّة لابدّ فيها من التكرار على هذا الفرض.
فما استدلّ به القائل بالتكرار من التمثيل بالصلاة في غير محلّه، كما بيّنّا آنفاً؛ لأنّ تكرار الصلاة لا يستفاد إلّا من دليلٍ خارجيّ، وهو الانحلال.
تماماً كما أنّ دلالة بعض الأوامر على المرّة تكون بالدليل الخارجيّ، ومن الخارج فقط يُفهم أنّ المراد منه صرف الوجود، بل مطلق وجود الطبيعة المعرّاة حتى من هذا القيد؛ لأنّ كلّ القيود زائدة، فتُدفع بالأصل، والأمر ـ كما مرّ ـ لا يقتضي إلّا طرد العدم، ونقض العدم الأزليّ، وهو يتحقّق بأوّل الوجود.
وأمّا القول: بأنّه لا معنى لوقوع النزاع هنا؛ لأنّ كلّاً من المرّة والتكرار قد يُستَفاد من القرائن، كمقدّمات الحكمة وغيرها. فالأمر تارةً يستفاد منه أنّ المادّة مطلوبة على نحو الاستمرار، وأُخرى يستفاد منه كفاية المرّة، وقد يقتضي إيجاد المطلوب بنحو الطبيعة السارية، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ﴾( )، وقوله: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾( ).
ففيه: أنّه غير تامّ؛ لأنّ النزاع في أنّ الأمر هل يدلّ على المرّة أم على التكرار، إنّما هو فيما إذا كانت الدلالة من نفس اللّفظ، لا من الخارج.
ثمّ إنّ المحكيّ عن صاحب الفصول: أنّ هذا البحث إنّما يأتي بالنسبة إلى الهيئة فقط، لاتّفاق الاُدباء على أنّ المصدر المجرّد عن اللّام والتنوين يدلّ على الماهيّة المطلقة والطبيعة الصرفة، وحيث إنّ المصدر هو أصل المشتقّات، وهو المادّة لها، فلا يبقى ـ حينئذٍ ـ مورد للنزاع بالنسبة إلى المادّة.
قال في الفصول ـ ما لفظه ـ: «إنّما حرّرنا النزاع في الهيئة لنصّ جماعة عليه؛ ولأنّ الأكثر حرّروا النزاع في الصيغة، وهي ظاهرة، بل صريحة فيها؛ ولأنّه لا كلام في أنّ المادّة ـ وهي المصدر المجرّد عن اللاّم والتنوين ـ لا تدلّ إلّا على الماهيّة من حيث هي، على ما حكى السكاكيّ وفاقهم عليه، وخصّ نزاعهم في أنّ اسم الجنس هل يدل على الجنس من حيث هو أو على الفرد المنتشر بغير المصدر. ويؤيّد ذلك أو يدلّ عليه: عدم احتجاج القائل بالمرّة هنا بدلالة المادّة عليها، مع أنّ من الموادّ ما لا نزاع في دلالته على الدوام»( ).
وفيه:
أوّلاً: لا وجه للقول بأنّ المصدر أصلاً، بل الأصل إنّما هو (ض ر ب)؛ لأنّ المصدر هو أن يكون جارياً في جميع المشتقّات، وأنّ لها هيئةً وما كان ذا هيئة لا يمكن أن يقع أصلاً للغير.
وثانياً: أنّه لا يمكن وجود المادّة بدون الهيئة، وإنّهما متلازمان، وعوارض أحدهما تُنسب إلى الاُخرى لمكان الاتّحاد.
فإذا عرفت هذا، فنقول:
إن قام الدليل من الخارج بحيث يدلّ على المرّة والتكرار فهو، وإن لم يقم عليه دليل، فتارةً: نتكلّم بما هو مقتضى الأصل اللّفظيّ، وأُخرى: بما هو مقتضى الأصل العمليّ.
وأيضاً: فتارةً يقع الكلام في الأفراد الطوليّة، وأُخرى في الأفراد العَرَضيّة.
أمّا بالنسبة إلى الأصل اللّفظيّ والأفراد الطوليّة، فنقول:
لا بأس بالتمسّك بالإطلاق لإثبات الاكتفاء بالمرّة، أي: بعد ما ذكرنا أنّ متعلّق الأمر هو صرف الوجود، وأنّ الاكتفاء بالمرّة يكون من جهة انطباق الطبيعة عليها خارجاً، الموجب لحصول الغرض وسقوط الأمر، فلا يبقى ـ حينئذٍ ـ أيّ مقتضٍ للتكرار.
وكذا الحال في الأفراد العَرَضيّة، والدلالة على الفرد؛ فإنّه يكفي الأخذ بما مقتضى الإطلاق، ويكتفى بالفرد الواحد من جهة انطباق الطبيعة عليه في الخارج الموجب لحصول الغرض وسقوط الأمر.
وأمّا من ناحية الأصل العمليّ: فإنّه يكتفى بالمرّة أيضاً، ويكفي الإتيان بالفرد الواحد؛ لأنّ الزائد يحتاج إلى مؤونة زائدة، فيمكن رفعه بالأصل.
وبعبارة أُخرى: فإنّ الثابت في ذمّة المكلّف هو طبيعيّ الفعل، فإثبات التكرار أو المرّة في الأفراد الطوليّة، والتعدّد وعدمه في الأفراد العَرَضيّة يحتاج إلى دليل، وحيث لا دليل عليه فمقتضى الأصل هو البراءة، فإذا رفعنا كلا الأمرين بالأصل، فلم يَبْقَ إلّا إيجاد الطبيعة، وهو يحصل بالمرّة.