مسألة اقتضاء النهي الفساد

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

مسألة اقتضاء النهي الفساد


الكلام في أنّ النهي إذا تعلّق بالعبادة أو المعاملة هل يوجب الفساد أم لا؟ والكلام يقع في مقامين:
المقام الأوّل: في النهي عن العبادة.
والمقام الثاني: في النهي عن المعاملة.
ولابدّ أوّلاً من بيان اُمور:

الأمر الأوّل:
في الفرق بين هذه المسألة ومسألة الاجتماع:
لا يخفى: أنّ موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي هو أنّ الأمر والنهي قد تعلّقا بعنوانين بينهما افتراق في الجملة وقد ينطبقان على واحد.
وأمّا موضوع هذه المسألة فهو ما إذا تعلّق النهي بعين ما تعلّق به الأمر في العبادات، أو الإمضاء في المعاملات، أو ببعضه، فموضوع تلك المسألة ـ إذاً ـ مغاير لموضوع هذه المسألة. والكلام في تلك المسألة يدور حول أنّ كلّاً منهما هل يسري إلى متعلّق الآخر أم لا؟ وأمّا هنا فالاتّحاد مسلّم ومفروغ عنه.
نعم، بناءً على السراية في تلك المسألة تكون موارد الاجتماع من صغريات هذه المسألة.
ولا يقتصر الفرق بين المسألتين على الفرق بينهما موضوعاً، بل هناك فرق بينهما محمولاً ـ أيضاً ـ؛ إذ إنّ المحمول في مسألة الاجتماع هو أنّه هل يسري ويتّحد المتعلّقان أم لا؟ وأمّا في هذه المسألة بعد الفراغ عن السراية، فهل يقتضي النهي الفساد أم لا؟
وأيضاً: فالفساد هنا ناشئ عن النهي، لكن بوجوده الواقعيّ، ولو لم يصل إلى مرتبة التنجّز؛ لأنّ المسألة داخلة في باب التعارض، فإذا ورد النهي، كشف عن عدم المصلحة، وإذا لم تكن هناك مصلحة، لم تصحّ العبادة؛ لأنّ صحّتها ـ كما هو معلوم ـ منوطة بالأمر، أو بالملاك، وبما أنّ هنا متعلّقاً واحداً، فيكون النهي كاشفاً عن عدم الملاك في الأمر، فلا يكون هناك ما يصحّح العبادة.
وأمّا في مسألة الاجتماع، فإنّ فساد العبادة مترتّب على تنجّز النهي؛ لأنّ تلك المسألة داخلة في باب التزاحم، فيكون الملاك في كليهما موجوداً، والتزاحم بينهما إنّما يكون في مقام الامتثال، من جهة عدم قدرة المكلّف على الإتيان بهما جميعاً.
ففساد العبادة هنا ناشئ عن عدم صلاحيّة الفعل للمقرّبيّة، أو عن عدم تمشّي قصد القربة، وكلاهما راجعان إلى مقام التنجّز، ومن هنا قالوا بصحّة العبادة في المكان المغصوب في صورة الجهل.

الأمر الثاني:
هل هذه المسألة من المسائل العقليّة أم لا؟
أدخل بعض المحقّقين المسألة في المسائل اللّفظيّة، ووجهه: <هو وجود القول بدلالة النهي على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة العقليّة بين النهي والفساد فيها، فلو جُعل البحث بحثاً عقليّاً لم يكن هذا القول من أقوال المسألة، بخلاف ما لو جعل البحث لفظيّاً، فإنّه يكون من أقوالها>( ).
ولكنّ الحقّ: أنّ هذه المسألة ـ هي كمسألة الاجتماع ـ من المسائل العقليّة؛ لأنّ النزاع هنا في حكم العقل بالملازمة بين الحرمة والفساد، بلا فرق بين أن يكون الدالّ على الحرمة هي صيغة النهي أو الإجماع أو الضرورة أو غير ذلك.

الأمر الثالث:
هل هذه المسألة من المسائل الاُصوليّة أم لا؟
الحقّ: أنّها منها؛ لأنّ نتيجتها تقع كبرى في قياس يستنتج منه الحكم الكلّيّ الإلهيّ بعد ضمّ الصغرى إليها، والمسائل الاُصوليّة دائماً تثبت الكبرى، فإذا حُكم في الاُصول بأنّ النهي يدلّ على الفساد، أي: بأنّ هناك ملازمة بين الحرمة والفساد، فإذا كان هناك عبادة منهيّ عنها، كقوله: <دعي الصلاة أيّام أقرائك>( )، أو كانت المعاملة الفلانيّة منهيّاً عنها، كالنهي عن البيع في يوم الجمعة، فيحكم بالفساد، أي: بفساد كليهما.
وأمّا لو قلنا في الاُصول بأنّ النهي لا يقتضي الفساد، فحينئذٍ: يحكم بصحّة العبادة والمعاملة، وعليه: فهذه المسألة من المسائل الاُصوليّة لا محالة.

الأمر الرابع:
هل النهي المأخوذ في عنوان المسألة يشمل النهي التنزيهيّ أم لا، بل المراد منه خصوص النهي التحريميّ؟
قد يقال: بالعموم؛ لأنّ الملاك، وهو التنافي، كما أنّه موجود في النهي التحريميّ، فكذلك هو موجود في النهي التنزيهيّ أيضاً؛ لأنّ ما تقتضيه العبادة هي المحبوبيّة، وهي لا تجتمع مع المبغوضيّة، ولو كانت غير إلزاميّة.
هذا في العبادات.
وأمّا في المعاملات، فإنّه لا منافاة بين النهي التنزيهيّ والفساد، ولو تعلّق بمعناه الاسم المصدريّ، بخلاف النهي التحريميّ، فإنّه إذا تعلّق بالمعاملة على نحو الاسم المصدريّ، فمعناه مبغوضيّة وقوع هذه المعاملة، ومنع الشارع عن إيقاعها، وهذا ينافي الإمضاء.
ولأجل ذلك استشكلوا على الشيخ الأعظم حيث خصّ العنوان بالنهي التحريميّ دون التنزيهيّ، فقال ـ على ما في التقريرات ـ: <الثاني: ظاهر النهي المأخوذ في العنوان هو النهي التحريميّ، وإن كان مناط البحث في التنزيهيّ موجوداً، وذلك لا يوجب تعميم العنوان>( ).

الأمر الخامس:
أنّ النهي المأخوذ في العنوان يشمل النهي الغيريّ الأصليّ، كالنهي عن لباس الحرير أو غير المأكول في الصلاة؛ لأنّ المركّب مقيّد بعدمه، ومعلوم أنّ كلّ مركّب فهو ينتفي بانتفاء أحد قيوده، ومن جملة قيوده هنا هو القيد العدميّ، فلو كانت الصلاة فاقدةً لهذا القيد كانت فاسدة لا محالة.
هذا في النهي الغيريّ الأصليّ.
وأمّا النهي الغيريّ التبعيّ، أعني: النهي الذي لا يكون مدلولاً للخطاب بحيث يكون مقصوداً من اللّفظ، بل كان لازماً للمراد باللّزوم العقليّ الذي يحكم به العقل بملاحظة الخطاب، وشيء آخر وهو مقدّميّة ترك الضدّ لفعل الضدّ الآخر، كما إذا أمر بإزالة النجاسة عن المسجد المتوقّفة على مقدّمات، منها: ترك الصلاة، فيقال: إنّ الصلاة حينئذٍ تكون منهيّاً عنها بالنهي الغيريّ التبعيّ، فبناءً على ثبوت المقدّميّة، فإنّ مثل هذا النهي، وهو النهي عن الصلاة بالنهي الغيريّ، لا يضرّ مع وجود الملاك في المنهيّ عنه، ولا يكشف عن عدمه. فلا يدلّ على الفساد.
ولكنّ النهي مطلقاً، ولو كان تبعيّاً، يكون موجباً للفساد، إذا كان عباديّاً، ولاسيّما بعدما جعلوا الثمرة في باب <أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه> هي فساد الضدّ إذا كان عباديّاً.
والحاصل: أنّ العبادة، وهي الصلاة في المثال، تبطل إذا كان الإتيان بها موجباً لترك الإزالة المأمور بها.

الأمر السادس:
لا يخفى: أنّ المبحوث عنه في هذه المسألة إنّما هو العبادة بالمعنى الأخصّ، أي: ما يقصد منها القربة، أي: يشترط في صحّتها قصد القربة. وأمّا العبادة بالمعنى الأعمّ فلا؛ فإنّ غسل الثوب النجس ـ مثلاً ـ يجتمع مع النهي، إذ لو ورد نهي عن غسل الثوب النجس بالماء المغصوب؛ فإنّ هذا النهي لا يدلّ على فساد المغسول، فالنهي لا يؤثّر فيه أصلاً، بعد أن كان أثره، وهو طهارة الثوب، ملازماً له دائماً، ولا يتخلّف عنه.

الأمر السابع:
أنّه يدخل في محلّ النزاع كلّ معاملة كانت قابلةً للاتّصاف بالصحّة والفساد، وأمّا ما لا يقبل الاتّصاف بهما كليهما، إمّا لعدم كونه ذا أثر أصلاً، أو لأنّه ذو أثر ولكن كان ملازماً له دائماً لا يتخلّف عنه، فهذا لا يدخل في محلّ النزاع؛ لعدم اتّصافه بالفساد، فلا معنى للبحث عنه.
ومن هنا ظهر: أنّه لا وجه لما صنعه المحقّق النائيني من تخصيص الكلام بالعقود والإيقاعات، بدعوى: عدم توهّم اقتضاء النهي في مثل التحجير للفساد( ). فإنّها تندفع بأنّ الملاك الذي يقتضي الفساد في مثل العقود يقتضيه في مثل التحجير.
نعم، إذا ورد النهي على المعاملات بنحو المعنى الاسم المصدريّ كان موجباً للبطلان إذا كان النهي تحريميّاً، وكانت المعاملة من قبيل العقود والإيقاعات.
وأمّا المعاملات بالمعنى الأعمّ، فلا، فلو نهى الوالد ولده عن إحياء الأرض فأحياها، كان العمل مؤثّراً، وإن كان وروده بنحو المعنى الاسم المصدريّ، وبناءً على وجوب إطاعة الوالد مطلقاً، وكذا لو نذر أو حلف على عدم الإحياء، ثمّ خالف وأحياها.

الأمر الثامن:
في تفسير المراد من الصحّة والفساد:
قال صاحب الكفاية: <أنّ الصحّة والفساد وصفان إضافيّان يختلفان بحسب الآثار والأنظار، فربّما يكون شيء واحد صحيحاً بحسب أثر أو نظر، وفاسداً بحسب آخر، ومن هنا صحّ أن يقال: إنّ الصحّة في العبادة والمعاملة لا تختلف، بل فيهما بمعنىً واحد، وهو التماميّة، وإنّما الاختلاف فيما هو المرغوب منهما من الآثار التي بالقياس عليها تتّصف بالتماميّة وعدمها>( ).
لا يخفى: أنّ الصحّة تطلق تارةً ويراد بها ما يقابل العيب، فالصحيح على هذا هو ما ليس بخارج عن الخلقة الأصليّة. وتطلق أُخرى في مقابل الفساد، فالصحيح بناءً عليه هو ما يترتّب عليه الأثر. والمراد في محلّ البحث عن أنّ النهي يقتضي الفساد أم لا هو هذا المعنى الثاني، أي: أنّ النهي هل يوجب عدم ترتّب الأثر، أي: عدم الصحّة التي مقابل الفساد أم لا؟
ولا يخفى ـ أيضاً ـ: أنّ التقابل بينهما هو من باب التقابل بين العدم والملكة، وليس من قبيل التضادّ؛ لأنّ الفساد ليس بأمرٍ وجوديّ، ولا من تقابل السلب والإيجاب؛ لأنّ الفساد إنّما يترتّب على شيء يكون قابلاً للصحّة، ولا يترتّب على عدم الصحّة مطلقاً.
فالصحيح ـ إذاً ـ هو ما يترتّب عليه الأثر المطلوب، والفاسد هو ما لا يترتّب عليه الأثر المطلوب ممّا هو قابل لأن تترتّب عليه الصحّة، وهما، أي: الصحيح والفاسد، لا يصدقان إلّا في المركّبات التي لها أجزاء وشرائط، بحيث لو أتيت بالشيء تامّ الأجزاء والشرائط سمّي صحيحاً، وإلّا، سمّي فاسداً.
فبناءً على هذا: فالبسائط لا تتّصف بالصحّة ولا بالفساد، بل الأمر في البسائط دائر بين الوجود والعدم، فإذا وجدت فهي صحيحة؛ إذ ليس لها أجزاء وشرائط حتى يقال: إنّ المركّب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه، وإن لم توجد كانت من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع بالنسبة إلى الصحّة والفساد؛ لأنّهما وصفان لا يترتّبان ولا يُحملان على الشيء إلّا بعد وجوده.
ثمّ إنّ المركّب وإن كان هو الذي يتّصف بالصحّة والفساد، ولكن ليس كلّ مركّب قابل لذلك؛ فإنّ موضوعات الأحكام، وإن كانت مركّبة، لا يترتّب عليها الصحّة والفساد، كما في الاستطاعة المركّبة من البلوغ والعقل، فإنّ أمرها يدور بين الوجود والعدم، لا بين الصحّة والفساد؛ فإنّه إن كانت الشروط جميعاً موجودة فالموضوع موجود، وإن فقد الموضوع، ولو بفقد بعض شروطه، فالموضوع مفقود.
نعم، الذي يتّصف بهما هو متعلّقات الأحكام، كالحجّ والصلاة، وما يُلحق بها، كالأسباب في العقود؛ فإنّ العقد مركّب من الإيجاب والقبول، فهو تارةً يترتّب عليه الصحّة إذا كان تامّ الأجزاء والشرائط، وأُخرى يترتّب عليه الفساد إذا لم يكن كذلك. وأمّا الملكيّة والزوجيّة وأمثالهما، فبما أنّهما بسيطان، فلا يدور أمرهما مدار الصحّة والفساد.
وبالجملة: فلابدّ أن يكون للشيء أثر شرعيّ حتى يتّصف بالصحّة أو بالفساد، وأمّا لو لم يكن له أثر شرعيّ، أو كان أثره غير منفكّ عنه، كالغصب الملازم للضمان، فلا مجال لأن يتّصف بهما.
وهل الصحّة والفساد أمران واقعيّان أم أمران مجعولان شرعاً؟
أم أنّ هناك تفصيلاً بين العبادات والمعاملات، فهما مجعولان شرعاً في المعاملات دون العبادات؟
أم أنّ هناك تفصيلاً بين المعاملات الكلّيّة والمعاملات الشخصيّة، فهما مجعولان في الاُولى شرعاً دون الثانية؟
أم أنّ هناك تفصيلاً بين الحكم الظاهريّ والحكم الواقعيّ، فهما مجعولان في الأوّل شرعاً دون الثاني؟
وجوه بل أقوال.
اختار الاُستاذ الأعظم <التفصيل بين كون الصحّة والفساد في العبادات غير مجعولين شرعاً، وفي المعاملات مجعولين كذلك ..>( ). وقال: <إلى هنا استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة، وهي أنّ الصحّة والفساد في المعاملات أمران واقعيّان، وفي المعاملات أمران مجعولان شرعاً>( ).
ولكنّ الحقّ: أنّ الصحّة، وإن كانت بمعنى التماميّة، فإنّها البحث فيها يقع في مقامين؛ إذ إنّها:
تُلحظ تارةً بالنسبة إلى الأمر الواقعيّ.
وأُخرى بالنسبة إلى الأمر الثانويّ والظاهريّ.
أمّا الصحّة بالنسبة إلى الأمر الواقعيّ، فهي عند الفقيه تكون من الاُمور العقليّة؛ لوضوح أنّ العقل يحكم بسقوط الأمر بعد انطباق المأمور به على المأتيّ به، فلا يبقى هناك موجب للإعادة والقضاء، فليست الصحّة أمراً انتزاعيّاً.
وأمّا بالنسبة إلى الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهريّ أو الواقعيّ الثانويّ:
فتارةً: تكون الصحّة فيهما حكماً وضعيّاً شرعيّاً، كما إذا بقي من الملاك ـ بعد الإتيان بالمأمور به ـ مقدار يقتضي تشريع وجوب الإعادة أو القضاء، ولكنّ الشارع المقدّس تخفيفاً على العباد لم يوجب شيئاً منهما، واكتفى بالمأمور به بالأمر الثانويّ أو الظاهريّ تفضّلاً عليهم، فلا محالة: تكون الصحّة ـ حينئذٍ ـ حكماً وضعيّاً شرعيّاً، لا عقليّاً، ولا انتزاعيّاً.
وأُخرى: تكون الصحّة حكماً عقليّاً، كما إذا فرض وفاء المأمور به بالأمر الثانويّ الظاهريّ أو الواقعيّ بتمام الملاك أو بمعظمه، بحيث لا يقتضي الباقي تشريع وجوب الإعادة أو القضاء، والصحّة ـ حينئذٍ ـ حكم عقليّ؛ لأنّها تكون من اللّوازم العقليّة للإتيان بالمأمور به.
فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الصحّة عند المتكلّم أمر انتزاعيّ ناشئ من انطباق المأمور به على المأتيّ به. وأمّا عند الفقيه، فالصحّة بالنسبة إلى الأمر الواقعيّ الأوّليّ من اللّوازم العقليّة، وبالنسبة إلى الأمر الثانويّ أو الظاهريّ إمّا حكم وضعيّ شرعيّ، وإمّا حكم عقليّ.
ثمّ إنّ الصحّة والفساد من الاُمور الإضافيّة، أي: ليس لهما حدّ معيّن واقعاً، بل ربّما يكون الشيء الواحد صحيحاً بالنسبة إلى أثر، وفاسداً بالنسبة إلى أثرٍ آخر؛ فإنّ المأمور به بالأمر الظاهريّ، كالوضوء المستصحب، صحيح، كما في حال التقيّة، ويسقط الأمر به إذا جيء به مطابقاً للأمر الظاهريّ، ولكنّه مع ذلك، يكون فاسداً بالنسبة إلى أمرٍ آخر، كسقوط القضاء، أو في غير حال التقيّة، فإنّه يكون صحيحاً بالنسبة إلى أمرهما، دون الأمر الواقعيّ. كما أنّه قد يكون الشيء الواحد صحيحاً بنظر العرف دون الشرع، كما في بيع المنابذة.
ويمكن أن يقال: بأنّ الصحّة بمعنى التماميّة، فالصحيح هو ما يكون واجداً لجميع الأجزاء والشرائط، وأمّا الفاسد فهو أن يكون العمل فاقداً لبعض الأجزاء أو الشرائط، فإذا كان كذلك، لم يكن هناك من فرق بين الصحّة عند الفقيه والصحّة عند المتكلّم، وإن عرّف المتكلّمون الصحّة بأنّها بمعنى موافقة الشريعة، والفقهاء بأنّها بمعنى إسقاط القضاء.
إلّا أنّ هذا لا يعدو أن يكون محض اختلاف في الأغراض، وإلّا، فالصحّة عند الجميع بمعنى واحد، وهو: التماميّة، غاية الأمر: أنّ نظر الفقيه كان إلى إسقاط الإعادة والقضاء فعرّفها بذلك، ونظر المتكلّم إلى حيثيّة استحقاق الثواب والعقاب، فلذا عرّفها بموافقة الأمر أو موافقة الشريعة.
وبعبارة أُخرى: فإنّ المقصد الذي مشى عليه كلّ منهما هو الذي دعاهما إلى التعبير عن التماميّة ـ التي هي حقيقة معنى الصحّة ـ بما يكون من لوازمها.
فإذا اتّضح هذا: فإنّ النسبة بين التعريفين هي العموم المطلق؛ فإنّ كلّ ما يسقط وجوب الإعادة أو القضاء يكون ـ لا محالة ـ موافقاً للأمر والشريعة، ولا عكس، أي: ليس كلّ ما هو موافق للأمر يكون مسقطاً لهما؛ لأنّ المأتيّ به مع الطهارة المستصحبة يكون موافقاً للأمر، ولكن إذا انكشف الخلاف فلا يكون مسقطاً للأمر بالإعادة والقضاء.
فإذا عرفت هذا، فنقول:
تحقيق هذه المسألة منوط بمعرفة أقسام الأمر، وهي ثلاثة:
الأوّل: الواقعيّ الأوّليّ، كالأمر بالصلاة، كقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ﴾( ).
الثاني: الواقعيّ الثانويّ، كالأمر بالوضوء بغسل الرجلين أو الأمر بالصلاة متكتّفاً تقيّةً.
الثالث: الظاهريّ، كالصلاة مع الوضوء المستصحب.
وحينئذٍ نقول: إنّ فرض كون النسبة بين التعريفين هي العموم والخصوص المطلق منوط:
أوّلاً: بأن يكون المراد من تعريف المتكلّم (موافقة الأمر) ما يعمّ الأقسام الثلاثة المذكورة للأمر. إذ لو كان المراد من (موافقة الأمر) خصوص الأمر الواقعيّ الأوّليّ، فلو جيء بالواقعيّ الثانويّ، أو بالظاهريّ، فلا يكون موافقاً، كما أنّه لا يكون مسقطاً للقضاء والإعادة.
وثانياً: بأن يبني الفقيه على عدم الإجزاء بموافقة الأمر الظاهريّ، فحينئذٍ يصدق أنّ كلّ ما يسقط الإعادة والقضاء موافق للأمر، ولا عكس، أي: لا يصدق أنّ كلّ ما هو موافق للأمر على نحو الإطلاق مسقط للإعادة أو القضاء؛ وذلك لأنّ المأمور به بالأمر الظاهريّ، وإن كان موافقاً للأمر عند المتكلّم؛ لأنّ المفروض أنّه أراد بالأمر في تعريفه ما يعمّ الأقسام الثلاثة، إلّا أنّه ليس مسقطاً للإعادة أو القضاء؛ لأنّ الفقيه لا يقول بمسقطيّة الأمر الظاهريّ لهما.
والحاصل: أنّه بانتفاء أحد الأمرين ـ بأن خصّ المتكلّم الأمر بالواقعيّ، أو بنى الفقيه على الإجزاء ـ تنتفي النسبة المذكورة بين التعريفين، وتكون النسبة بينهما هي التساوي؛ لأنّ موافقة مطلق الأمر مسقطة للإعادة أو القضاء، وكذا كلّ مسقط لهما موافق للأمر، فعلى انتفاء أوّل الأمرين تكون الصلاة مع الطهارة المستصحبة موافقة للأمر الظاهريّ، ومسقطة لهما. وعلى انتفاء ثانيهما لا تكون الصلاة المذكورة موافقة للأمر، ولا مسقطة للإعادة أو القضاء.

في بيان معنى العبادة والمعاملة:
لا يخفى: أنّ تحقيق مسألة أنّ النهي في العبادة أو المعاملة هل هو موجب للفساد أم لا؟ لا يتمّ إلّا بعد تحديد ما هو المراد من كلٍّ من العبادة والمعاملة.
أمّا المراد من العبادة: فأحد معنيين:
الأوّل: ما يكون بذاته عبادة من دون إناطة عباديّتها بأمر، فالعبادة حينئذٍ فعليّة ذاتيّة، كالسجود والركوع ونحوهما ممّا يكون بنفسه عبادة، فإذا فرض تعلّق النهي بهذا القسم من العبادات، ترد عليه الحرمة، ولكنّ هذه الحرمة الآتية من قبل النهي لا تكون سبباً لإخراجه عن العباديّة، لكون عباديّته ذاتيّة بحسب الفرض. نعم، تكون سبباً لإخراجهما عن المقرّبيّة.
الثاني: أنّ المراد بالعبادة هو الأعمّ من العبادة الفعليّة الناشئة عباديّتها عن ذاتها، كالركوع والسجود كما تقدّم آنفاً، أو ما تكون عباديّته تعليقيّة، بمعنى: أنّه لو أمر به لصار عبادة، وكان أمره عباديّاً بحيث لا يسقط إلّا إذا أتى به على وجه قربيّ، كالصلاة في أيّام الحيض، أو صوم العيدين.
التحقيق: أنّ النزاع لا يأتي في العبادة التقديريّة؛ لأنّ المفروض أنّ العبادة التقديريّة لا أمر فيها فعلاً، وعدم الأمر كافٍ في فسادها، فلا تصل النوبة إلى تأثير النهي في الفساد، كما هو ظاهر عنوان المسألة، حيث أُسند الفساد فيه إلى النهي.
فالأَولى أن يُقال: المراد من العبادة هو ما لولا النهي لكان عبادة، بحيث لو تعلّق به النهي لتعلّق بما هو عبادة فعلاً، فلو اُريد من العبادة هذا المعنى ـ أي: العبادة لولا النهي ـ سلم من الإشكال.
وأمّا لو فرض أنّ المراد منها هي العبادة الفعليّة، فمن الواضح أنّه لا يمكن تأتّي النزاع فيها حينئذٍ، ضرورة استحالة اجتماع الأمر والنهي؛ فإنّ معنى حرمتها فعلاً، أنّها مبغوضة في نظر المولى ولا يمكن التقرّب بها إليه، ومعنى كونها عبادة له، أي: يمكن التقرّب بها، ومن المعلوم استحالة اجتماعهما.
وأمّا المراد من المعاملة: فهو كلّ شيء اعتباريّ قصديّ يتوقّف عليه الأثر شرعاً أو عرفاً، إذا قصد اعتباره وإنشاؤه، فالمعاملة ـ على هذا التعريف ـ شاملة للعقود والإيقاعات، وأمّا ما لا يتوقّف أثره على القصد والإنشاء، بل هو متوقّف على وجوده، كتطهير الثوب ونحوه، فهو خارج عن محلّ البحث.
ثمّ هل الصحّة والفساد تردان على الموجودات الخارجيّة أم على الماهيّة؟
الحقّ: أنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي، لا موجودة ولا معدومة في حدّ نفسها، إلّا أنّها تعدّ من المعدومات في الخارج، ولا يعقل عروض الوصفين المذكورين للمعدوم. فإنّ الصحّة ـ كما عرفنا ـ هي بمعنى التماميّة، أي: الإتيان بالمأمور به تامّاً في العبادات والمعاملات، وهذا لا يكاد يمكن إلّا في الفرد الخارجيّ، لا الأمر العدميّ. هذا من ناحية.
ومن ناحية أُخرى، فإنّ الشيء لا يتّصف بالصحّة والفساد في مقام الجعل، بل في مقام الامتثال، بلا فرقٍ في ذلك بين العبادات والمعاملات. فإذا جيء بهما في الخارج تامّين، انطبق المأمور به والمنهيّ عنه عليهما، وهذا الانطباق تكوينيّ قهريّ، وهو معنى الامتثال، ومعلوم أنّ الانطباق وعدمه إنّما يكونان باعتبار الخارج، لا باعتبار عالم الذهن، الذي هو عالم الماهيّات.

في تفسير المراد من الأثر:
عرفنا أنّ العبادة التامّة الأجزاء والشرائط ـ مثلاً ـ هي العبادة التي يترتّب عليها الأثر، إذا انطبق المأمور به على المأتيّ به منها في الخارج، فما هو المراد من الأثر؟
والجواب: أنّ المراد بالأثر هو الأثر المترتّب على العمل قبل ورود النهي، وأمّا الأثر الذي يأتي بعد ورود النهي، فلا، كما إذا أتى ببعض المحرّمات، فإنّه يترتّب عليه بعض الآثار، من الكفّارات والحدود ونحو ذلك.
والمتحصّل ممّا ذكرناه سابقاً ـ من أنّ التقابل بين الصحّة والفساد هو من باب تقابل الملكة والعدم ـ: أنّ الفساد لا يصدق إلّا في مورد يكون قابلاً للصحّة، بلا فرق في ذلك بين أن يكون المنهيّ عنه عبادة أو معاملة، كالبيع ـ مثلاً ـ؛ فإنّه إذا كان صحيحاً جامعاً لكافّة الأجزاء والشرائط يترتّب عليه الأثر، وأمّا إذا كان فاسداً بأن لم يستجمع كافّة الأجزاء والشرائط، فلا يترتّب عليه الأثر، فمعنى عدم التماميّة والفساد إنّما هو اختلال بعض ما يترتّب الأثر عليه، كما لو فرضنا أنّه يعتبر في العقد العربيّة، أو تقدّم الإيجاب على القبول، أو عدم الفصل بينهما، ونحو ذلك، وكذا الصلاة ـ مثلاً ـ؛ فإنّها قابلة لأن تتّصف بأنّها صحيحة تارةً وفاسدة أُخرى. وبعبارة أُخرى ـ كما مرّ سابقاً ـ: فلابدّ أن يكون المأتيّ به مركّباً ذا أجزاء حتى يصدق عليه أنّه صحيح أو أنّه فاسد.
إذا عرفت هذا، فهل هناك أصل يمكن الرجوع إليه عند الشكّ في دلالة النهي على الفساد أم لا؟
قال في الكفاية: <لا يخفى: أنّه لا أصل في المسألة يُعوّل عليه لو شُكّ في دلالة النهي على الفساد. نعم، كان الأصل في المسألة الفرعيّة الفساد لو لم يكن يكن هناك إطلاق أو عموم يقتضي الصحّة في المعاملة. وأمّا العبادة فكذلك، لعدم الأمر بها مع النهي عنها، كما لا يخفى>( ).
وبالجملة: فلا أصل يمكن أن يُرجع إليه في المقام؛ لأنّ النهي إمّا أن يكون في نفس الأمر والواقع دالّاً على الفساد وإمّا أن لا يكون دالّاً عليه، وحيث لم يعلم شيء منهما، فليس له حالة سابقة معلومة حتى يمكن استصحابها.
فإن قلت: الأصل عدم وضع لفظ النهي للفساد.
قلت: نعم، ولكنّه معارَض بأصالة عدم وضعه للصحّة، فيتساقطان.
وأمّا في المسألة الفرعيّة فيجري الاستصحاب بالنسبة إلى الاسم المصدريّ، لا بالنسبة إلى المصدر، أي: الأسباب؛ لأنّ الأسباب لا حالة سابقة لها حتى يمكن جريان الاستصحاب لإثباتها.
وأمّا بالنسبة إلى الأثر، وهو الانتقال، ففي المعاملات عند ورود النهي تجري أصالة الفساد وعدم انتقال الملك وبقاء كلٍّ من المالين عن ملك مالكه.
نعم، لو كان هناك إطلاق أو عموم، فلا تصل النوبة إلى الأصل، كما إذا شككنا بأنّ النهي عند النداء هل هو نهي تكليفيّ أو وضعيّ، فببركة مثل قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾( )، أو قوله: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾( )، يمكن أن نحمل النهي على التكليفيّ دون الوضعيّ فنحكم بصحّة المعاملة.
فإذا عرفت هذه المقدّمات، فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في النهي عن العبادة:
والنهي في العبادة: تارةً: يتعلّق بنفس العبادة، كصوم الوصال، أو صلاة الحائض، وأُخرى: يتعلّق بجزئها، كقوله: لا تقرأ سور العزائم في الصلاة، وثالثةً: بشرطها، كقوله: لا تتوضّأ بالماء المغصوب، ورابعةً: بوصفها، سواء كان ملازماً لها أو غير ملازم، فالملازم كالقراءة، وغير الملازم كالغصب؛ لأنّه قد لا يكون من أكوان الصلاة، كما إذا صلّيت في غير المكان المغصوب.
والنهي الوارد على الجزء والشرط والملازم: تارةً يكون على نحو الواسطة في الثبوت، وأُخرى على نحو الواسطة في العروض، فعلى الأوّل، يكون النهي ـ في الحقيقة ـ وارداً على ذات العبادة. وعلى الثاني، فالنهي ـ في الحقيقة ـ لم يرد على ذواتها، إلّا على نحو العرض والمجاز.
أمّا إذا تعلّق النهي بالعبادة بذاتها ـ سواء كان مع الواسطة في الثبوت أو بدونها ـ فإنّه يدلّ على الفساد ـ سواء كان إطلاق الأمر بدليّاً، كقولك: (صلّ)، أو شموليّاً ﻛ (أكرم العلماء) ـ لو فرض عباديّته، فهنا بما أنّ النسبة بين الأمر والنهي هي العموم المطلق، فلا محالة يتقيّد إطلاق الأمر بما عدا مورد النهي، وإذا لم يقيّد بذلك، فلابدّ من إلغاء النهي.
وحين ورود النهي على العبادة، فبما أنّ هذا النهي يدلّ ـ بطبعه ـ على الحرمة الذاتيّة وعلى المبغوضيّة، فلا يمكن أن يجتمع مع المحبوبيّة؛ لأنّ الضدّين ـ في أيّ وعاء كانا ـ لا يجتمعان، فيدلّ النهي ـ حينئذٍ ـ على الفساد؛ وذلك لأجل عدم وجود الأمر عندها، والعبادة تحتاج إلى الأمر، وبعد تعلّق النهي به لم يبقَ الأمر، لاستلزامه اجتماع الضدّين، كما عرفنا، وبعد عدم وجود الأمر بالعبادة، فلا محالة تكون فاسدة.
ولو قيل: بأنّا لا نحتاج في عباديّة العبادة إلى الأمر، بل يكفي في صحّتها الملاك ـ كما عليه اُستاذنا المحقّقوفاقاً للمحقّق النائيني( ) ـ إلّا أنّ هذا الملاك إنّما يكون مصحّحاً للعبادة إذا كان تامّاً في عالم ملاكيّته، ولم يكن مقهوراً بما هو أقوى منه؛ إذ الملاك المقهور غير صالح للعباديّة، وإلّا، لما صار مغلوباً.
ومن المعلوم: أنّ النهي عن العبادة يكشف عن ثبوت مفسدة فعليّة في العبادة تغلب وتقهر مصلحة الأمر وملاكه، لو فرض أنّه كان فيها جهة مصلحة، وإلّا، فمن الممكن أن لا يكون في العبادة المنهيّ عنها جهة مصلحة أصلاً. بل وعلى تقدير ثبوت المصلحة، فهي مقهورة ومغلوبة للمفسدة التي هي أقوى منها، والتي كانت سبباً لورود النهي، وإلّا، فلو كانت المصلحة مساوية أو أقوى من مفسدة النهي لم يرد النهي على العبادة أصلاً. فإذا كانت المصلحة مغلوبة فلا تكون قابلة للتقرّب، وكانت العبادة فاسدة لا محالة.
نعم، لو فرض أنّ العبادة لم يكن لها أمر، وكان الملاك موجوداً فيها، وكان عدم الأمر بها لأجل عدم القدرة عليها، لمكان المزاحمة، لا من جهة المغلوبيّة، فالعبادة تكون صحيحة حينئذٍ بالملاك، ولو لم يكن ثمّة أمر بها.
هذا إذا تعلّق النهي بذات العبادة، وأمّا إذا تعلّق بجزئها، فهو كالنهي المتعلّق بنفس العبادة ـ أيضاً ـ، بلا فرق بين أن يكون بنحو الواسطة في الثبوت أو العروض، إذ ليس الكلّ في الخارج إلّا نفس هذه الأجزاء، فكما أنّ ذات العبادة تكون مضادّة للنهي، فكذلك الجزء؛ فإنّ النهي عنه نهي عن العبادة ـ أيضاً ـ.
ومعه: لا تكون هذه العبادة تامّة الأجزاء والشرائط، ولا موافقةً للأمر والشريعة، ولا مسقطةً للقضاء ولا للإعادة ـ بلا فرق بين إعادة ذلك الجزء والإتيان بغيره الذي هو غير الجزء المحرّم وبين عدم الإتيان بغيره ـ، فلا تكون صحيحة، لا عند المتكلّم، ولا عند الفقيه، وإن قلنا بأنّ النهي كان بنحو الواسطة في العروض لا الثبوت.
وأمّا لو قلنا بأنّه على نحو الواسطة في الثبوت، فإنّ العبادة تكون باطلة قطعاً؛ وذلك لأنّ النهي عن جزء العبادة يقيّدها بعدم ذلك الجزء، ويُثبت مانعيّة وجوده مطلقاً، سواء كان الجزء من سنخ الأفعال أم كان من سنخ الأقوال، وسواء اقتصر على ذلك الجزء المنهيّ عنه، كما إذا اقتصر على قراءة سورة العزيمة بناءً على كونها منهيّاً عنها، أو لم يقتصر، كما إذا قرأ سورة أُخرى مباحة بعد سورة العزيمة أو قبلها، وسواء كان اعتبار ذلك الجزء في العبادة بشرط لا، كما إذا قلنا بحرمة القرآن بين السورتين في الصلاة، أو كان لا بشرط، كما إذا قلنا بجواز القرآن؛ فإنّه على جميع هذه التقادير يكون النهي عنه مفسداً للعبادة، وذلك لما ذكرناه من أنّ النهي عن الجزء يوجب تقييد العبادة بما عدا ذلك الجزء، فتكون بالنسبة إليه بشرط لا لا محالة، ومن الواضح أنّ نفس تقييد العبادة بعدم جزء يقتضي فساد العبادة الواجدة لذلك الجزء.
هذا وقد ذكر المحقّق النائيني في وجه البطلان أمرين آخرين:
الأوّل: شمول أدلّة الزيادة في المكتوبة الموجبة لبطلانها وفسادها.
والثاني: شمول أدلّة التكلّم العمديّ المبطل، إذا كان المنهيّ عنه من سنخ الأقوال.
قال: <مضافاً إلى أنّه يعمّه أدلّة الزيادة، ويكون قد زاد في صلاته ـ مثلاً ـ فتفسد. ومضافاً إلى أنّه يعمّه ـ أيضاً ـ أدلّة التكلّم إذا كان المنهيّ عنه من سنخ الأقوال، فإنّه وإن لم يخرج بالنهي عن كونه قرآناً ـ مثلاً ـ ولا يدخل في كلام الآدميّ، إلّا أنّه بعد النهي عنه يخرج عن أدلّة جواز القرآن والذكر في الصلاة، وبعد خروجه عن ذلك يندرج في إطلاقات مبطليّة مطلق التكلّم من غير تقييد بكلام الآدميّ، والقدر الخارج عن هذا الإطلاق هو التكلّم بالقرآن والذكر الجائز، ويبقى الذكر أو القرآن المنهيّ عنه داخلاً تحت الإطلاق. وممّا ذكرنا يظهر: أنّه لا فرق في بطلان الصلاة بقراءة العزيمة بين ما إذا قرأها بعد الحمد في مكان السورة، أو قراءتها في حال التشهّد، أو في الركوع، أو غير ذلك، إذ مناط الفساد مطّرد بعدما كانت العزيمة منهيّاً عنها في الصلاة مطلقاً وفي جميع الحالات، فتأمّل جيّداً>( ).
هذا إذا تعلّق النهي بالجزء، وأمّا إذا تعلّق بالشرط، فهو تارةً يكون من التوصّليات، وأُخرى من التعبّديات. أمّا إذا كان من الأوّل، فالنهي عنه لا يوجب الفساد، كالنهي عن غسل الثوب بالماء النجس، فلو غسل بدنه بماء مغصوب أو ثوبه لم تبطل صلاته؛ لأنّ الشرط خارج عن المشروط، وليس من الاُمور التعبّديّة حتى يسري بطلانه إلى العبادة.
وأمّا إذا كان عباديّاً، فالنهي عنه يرجع ـ في الحقيقة ـ إلى العبادة، فإذا كان الشرط باطلاً، فبطلانه يستلزم بطلان العبادة لا محالة، فإذا أتى بالعبادة بالشرط المنهيّ عنه، كما إذا صلّى متوضّأً بالماء المغصوب، كانت صلاته باطلة كوضوئه.
وأمّا إذا تعلّق النهي بالوصف، فنقول: الوصف على قسمين: فإنّه تارةً يكون متّحداً مع الموصوف ـ وهو العبادة ـ في الوجود، ويكون من قبيل الوصف الملازم، كالصلاة إلى القبلة، وأُخرى لا يكون كذلك، كالغصب. والأوّل ليس له وجود استقلاليّ مغاير للموصوف، كالجهر والإخفات في القراءة، حيث إنّه ليس للجهر وجود مغاير لوجود القراءة، بل هو من كيفيّاتها. والثاني له وجود استقلاليّ مغاير لوجود الموصوف، كالتستّر والاستقبال في الصلاة.
فإن كان على الوجه الأوّل، فالنهي عن الوصف ـ في الحقيقة ـ نهي عن نفس العبادة؛ لأنّهما ـ أي الوصف والموصوف متّحدان ـ، والنهي عن الوصف لا ينفكّ عن الموصوف، وإلّا، فلو قلنا بأنّ النهي عن الوصف المتّحد مع موصوفه ليس نهياً عن نفس الموصوف، لاستلزم ذلك اجتماع الضدّين، واجتماع الأمر والنهي الفعليّين في شيء واحد؛ لأنّ المفروض أنّ بينهما اتّحاداً وجوديّاً.
وإن كان على الوجه الثاني، فالنهي تارةً يكون نفسيّاً، وأُخرى يكون تبعيّاً.
أمّا الأوّل: فالنهي عنه لا يقتضي فساد العبادة، إذ لا موجب لفسادها، بل إنّ أقصى ما يقتضيه هذا النهي هو حرمة الوصف، وأنّ هناك شيئاً محرّماً وقع في أثناء الصلاة والعبادة، وهذا لا يوجب الفساد؛ لأنّ النهي لم يرد لا على ذات العبادة ولا على جزئها، إلّا إذا فرضنا أنّ العبادة مقيّدة بالخالي عنها، وأمّا لو لم يكن كذلك، فيكون حال الوصف كحال النظر إلى الأجنبيّة في أثناء الصلاة في أنّه لا يكون مبطلاً للصلاة.
وبالجملة: فالنهي عن الوصف لا يسري إلى الموصوف إلّا إذا كانا متّحدين وجوداً، بناءً على امتناع اجتماع الحكمين، وأمّا بناء على الجواز، حيث لا يسري الحكم من أحدهما إلى الآخر، فلا يكون مبطلاً.
وأمّا الثاني ـ وهو النهي الغيريّ التبعيّ ـ: كالنهي المتولّد من الأمر بالشيء، كالنهي عن الصلاة المتولّد من الأمر بالإزالة، لكونها ضدّاً للصلاة، فإنّ هذا النهي لا يكون مبطلاً للصلاة، إلّا إذا قلنا بعدم كفاية الملاك في تصحيح العبادة، وبأنّ تصحيحها منوط بالأمر، أو لم نقل بالترتّب.

المقام الثاني: في النهي عن المعاملة:
وأمّا المعاملات فقد ذكر بعض المحشّين على الكفاية أنّ النهي عن المعاملة ـ أيضاً ـ: تارةً: يكون نهياً عنها لذاتها كنكاح المحارم، والبيع الربويّ. وأُخرى: يكون نهياً عنها لجزئها، كنكاح الكبير الصغيرة بدون إذن وليّها، وبيع الشاة بالخنزير. وثالثةً: يكون نهياً عنها لشرطها، كالنكاح بشرط كون الطلاق بيد الزوجة، وبيع العنب بشرط أن يُعمل خمراً. ورابعةً: يكون نهياً عنها لوصفها الملازم، كنكاح الشغار، وبيع الحصاة، والمنابذة. وخامسةً: يكون نهياً عنها لوصفها المفارق، كنكاح المرأة المحرّمة، وبيع لحم الشاة الجلاّلة.
وكيف كان، فهل النهي عن المعاملة موجب لبطلانها أم لا؟
عرفنا سابقاً: أنّ النهي في العبادات موجب لفسادها؛ لأنّ الشيء المبغوض ليس له صلاحيّة المقرّبيّة. وأمّا في المعاملات، فإنّ فساد المعاملة عبارة عن عدم ترتّب الأثر المقصود منها كالملكيّة والزوجيّة ونحوهما عليها، وصحّتها عبارة عن ترتّب الأثر المزبور عليها، ومن المعلوم أنّه لا منافاة ـ بعد ورود النهي ـ بين حرمة المعاملة وبين الأثر المترتّب عليها عقلاً.
ولكن النهي عن المعاملة ـ كما ذكره بعض الأعاظم ـ <تارةً يكون للإرشاد إلى عدم حصولها، فهذا لا إشكال في كونه موجباً لفسادها، سواء تعلّق بناحية السبب أو بناحية المسبّب، فإن تعلّق بناحية السبب فهو يقتضي عدم ترتّب المسبّب على ذلك السبب، وإن تعلّق بناحية المسبّب فهو يقتضي عدم حصوله في الخارج، وهذا ممّا لا إشكال فيه، فإنّ النهي الإرشاديّ حيث ما تعلّق يقتضي الفساد، حيث إنّه إرشاد إلى الفساد.
وأمّا إذا كان النهي عن العبادة مولويّاً مفاده الحرمة، فتارةً يتعلّق بالسبب، وأُخرى يتعلّق بالمسبّب، وثالثة يتعلّق بآثار المسبّب، من التصرّف في الثمن والمثمن، وغير ذلك من الآثار المترتّبة على المعاملة ... إلى أن يقول:
المراد من تعلّق النهي بالسبب تعلّقه بالإيجاد بمعناه المصدريّ، ويكون المحرّم المنهيّ عنه هو إيجاد المعاملة وإنشاؤها والاشتغال بها، كالبيع وقت النداء، حيث إنّ المحرّم هو الاشتغال بالبيع وقت النداء لا النقل والانتقال. والمراد من تعلّقه بالمسبّب تعلّقه بالموجد، بمعناه الاسم المصدريّ، ويكون المحرّم المبغوض هو المُنشأ والنقل والانتقال، كبيع المسلم والمصحف للكافر، حيث إنّ المبغوض هو نقل المسلم والمصحف للكافر، لا إنشاء النقل، ومبغوضيّة الإنشاء لمكان ما يستتبعه من الأثر، وهو النقل والانتقال.
إذا عرفت ذلك، فنقول: إنّ النهي لو كان عن نفس الإيجاد والإنشاء والاشتغال بالمعاملة، فهو لا يقتضي الفساد؛ إذ حرمة الإيجاد لا يلازم مبغوضيّة الموجد وعدم تحقّقه. وأمّا لو تعلّق النهي بنفس المنشأ والموجد، فهو يقتضي الفساد؛ لخروج المنشأ حينئذٍ عن تحت سلطانه، ولا قدرة عليه في عالم التشريع، والمانع التشريعيّ كالمانع العقليّ.
والحاصل: أنّ الأمر والنهي الشرعيّين موجبان لخروج متعلّقهما عن سلطة المكلّف، ويكون في عالم التشريع مقهوراً على الفعل أو الترك، ومن هنا كان أخذ الاُجرة على الواجبات حراماً؛ لخروج الفعل بالإيجاب الشرعيّ عن تحت قدرته وسلطانه، فليس يمكنه تمليكه إلى الغير ليأخذ الاُجرة عليه، إلّا إذا تعلّق الإيجاب بنفس الإيجاد والإصدار، كما في الصناعات النظاميّة، فإنّ له أخذ الاُجرة على عمله، لعدم خروج عمله بمعناه الاسم المصدريّ عن تحت سلطانه، لعدم تعلّق الإيجاب به، بل تعلّق الإيجاب بنفس الإيجاد والإصدار وعدم احتكار العمل.
وأمّا إذا تعلّق الأمر بنفس العمل بمعناه الاسم المصدريّ، فقد خرج العمل عن تحت سلطانه، كما أنّه لو تعلّق النهي بنفس العمل فإنّه ـ أيضاً ـ يخرج عن تحت سلطانه، ويكون النهي مخصّصاً لعموم (الناس مسلّطون على أموالهم)، وعلى ذلك يبتني جواز بيع منذور الصدقة ومشروطها في ضمن العقد، أو نذر البيع من زيد، أو شرط ذلك، فإنّه لا يصحّ بيعه من غير زيد...
إلى أن يقول: هذا إذا تعلّق النهي بنفس المنشأ، وأمّا إذا تعلّق بآثاره، كقوله: ثمن العذرة أو الكلب سحت، فهو يكشف ـ أيضاً ـ إنّاً عن عدم ترتّب المنشأ وعدم تحقّقه. ومن الغريب: أنّ بعض الأعلام سلّم دلالة النهي عن الآثار على الفساد، وأنكر دلالة النهي عن نفس المنشأ على الفساد، مع أنّ الثاني أولى، فتأمّل جيّداً>( ).
انتهى ما أفاده، نقلناه بطوله لما فيه من الفائدة.
إذا عرفت هذا، فهل النهي ظاهر في الفساد أم لا؟
فنقول: الكلام تارةً في المعاملة بالمعنى الأخصّ، وأُخرى في المعاملة بالمعنى الأعمّ.
أمّا المعاملة بالمعنى الأخصّ:
فالنهي عنها موجب للبطلان؛ لأنّه إرشاد إلى الفساد، وليس بمعنى الحرمة التكليفيّة، بعد أن عرفنا أنّ الغرض الأصليّ في المعاملات هو الصحّة والفساد، فكما أنّ الأمر في باب المعاملات يكون إرشاداً إلى صحّتها، من دون أن يدلّ على وجوبها أو استحبابها، فقوله تعالى ـ مثلاً ـ: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، لا يدلّ إلّا على صحّة ولزوم كلّ عقد على نحو الإطلاق، فما ورد النهي عن بعض البيوع يكون مخصّصاً ومقيّداً للعموم والإطلاقات الواردة في هذا الباب، فيكون النهي ـ أيضاً ـ دالّاً على الفساد، ويكون حاله حال إرشادات الطبيب إلى ما يضرّ المريض، فكما أنّ النواهي الشرعيّة دالّة على المانعيّة في العبادات كالتكتّف والضحك وأمثال ذلك، فكذلك النهي في المعاملات، فإنّه يدلّ على على المانعيّة وفساد المعاملة.
وبالجملة: فالنهي عن المعاملة نظير الأمر الواقع عقيب الحظر، فكما أنّ الأمر حينئذٍ لا يدلّ على الوجوب، بل على رفع المنع والحظر، فكذلك النهي عنها لا يدلّ إلّا على رفع الصحّة التي تقتضيها أدلّة الإمضاء مثل: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾.
فظهر من جميع ما ذكرناه: أنّ النهي لا يكون ظاهراً في النهي عن المعنى المصدريّ؛ لأنّ (لا تَبِع ما ليس عندك) ـ مثلاً ـ ليس معناه: أنّه يحرم عليك التكلّم والتلفّظ بالألفاظ الخاصّة، بل هو دالّ على منع النقل والانتقال، أو على المنع من ترتّب الآثار، وكلاهما يقتضيان الفساد.
وأمّا الروايات التي استدلّ بها لإثبات دلالة النهي على الفساد، ومنها: الخبر الذي رواه في الكافي والفقيه عن زرارة عن أبي جعفر الباقر: <سأله عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده، فقال: ذلك إلى سيّده، إن شاء أجازه، وإن شاء فرّق بينهما، قلت: أصلحك اﷲ تعالى، إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعيّ وأصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد، فلا تحلّ إجازة السيّد له، فقال أبو جعفر: إنّه لم يعصِ اﷲ، وإنّما عصى سيّده، فإذا أجاز له فهو جائز>( ).
وتقريب الاستدلال بها أن يقال: إنّ الرواية ظاهرة في أنّه لو كان عاصياً ﷲ تعالى لكان نكاحه فاسداً.
ولكن فيه: أنّ المعصية ـ وهي مخالفة الحرمة التي هي المقصودة في المقام ـ أجنبيّة عن المعصية المرادة من هذه الروايات.
توضيح ذلك: أنّ الحرمة والمعصية في محلّ البحث غير الحرمة والمعصية الواردة في الرواية، فإنّ المعصية الواردة في الرواية ليس المراد بها هو مخالفة الحرمة التكليفيّة حتى يدلّ على الفساد؛ لأنّه لا إشكال أنّه لو كان المراد بها الحرمة التكليفيّة لم يستقم معنى الحديث؛ لأنّ مخالفة العبد للمولى مخالفة ﷲ تعالى أيضاً؛ لأنّ وجوب إطاعة المولى ممّا ثبت بضرورة الشرع، فهو حكم إلهيّ، فمخالفته مخالفة ﷲ سبحانه وعصيان له، مع أنّ الإمام قال: <لم يعصِ اﷲ>، فنفي الإمام المعصية عن مخالفته لسيّده قرينة على كاشف عن أنّه ليس المراد بالمعصية مخالفة الحرمة التكليفيّة، وعلى أنّ العبد لم يرتكب حراماً؛ ذلك أنّ ما صدر منه لم يكن من الموارد التي نهى الشارع عنها ولم يمضها ويشرّعها، كتزويج المحارم، بل كان ممّا أمضاه وأجازه.
فالمراد من المعصية المنفيّة في هذا الخبر هي التصرّف في ملك وسلطان الغير؛ فإنّه عبد مملوك لا يقدر على شيء، وقد عقد بدون إذن المولى، فيكون فضوليّاً، كما هو كذلك بالنسبة إلى كلّ من تصرّف في ملك الغير وباعه أو نقله إلى الغير بدون إذن صاحبه، فتقع المعاملة فضوليّة، فإذا أجازه المولى وقع صحيحاً وترتّب عليه الأثر.
والحاصل: أنّ النكاح مشروع ذاتاً، وليس من الاُمور التي لم يشرّعها الشارع، غاية الأمر: أنّ نفوذه محتاج إلى إذن السيّد، فلا يتصوّر هنا حرمة تكليفيّة لكي يدّعى دلالتها على الفساد، بخلاف ما لو كانت المعاملة ممّا لم يشرّعه الشارع، كما في الفرض الأوّل، فإنّه يكون عصياناً اﷲ تعالى، فلا تفيده الإجازة، ويكون ما أوقعه من النكاح باطلاً، وكذا لو كان المولى قد نهى عبده عن النكاح، فإنّ نهيه موجب للفساد؛ لأنّ مخالفة نهي السيّد مخالفة ﷲ عزّ وجلّ.
وخلاصة الكلام: أنّ مقتضى العبوديّة هو عدم صدور أيّ فعل من العبد إلّا إذا كان عن إذن مولاه، وحيث إنّه عبد مملوك لا يقدر على شيء، وهو كلّ على مولاه، وقد اشتغل بعملٍ بغير إذن مولاه، كان عاصياً؛ لأنّه قد أتى بما هو منافٍ للعبوديّة، وتصرّف فيما لا يجوز له التصرّف فيه، ولا سيّما في أمثال النكاح، التي هي من الاُمور الخطرة، فلابدّ من إطلاع المولى عليها وأخذ إذنه فيها.

تذنيب:
حُكي عن أبي حنيفة وتلميذه محمّد بن الحسن الشيبانيّ أنّ النهي في المعاملات والعبادات يدلّ على الصحّة وعدم الفساد، وتبعهما في ذلك فخر المحقّقين، وعن العلّامة التوقّف( ).
وأمّا صاحب الكفاية فقد قال: <والتحقيق أنّه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبّب، أو التسبيب، لاعتبار القدرة في متعلّق النهي كالأمر، ولا يكاد يقدر عليهما إلّا فيما كانت المعاملة مؤثّرة صحيحة، وأمّا إذا كان عن السبب فلا، لكونه مقدوراً، وإن لم يكن صحيحاً، نعم، قد عرفت أنّ النهي عنه لا ينافيها>( ).
ومثال تعلّق النهي بمضمونها: بيع المصحف والعبد المسلم من الكافر، حيث إنّ النهي في هذا البيع قد تعلّق بالمضمون، وهو تمليكهما من الكافر، لا بالمعاملة بما هي فعل مباشريّ، والنهي إنّما تعلّق بها من حيث كونها موجبة لترتّب مسبّب مبغوض في نفسه، وهو جعله في يد الكافر.
ومثال تعلّق النهي بالتسبيب، كما إذا كان النهي قد ورد عن بيع العنب أو الخشب لمن يعمل العنب خمراً أو الخشب صنماً، فإنّ النهي لم يتعلّق بالسبب، وهو العقد، ولا بالمسبّب، وهو التمليك، بل تعلّق بأمر خارجٍ عنهما، وهو الإعانة على الإثم.
وأمّا العبادات، فقد ذكر أنّ <ما كان منها عبادة ذاتيّة، كالسجود والركوع والخشوع والخضوع له تبارك وتعالى، فمع النهي عنه يكون مقدوراً، كما إذا كان ماُموراً به، وما كان منها عبادة لاعتبار قصد القربة فيه، لو كان ماُموراً به، فلا يكاد يقدر عليه إلّا إذا قيل باجتماع الأمر والنهي في شيء ولو بعنوان واحد>( ).
وقبل أن نشرح ما ذكره صاحب الكفاية لابدّ أن ندخل في صلب الموضوع، وبيان أنّ النهي كيف يدلّ على الصحّة، فنقول:
لا يخفى ـ كما ذكرنا مراراً ـ: أنّ الأمر لابدّ أن يتعلّق بأحد طرفي المقدور، أي: أنّ كلّ حكم تكليفيّ لابدّ وأن يكون مقدوراً للمكلّف، بحيث يكون كلّ من الفعل والترك تحت قدرته، والنهي ـ أيضاً ـ كذلك، ولا فرق بينه وبين الأمر من هذه الناحية، فلابدّ عند تعلّقه بشيء أن يكون متعلّقه مقدوراً من ناحيتي الفعل والترك، حتى يمكن موافقة النهي أو مخالفته، ولا يكون متعلّق النهي مقدوراً إلّا إذا كان جميع أجزائه وشرائطه التي تكون متعلّقة للنهي وتحت النهي مقدوراً عليها، فلو فرض أنّ المكلّف أتى بالمنهيّ عنه كذلك، أي: بجميع أجزائه وشرائطه، لكان صحيحاً، ولترتّب عليه الأثر، وهذا هو معنى الصحّة. فالنهي عن الشيء يدلّ على الصحّة لا محالة.
وأمّا لو كان النهي عنهما موجباً لفسادهما، فلا يمكن للمكلّف مخالفة هذا النهي؛ لأنّه بنفس تعلّق النهي بهما خرجا عن تحت قدرته؛ لأنّه لا يمكن إيجادهما حينئذٍ.
والجواب عن هذا:
أمّا في المعاملات: فبأنّه ليس المراد بها إلّا المعاملات العرفيّة، وليس المراد بها هو المعاملات الصحيحة، أي: أنّ العرف مع علمهم بفساد بيع الخمر يتعاملون بها ويرتّبون آثار الصحّة عليها وهي مقدورة للمكلّف ولو بعد ورود النهي، فبما أنّ الصحّة والفساد لا يُنتزعان إلّا من إمضاء الشارع وعدم إمضائه، والنهي الشرعيّ يوجب فسادها، أي: عدم تحقّق المعاملة خارجاً، ولو أنّها كانت بنظر العرف حاصلة ومتحقّقة.
وأمّا في العبادات: فبأنّه ليس المراد بها هو العبادة الفعليّة حتى يستشكل ويقال بأنّها ليست مقدرورة بعد النهي، حتى يترتّب عليه الفساد، وإنّما المراد هو العبادة الشأنيّة، بمعنى: أنّه لو تعلّق به أمر، ولم يتعلّق به نهي لأمكن امتثاله، وحصل الغرض منه إذا أتى بها بقصد القربة. فالعبادة الشأنيّة من الاُمور المقدورة، وأمّا الذي لا يكون مقدوراً، فهو العبادة الفعليّة بعد ورود النهي عنها.
وخلاصة الكلام: أنّه بناءً على قول صاحب الكفاية، من التفصيل بين حالتين:
إحداهما: ما إذا تعلّق النهي بالمسبّب، كالنهي عن البيع المصحف من الكافر، باعتبار أنّ إبقاءه عنده غير جائز، ولذا إذا وجد عنده لابدّ من انتزاعه منه، فهنا: بنهي الشارع عنه لا يترتّب على هذه المعاملة الأثر، أعني به: الملكيّة. فقالوا: بأنّه لابدّ من القول بالصحّة؛ لأنّه لو لم يكن قادراً على هذا التمليك ـ بأن يوجد البيع بحيث يترتّب عليه الأثر ـ فما معنى النهي عنه حينئذٍ؟
والثانية: تعلّق النهي بالتسبّب، كالظهار؛ فإنّ التسبّب به إلى الفراق بين الزوجين مبغوض، فلو لم يؤثّر الظهار عمله، ولم يترتّب الفراق على الظهار، كان النهي عنه لغواً.
وأمّا إذا ورد النهي على السبب، فإنّه لا يدلّ على الصحّة؛ لأنّ ما هو المنهيّ عنه، هو العقد المفوّت للصلاة في يوم الجمعة ـ مثلاً ـ لا العقد المؤثّر للملكيّة، وبما أنّ هذا العقد من الأفعال المباشريّة، وللمكلّف القدرة عليه، أي: على العقد بمعناه المصدريّ، لا المعنى الاسم المصدريّ، من دون أن تتوقّف القدرة على الصحّة، وهذا السبب يكون مقدوراً، صحيحاً كان أو فاسداً، فالنهي هنا لا يدلّ على الفساد.
وأمّا العبادات فهي على قسمين:
فمنها: ما يكون ذاتيّاً، من غير توقّفه على قصد القربة، كالسجود، كما مرّ، والنهي في هذا القسم يدلّ على الصحّة؛ لأنّ متعلّقه مقدور عليه؛ لأنّه قادر على إيجاد السجود وعلى تركه، فلو أتى بالسجود المنهيّ عنه كان صحيحاً، إذ لا تتوقّف عبادته على الأمر حتى لا يكون ممكن الإيجاد مع النهي.
ومنها: ما لا يكون ذاتيّاً، ويحتاج إلى قصد الأمر والقربة، فمع ورود النهي لا يمكن ورود الأمر به؛ لأنّه ـ حينئذٍ ـ يكون من باب اجتماع الأمر والنهي في واحدٍ كما مرّ.
نعم، لو قلنا بإمكان اجتماع الأمر والنهي في واحدٍ بعنوانين لصحّ ذلك.
وبهذا تمّ الكلام في مبحث النواهي


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com