مباحث المفاهيم

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

مباحث المفاهيم


مقدّمة:
وهي: أنّ المفهوم ـ كما يظهر من موارد إطلاقه ـ هو عبارة عن حكم إنشائيّ أو إخباريّ تستتبعه خصوصيّة المعنى الذي اُريد من اللّفظ، بتلك الخصوصيّة، ولو بقرينة الحكمة، وكان يلزمه لذلك، سواء وافقه في الإيجاب والسلب أو خالفه.
فالمفهوم ـ اصطلاحاً ـ هو: كلّ حكم إنشائيّ كما في الجمل الإنشائيّة، كحرمة الإكرام المستفادة من قوله: (إن جاءك زيد فأكرمه)، بناءً على ثبوت المفهوم للجملة الشرطيّة.
أو كلّ حكم إخباريّ كما في الجمل الخبريّة، كالإخبار عن فعله بإعطاء دينارٍ ـ مثلاً ـ، المستفاد من قوله: (إن جئتني فأنا أعطيك ديناراً)، فإنّ الإعطاء فعله الذي يخبر عنه على تقدير المجيء بالكلام المزبور( ).
ولابدّ قبل الدخول في محلّ البحث من بيان اُمور:

الأمر الأوّل: في معنى كلمة المفهوم:
تطلق كلمة المفهوم على ثلاثة معانٍ:
الأوّل: المعنى الذي يفهم من اللّفظ، بلا فرق بين أن يكون من المعاني الإفراديّة أو التركيبيّة.
والثاني: ما يقابل المصداق، فيراد منه كلّ معنى يفهم، وإن لم يكن مدلولاً للّفظ، كالإشارة والكناية، ونحو ذلك.
والثالث: ما يقابل المنطوق؛ والمراد بالمنطوق هو المدلول المطابقيّ للجملة، بلا فرق بين أن يكون المعنى حقيقيّاً له أو مجازيّاً، ويُعرف بالقرينة الخاصّة، وذلك كقولنا: (رأيت أسداً)، فإنّه يدلّ على كون المرئيّ هو الحيوان المفترس بالمطابقة، وكقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً﴾( )، حيث إنّه يدلّ على طهوريّة الماء بالمطابقة، وعلى طهوريّة جميع أفراده بالإطلاق والقرينة العامّة، كما أنّ قولنا: (رأيت أسداً يرمي) يدلّ على كون المرئيّ هو الرجل الشجاع بالقرينة الخاصّة، وهكذا...
ولا يخفى: أنّ معنى المفهوم هو ما يقابل المنطوق، أي: لا يفهم المعنى بالدلالة المطابقيّة بل بالدلالة الالتزاميّة، بنحو اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ، فإنّ منطوق قولهم: (الماء إذا بلغ قدر كرّ لا ينجّسه شيء) هو عدم تنجّس الماء البالغ قدر كرّ بشيء من النجاسات، فدلالة اللّفظ على المنطوق تكون أوّلاً وبالذات، وأمّا دلالته على المفهوم فهي تابعة لدلالة المنطوق، فإذا قلت ـ مثلاً ـ: (إن جاءك زيد فأكرمه)، فدلالته المطابقيّة تكون أوّلاً وبالذات، وهي الثبوت عند الثبوت، أي: ثبوت الإكرام عند المجيء، ودلالته المفهوميّة ثانياً وبالتبع، وهي الانتفاء عند الانتفاء، ومعنى أنّها بالتبع: أنّ انفهام المفهوم من اللّفظ إنّما يكون تابعاً لانفهام معناه المطابقيّ الأوّليّ.
وبعبارة أُخرى: فإنّ المفهوم يكون ناشئاً عن خصوصيّة المعنى في المنطوق، ولا فرق في هذه الخصوصيّة بين أن تكون ثابتة بالوضع أو بالقرينة العامّة أو الخاصّة، فإن دلّ المنطوق على تلك الخصوصيّة كانت القضيّة دالّةً على المفهوم، وتلك الخصوصيّة في الجملة الشرطيّة ـ مثلاً ـ هي عبارة عن كون الشرط علّة منحصرة للجزاء.

الأمر الثاني: المفهوم قسمان: موافقة ومخالفة:
ينقسم المفهوم إلى قسمين: مفهوم الموافقة، ومفهوم المخالفة.
فمفهوم الموافقة، فهو المفهوم الذي يكون موافقاً للمنطوق في الإيجاب والسلب، ومفهوم المخالفة، هو المفهوم الذي يكون مخالفاً للمنطوق في الإيجاب والسلب.
والأوّل كدلالة الأولويّة في مثل قول تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ٍ﴾( )، على حرمة الضرب والشتم، ونحو ذلك ممّا هو أشدّ إيلاماً للأبوين من التأفيف ـ وهو التلفّظ ﺑ (أفّ) ـ المحرّم بحكم الآية ـ ويُلاحَظ هنا: أنّ حرمة التأفيف حكم مذكور ومنطوق به، وأمّا حرمة الضرب والشتم المستفادة من مفهوم الموافقة فهو حكم غير مذكور ومصرّح به في الكلام. وهذا الحكم المفهوميّ لازم لخصوصيّة المعنى الأوّل، وهو كون التأفيف أدنى مرتبة من الإيذاء، إذ إنّ حرمة الفعل الأدنى تلازم حرمة الأعلى والأشدّ.
ومثال مفهوم المخالفة: ما في مثل قولك: (إن جاءك زيد فأكرمه)، فإنّ مفهومه هو عدم وجوب الإكرام عند عدم مجيء زيد، وهذا يخالف المنطوق في السلب والإيجاب، وهو ـ أيضاً ـ لازم لخصوصيّة المعنى المذكور في الكلام، وهو انفهام كون المجيء علّة منحصرة للوجوب، ولازم العلّيّة المنحصرة هو انتفاء الحكم عند انتفائها.
فالمفهوم عبارة عن حكم إنشائيّ كما في المثال الثاني، وهو مفهوم المخالفة، أو إخباريّ، كما في المثال الأوّل، وهو مفهوم الموافقة، غير مذكور في القضيّة، وتقتضيه خصوصيّة المعنى المنطوقيّ، فصحّ قولنا ـ إذاً ـ: إنّ المفهوم هو عبارة عن حكم غير مذكور في القضيّة اللّفظيّة؛ لأنّ عدم وجوب إكرام زيد لم يكن مذكوراً في القضيّة الشرطيّة، وكذا حرمة الضرب والشتم، فهما إنّما يُستفادان من الخصوصيّة الموجودة في المنطوق.
وقد استشكل في ذلك المحقّق الأصفهاني بقوله:
<إن اُريد ﺑ (الحكم) غير مذكور، كونه بشخصه غير مذكور، فكلّ موضوع ـ أيضاً ـ بشخصه غير مذكور، وان جعل الموضوع نفس زيد في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه)، بداهة تشخّص كلّ قضيّة بموضوعها ومحمولها، وإن اُريد بكون الحكم غير مذكور كون سنخ الحكم غير مذكور فلا يعمّ المفاهيم جميعاً؛ لخروج مفهوم الموافقة، إذ الحكم في طرف المنطوق والمفهوم واحد سنخاً>
إلى أن يقول:
<فالعبرة في تغاير القضيّتين حقيقةً بمجرّد المغايرة نوعاً وماهيّةً، موضوعاً أو محمولاً، لكنّ العبرة في المذكوريّة وعدمها بالذكر وعدمه في شخص الكلام، والمراد: أنّ القضيّة التابعة لقضيّة أُخرى من حيث كونها غير مذكورة مفهوم، وإن كانت من حيث مذكوريّتها في موارد أُخر منطوقاً>( ).
ولا يخفى: أنّ النزاع إنّما هو في ثبوت المفاهيم، وفي أصل دلالة الجمل عليها، وأمّا الحجّيّة عندهم فهي من المسلّمات، ولا كلام فيها ـ أصلاً ـ بعد إحراز الدلالة.
ومن هنا عرّف المفهوم بأنّه: <قضيّة تدلّ عليها خصوصيّة القضيّة المنطوقيّة>.

الأمر الثالث: في أنواع المفهوم:
هو على أقسام:
الأوّل: مفهوم الوصف، كما إذا ورد (في الغنم السائمة زكاة)، فوجوب الزكاة للسائمة منطوق، وعدمه للمعلوفة مفهوم.
الثاني: مفهوم الشرط، كما في مثل: (إذا جاءك زيد فأكرمه)، فإنّ وجوب الإكرام عند مجيء زيد منطوق، وعدم الوجوب عند عدم مجيئه مفهوم، عند إحراز كون المجيء علّة منحصرة.
الثالث: مفهوم الغاية، كما إذا قيل: (يجب عليك الصوم إلى الغروب)، فعدم الوجوب بعد الغروب مفهوم.
الرابع: مفهوم اللّقب، كما إذا قيل: (أكرم زيداً)، فإنّ عدم وجوب إكرام عمرو مفهوم. ولا يخفى: أنّ المراد باللّقب الأعلام الشخصيّة وأسماء الأجناس.
الخامس: مفهوم الاستثناء، كما إذا قيل: (جاءني القوم إلّا زيداً)، فإنّ نسبة المجيء إلى قوم ليس فيهم زيد تستلزم عدم مجيء زيد، بناءً على كون (إلّا) حرفاً من الحروف، وموضوعةً للمعنى الآليّ. وأمّا إذا قلنا بكونها اسماً أو فعلاً، فيكون الحكم بعدم المجيء منطوقاً.