مباحث العامّ والخاصّ

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

مباحث العامّ والخاصّ


وقبل الدخول في صميم البحث لابدّ من بيان اُمور:

الأمر الأوّل: في معنى العموم:
ليس العموم إلّا كون مدلول اللّفظ شاملاً لجميع ما يصلح للانطباق عليه، وأمّا الخصوص، فهو على العكس من ذلك.
ولا يخفى: أنّهما من المعاني غير المحتاجة إلى تعريف؛ وذلك لكونهما من المفاهيم العامّة البيّنة بنفسها، كما هو الشأن في أغلب المفاهيم العامّة.
وعلى هذا الأساس: فجميع ما يُذكر للعموم والخصوص من التعاريف لا يكون إلّا من باب شرح الاسم؛ فإنّ مفهوم العموم أجلى وأوضح من أن يكون بحاجةٍ إلى تعريف.
ومن هنا يتّضح: أنّ الإشكال على هذه التعاريف طرداً وعكساً ليس بذلك الأمر المهمّ.
قال في الكفاية: <قد عُرِّف العامّ بتعاريف، وقد وقع من الأعلام فيها النقض بعدم الاطّراد تارةً والانعكاس أُخرى بما لا يليق بالمقام، فإنّها تعاريف لفظيّة تقع في جواب السؤال عنه ﺑ (ما) الشارحة، لا واقعة في جواب السؤال عنه ﺑ (ما) الحقيقيّة>( ).
ولا يخفى: أنّ مراده من التعريف اللّفظيّ ليس إلّا ما يرادف لشرح الاسم، فإنّ مقصودههو أنّ التعاريف التي ذُكِرت للعموم والخصوص هي مجرّد تعاريف لفظيّة يُراد منها توضيح المصطلح، وليست بتعاريف حقيقيّة حتى يتأتّى وقوعها في محلّ النقض والإبرام.
وقد استشكل عليه المحقّق الأصفهانيّ بما حاصله: أنّ التعريف اللّفظيّ غير شرح الإسم، قال: <قد مرّ في مبحث مقدّمة الواجب تفصيل القول في عدم مساوقة التعريف اللّفظيّ لما يقع في جواب (ما) الشارحة>( ).
وقد تكرّر من صاحب الكفاية، كما عن بعض أهل المعقول( )، أنّ التعريف اللّفظيّ مرادف ومساوق لشرح الاسم الذي هو ـ كما ذكر أهل المنطق ـ مطلب (ما) الشارحة.

الأمر الثاني: في الفرق بين العموم والإطلاق:
الشمول والسريان كما يمكن أن يكونا مستفادين من العموم، فكذلك يمكن أن يكونا مستفادين من الإطلاق أيضاً، وذلك كما في مثل قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾( )، فلا فرق بين العموم والإطلاق من ناحية أصل دلالة كلٍّ منهما على الشمول والسعة.
وإنّما يكمن الفرق بينهما في ناحيةٍ أُخرى، وهي أنّ الشمول والسريان تارةً يكون ناشئاً عن الوضع، وأُخْرى يكون ناشئاً عن جريان مقدّمات الحكمة. فإن كان ناشئاً عن الوضع سمّي ﺑ (العموم)، وإن كان ناشئاً عن إجراء مقدّمات الحكمة سمّي ﺑ (الإطلاق).
وعلى هذا الأساس، فإذا تعارض العموم والإطلاق، يقدّم الأوّل لا محالة؛ لأنّ الإطلاق كما عرفنا يستند إلى مقدّمات الحكمة، ومعلوم أنّ من شروط جريان المقدّمات حتى يثبت الإطلاق هو عدم ما يصلح بياناً على العدم، والعامّ له صلاحيّة القرينيّة، وهذا بخلاف ظهور العامّ، فإنّه وضعيّ غير متوقّف على شيء، فلا تكون تماميّته موقوفةً على عدم ثبوت إطلاقٍ بخلاف مضمونه ومقتضاه.
وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ ظهور العامّ لمّا كان ناشئاً من الوضع؛ فإنّه يكون ظهوراً تنجيزيّاً، وأمّا ظهور المطلق، فلمّا كان مستنداً إلى إجراء مقدّمات الحكمة وناشئاً من استظهار حال المتكلّم، فإنّه يكون ظهوراً تعليقيّاً، ومن الواضح، أنّ ما كان تعليقيّاً فلا يكون له المقتضي أصلاً لأن يعارض ما كان فعليّاً وتنجيزيّاً.

الأمر الثالث: في تقسيم العامّ:
ينقسم العامّ إلى أقسام ثلاثة: استغراقيّ، ومجموعيّ، وبدليّ. وهذا الانقسام إنّما هو باعتبار الحكم، لا بلحاظ نفس العامّ. وذلك أنّ:
الحكم في العامّ الاستغراقيّ في مقام الإنشاء واحد، إلّا أنّه بحسب الواقع يكون متعدّداً بتعدّد أفراد العامّ، بحيث يكون لكلّ واحد من الأحكام المتعلّقة بالأفراد عصيان مستقلّ، وامتثال كذلك، فقولك ـ مثلاً ـ: (أكرم كلّ عالم)، ينحلّ إلى: أكرم زيداً العالم وعمراً العالم وبكراً العالم وهكذا...
وأمّا الحكم في العامّ المجموعيّ، فيكون واحداً في مقام الثبوت والإثبات معاً؛ إذ الذي يكون موضوعاً في العامّ المجموعيّ إنّما هو المجموع من حيث المجموع، فلا يكون الحكم شاملاً للأفراد إلّا على سبيل الاجتماع، ومن هنا، فلا يتحقّق الامتثال فيه إلّا بإتيان الجميع، وأمّا العصيان فيه، فكما يمكن تحقّقه بترك الجميع، فكذلك يكون ممكناً بترك فردٍ واحدٍ فقط.
وأمّا في العامّ البدليّ فيلاحظ المولى واحداً من الأفراد على سبيل البدل، ويجعل هذا الفرد بخصوصه موضوعاً للحكم، كما في قولك ـ مثلاً ـ: (أكرم أيّ رجلٍ شئتَ)، وعلى هذا الأساس: يحصل الامتثال فيه بإكرام الواحد، كما يحصل أيضاً بإكرام الجميع.
وعليه: فالفرق بين العامّ المجموعيّ والعامّ البدليّ يكمن في أنّ الإطاعة في الأوّل لا تحصل إلّا بفعل الجميع، ويتحقّق العصيان فيه بترك الواحد، وأمّا في العامّ البدليّ، فحصول الإطاعة يكفي فيه الإتيان بواحدٍ من الأفراد، فكذلك يحصل العصيان فيه بترك الجميع.
وأمّا المحقّق الأصفهاني فقد أفاد في بيان الفرق بين العامّ الاستغراقيّ وبين العامّ المجموعيّ ما لفظه:
<أنّ مصاديق العامّ لها مفاهيم متقوّمة بالكثرة بالذات، فلها وحدة مفهوميّة وكثرة ذاتيّة، وهذا المعنى الكذائيّ محفوظ وإن ورد عليه اعتبارات مختلفة، فقد يُرتَّب الحكم عليه بلحاظ تلك الكثرة الذاتيّة، كما في الكلّ الأفراديّ، فجهة الوحدة وإن كانت محفوظة فهي مُلْغاة بحسب الاعتبار في مقام الموضوعيّة للحكم، وقد يُرَتّب الحكم عليه بلحاظ تلك الوحدة، كما في الكلّيّ المجموعيّ، فالكثرة وإن كانت محفوظةً ـ كيف؟ والمفهوم متقوّم بها ـ لكنّها مُلْغاة في مرحلة موضوعيّة المعنى لحُكْمٍ واحدٍ حقيقيّ...>( ).
وخلاصة كلامه: أنّ للعموم جهتين: جهة كثرةٍ وجهة وحدة، وكلتا الجهتين محفوظتان للعامّ، ولكن إن كان الملحوظ في مقام الموضوعيّة للحكم هو جهة الكثرة دون جهة الوحدة، فالموضوع حينئذٍ استغراقيّ، وأمّا إذا رُتِّب الحكم عليه بلحاظ جهة الوحدة، كان من العامّ المجموعيّ.

الأصل المحكّم عند الشكّ:
بعد إحراز أصل العموم، فإذا شكّ في كون العامّ استغراقيّاً أو مجموعيّاً، كان الأصل المحكَّم فيه هو الاستغراقيّة بمقتضى الإطلاق؛ وذلك لأنّ الشمول والسريان إلى جميع أفراد العامّ هو المعنى المشترك بينهما، وإنّما الفرق بينهما في أنّ العامّ الاستغراقيّ لا يُحتاج فيه إلى جعل العموم مرآةً للأفراد، فإنّ الأفراد متكثّرة ذاتاً ومستقلّة في نفس ذاتها.
وأمّا في العامّ المجموعيّ، فيُحْتاج، علاوةً على ذلك، إلى أمرٍ زائد، وهو لحاظ قيد الوحدة في الأفراد، نظراً لكونها ـ كما عرفنا ـ متكثّرةً بحسب الذات، فيحتاج إثبات كون الموضوع هو المجموع من حيث هو مجموع إلى بيانٍ ومؤونةٍ زائدتين.
وأمّا إذا كان الشكّ شكّاً في أنّه من العامّ الاستغراقيّ أو من العامّ البدليّ، فقد ذهب اُستاذنا المحقّق إلى القول بعدم إمكان تعيين أحدهما بالإطلاق؛ <لأنّ كلّ واحدٍ منهما يحتاج إلى عنايةٍ ليست تلك العناية في الآخر، فالعموم البدليّ يحتاج إلى ملاحظة موضوع الحكم بنحو صرف الوجود من الطبيعة، أو كون المدخول لأداة العموم نكرة، والعموم الاستغراقيّ يحتاج إلى ملاحظة موضوع الحكم في الطبيعة السارية، وهما لحاظان مختلفان كلّ واحدٍ منهما خلاف مقتضى الإطلاق>( )، فلا يمكن تعيين أحدهما بالإطلاق عند الشكّ.
ولكنّ الحقّ: أنّ المتعيّن عند دوران الشكّ بين استغراقيّة العامّ وبين بدليّته هو البناء على الاستغراقيّة لا البدليّة، ببيان: أنّ العامّ الاستغراقيّ ـ كما عرفنا ـ لا يُحتاج فيه إلى جعل المفهوم مرآةً للموضوع، وتُلاحظ فيه الأفراد من جهة أنّها متكثّرات ذاتاً ومستقلّات في نفسها، وكلّ واحد منها مأخوذ على حدّه، وقضيّة ذلك هو الاستيعاب والاستغراق، وأمّا العامّ البدليّ، فهو يحتاج إلى قيدٍ زائد، وهو قصد التردّد، فيكون ـ أيضاً ـ كالعامّ المجموعيّ، يحتاج إلى لحاظ أمر إضافيّ وقيد زائد، يُصار إلى رفعه بالأصل، لكون هذا اللّحاظ الزائد منفيّاً بالإطلاق.

تنبيه:
لا يخفى: أنّ القضيّة التي تنحلّ إليها الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بموضوع عامّ، تارةً تكون جاريةً على نهج القضيّة الحقيقيّة، وأُخرى على نهج القضيّة الخارجيّة، والقضيّة الحقيقيّة هي القضيّة التي يكون الحكم فيها وارداً على العنوان والطبيعة باعتبار ما لها من مرآتيّة إلى الخارج، ويكون الحكم فيها وارداً على الخارجيّات بتوسّط الجامع فيما بينها.
وبعبارةٍ أُخرى: يكون وارداً على الطبيعة بما هي قنطرة للخارج، وبهذا يُفَرَّق بين القضيّة الحقيقيّة وبين القضيّة الطبيعيّة، إذ الحكم في الطبيعيّة يكون وارداً فيها على نفس الطبيعة، لا بلحاظ حكايتها عن الخارج، بل بلحاظ تقرّرها في العقل وكونها موجوداً له ثبوت في حدّ نفسه، كما في قولك: (الإنسان نوع) أو (الإنسان كلّيّ).
والفرق بين القضايا الحقيقيّة والخارجيّة: أنّ الحكم وإن كان يرد في كلتيهما على الخارج، إلّا أنّه في القضايا الحقيقيّة يكون مترتّباً على الخارج لا مباشرةً، بل بواسطة العنوان المنطبق على الخارجيّات، وأمّا في القضايا الخارجيّة، فالحكم إنّما يرد على الخارج ابتداءً، وبلا توسّط عنوان يكون جامعاً بين الأفراد، بل حتى لو فُرِض وجود جامعٍ بينها، فإنّما يكون ذلك على نحو الاتّفاق، ومن غير أن يكون ملحوظاً في القضيّة، وذلك كقولك: (قُتِل كلّ من في العسكر)؛ فإنّ معناه: أنّه قد قُتِل زيد وعمرو وبكر أنفسهم، وليس بينهم جامع، بل اتّفاقاً، بما أنّهم كانوا جميعاً في المعركة واتّفق مقتلهم فيها جميعاً، وأين هذا من القضايا الحقيقيّة التي يُلْحَظ فيها الجامع بين الأفراد، بحيث متى تحقّق ذلك الجامع يترتّب الحكم، بلا فرق بين الأفراد الموجودة والأفراد التي لم توجد بعد.

العموم المستفاد من الجمع المحلّى:
ثمّ إنّه قد يُتخيّل أنّ الجمع المحلّى بالألف واللام يقتضي ظاهراً العموم المجموعيّ، بدعوى: أنّ مدخول اللّام هو الجميع، كما في قولك ـ مثلاً ـ (العلماء)، فإنّه لا يصدق على كلّ فردٍ فرد كالعامّ الاستغراقيّ، وإنّما ينطبق على كلّ جماعةٍ جماعة من أفراد العالم، والجماعة هي الثلاثة فما فوق.
وغاية ما يستفاد من اللّام هو أقصى مراتب الجمع التي تنطوي فيه جميع المراتب، ولكن مع حفظ معنى الجمعيّة، فاللّام توجد معنىً في المدخول كان فاقداً له، وهذا المعنى هو أقصى المراتب، كما هو الشأن في جميع المعاني الحرفيّة التي تُوجِد معنىً في الغير، وذلك يقتضي العموم المجموعيّ، لا الاستغراقيّ.
ولكن قد دفع بعض المحقّقين هذا التوهّم بما نصّه:
<أنّ أداة العموم من الألف واللّام إن كان نفس الجمع، بحيث كان ورود أداة العموم متأخّراً عن ورود أداة الجمع ـ من الألف والتاء، والواو والنون ـ على المفرد، لكان للتوهّم المذكور مجال، ولكن كيف يمكن إثبات ذلك؟ بل ورود أداة العموم وأداة الجمع على المفرد إنّما يكون في مرتبةٍ واحدة، فالألف واللّام تدلّ على استغراق أفراد مدخولها، وهو المفرد، غايته: أنّه لا مطلق المفرد، حتى يقال: إنّ المفرد المحلّى باللّام لا يدلّ على العموم، بل المفرد الذي ورد عليه أداة الجمع عند ورود أداة العموم>( ).
والحاصل: أنّ أداة العموم إنّما ترد على المفرد الذي يرد عليه أداة الجمع، فتكون ـ أعني: أداة العموم ـ دالّةً على استغراق أفراد ذلك المفرد، ويكون حال الجمع المحلّى باللّام حال لفظ (كلّ) في الدلالة على استغراق أفراد المفرد على نحو الانحلال.

هل العامّ المخصّص حجّة في الباقي أم لا؟
ذهب بعضهم إلى أنّ تخصيص العامّ موجب للمجازيّة مطلقاً.
وذهب آخرون إلى أنّه إنّما يوجبها في خصوص المنفصل، وعليه رتّبوا القول بعدم حجّيّة العامّ في الباقي بعد التخصيص، وذلك بدعوى: أنّه بعد التخصيص يكون مجملاً، بسبب كون مراتب المجاز متعدّدة، وأنّ تعيين مرتبة خاصّة منها تعيين بلا معيّن، دونما فرق في التخصيص بين أن يكون من قبيل الاستثناء أو غيره.
فإن قيل: ما بقي بعد التخصيص هو أقرب المجازات إلى الحقيقة فيتعيّن الحمل عليه بعد قيام القرينة الصارفة على عدم إرادة المعنى الحقيقيّ.
قلنا: الكلام في أقربيّة الباقي إلى العامّ لا يكون إلّا بحسب المقدار، ولا اعتبار بها، وإنّما المدار على الأقربيّة بحسب الاُنس الذي يكون ناشئاً عن كثرة الاستعمال وعن لحاظ المناسبة الخاصّة بين المعنيين.
وقد يقال: بأنّ الأقربيّة من جهة الكنه تكون موجبة للاُنس ـ أيضاً ـ، ومن هنا نرى أنّ كثرة الإخراج قد تكون سبباً للاستهجان.
ولكنّ الأَولى مع ذلك: صرف الكلام إلى البحث عن الحجّيّة، لا البحث عن لزوم المجازيّة أو عدمه؛ لوضوح أنّ ما يناسب الاُصوليّ إنّما هو البحث عمّا هو الحجّة، لا البحث عن الحقيقة والمجاز حتى يقال: إنّه بعد تخصيص العامّ فهل الباقي بعد التخصيص مجاز أم لا؟
وإذا عرفت ذلك:
فالمحقّقين من العلماء على أنّه حجّة في الباقي، بلا فرق في ذلك بين أن يكون المخصّص متّصلاً أو منفصلاً.
وقد أجاب صاحب الكفاية عن الإشكال المتقدّم ـ أعني: لزوم عدم حجّيّة العامّ بعد تعدّد مراتب المجازات وعدم وجود المعيّن لأحدها على وجه الخصوص ـ بما لفظه:
<والتحقيق في الجواب أن يقال: إنّه لا يلزم من التخصيص كون العامّ مجازاً، أمّا في التخصيص بالمتّصل، فلما عرفت من أنّه لا تخصيص أصلاً، وأنّ أدوات العموم قد استُعْمِلَت فيه، وإن كانت دائرته سعةً وضيقاً تختلف باختلاف ذوي الأدوات، فلفظة (كلّ) في مثل (كلّ رجل) و(كلّ رجل عالم) قد استُعْملت في العموم، وإن كان أفراد أحدهما بالإضافة إلى الآخر، بل في نفسها في غاية القلّة.
وأمّا في المنفصل، فلأنّ إرادة الخصوص واقعاً لا تستلزم استعماله فيه وكون الخاصّ قرينةً عليه، بل من الممكن قطعاً استعماله معه في العموم قاعدة، وكون الخاصّ مانعاً عن حجّيّة ظهوره، تحكيماً للنصّ أو الأظهر على الظاهر، لا مصادماً لأصل ظهوره، ومعه: لا مجال للمصير إلى أنّه قد استعمل فيه مجازاً كي يلزم الإجمال>( ).
وحاصل ما أفاده:
أنّ التخصيص تارةً يكون بالمتّصل، كما إذا قال: (أكرم كلّ عالم إلّا النحويّين)، وأُخرى بالمنفصل، كما إذا قال: (أكرم كلّ عالم) ثمّ قال بعد حينٍ من ذلك: (لا تكرم النحويّين).
فإن كان التخصيص بالمتّصل، فقد تقدّم: أنّه ليس بتخصيص في الحقيقة، وأنّ الكلام ليس ظاهراً إلّا في الباقي؛ إذ لا تخصيص في الحقيقة، وإنّما هو تضييق للمدخول، وتضييق المدخول لا ينافي كون الأداة موضوعةً ومستعملةً في العموم؛ لأنّها موضوعة لإفادة عموم ما يراد من مدخولها، فلا فرق بين قوله: (أكرم كلّ عالم) وقوله: (أكرم كلّ عالم عادل) في كون لفظه (كلّ) مستعملة في العموم فيهما، غاية الأمر: أنّ مدخولها مختلف.
وبعبارة أُخرى: فمع كون المخصّص متّصلاً، فمن أوّل الأمر لا ينعقد ظهور للعامّ إلّا في ما عدا ما أُخرج منه، وهو ما شمله المخصّص من الأفراد، فتكون دائرة الظهور من أوّل الأمر ضيّقة، على حدّ (ضيّق فم الركيّة).
أمّا في المخصّص المنفصل، فالتخصيص لا ينافي ظهور العامّ في العموم، بل يزاحمه في حجّيّته على المراد الجدّي، ويُقدّم عليه الخاصّ لكونه أظهر منه، فحينئذٍ: يكون الظهور باقياً على حاله كما كان قبل التخصيص.
نعم، بعد ورود الخاصّ ينكشف أنّ العموم لم يكن بمراد جدّيٍّ للمتكلّم، فالتخصيص في حقيقة الأمر يكون بين الإرادة الجدّيّة والإرادة الاستعماليّة، فلا معنى للقول بالمجازيّة بعد إمكان إبقاء العامّ على ظهوره الاستعماليّ في العموم، والمجازيّة إنّما تدور مدار الاستعمال لا مدار الواقع، ويكون العامّ لأجل المصلحة الملحوظة الداعية إلى تأخير الخاصّ قد جاء لصرف القاعدة، فيكون البناء عليه إلى حين أن يأتي الخاصّ ونعثر عليه، ولأجل هذا نرى أنّ المصلحة قد تقتضي في بعض الأحيان مجيء العامّ على لسان إمامٍ ومجيء الخاصّ على لسان إمامٍ آخر، وفي مثل هذه الصورة، يكون تكليف المخاطبين بالعامّ في زمان الإمام الأوّل هو العمل بعموم العامّ.
والحاصل: بعد أن عرفنا أنّ التخصيص لا يوجب المجازيّة مطلقاً، أنّه لا إشكال في أنّ العامّ حجّة في الباقي بعد التخصيص، وإنّما كان الإشكال في حجّيّته في الباقي لو كنّا نقول بالمجازيّة.
هذا ما يرتبط بما أفاده.
وأمّا إذا كان المخصّص مجملاً مفهوماً، فتارةً يكون الإجمال من جهة دورانه بين المتباينين، كما إذا خصّ العلماء بزيد ـ مثلاً ـ، وكان زيد مشتركاً ومردّداً بين شخصين اثنين، وأُخرى يكون من جهة دورانه بين الأقلّ والأكثر، كما إذا تردّد الفاسق ـ مثلاً ـ بين مرتكب مطلق المعصية وبين مرتكب خصوص الكبيرة.
ثمّ على كلا التقديرين: فتارةً يكون المخصّص متّصلاً، وأُخرى يكون منفصلاً.
فهنا صور ثلاث:
الصورة الاُولى:
أن يكون المخصّص متّصلاً، وقد دار أمره بين المتباينين، أو بين الأقلّ والأكثر، فلا إشكال ـ حينئذٍ ـ في عدم انعقاد ظهورٍ للعامّ، وأنّه يوجب إجمال العامّ حقيقةً، وذلك بسبب سراية إجمال المخصّص إليه ـ أي: إلى العامّ ـ، فلا يكون للعامّ دلالة تصديقيّة على معنىً بحيث يصحّ أن يُخْبَر بمفاده.
ومعلوم: أنّ الكلام ما لم يحصل له هذا النحو من الدلالة، فلا ينعقد له ظهور في أيّ معنىً أصلاً، ومع عدم ظهوره، فلا يكون حجّة؛ إذ الحجّيّة حكم موضوعه الظهور، وهو منتفٍ بحسب الفرض، وهذا هو معنى القول بسقوط العامّ عن الحجّيّة في المخصّص المتّصل المجمل مطلقاً، أي: سواء كان أمره يدور بين المتباينين أم بين الأقلّ والأكثر.
الصورة الثانية:
أن يكون المخصّص منفصلاً، ودار أمره بين المتباينين، ففي هذه الصورة ـ أيضاً ـ نقول بسقوط العامّ عن الحجيّة؛ فإنّ هذا المخصّص المجمل ﻛ (زيد) في قولك: (لا تكرم زيداً)، وإن كان أمره يدور بين زيد ابن بكر وزيد بن خالد، فإنّه لا يكون مانعاً من ظهور العامّ في العموم، بل ينعقد للعامّ ظهور في العموم.
ولكن مع ذلك، فلا يمكن لنا أن نتمسّك بأصالة العموم في المقام، بل نقول بأنّه بعد العلم بالتخصيص يخرج العامّ عن كونه كبرىً كلّيّة، ولا تجري فيه أصالة العموم؛ لأنّ جريانها إنّما يكون في صورة الشكّ، ومع العلم بورود التخصيص لا شكّ، فلا يكون هناك مجال لجريانها، فيُعْلَم أنّ الظهور المنعقد للعامّ في العموم ليس بمرادٍ للمتكلّم بالنسبة إلى بعض الأطراف المحتملة.
ولكن بما أنّ ذلك البعض غير المعيّن خارج عن العموم، ولا يمكن إخراج أحد الأطراف بعينه؛ لأنّه يكون من الترجيح بلا مرجّح، فلا محالة: يسقط العامّ عن الحجّيّة، ويكون في حكم المجمل.
الصورة الثالثة:
كما لو قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال بعد حين: (لا تكرم الفسّاق)، وتردَّد أمر الفاسق بين مطلق مرتكب الذنب من الصغيرة والكبيرة، وبين خصوص مرتكب الكبيرة، فهنا، بالنسبة إلى الأكثر العامّ يكون باقياً على حجّيّته، وأصالة العموم جارية فيه.
وأمّا بالنسبة إلى الأقلّ المتيقّن التخصيص، فتسقط حجّيّة العامّ لا محالة؛ إذ بالنسبة إلى الأكثر يكون الشكّ من قبيل الشكّ في التخصيص، ومعه: يكون المرجع إلى أصالة العموم، وأصالة عدم التخصيص بعد أن سبق للعامّ أن انعقد له ظهور في العموم.
ففي المثال المتقدّم، فبالنسبة إلى مرتكب الكبيرة، فالعامّ قد سقط عن الحجّيّة، وأمّا بالنسبة إلى مرتكب الصغيرة، فيُشَكّ في خروجه، وهذا شكّ في التخصيص، فبعدما انعقد للعامّ ظهور في العموم، تكون أصالة العموم كافيةً في إثبات عدم خروجه.
فإن قلت: الخارج هو عنوان الفاسق، لا خصوص مرتكب الكبيرة، فالعامّ لا يكون شاملاً لهذا العنوان بعد خروجه عنه، وعليه: فلا مجال للتمسّك بأصالة العموم بالنسبة إلى ما يكون دخوله مشكوكاً.
قلت: الخارج ليس هو مفهوم الفاسق وعنوانه الأوّليّ، بل واقع الفاسق، وحيث لم يعلم بأنّ مرتكب الصغيرة داخل في الفاسق الواقعيّ، فيشك في تخصيص العامّ به، فيكون شكّاً في التخصيص، والمرجع فيه إلى أصالة العموم.
هذا كلّه، فيما لو كان المخصّص مجملاً مفهوماً.
وأمّا لو كان مجملاً مصداقاً، بأن كان الشكّ في التخصيص ناشئاً من جهة الشبهات الموضوعيّة، فيقع البحث ـ حينئذٍ ـ في أنّه هل يمكن أن يُتَمسّك بالعامّ بالشبهات المصداقيّة للمخصّص وفي كلا قسميه: أعني: المخصّص المتّصل والمنفصل أم لا؟
فالكلام تارةً في المخصّص المتّصل، وأُخرى في المخصّص المنفصل:
أمّا المخصّص المتّصل، بلا فرقٍ بين أن يكون بالاستثناء ﻛ (أكرم كلّ عالم إلّا الفسّاق)، أو بغير الاستثناء ﻛ (أكرم كلّ عالمٍ تقيّ)، وشككنا في أنّ زيداً العالم هل هو فاسق أم لا؟ أو هل هو تقيّ أم لا؟ فهل يمكن في هذه الصورة التمسّك بأصالة العموم لإثبات أنّه ليس بفاسق أو أنّه تقيّ أم لا؟
الظاهر: العدم؛ لأنّ قضيّة (لا تكرم العلماء إلّا الفسّاق) ـ مثلاً ـ هي بمنزلة قولك (لا تكرم فسّاق العلماء)، وبما أنّ عدم إحراز فرديّة ما يحتمل انطباق الخاصّ عليه مانع من التمسّك بالعامّ، فما لم يُحْرَز كون الفرد المردّد والمشكوك فرداً للعامّ، فلا يمكن التمسّك بالعامّ لإثبات حكمه لهذا المردَّد، فإذا قال: (أكرم العلماء إلّا الفسّاق)، ولم نعلم بعدالة زيد أو فسقه، فلا يجوز التمسّك بالعامّ لإدخاله تحت العموم حتى نقول بوجوب إكرامه.
وبعبارة أُخرى: فإنّ القضيّة ـ خارجيّةً كانت أم حقيقيّة ـ لا تكون ناظرة إلى إثبات موضوعها وعدم إثباته للحكم، وإنّما هي تتكفّل ببيان ثبوت حكمها لموضوعها الموجود في الخارج، حقيقةً أو تقديراً، وفي المقام، لو كانت القضيّة خارجيّةً، كما في مثل (أكرم علماء البلد إلّا الفسّاق)، فهي دالّة على ثبوت الحكم لأفراد العالم التي تحقّق لها وجود في الخارج، فلو شككنا ـ مثلاً ـ في أنّ زيداً المتيقّن كونه من علماء البلد عادل أم فاسق، فهذه القضيّة لا تدلّ على أنّه ليس بفاسق لكي يجب إكرامه. وهكذا الحال بالنسبة إلى القضايا الحقيقيّة، كما في قولك: (الخمر حرام)، فإنّ مرجعه إلى قضيّة شرطيّة مقدّمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت الحكم، أي: (إن وُجِد خمر في الخارج فهو حرام)، فإذا كان الأمر كذلك، وكان مرجع القضيّة الحقيقيّة إلى الشرطيّة، فالقضيّة الشرطيّة ليست ناظرةً إلى وجود الموضوع، الذي هو شرطها، في الخارج، بل إلى إثبات التالي، وهو الحرمة، على تقدير وجود المقدّم، فالموضوع مأخوذ فيها مفروض الوجود، فلو شككنا في كون مايعٍ ما خمراً أم لا؟ فلا يمكن لنا التمسّك بإطلاق ما دلّ على حرمة الخمر لإثبات أنّه خمر، فيكون المرجع ـ حينئذٍ ـ هو الاُصول العلميّة.
وقد يتمسّك لشمول العامّ للفرد المشكوك بقضيّة المقتضي والمانع؛ فإنّ انطباق العامّ للمشكوك فيه مقتضٍ لإثبات حكم العامّ له؛ لأنّ المقام مقتضٍ للحجّيّة في جميع ما يشمله من الأفراد، والمخصّص مانع عن حجّيّته فيما ثبتت فرديّته للخاصّ.
وأمّا الفرد المشكوك، كزيد غير المعلوم فسقه، وشكّ في خروجها عن عموم العامّ، مع عدم العلم بحالته السابقة، كان العامّ حجّة فيه؛ لأنّ المقتضي للشمول موجود مُحْرَز، وأمّا المانع فمشكوك فيه، فيؤثّر المقتضي أثره، لتلك القاعدة، فيجب العمل بالمقتضي إلى حين أن يأتي المانع.
ولكن فيه: أنّه محلّ للنقاش صغرىً وكبرى.
أمّا صغرىً:
فإنّ هذا أجنبيّ عن القاعدة المذكورة؛ فإنّ هذه القاعدة إنّما تكون حجّةً في صورة العلم بوجود المقتضي والشكّ في وجود المانع؛ لأنّ العامّ مشكوك المقتضي للشبهة المصداقيّة، فإنّ الدلالة التصديقيّة لا تكون كاشفةً عن مقصود المتكلّم ومراده، إذ المتكلّم في مقام بيان تشريع الأحكام على موضوعاتها، كجعل الحرمة للخمر والوجوب للصلاة، وليس له غرض في بيان تطبيق الكلّيّات على مصاديقها.
وبكلمة: فإنّ المصداق المشتبه، وإن كان فرداً للعامّ بما هو عامّ، ولكن بعد تخصيصه وانحصار الإكرام بغير الفاسق، يكون الإكرام ثابتاً للعلماء غير الفسّاق خاصّةً. فبعد التخصيص يكون العالم العادل واجب الإكرام ويكون الفاسق غير واجب الإكرام أو محرّم الإكرام. فهنا قاعدتان كلّيّتان ولا شيء منهما بمعلوم الصدق والانطباق على الفرد المشكوك:
أُولاهما: أنّ العلماء غير الفسّاق يجب إكرامهم، فهي قاعدة كلّيّة لا يُعْلَم شمولها لزيد المشكوك؛ إذ ليست واردةً في بيان انطباق الكبرى الكلّيّة على مصاديقها.
والثانية: أنّ الفاسق محرّم الإكرام، وهي ـ أيضاً ـ قاعدة كلّيّة لا يُعْلَم شمولها لزيد المشكوك أم عدم شمولها له؛ لأنّه ليست في مقام التطبيق أيضاً أم لا؟
وأمّا كبرىً:
فلأنّه لا دليل هناك على صحّة هذه القاعدة، بل الدليل على خلافها؛ فإنّ وجود الشيء متوقّف على وجود جميع أجزاء علّته، فهو متوقّف على إحراز وجود المقتضي، وعلى إحراز توفّر جميع الشرائط، وعلى إحراز فقدان المانع، فاحتراق الورقة ـ مثلاً ـ متوقّف على وجود النار، وعلى ممّاسّة النار لها، وعلى عدم وجود الرطوبة المانعة، فإذا توفّر كلّ ذلك حصل الاحتراق، فلا يكاد يمكن أن يوجد الشيء بمجرّد وجود المقتضي، فمع كون المقتضي موجوداً وكون المانع محتمل الوجود فكيف مع ذلك يمكن القطع بوجود الشيء؟!
ثمّ إنّه قد يتوهّم أنّ فتوى المشهور بالضمان في مورد اليد المشكوكة المردَّدة بين أن تكون يد أمانة أو يداً عادية إنّما هي من باب تطبيق نفس القاعدة، أعني: قاعدة «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» بنحو التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة.
بيان ذلك: أنّ «قاعدة اليد» إن قلنا بأنّها تشمل اليد العادية فقط، دون اليد المأذونة، إذ اليد المأذونة خارجة بالتخصّص، وعلى هذا الأساس، فيكون دخول اليد المشكوكة تحت عموم القاعدة مشكوكاً من باب الشكّ في الشبهة المصداقيّة للعامّ، نظير ما إذا قلنا: (أكرم العلماء)، وشككنا في أنّ زيداً عالم أم لا.
وإن قلنا بأنّ اليد تشمل اليد المأذونة واليد العادية معاً، فيكون من باب تخصيص الشبهة المصداقيّة في المخصّص، نظير ما إذا قلنا: (أكرم العلماء إلّا الفسّاق)، وشككنا في فسق زيد.
فاتّضح: أنّه على كلا التقديرين لا يمكن التمسّك بالقاعدة، مع أنّهم حكموا بالضمان في اليد المشكوكة، فقد يقال: بأنّ حُكْمهم هذا إنّما هو تعويل منهم على التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة.
ولكنّ التحقيق: أنّ ذهاب المشهور إلى الضمان ليس لأجل صحّة التعويل على العامّ في الشبهات المصداقيّة، بل لأجل أنّ هناك أصلاً منقّحاً للموضوع، وببركة هذا الأصل يدخل المشكوك تحت عموم العامّ، فيتمسّك بالعامّ لإثبات حكمه، وإثبات شموله للمورد بعد إحراز موضوع الضمان.
فإنّ موضوع الضمان مركّب من جزأين، وأحد هذين الجزأين محرز بالأصل، والآخر محرز بالوجدان، فأمّا الأوّل، فهو الاستيلاء على مال الغير والتصرّف به، وهو محرز وجداناً، وأمّا الثاني، فهو عدم إذن صاحب المال في هذا التصرّف؛ فإنّ إذن المالك وعدم رضاه بالتصرّف لمّا كان من الحوادث المسبوقة بالعدم، فهو يثبت باستصحاب عدمه؛ فإنّ الأصل عدم رضا المالك.
وبذلك يتمّ كلا جزأي الموضوع، فيثبت كون اليد يداً عادية، فيُحْكَم في موردها بالضمان، وعليه: فليست الفتوى بالضمان مستندةً إلى التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة أصلاً، والفتوى في محلّها، ولا إشكال أصلاً.
ومن هنا ظهر الحال فيما أفاده السيّد البروجردي على ما في تقريراته بما لفظه:
<الأمر الثامن: التمسّك بعموم (على اليد) في الشبهة المصداقيّة له: إذا وقع الاختلاف في كون يد أمينة أو عادية، فالمشهور على أنّ القول قول مدّعي الضمان، وأنّ البيّنة على مدّعي الأمانة، وحيث إنّ ذلك ـ بحسب الظاهر ـ على خلاف القواعد، إذ القاعدة تقتضي تقديم قول مدّعي الأمانة من جهة أنّ الأصل عدم الضمان، تصدّى بعضهم لتصحيح فتوى المشهور، فاستدلّ لذلك بعموم (على اليد)، ونحن أيضاً تمسّكنا به في حواشينا على العروة، ولكنّه لا يخفى فساده، فإنّ عمومه مخصّص باليد الأمينة، فالتمسّك به في اليد المشكوك فيها تمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة...
إلى أن قال: والظاهر: أن مستندهم في هذه الفتوى الروايات الواردة في المسألة، وحيث لم يظفر عليها بعض المتأخّرين، ذكر وجوهاً غير مغنية>( ).
فإنّك قد عرفت: أنّ فتواهم بالضمان هنا لم تكن لأجل التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة، بل هي من باب التمسّك بالاستصحاب لإثبات ثاني جزأي موضوع الضمان، بعد أن كان أوّل الجزأين ـ وهو الاستيلاء ـ محرزاً بالوجدان، والثاني محرزاً بالأصل؛ حيث إنّ الإذن من الحوادث المسبوقة بالعدم، فيُستصحب هذا العدم، وبه يتمّ الموضوع، فالضمان ـ حينئذٍ ـ يثبت على طبق القاعدة، ومعه: فتلك الروايات التي ذكروها تكون على طبق القاعدة أيضاً.
وقد استشكل المحقّق الشاهروديّفي صحّة التمسّك بالاستصحاب هنا بما ملخّصه: أنّه غير جائزٍ، وذلك لكون الاستصحاب هنا أصلاً مثبتاً؛ لأنّ موضوع الضمان إنّما هو التصرّف المقيّد بعدم الإذن من المالك، فهو كالقرشيّة والقبلية لا يمكن إثباته بالأصل، إلّا بناءً على القول بالأصل المثبت؛ فإنّ أصالة عدم تحقّق الرضا من المالك لا يُثبت كون اليد عاديةً ولا يُثبت كون الاستيلاء بغير رضا المالك إلّا بالملازمة.
ونصّ كلامه ـ فيما حُكي عنه في مجلس درسه الشريف ـ:
<إنّ اجتماع أجزاء المركّب من جوهرين، أو عرضين لمحلّين، أو جوهر وعرض لجوهرٍ آخر، إن كان له دخل في الحكم، فلازمه: اعتبار عنوان الاجتماع في الزمان فيه، كدخل عنوان السبق واللّحوق في موضوع الحكم، ومن المعلوم: عدم إمكان إحرازه بالأصل إلّا على القول بحجّيّة الاُصول المثبتة، فلو جرى استصحاب عدم إذن المالك لا يَثبت عنوان التقارن بينه وبين استيلاء الغير على ماله، كعدم إثبات استصحاب عدم ركوع الإمام إلى زمن ركوع المأموم ووقوع ركوعه قبل رفع الإمام رأسه عن الركوع، حيث إنّ إثبات هذه القبليّة بالاستصحاب مبنيّ على الأصل المثبت.
والحاصل: أنّه بناءً على دخل عنوان اجتماع أجزاء الموضوع المركّب في الزمان، يلزم عدم إمكان إحراز بعض أجزائه بالأصل، فاستصحاب عدم إذن المالك لا يثبت مقارنته لاستيلاء الغير عليه، فلا يصحّ الحكم بالضمان استناداً إلى هذا الاستصحاب، بل تجري أصالة البراءة في الضمان، فيكون دعوى الضمان على خلاف الأصل.
وإن لم يكن لعنوان الاجتماع في الزمان دخل في الحكم، لزم ترتّب الحكم على وجود الجزأين في الخارج، وإن لم يتقارنا في الزمان، كما إذا فرض ترتّب وجوب التصدّق على مجيء زيد وفقر عمرو، وزال فقره، ثمّ جاء زيد؛ فإنّ اللّازم ـ حينئذٍ ـ وجوب التصدّق، إذ المفروض عدم دخل اجتماعهما زماناً في الحكم، وهو كما ترى ممّا لا يُظَنّ التزام أحدٍ به، وبالجملة: هذا الإشكال يهدم أساس الموضوعات المركّبة>( ).
وعليه: فلو تمّ هذا الإشكال، فيصحّ ما نقلناه عن السيّد البروجردي سابقاً من أنّ المستند في فتوى المشهور بالضمان في اليد المشكوكة إنّما هو الروايات، لكونها واردةً على طبق القاعدة.
ولكنّ الحقّ: أنّ الذي هو دخيل في الحكم إنّما هو ذات الموضوع، سواء كان بسيطاً أو مركّباً، وأمّا ما ينتزع من الأجزاء، وهو عنوان الاجتماع، فليس له مدخليّة في الحكم حتى يكون من الأصل المثبت، وبما أنّ الحكم والموضوع هما كالعلّة والمعلول، فمتى وجد الموضوع وجد الحكم، وبما أنّه يمتنع انفكاك المعلول عن علّته، فكذلك يمتنع صيرورة الحكم فعليّاً حتى توجد جميع الأجزاء والشرائط المأخوذة في رتبة الموضوع.
وبهذا يثبت: أنّ ما يمكن أن يكون مستنداً للمشهور في الفتوى بالضمان في المورد المذكور إنّما هو استصحاب عدم الإذن، لا قاعدة المقتضي والمانع، ولا التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، ولا الروايات، وإن كانت الروايات مؤيّدة لمضمون الاستصحاب.

التعويض عن العامّ باستصحاب العدم الأزليّ:
بعد الفراغ عن عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لمخصّصه، وقع الكلام بينهم في إمكان أن يُعوّض عنه بأصلٍ موضوعيٍّ يكون منقّحاً لموضوع العامّ، وهو استصحاب عدم عنوان الخاصّ.
ذلك أنّ موضوع العامّ قد صار ببركة التخصيص مركَّباً من جزأين:
أحدهما: العنوان المأخوذ في العامّ المعلوم انطباقه على الفرد المشكوك وجداناً.
والآخر: عدم العنوان الخاصّ الخارج من حكم العامّ، فإذا كان إحرازه بالأصل ممكناً تحقّق كلا جزأي الموضوع المركّب لا محالة.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى جريان مثل هذا الاستصحاب، وأنّ ثبوت حكم العامّ للمشكوك يكون بواسطة هذا الاستصحاب، قالما لفظه:
<إيقاظ: لا يخفى أنّ الباقي تحت العامّ بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتّصل، لمّا كان غير معنونٍ بعنوان خاصّ، بل بكلّ عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاصّ، كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعيّ في غالب الموارد إلّا ما شذّ ممكناً، فبذلك يحكم عليه بحكم العامّ، وإن لم يجز التمسّك به بلا كلام، ضرورة أنّه قلّما لا يوجد عنوان يجري فيه أصل ينقّح به أنّه ممّا بقي تحته...> ( ).

الشكّ في شمول العامّ لفردٍ من غير جهة احتمال التخصيص:
قال صاحب الكفاية: <ربّما يظهر عن بعضهم التمسّك بالعمومات فيما إذا شكّ في فردٍ لا من جهة احتمال التخصيص، بل من جهةٍ أُخرى، كما إذا شكّ في صحّة الوضوء أو الغسل بمائعٍ مضاف، فيستكشف صحّته بعموم مثل (أوفوا بالنذور) فيما إذا وقع متعلّقاً للنذر، بأن يقال: وجب الإتيان بهذا الوضوء وفاءً للنذر للعموم، وكلّ ما يجب الوفاء به ـ لا محالة ـ يكون صحيحاً، للقطع بأنّه لولا صحّته لما وجب الوفاء به>( ).
وقد قرّره في التقريرات بما لفظه: <فيقال: إنّ هذا الفرد من الوضوء يجب الوفاء به، لعموم قوله: (أوفوا بالنذر)، وكلّ ما يجب الوفاء به يجب أن يكون صحيحاً، فيجب أن يكون الوضوء صحيحاً، أمّا الصغرى: فبالعموم، وأمّا الكبرى: فللقطع بأنّ ما ليس صحيحاً لا يجب الوفاء به>( ).
ثمّ بعد تلخيصه لكلام التقريرات قال صاحب الكفاية:
<وربّما يؤيّد ذلك بما ورد من صحّة الإحرام والصيام قبل الميقات وفي السفر إذا تعلّق بهما النذر كذلك>( ).
ومن الروايات التي يشير إليها التي تدلّ على صحّة نذر الإحرام قبل الميقات وإن لم يكن متعلّقه فيه الرجحان: صحيح الحلبيّ، قال: <سألْتُ أبا عبد اﷲ عن رجلٍ جَعَل ﷲ عليه شكراً أن يُحْرِم من الكوفة، قال: فليُحْرِم من الكوفة، ولْيَفِ ﷲ بما قال>( ).
وقريب منه خبر أبي بصير( ) وخبر عليّ بن حمزة( ).
وعليه: فلا يمكن القول بعدم الجواز تمسّكاً بقاعدة اعتبار الرجحان في متعلّق النذر؛ لأنّه مع وجود النصّ لا تصل النوبة إلى التمسّك بالقاعدة، خلافاً لما هو محكيّ عن الحلّيّ في السرائر والأصبهانيّ في كشفه( ).
وأمّا نذر الصوم في السفر فهو لا يصحّ مطلقاً، بل لابدّ أن يكون مقيّداً بالسفر، أو بالسفر منضمّاً إلى الحضر، ويدلّ على صحّته: صحيح عليّ بن مهزيار، قال: <كتب بندار مولى إدريس: يا سيّدي نذرْتُ أن أصوم كلّ يوم سبتٍ، فإن أنا لم أصمْه، ما يَلْزمني من الكفّارة؟ فكتب ـ وقرأتُه ـ: لا تتركْه إلّا من علّة، وليس عليك صومه في سفرٍ ولا مرضٍ إلّا أن تكون نويتَ ذلك، وإن كُنتَ أفطرتَ فيه من غير علّةٍ، فتصدّق بعدد كلّ يومٍ على سبعة مساكين، نسأل اﷲ التوفيق لما يحبّ ويرضى>( ).
وقد استشكل في ذلك صاحب الكفاية بقوله:
<والتحقيق أن يقال: إنّه لا مجال لتوهّم الاستدلال بالعمومات المتكفّلة لأحكام العناوين الثانويّة فيما شكّ من غير جهة تخصيصها إذا أخذ في موضوعاتها أحد الأحكام المتعلّقة بالأفعال بعناوينها الأوّليّة، كما هو الحال في وجوب إطاعة الوالد والوفاء بالنذر وشبهه في الاُمور المباحة أو الراجحة، ضرورة أنّه معه لا يكاد يتوهّم عاقل أنّه إذا شكّ في رجحان شيءٍ أو حلّيّته جواز التمسّك بعموم دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حلّيّته>( ).
ولابدّ في فهم كلامه من بيان أقسام الحكم الشرعيّ الثابت لموضوعه، وهي ثلاثة أقسام:
الأوّل: أن يكون الحكم ثابتاً للشيء بعنوانه الأوّليّ الذاتيّ، كالإباحة الثابتة ـ مثلاً ـ لعناوين الماء والتمر واللّحم والحنطة، وما إلى ذلك من العناوين الذاتيّة.
الثاني: أن يكون الحكم ثابتاً للشيء بعنوانه الثانويّ، أي: بأن يكون ثابتاً له لتعنونه بعنوان يكون خارجاً عن ذاته، ولكن بشرط أن يكون لهذا الشيء حكم خاصّ بعنوانه الأوّلي، كالصوم ـ مثلاً ـ؛ فإنّ الوجوب الذي ثبت له بعنوان ثانويّ، مثل النذر، يكون خارجاً عن ذاته.
ولكنّ هذا الوجوب إنّما يثبت له بعنوانه الثانويّ إذا كان بعنوانه الأوّليّ، أي: بما هو صوم، راجحاً، وكالتصدّق على الفقراء أو كصلاة الليل وما شابههما من الأفعال المحكوم فيها بالرجحان بعناوينها الأوّليّة، وكذا الوجوب الثابت للفعل بعنوان ثانويّ، كإطاعة الوالد بشرط أن يكون الفعل الذي أمر به الوالد مباحاً بعنوانه الأوّليّ.
الثالث: أن لا يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلاً، أي: أن يكون الحكم ثابتاً له بعنوان الثانويّ مطلقاً، من دون أن يكون ثبوت الحكم لهذا الشيء بعنوانه الثانويّ مشروطاً بثبوت أيّ حكمٍ خاصٍّ له بعنوانه الأوّلي، وذلك كالحرمة الثابتة للغنم الموطوءة بعنوان كونها موطوءة؛ فإنّ ثبوتها لها بهذا العنوان غير مشروط بثبوت الإباحة ـ مثلاً ـ لها بعنوانها الأوّليّ الذاتيّ، أي أنّه لم تؤخذ الإباحة للغنم بعنوانها الأوّليّ شرطاً في ترتّب الحرمة عليها بعنوانها الثانويّ، والذي هو كونها موطوءة، وإنّما تترتّب عليها الحرمة إذا صارت موطوءة، وإن فرض أنّه لم يَثبت لها أيّ حكمٍ شرعيٍّ لها قبل صيرورتها موطوءةً، أي: بعنوانها الأوّليّ.
إذا عرفت هذا، فلا يخفى: أنّ إطاعة الوالد لا تجب مطلقاً، وإنّما هو مشروط بأن يكون ما أمر به الوالد بالعنوان الأوّلي مباحاً وغير حرام، فإذا شكّ في إباحته، فلا يمكن التمسّك بعموم وجوب إطاعة الوالد لإحراز إباحته؛ لأنّ الشكّ هنا شكّ في موضوع الدليل، وليس شكّاً في حكمه.
وهذا الكلام يأتي ـ أيضاً ـ في وجوب الوفاء بالنذر، فإذا شكّ في كون المنذور ماء مباحاً ـ مثلاً ـ فلا يمكن التمسّك بعموم وجوب الوفاء بالنذر بعد أن كان الشكّ شكّاً في الموضوع، أي: شكّ في أنّ متعلّق هذا النذر هل هو راجح أم لا؟
ولا يمكن إثبات رجحانه، وبالتالي: صحّة النذر المتعلّق به، بالعمومات الدالّة على لزوم الوفاء بالنذر؛ لما قد عرفته مراراً من أنّه لا يمكن إثبات تحقّق الموضوع بنفس الدليل المتكفّل لإثبات الحكم له.
نعم، لو كان الحكم ثابتاً للشيء بعنوانه الثانويّ مطلقاً، أو من دون اشتراطه بثبوت حكمٍ خاصٍّ له بعنوانه الأوّليّ، كما إذا لم يدلّ دليل على دخل الرجحان في المنذور، أو الإباحة في موضوع وجوب إطاعة الوالد، وشككنا في اعتبارهما فيهما، فلا مانع من التمسّك بعموم دليلي وجوب الوفاء بالنذر وإطاعة الوالد لوجوبهما، لكون الشكّ هنا شكّاً في التخصيص.
قال صاحب الكفاية بعد كلامه السابق:
<ضرورة أنّه قلّما لا يوجد عنوان يجري فيه أصل يُنقَّح به أنّه ممّا بقي تحته، مثلاً: إذا شكّ أنّ امرأة تكون قرشيّة، فهي وإن كانت وجدت إمّا قرشيّة أو غيرها، فلا أصل يُحرز أنّها قرشيّة أو غيرها، إلّا أنّ أصالة عدم تحقّق الانتساب بينها وبين قريش تجدي في تنقيح أنّها ممّن لا تحيض إلّا إلى خمسين؛ لأنّ المرأة التي لا يكون بينها وبين قريش انتساب ـ أيضاً ـ باقية تحت ما دلّ على أنّ المرأة إنّما ترى الحمرة إلى خمسين، والخارج عن تحته هي القرشيّة، فتأمّل تعرف>( ).
ونحن هنا نتبع في مختارنا المحقّق النائيني، الذي خالف صاحب الكفاية، فذهب إلى عدم جريان هذا الأصل المذكور.
وقد ذكر أنّ كلام صاحب الكفاية إنّما يتمّ بناءً على أخذ عدم الخاصّ في موضوع الحكم بنحو العدم المحموليّ الراجع إلى فرض موضوع الحكم مركّباً من جزأين: أحدهما: عنوان العامّ، والآخر: عدم عنوان الخاصّ، من دون فرض اتّصاف العامّ بعدم الخاصّ، بل يؤخذ عدم الخاصّ بمفاد ليس التامّة، لا الناقصة.
وأمّا بناءً على أخذ عدم الخاصّ في الموضوع بنحو العدم النعتي الراجع إلى فرض الموضوع هو العامّ المتّصف بعدم الخاصّ، فيكون عدم الخاصّ مأخوذاً بمفاد ليس الناقصة، فلا يتمّ ما ذهب إليه، لعدم سبق اتّصاف الذات بعدم الخاصّ؛ لأنّها حينما توجد توجد إمّا متّصفةً به أو بعدمه.
وأمّا العدم المحموليّ الأزليّ فهو، وإن كان في نفسه مجرى الأصل، لكنّه لا ينفع في إثبات العدم النعتيّ إلّا بناءً على القول بالأصل المثبت.
قال: <ويرد عليه: أنّ الباقي تحت العامّ بعد التخصيص إذا كان هي المرأة التي لا يكون الانتساب إلى قريش موجوداً معها على نحو مفاد ليس التامّة، فالتمسّك بالأصل المذكور لإدراج الفرد المشتبه كونها من قريش في الأفراد الباقية، وإن كان صحيحاً، إلّا أنّ الواقع ليس كذلك؛ لأنّ الباقي تحت العامّ حسب ظهور دليله إنّما هي المرأة التي لا تكون قرشيّة على نحو مفاد ليس الناقصة.
وعليه: فالتمسّك بأصالة العدم لإثبات حكم العامّ للفرد المشكوك فيه غير صحيح؛ وذلك لأنّ العدم النعتيّ الذي هو موضوع الحكم لا حالة سابقة له على الفرض ليجري فيه الأصل، وأمّا العدم المحموليّ الأزليّ، فهو وإن كان مجرىً للأصل في نفسه، إلّا أنّه لا يثبت به العدم النعتيّ الذي هو المأخوذ في الموضوع إلّا على القول بالأصل المثبت>( ).

التمسّك بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص:
لا إشكال في أنّه لا يجوز التمسّك بالعموم أو الإطلاق قبل الفحص عن المخصّص، هذا بالنسبة إلى الاُصول اللّفظيّة، وكذلك ـ أيضاً ـ بالنسبة إلى الاُصول العمليّة؛ فإنّه لا يمكن التمسّك بالبراءة ـ مثلاً ـ إلّا بعد الفحص عن أدلّة الأحكام وعدم وجدانها.
وإنّما الفرق بين البابين في أنّ عدم جواز التمسّك بالاُصول اللّفظيّة إنّما هو لمكان عدم جريان سيرة العقلاء على الأخذ والتمسّك بها ما دام العموم في معرض التخصيص، بحيث لو فحص عن المخصّص لأمكن أن يظفر به، ولا أقلّ من الشكّ، ويكفي ذلك في عدم الحجّيّة كما هو واضح؛ لأنّ الأصل عند الشكّ في الحجّيّة ـ كما هو معلوم ـ عدمها.
نعم، لو لم تكن العمومات في معرض التخصيص، كغالب العمومات المعمول بها عند أهل المحاورة، فإنّه لا إشكال في جريان السيرة على التمسّك بالعموم.
وبذلك يتّضح: أنّ الفحص في الاُصول اللّفظيّة، إنّما هو عن وجود ما يزاحم الحجّيّة، وعن وجود ما يكون معارضاً لظاهر العموم، بعد الفراغ عن أصل حجّيّتها، وعن وجود المقتضي للتمسّك بها، أي: أنّ الفحص ـ حينئذٍ ـ إنّما يكون فحصاً عن وجود المانع، لا عن وجود المقتضي.
وأمّا الاُصول العمليّة، فالفحص عنها فحص عن أصل الحجّيّة؛ لوضوح أنّه لا تصل النوبة إلى التمسّك بالاُصول العمليّة إلّا بعد الفحص واليأس عن الدليل، فإنّ العقل يحكم بلزوم أن يقوم العبد بوظيفته، وهي الفحص في أحكام المولى، حيث إنّ العقل يرى أنّ ذلك من وظائف العبد بعد تماميّة وظائف المولى، فإنّ العقل يستقلّ بأنّ لكلٍّ من المولى والعبد وظيفة، فوظيفة المولى هي إظهار مراداته وتبليغها بالطرق المتعارفة التي يمكن للعبد أن يصل إليها، إن لم يكن هناك مانع.
أو فقل: وظيفة المولى هي بيان الأحكام على النحو المتعارف، بحيث لو فحص العبد عنها لأمكنه أن يظفر بها، وبعد ذلك تصل النوبة إلى وظيفة العبد، وأنّه يجب على العبد أن يفحص عن مرادات المولى وأحكامه، وحينئذٍ يستقلّ العقل باستحقاق العبد للعقاب عند ترك وظيفته، كما يستقلّ بقبح العقاب عند ترك المولى وظيفته.
وقد أشار صاحب الكفاية إلى ما ذكرناه من عدم المقتضي للحجّيّة في الاُصول العمليّة بدون الفحص بقوله: <إيقاظ: لا يذهب عليك الفرق بين الفحص ها هنا وبينه في الاُصول العمليّة، حيث إنّه ها هنا عمّا يزاحم الحجّة، بخلافه هناك، فإنّه بدونه لا حجّة، ضرورة أنّ العقل بدونه يستقلّ باستحقاق المؤاخذة على المخالفة، فلا يكون العقاب بدونه بلا بيان، والمؤاخذة عليها من غير برهان، والنقل وإن دلّ على البراءة أو الاستصحاب في موردهما مطلقاً، إلّا أنّ الإجماع بقسميه على تقييده به، فافهم>( ).
وعلّق عليه المحقّق الأصفهاني صاحب الحاشية، بقوله:
<هذا مبنيّ على تماميّة المقتضي هنا، فيكون البحث عن المانع أو المعارض وامتيازه عن غيره، لكون هذا المقتضي الخاصّ في معرض المانع، فيكون حال الدلالة حال السند، فكما أنّ مجيء المعارض فيه يؤكّد الحجّيّة، ويكون من تقديم أقوى الحجّتين على أضعفهما، كذلك فيها.
والتحقيق: خلافه؛ إذ دليل الحجّيّة في السند هو العموم والإطلاق، فيكون المقتضي في مقام الإثبات تامّاً، ودليل ترجيح الأعدل ـ مثلاً ـ دليل الحجّيّة الفعلّيّة في ذي المزيّة، بخلاف الدلالة؛ فإنّ دليل اعتبارها بناء العقلاء، ولا معنى لبنائين بنحو العموم والخصوص، إذ البناء العمليّ هو عملهم على طبق الظهور، وهو إمّا على طبقه مطلقاً، أو بعد الفحص عمّا ينافيه.
نعم، المقتضي، بمعنى الباعث على بناء العقلاء بالذات هو الظهور وفعليّته تتبع عدم المانع، ولعلّ مثله ممكن الجريان في الاُصول العمليّة حيث إنّ عدم قيام الحجّة على الواقع مقتضٍ لحكم العقل بقبح العقاب، إلّا أنّ كون الحجّة بحيث لو تفحّص عنها لظفر بها مانع عن الفعلّيّة، فالفحص إنّما هو لتحقيق عدم المانع، لا لإثبات المقتضي. وأمّا أنّ المقتضي نفس الحجّة فواضح، ولذا لو لم يكن حجّة في الواقع حقيقةً، كان مقتضى حكم العقل ثابتاً، لا أنّه يتقوّم وجود المقتضي بوجود الحجّة الواقعيّة، وكونها بحيث لم يظفر بها لو تفحّص عنها، فتأمّل، مع أنّ المراد من العبارة ـ كماهو الظاهر ـ تماميّة المقتضي في مقام الإثبات>( ).
والذي يظهر من كلامه أنّ التقابل تارةً يكون بين المقتضي في مقام الإثبات في كلا الطرفين، وأُخرى بين المقتضي في مقام الثبوت هنا وهناك، لا بين المقتضي إثباتاً في طرف والمقتضي ثبوتاً في طرف آخر.
وكيف كان، فالحاصل: أنّه لو كان جريان الاُصول مستنداً إلى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، فهو لا يجري قبل الفحص، وأمّا لو كان مستنداً إلى النقل، فإنّ الأدلّة الشرعيّة وإن كانت مطلقة وغير مقيّدة بالفحص، إلّا أنّ إطلاقها ـ مع ذلك ـ قد قُيِّد بالإجماع المنعقد على اعتبار الفحص.
مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ إطلاقها قد قُيّد باستقلال العقل بوجوب الفحص، ولا يجوز أن يعمل بإطلاقها، وإلّا لكان بعث الرسل وإنزال الكتب لغواً؛ ضرورة أنّه لو لم يفحص عن المعجزة بحكم العقل، لم يمكن إثبات النبوّة، حيث إنّ إثباتها متوقّف على وجوب النظر إلى المعجزة، وبدونه لا طريق لنا إلى إثبات النبوّة. وهذا يعني: أنّ الفحص في المقام هو من صغريات الفحص عن معجزة النبيّ.
وبالجملة: فكما أنّ ترك النظر إلى المعجزة قبيح بحكم العقل؛ لأنّه يوجب نقض الغرض الداعي إلى إرسال الرسل، فكذلك ترك الفحص عن الأحكام الشرعيّة بعد أن وجّهها الشارع إلى العباد، وبنفس الملاك.
فتحصّل: أنّ وجوب الفحص في باب الاُصول العمليّة قد أخذ في الموضوع، فقبل الفحص لا شيء في البين أصلاً حتى يمكن التمسّك به، وهذا بخلاف الاُصول اللّفظيّة، فإنّ الفحص فيها ـ كما عرفنا ـ فحص عن المانع، فإن وُجِد، وإلّا، يجوز التمسّك بالإطلاق.
أضف إلى ذلك: أنّ هناك علماً إجماليّاً بوجود مقيّداتٍ ومخصّصات، وهذا العلم الإجماليّ مستفاد ممّا وصل إلى أيدينا من عمومات وإطلاقات في آيات الكتاب العزيز، وفي الأخبار المعتبرة الموجودة في الكتب الثلاثة، كما هو معلوم لكلّ من راجعها، وكذلك، فلدينا علم إجماليّ بوجود أمارات وحجج تمنع من التمسّك بالاُصول العمليّة.
ومن المعلوم: أنّ العمل بتلك العمومات يوجب طرح الحجّة، وترك العمل بالاُصول العمليّة، وليس ترك الفحص سوى عدم الاعتناء بتلك الأمارات والحجج، فلا يكون جائزاً البتّة، لكونه مخالفاً لما تقتضيه منجّزيّة العلم الإجماليّ.
فتلخّص: أنّه عند الشكّ لا يمكن التمسّك بأصالة العموم والإطلاق، وإنّما يمكن التمسّك بهما إذا لم يكن العامّ والمطلق في معرض التخصيص أو التقييد؛ لأنّ المتكلّم وإن لم يخصّص العامّ ولم يقيّد المطلق، ولكنّه كثيراً ما يعتمد على المخصّصات والمقيّدات المنفصلة.
وبعبارةٍ أُخرى: ففي مورد الشكّ، يحتمل أن لا يكون المتكلّم قد بيّن تمام مراده ومقصوده في كلام واحد، ومعلوم أنّ التمسّك بالإطلاق إنّما يكون جائزاً إذا كان المتكلّم في مقام البيان، ونحن حينما نراجع أخبار أئمّة الهدى نرى أنّهم كثيراً ما يلقون العامّ، ويعتمدون على الإتيان فيما بعد بالمخصّصات أو المقيّدات، بل قد يلقي الإمام السابق العامّ ويأتي المخصّص على لسان الامام الآتي بعده، والعامّ الذي يكون هذا شأنه، فمن الظاهر أنّه لا يمكن أن يُعتمد عليه إلّا بعد الفحص.
وإن شئتَ قُلتَ: إنّ العموم والإطلاق اُصول عقلائيّة، والمدرك فيها إنّما هو بناء العقلاء وسيرتهم، ولا يمكن إثبات استقرار هذه السيرة قبل الفحص، ولو فرض عدم القطع بعدم جواز العمل.
ومعه: فيكون الشكّ في ثبوت المخصّص كافياً في الخروج عن القدر المتيقّن الذي انعقدت السيرة وبناء العقلاء عليه. ولكنّ عدم جريان سيرة العقلاء، إنّما هو فيما إذا كانت العمومات أو المطلقات واردةً في معرض التخصيص والتقييد، وأمّا بعد الفحص وعدم العثور على المخصّصات أو المقيّدات يُعلم أنّ تلك الموارد خارجة عن أطراف ما هو المعلوم بالإجمال، وبه يحصل الإطمئنان بالخروج، ويُعلم أنّه مراد المتكلّم هو العموم أو الإطلاق.
وخلاصة البحث: أنّ العمل بالعامّ الذي هو في غير معرض التخصيص جائز حتى من دون الفحص، وأمّا العامّ الوارد في معرض التخصيص، فلا يجوز العمل به إلّا بعد الفحص.
وقد تحصّل ممّا أسلفناه: أنّ وجوب الفحص له في كلٍّ من الاُصول العمليّة واللّفظيّة مدركان، يشتركان في أحدهما، وهو العلم الإجماليّ، ويفترقان في الآخر؛ لأنّ المدرك الآخر لوجوب الفحص في الاُصول العمليّة هو حكم العقل مستقلّاً بلزوم أن يتحرّك العبد على وفق ما تقتضيه وظيفته بالبيان المتقدّم، وأمّا في الاُصول اللّفظيّة فهو أن يكون العامّ في معرض التخصيص والتقييد.
غير أنّه قد يقال:
لا يمكن أن نجعل المدرك لوجوب الفحص في كلا البابين هو العلم الإجماليّ، وذلك ببيان: أنّ للعلم الإجماليّ في باب الاُصول العمليّة مدركين:
الأوّل: أنّا نعلم إجمالاً بأنّ في الشريعة أحكاماً إلزاميّة على خلاف الاُصول النافية، فلا يمكن لنا أن نجري هذه الاُصول.
الثاني: هو العلم بثبوت أحكام إلزاميّة فيما بأيدينا من الكتب، ولا يخفى: أنّ دائرة هذا العلم الإجماليّ أضيق من دائرة العلم الإجماليّ الأوّل، فإذا نحن فحصنا عن الأحكام الإلزاميّة في الكتب التي بأيدينا، فإنّ فحصنا هذا يوجب انحلال العلم الثاني، وبما أنّ دائرة العلم الإجماليّ الأوّل أوسع، فيكون العلم الأوّل باقياً على حاله، ولازم ذلك هو أنّه لا يمكن أن نجري الاُصول النافية مطلقاً حتى بعد الفحص.
وهذا نظير ما إذ علمنا بأنّ في جميع الغنم الذي بأيدينا موطوء، وعلمنا ـ أيضاً ـ أنّ في البيض منها موطوءاً، فتفحّصنا عن البيض وعثرنا على مقدار من الموطوء فيها الذي تعلّق علمنا، فهذا لا يكون سبباً لانحلال العلم الإجماليّ على الإطلاق، أي: في المجموع من البيض والسود، وإن كان قد انحلّ بالنسبة إلى البيض.
ولكنّ هذا الإشكال ـ كما هو واضح ـ لا يجري في الاُصول اللّفظيّة؛ لأنّه ليس هناك علمان يكون أحدهما أوسع من الآخر، بل العلم الإجماليّ من أوّل الأمر قد تعلّق بأنّ ما في أيدينا من الكتب بأنّ هناك مخصّصاتٍ ومقيّدات.
ولكنّ الحقّ: أنّ هذا الإشكال مندفع رأساً، فإنّه بعد الفحص وحصول العلم بوجود مقدارٍ من الموطوء في الغنم البيض ينحلّ العلم الإجماليّ الأوسع والأوّل أيضاً، ولكن لا بانحلال حقيقيّ، كانحلال العلم الإجماليّ الصغير والأضيق بل بانحلالٍ حكميّ؛ لأنّ ما عثرنا عليه بعد الفحص من الأدلّة المتكفّلة للأحكام الإلزاميّة قابل لأن ينطبق على ما علم إجمالاً من الأحكام الإلزاميّة في الشريعة؛ إذ لا علم لنا بأنّ في الشريعة أحكاماً إلزاميّةً أزيد ممّا تكفّلته الأدلّة التي عثرنا عليها، فهذه الأحكام التي تضمّنتها قابلة للانطباق على ما علم إجمالاً من الأحكام الثابتة في الشريعة.
ومقامنا نظير ما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، ثمّ علم تفصيلاً بنجاسة أحدهما المعيّن، واحتمل أن تکون النجاسة في المعيّن هي تلك النجاسة المعلومة بالإجمال في أحد الإناءين، فإنّ العلم الإجماليّ ـ حينئذٍ ـ ينحلّ، لاحتمال انطباق ما عُلِم نجاسته تفصيلاً على المعلوم بالإجمال، غاية الأمر: أنّه ليس بانحلالٍ حقيقيّ، بل هو انحلال حكميّ.
ففي مقامنا: بعد حصول العلم بوجود مقدار من الموطوء في البيض ينحلّ العلم الإجماليّ الأوّل ـ أيضاً ـ، وتخرج السود عن كونها طرفاً للعلم الإجماليّ، فلا يجب الاحتياط تجاهها.
هذا. ويمكن تصوير الإشكال بحيث يأتي على كلا البابين، بما حاصله:
أنّ العلم الإجماليّ بوجود أحكام إلزاميّة وبأنّ هناك مخصّصات ومقيّدات قد وردت فيما بأيدينا من الكتب، وإن كان يقتضي عدم إمكان جريان الاُصول اللّفظيّة والعمليّة قبل الفحص، إلّا أنّه بعد أن تفحّصنا وعثرنا على المقدار المتيقّن من تلك الأحكام والمقيّدات والمخصّصات، فلابدّ من أن ينحلّ العلم الإجماليّ، كما هو كذلك بالنسبة إلى كلّ علم إجماليّ يكون أمره دائراً بين الأقلّ والأكثر؛ فإنّه بالعثور على المقدار المتيقّن الذي هو الأقلّ ينحلّ العلم الإجماليّ، ويكون الأكثر شبهة بدويّة يجري فيه الأصل، فمثلاً: إذا علم بأنّه مدين لشخصٍ، ولكن شكّ في أنّه مدين له بعشرة دنانير أو بخمسة عشر ديناراً، فإنّه بالنسبة إلى العشرة قدر متيقّن، ويجري الأصل بالنسبة إلى الخمسة الزائدة، أو كما إذا علم بأنّ في هذه القطيعة من الغنم موطوء، وتردّد بين أن يكون عشرة أو عشرين، فإنّه بعد العثور على العشرة، التي هي القدر المتيقّن، ينحلّ العلم الإجماليّ لا محالة.
وفي المقام، بعد أن عثرنا على مقدار متيقّن من الأحكام الإلزاميّة ومن المقيّدات والمخصّصات الواقعة في الكتب، بحيث يكون الزائد مشكوكاً، فلابدّ من أن ينحلّ العلم الإجماليّ، ولا يجب الفحص في سائر الشبهات، بل ينبغي أن تجري فيها الاُصول اللّفظيّة والعمليّة بلا فحص، مع أنّهم لا يقولون بذلك، بل هم يوجبون الفحص عن كلّ شبهة شبهة عند العمل، ولا يلتفتون إلى انحلال العلم الإجماليّ، ومن هنا يُعرف: أنّ المدرك لوجوب الفحص يجب أن يكون غير العلم الإجماليّ.
ولكنّ الحقّ: أنّ هذا الإشكال قابل للدفع، فإنّ هناك قسمين من العلم الإجماليّ: فإنّ المعلوم بالإجمال تارةً لا يكون معلّماً بعلامة يُشار إليها بها، وأُخرى يكون معلّماً بعلامة، والعلم الإجماليّ ينحلّ بالعثور على القدر المتيقّن في القسم الأوّل، دون القسم الثاني، فإنّه لا ينحلّ بذلك، بل يكون حاله حال دوران الأمر بين المتباينين.
والضابط للقسمين: أنّ العلم الإجماليّ في القسمين إنّما يكون على سبيل المنفصلة المانعة الخلوّ التي تنحلّ إلى قضيّتين حمليّتين، وهاتان القضيّتان:
تارةً: تكونان من أوّل الأمر إحداهما متيقّنة والأُخرى مشكوكة، بحيث يكون العلم الإجماليّ قد نشأ من انضمام إحدى هاتين القضيّتين إلى الأُخرى، كمثال الدين، كما لو علم إجمالاً بأنّه مدين لزيد، وتردّد الدين بين أن يكون خمسة دنانير أو عشرة، أو كمثال القطيعة من الغنم يتردّد الموطوء فيها بين أن يكون خمسة أو عشرة، فإنّ هذا العلم الإجماليّ ليس إلّا عبارة عن قضيّة متيقّنة، وهي: كونه مديناً لزيد بخمسة دنانير، أو بأنّ في هذه القطيعة خمس شياة موطوءة، وقضيّة مشكوكة، وهي: كونه مديناً لزيد بخمسة دنانير زائداً على الخمسة المتيقّنة، أو أنّ في هذه القطيعة خمس شياة موطوءة زائداً على الخمسة المتيقّنة، ففي مثل هذا العلم الإجماليّ ينحلّ حتماً بعد العثور على المقدار المتيقّن، فإنّه لا علم في الواقع إلّا بذلك المقدار المتيقّن، وأمّا الزائد عليه فهو مشكوك من أوّل الأمر، ولم يتعلّق به العلم أصلاً، ولا يصحّ جعله طرفاً للعلم.
وأُخرى: لا تكون القضيّتان على هذا الوجه، أي: بأن يكون من أوّل الأمر إحداهما متيقّنة والأُخرى مشكوكة، بل تعلّق العلم بالأطراف على وجهٍ تكون جميع الأطراف ممّا تعلّق العلم بها بوجه، بحيث لو كان الأكثر هو الواجب لكان ممّا تعلّق به العلم وتنجّز بسببه، وليس الأكثر مشكوكاً من أوّل الأمر، بحيث لم يصبه العلم بأيّ وجهٍ من الوجوه، بل كان الأكثر ـ على تقدير ثبوته في الواقع ـ ممّا أصابه العلم، وذلك في كلّ ما يكون المعلوم بالإجمال معلّماً بالعلامة كان قد تعلّق العلم به بتلك العلامة، فيكون كلّ ما انطبقت عليه تلك العلامة ممّا قد تعلّق به العلم.
وذلك كما إذا علمت أنّي مديون لزيد بما في الدفتر، فإنّ جميع ما في الدفتر من ديون زيد قد أصبح متعلّقاً للعلم، سواء كان خمسة أو عشرة، فإنّه لو كان دين زيد عشرة فقد أصابه العلم، وذلك بسبب وجوده في الدفتر.
وإذا عرفت ذلك، فنقول: ما نحن فيه من قبيل العلم الإجماليّ الذي يكون المعلوم بالإجمال فيه معلّماً، والذي يقتضي الفحص التامّ، ولا ينحلّ بالعثور على المقدار المتيقّن؛ فإنّ العلم ـ في محلّ الكلام ـ قد تعلّق بأنّ فيما بين أيدينا في الكتب مقيّداتٍ ومخصّصات وأحكاماً إلزاميّة، فيكون نظير تعلّق العلم بأنّي مديون لزيد بما في الدفتر.
وقد عرفت أنّه في مثل هذا العلم، لابدّ من الاحتياط؛ لأنّ هذا العلم الإجماليّ لابدّ فيه من الفحص التامّ، ولا ينحلّ بالعثور على القدر المتيقّن، بخلاف العلم الإجماليّ الأوّل، أعني: غير المعلّم، فإنّه ـ كما صار واضحاً ـ ينحلّ بالعثور على القدر المتيقّن.
هذا كلّه لو جعلنا المدرك لوجوب الفحص هو العلم الإجماليّ.
وأمّا لو قلنا بأنّ الدليل على وجوب الفحص هو أن دأب المتكلّم وديدنه هو التعويل على المنفصلات، فحينئذٍ: لا فائدة ترجى من الفحص، ولا يمكن الأخذ بالعموم، ولا المطلقات، ولو بعد الفحص عن المقيّدات والمخصّصات؛ لأنّ هذا الفحص لا يغيّر تلك العمومات والمطلقات عن كونها في معرض التخصيص، وعن كون دأب المتكلّم هو التعويل على المنفصلات؛ إذ لا دخل للفحص في ذلك كما هو ظاهر، وهو لا يوجب قوّة أصالة الظهور والعموم التي ضعفت بسبب خروج المتكلّم عن طريق المحاورات العرفيّة، وهو بيان تمام مراده بكلامٍ واحد؛ إذ في كلّ عامٍّ أتى به المتكلّم مع خروجه عن هذا الطريق، يحتمل أن يكون قد عوّل فيه على مجيء المخصّص المنفصل، ولم يكن ذلك المخصّص في الكتب التي بين أيدينا، ولا يوجد ما يُدفع به هذا الاحتمال.
ولكنّ الحقّ: أنّه يمكن التمسّك بالعموم والإطلاق؛ لأنّ الغرض لم يتعلّق بواقع مراد المتكلّم، حتى يقال بأنّه بعد الفحص ـ أيضاً ـ لا يمكن أن يصل إلى واقع مراده، كما مثّل لذلك بعض أعاظم المحقّقين بما:
<لو فُرض أنّ أحد التجّار كتب إلى طرفه يخبره بسعر الأجناس في بلدٍ، وكان الكاتب ممّن يعتمد على القرائن في بيان مراده، فإنّ هذا الكتاب لو وقع بيد ثالثٍ، لا يمكنه العمل على ما تضمّنه؛ لأنّه لا يمكن الحكم بأنّ واقع مراد الكاتب هو ما تضمّنه ظاهر الكتاب، مع أنّ هذا الثالث ليس له غرض سوى استخراج واقع مراد الكاتب>( ).
وأمّا إذا لم يتعلّق الغرض باستخراج المراد الواقعيّ للمتكلّم، بل كان الغرض هو أن يصبح كلام المتكلّم حجّة ومعذّراً في مقام المحاجّة والمخاصمة، فلابدّ من الأخذ بما هو ظاهر كلامه، بحيث إنّ التعويل على المخصّص المنفصل لا يوجب زائداً على الفحص شيئاً آخر؛ فإنّ بناء العقلاء في محاوراتهم على ذلك.
وليس حال الأحكام الشرعيّة إلّا كحال الأحكام العرفيّة الصادرة عن الموالي العرفيّين والملقاة إلى عبيدهم؛ فإنّه لا يشكّ في أنّهم يلزمون عبيدهم بالأخذ بظاهر العموم أو الإطلاق في كلام المولى بعد الفحص عن المخصّصات والمقيّدات واليأس عن الظفر بها، إذا كان شأن المولى التعويل على المنفصل، وليس للعبيد عدم العمل بمقتضى الظهور من العموم أو الإطلاق والاعتذار عن ذلك باحتمال أنّ مراد المولى قد يكون شيئاً آخر غير ما يُفهم من ظاهر كلامه، كما أنّه ليس للمولى توبيخ العبد عند أخذه بالظاهر، إذا لم يكن الظاهر مطابقاً لمراده الواقعيّ.
وخلاصة البحث: أنّ عدم جواز الأخذ بالعموم والمطلقات بعد أن كان من ديدن المولى التعويل على المنفصلات، إنّما يكون قبل الفحص عن المخصّصات والمقيّدات، وأمّا بعد الفحص، فالعقل والعقلاء يلزمون العبد بالأخذ بالظواهر، إذ يكون ظاهر كلام المولى حجّة على العبد، ولكلّ من المولى والعبد أن يُلزم الآخر بما هو مقتضى ذلك الظاهر.
نعم، لو قلنا بأنّ اعتبار الظهور ليس من باب بناء العقلاء، بل من باب إفادة الاطمئنان أو الظنّ الشخصيّ بالمراد الواقعيّ، لكان للإشكال المزبور وجه؛ لوضوح أنّ الفحص لا يوجب الظنّ أو الاطمئنان بالمراد بالنسبة إلى المتكلّم الذي كان من شأنه التعويل على المنفصل.
ولكنّ الصحيح ـ كما هو مقرّر في محلّه ـ: أنّ حجّيّة الظهور إنّما هي من باب بناء العقلاء على الأخذ بالظهورات، ولو من أجل الكشف النوعيّ الذي للظهور عن المراد، وحينئذٍ: فبناء العقلاء على العمل بالظاهر لا يستقرّ إلّا بعد تماميّة الفحص عن المخصّص، كما هو واضح، فتأمّل جيّداً.

في مقدار الفحص اللّازم
الكلام هو في مقدار الفحص بعد الفراغ عن أصل لزومه، قال صاحب الكفاية:
<وقد ظهر لك بذلك أنّ مقدار الفحص اللّازم ما به يخرج عن المعرضيّة له، كما أنّ مقداره اللّازم منه بحسب سائر الوجوه التي استدلّ بها، من العلم الإجماليّ به، أو حصول الظنّ بما هو التكليف، أو غير ذلك، رعايتها، فيختلف مقداره بحسبها، كما لا يخفى>( ).
وحاصل ما أفاده: أنّ مقدار الفحص اللّازم تابع لدليل وجوبه، فإن كان دليله العلم الإجماليّ، فالواجب الفحص بمقدار ما ينحلّ به العلم الإجماليّ، وهو الظفر بمخصّصاتٍ بمقدار المعلوم بالإجمال حتى يخرج العامّ عن أطراف العلم الإجماليّ الذي يكون مانعاً من صحّة التمسّك بأصالة العموم.
وإن كان دليل وجوب الفحص هو عدم حصول الظنّ بالمراد قبل الفحص عن المخصّص، فلابدّ من الفحص بمقدار يوجب الظنّ بعدم التخصيص لكي يحصل الظنّ بإرادة المتكلّم للعامّ.
وإن كان الدليل على وجوبه هو عدم الدليل على حجيّة الخطابات لغير المشافهين، فاللّازم ـ حينئذٍ ـ الفحص إلى أن يقوم الإجماع على الحجّيّة.
وأمّا المخصّص المتّصل المحتمل احتفاف العامّ به فهل يلزم الفحص عنه أم لا؟
قال في الكفاية: <ثمّ إنّ الظاهر عدم لزوم الفحص عن المخصّص المتّصل باحتمال أنّه كان ولم يصل، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز، وقد اتّفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقاً، ولو قبل الفحص عنها، كما لا يخفى>( ).

الخطابات الشفاهيّة
الأقوال في المسألة:
هل تختصّ الخطابات الشفاهيّة بالمشافهين الحاضرين في مجلس التخاطب، فلا تشمل الغائبين، فضلاً عن المعدومين، أم أنّها لا تختص باُولئك، بل هي تشمل الجميع، حتى المعدومين، فضلاً عن الغائبين؟
ورد في المقام أقوال، عدّها بعض الشارحين للكفاية خمسة، قال:
<القول الأوّل: ما عن الوافية من الشمول من دون تصريح بكونه على وجه الحقيقة أو المجاز.
الثاني: الشمول حقيقة لغةً، وهو المحكيّ عن بعضهم.
الثالث: الشمول حقيقةً شرعاً، ونفى عنه البعد الفاضل النراقي.
الرابع: الشمول مجازاً، وهو المحكيّ عن التفتازاني... إلى أن يقول:
الخامس: إمكان الشمول على وجه المجاز بنحوٍ من التنزيل والادّعاء إذا كان فيه فائدة يتعلّق بها أغراض أرباب المحاورة وأصحاب المشاورة، ولعلّه المشهور كما قيل>( ).
تحرير محلّ النزاع:
قال في الكفاية:
<فاعلم أنّه يمكن أن يكون النزاع في أنّ التكليف المتكفّل له الخطاب، هل يصحّ تعلّقه بالمعدومين، كما صحّ تعلّقه بالموجودين، أم لا؟ أو في صحّة المخاطبة معهم، بل مع الغائبين عن مجلس الخطاب بالألفاظ الموضوعة للخطاب، أو بنفس توجيه الكلام إليهم، وعدم صحّتها، أو في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب للغائبين، بل المعدومين، وعدم عمومها لهما، بقرينة تلك الأداة>.
ثمّ قال: <ولا يخفى: أنّ النزاع على الوجهين الأوّلين يكون عقليّاً، وعلى الوجه الأخير يكون لغويّاً>( ).
ثمّ إنّه أفاد أنّه لا شبهة في عدم صحة توجّه التكليف الفعليّ إلى المعدوم عقلاً، وذلك لمكان عدم إمكان حصول الانبعاث فعلاً من المعدوم، بل المعدوم ليس قابلاً للبعث ولا للانزجار؛ فإنّ القابليّة للبعث والانزجار منحصرة فقط في من يكون له حظّ من الوجود، والمعدوم ليس كذلك.
ثمّ استدرك قائلاً:
<نعم، هو بمعنى مجرّد إنشاء الطلب بلا بعثٍ ولا زجرٍ لا استحالة فيه أصلاً، فإنّ الإنشاء خفيف المؤونة، فالحكيم تبارك وتعالى يُنشئ ـ على وفق الحكمة والمصلحة ـ طلب شيءٍ قانوناً من الموجود والمعدوم حين الخطاب، ليصير فعليّاً بعدما وُجد الشرائط وفُقد الموانع بلا حاجةٍ إلى إنشاءٍ آخر، فتدبّر>( ).
وحاصل هذا الاستدراك: أنّ الطلب إذا كان بمعنى الإنشاء، حيث لا يكون مشتملاً على الطلب الفعليّ، وعلى البعث والزجر الفعليّين، فإنّه ـ حينئذٍ ـ لا استحالة في تعلّقه بالمعدومين، بمعنى: أنّه متى تحقّق شرطه وفُقِد المانع منه فإنّه يكون فعليّاً، وذلك كإنشاء الوقف للمعدومين تبعاً للموجودين؛ لأنّ الطلب لو كان إنشاءً محضاً، فالإنشاء ـ كما هو معلوم ـ خفيف المؤونة، ولا يتوقّف على وجود المكلّف وقدرته، بل يكفي في صحّته أن يكون له غرض عقلائيّ يترتّب عليه ولو بعد وجود المكلّف ووجدانه للشرائط.
وعليه: فإمكان تعلّق الطلب الإنشائيّ المحض بالمعدوم بمكانٍ من الإمكان، تماماً كما هو الشأن في كلّ تكليفٍ استقباليّ، فإنّه لكونه مأخوذاً بقيد الوجود كان بمكانٍ من الإمكان.
وكيف كان، فالكلام في هذه المسألة يقع في اُمور:
الأمر الأوّل:
أنّ المراد من الخطابات الشفاهيّة هو كلّ كلام كان مبدوءاً بأداة الخطـاب، كقـوله سبحـانه وتعـالى: ﴿يَا أَيـُّهَا الَّـذِينَ آمَنُـواْ﴾( )، وقـوله: ﴿يَا أَيـُّهَا النَّاسُ﴾( )، وهذا الخطاب لا يشمل الغائب، فضلاً عن المعدوم، وذلك لمكان اشتماله على أداة الخطاب التي تستدعي مخاطَباً حاضراً وموجوداً.
وأمّا الكلام غير المصدّر بأداة الخطاب، كقوله تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾( )، فإنّه يشمل حتى المعدومين؛ وذلك لإمكان أن يكون مجعولاً على نحو القضايا الحقيقيّة، وهذه ـ كما هو معلوم ـ لا يشترط فيها وجود الموضوع في الخارج بالفعل، بل شأنها فرض وجود الموضوع؛ وحيث إنّ نسبة الكلّيّ الطبيعيّ إلى جميع أفراده، الموجودة والمعدومة، الحاضرة والغائبة، على حدٍّ سواء، فإذا ورد الحكم على الطبيعة بوجودها الساري في أفرادها، فإنّه يسري حتى إلى المعدومين من الأفراد.
وقال المحقّق النائيني: <الكلام يقع تارةً في القضايا الخارجيّة التي حُكم فيها على أشخاصٍ مخصوصين، وأُخرى في القضايا الحقيقيّة التي حُكم فيها على الموضوعات المقدَّر وجودها. أمّا القضايا الخارجيّة، فالحقّ فيها أن يقال باختصاص الخطاب بالمشافهين، فإنّ خطاب الغائب، فضلاً عن المعدوم، يحتاج إلى تنزيلٍ وعنايةٍ، وظهور الخطاب في أنّه بلا عناية يَدفع احتمالها.
وأمّا القضايا الحقيقيّة ـ كما هو محلّ الكلام ـ فالصحيح فيها هو القول بعموم الخطاب للمعدوم والغائب والحاضر على نهجٍ واحد، فكما أنّ الحكم في القضايا الحقيقيّة بحسب مقام الثبوت يعمّ الغائبين والمعدومين، كذلك الخطاب في مقام الإثبات يعمّهما أيضاً، ضرورة أنّ توجيه الخطاب إلى الغائب أو المعدوم لا يحتاج إلى أزيد من تنزيلهما منزلة الموجود، وهذا التنزيل إنّما هو مقوّم كون القضيّة حقيقيّةً، لا أنّه أمر زائد عليه ليكون مدفوعاً بالأصل>( ).
وملخّصه: أنّ الحقّ في القضايا الخارجيّة هو اختصاص الخطاب بالمشافهين؛ لأنّ خطاب الغائب، فضلاً عن المعدوم، يحتاج إلى تنزيل وعناية، وهما خلاف ظاهر الخطابات، فيكونان مدفوعين بالأصل.
وأمّا القضايا الحقيقيّة، وهي القضايا المحكوم فيها على الموضوع المقدّر الوجود، كما هو الشأن في أغلب القضايا الشرعيّة، فالحقّ فيها هو عموم الخطاب للمعدوم والحاضر والغائب على حدٍّ سواء، وذلك لتقوّم هذا النوع من القضايا بالتنزيل، أعني: تنزيل الغائب منزلة الحاضر، والمعدوم منزلة الموجود.
وعليه: فلا مجال لدفع احتمال التنزيل في القضايا الحقيقيّة بأصالة الظهور، بل أصالة الظهور هي تقتضي تعيين هذا الاحتمال ولزوم الحمل والبناء عليه.
الأمر الثاني:
هل البحث في مسألة عموم الخطابات الشفاهيّة للغائبين والمعدومين عقليّ أم لفظيّ؟
الحقّ: أنّه يمكن للبحث فيها أن يكون عقليّاً ويمكن أن يكون لفظيّاً:
بيان ذلك: أنّه إذا كان البحث عن إمكان مخاطبة المعدوم وعدمه فالنزاع حينئذٍ عقليّ.
وإذا كان البحث عن أنّ أداة الخطاب هل هي موضوعة لخصوص التخاطب بها مع الحاضر المشافه أم أنّها موضوعة لما يشمل الخطاب بها مع المعدوم، فضلاً عن الغائب، كان النزاع لفظيّاً.
وإذا قلنا بأنّها موضوعة لما يتناول مخاطبة المعدومين أيضاً، فهذا قابل لأن يُتصوّر على قسمين؛ فإنّه: تارةً يكون على نحو الاستقلال، وأُخرى: مع الانضمام إلى الغائبين.
الأمر الثالث:
في بيان الثمرة من هذا النزاع:
فإنّه بناءً على اختصاص الخطابات الشفاهيّة بالمشافهين، وعدم ثبوت العموم لها، فلا يخفى: عدم صحّة التمسّك بها في حقّ الغائبين، فضلاً عن المعدومين؛ لوضوح أنّ هؤلاء ـ حينئذٍ ـ لا يكونون هم المخاطبين بما تضمّنته تلك الخطابات، فليس لأحدٍ التشبّث بها لإثبات التكاليف في حقّهم، بل لا يمكن إثبات التكليف في حقّهم ـ حينئذٍ ـ إلّا بالاستناد إلى مثل الإجماع أو قاعدة الاشتراك.
وأمّا لو قلنا بأنّ الخطابات الشفاهيّة متوجّهة إلى المعدومين كالموجودين، فالغائبون عندئذٍ بأنفسهم مخاطبون، فيكون ظاهر الخطابات حجّةً في حقّهم كالمشافهين بلا فرق، فيجوز لهم التمسّك بعموم الأحكام وإطلاقاتها، ولا نحتاج في إثبات شمول التكليف لهم إلى أمرٍ زائدٍ على الخطاب نفسه، فلا تصل النوبة إلى لزوم الرجوع إلى مثل الإجماع أو قاعدة الاشتراك.
وقد استشكل صاحب الكفاية على هذه الثمرة المدّعاة، بما لفظه:
<وفيه: أنّه مبنيّ على اختصاص حجّيّة الظواهر بالمقصودين بالإفهام، وقد حُقِّق عدم الاختصاص بهم. ولو سُلِّم، فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع، بل الظاهر أنّ الناس كلّهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك، وإن لم يعمّهم الخطاب، كما يومئ إليه غير واحدٍ من الأخبار>( ).
وحاصل ما أوردهعلى هذه الثمرة إشكالان:
أوّلهما: أنّ هذه الثمرة المذكورة إنّما تتمّ فيما لو كنّا نقول بأنّ حجّيّة الظواهر مختصّة بمن هم المقصودون بالإفهام، وأمّا لو كنّا نقول بأنّها غير مختصّة بهم، وأنّ الظواهر حجّة مطلقاً، حتى بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه، فلا تكون هذه ثمرة لشمول الخطابات للمعدومين كما هو واضح، بعد أن كانت الظواهر حجّة في حقّهم، ولو لم يكونوا مقصودين بالإفهام، ولم تشملهم الخطابات.
والإشكال الثاني: بعد تسليم الكبرى المتقدّمة، وهي اختصاص حجّيّة الظهور بالمقصودين بالإفهام، إلّا أنّنا مع ذلك لا نسلّم أنّ المقام من صغريات هذه الكبرى، أي أنّنا لا نقبل بأن يكون المقصود بالإفهام هم خصوص المشافهين، وذلك لعلمنا بأنّ المعدومين من الأفراد مكلّفون بنفس تكليف الذي خوطِب به المشافهون، فهم في ذلك كالموجودين بلا فرق.
فنفس الخطاب الحقيقيّ، وإن لم يكن شاملاً للمعدومين، ولكنّهم مع ذلك مقصودون بالإفهام، ولا منافاة بين أن يقال بكون الخطاب مختصّاً بالمشافهين، وبين أن يكون بأنّه لو قصد به الإفهام يكون عامّاً يشمل حتى المعدومين.
والحاصل: أنّ جميع الناس إلى يوم القيامة مقصودون بالإفهام، كما يظهر ذلك من الأخبار، فلو لم يكن ظاهر الكتاب والسنّة حجّة في حقّ الغائبين والمعدومين، لما كان التمسّك بهما مانعاً عن الضلال، كما أشير إليه في حديث الثقلين، وهو قوله:
<إنّي تارك فيكم الثقلين، أما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اﷲ، وعترتي أهل بيتي، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض>( ).
وهكذا ما ورد من الأخبار الآمرة بعرض الأخبار المتعارضة على الكتاب والسنّة، والأخذ بما يوافقهما وطرح ما يخالفهما، حيث يظهر من هذه الأخبار: أنّ ظواهر الآيات والروايات تكون حجّة في حقّ المعدومين أيضاً.
وقد يقال: بأنّه يمكن ردّ هذه الثمرة بشكل آخر، وهو أن يقال:
إنّا لا نرى مانعاً من التمسّك بالإطلاق لإثبات اتّحاد المعدومين مع المشافهين في الأحكام، حتى ولو قلنا بأنّ الخطاب لا يشمل المعدومين أيضاً؛ فإنّه لو كان للوصف، وهو حضور المعصوم، دخل في ثبوت الحكم، كوجوب صلاة الجمعة مثلاً، لزم تقييد الخطاب به، ولكنّ المفروض عدمه؛ لأنّ الإطلاق محكّم، ومقتضى ذلك: عدم دخل ذلك الوصف في الحكم، فالخطابات تشمل المعدومين أيضاً.
وربّما يتوهّم: أنّه لا يمكن التمسّك بالإطلاق في المقام، حيث لم يكن الخطاب عامّاً ليكون شاملاً للمعدومين من أوّل الأمر، والوصف الكذائيّ الذي يتّصف به المشافهون دون المعدومين يمكن أن يكون صالحاً لمنع التمسّك بالإطلاق، وهو يصلح للقرينيّة على التقييد، ومعه: فلا يكون التمسّك بالإطلاق ممكناً.
والجواب عن هذا التوهّم: أنّ اتّصاف المشافهين بوصفٍ يكون المعدومون فاقدين له لا يكون ـ بمجرّده ـ مانعاً من صحّة التمسّك بالإطلاق، لما بيّنّاه من أنّه لو كان الوصف ـ وهو حضور الإمام ـ معتبراً، لكان على المتكلّم بيانه، فبتركه له لا يمكن أن يُستفاد من نفس الخطاب التقييد به، بل يكون تركه بنفسه هو الدليل على عدم اعتباره وعلى عدم لحاظ المولى له، فيكون التمسّك بالإطلاق لرفع القيد غير المعبّر عنه في الكلام، لا بقرينة المقال ولا بقرينة الحال، محكّماً، بلا فرق بين أن يكون الخطاب في نفسه شاملاً للمعدومين أو لا.
وإذا عرفت هذا، فالكلام في عموم الخطابات الشفاهيّة للغائبين والمعدومين تارةً فيما هو من قبيل القضايا الخارجيّة، وأُخرى فيما هو من قبيل القضايا الحقيقيّة.
أمّا في الصورة الأُولى، فكما عرفنا من كلام المحقّق النائيني الذي نقلناه آنفاً، فلا يمكن توجيه الخطاب إلى الغائب غير الملتفت إلى الخطاب، فضلاً عن المعدوم.
نعم، يجوز مخاطبته وتوجيه الخطاب إليه بعد تنزيل المعدوم منزلة الموجود، كما ورد في لسان الشاعر:
أيا شجر الخابور مالك مورقا كأنّك لم تجزع على ابن طريف
وفي قول القائل:
ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلِ بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل
ولكن لا يخفى: أنّ فرض وجود الأفراد وتنزيل المعدومين منزلة الموجودين يتنافى مع كون القضيّة خارجيّة؛ لأنّ معنى كون القضيّة خارجيّة هو أن يكون الحكم فيها وارداً على الأشخاص الموجودين فعلاً في الخارج، لا على الأشخاص مطلقاً وإن كان الخطاب لا يتوجّه إليهم إلّا بعد فرض وجودهم.
وأمّا القضايا الحقيقيّة فهي تشمل الموجودين في مجلس التخاطب والمعدومين، بعدما كان الوجوب والحكم فيها وارداً على الموضوع المفروض الوجود، وبعد أن كان الخطاب فيها مبنيّاً على ذلك الفرض والتنزيل، فالأفراد جميعاً، سواء كانوا موجودين في زمن الخطاب وحاضرين في مجلس التخاطب أم لم يكونوا كذلك، بل كانوا معدومين وغير حاضرين، داخلون تحت الخطاب.
وأمّا ما قد يقال: من أنّ أداة الخطاب إنّما هي موضوعة لخصوص ما يكون موجوداً في زمن الخطاب.
فصرف دعوىً بلا دليل، فلو فرض أنّه أمكن توجيه الخطاب على نحو القضايا الحقيقيّة في عالم الجعل، ففي عالم الإثبات ـ أيضاً ـ يكون ذلك ممكناً.
وعليه: فالقول باختصاص وضع الأداة الأفراد لخصوص الخارجيّة الفعليّة دون غيرها يكون مجرّد دعوىً بلا موجب ودليل.
اللّهمّ إلّا إذا كنّا نقول بأنّ القضايا الشرعيّة لا تنحلّ إلى قضايا حقيقيّة، بل هي من قبيل القضايا الخارجيّة، ولكن قد أبطلنا ذلك في محلّه، وبيّنّا أنّ القضايا الشرعيّة إنّما تكون من باب القضايا الحقيقيّة لا الخارجيّة، فيأتي ما ذكرناه من أنّ الخطاب الشرعيّ يكون شاملاً حتى للمعدومين من الأفراد، لمكان تقوّم القضيّة الحقيقيّة بتنزيل المعدوم منزلة الموجود.

تعقّب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده؟
لو تعقّب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده كما في الآية الشريفة: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبـَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ﴾، إلى قوله: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ﴾( )، فهل يكون هذا التعقّب موجباً تخصيص العامّ بهذا البعض من الأفراد أم لا؟
ففي الآية الشريفة، فإنّ ضمير (وبعولتهنّ) يرجع إلى خصوص الرجعيّات، بقرينة (أحقّ بردّهنّ)، وأمّا (المطلّقات) الواردة في صدر الآية عامّ شامل للرجعيّات ولغيرهنّ؛ لأنّه من الجمع المحلّى باللّام، فيقع البحث حينئذٍ في أنّ رجوع الضمير إلى خصوص الرجعيّات من المطلّقات هل هو موجب لتخصيص (المطلّقات) في صدر الآية وبيان أنّ المراد منه خصوص الرجعيّات أم لا؟
وقد ذكر في الكفاية ما لفظه:
<والتحقيق أن يقال: إنّه حيث دار الأمر بين التصرّف في العامّ بإرادة خصوص ما اُريد من الضمير الراجع إليه، أو التصرّف في ناحية الضمير، إمّا بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه، أو إلى تمامه مع التوسّع في الإسناد، بإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقةً إلى الكلّ توسّعاً وتجوّزاً...>( ).
وتوضيح ما أفاده: أنّ الأمر في المقام يدور بين التصرّف بأحد الظاهرين العامّ والضمير:
أمّا العامّ، فظاهره العموم، فيكون التصرّف به بالتخصيص وأن يُراد منه خصوص ما اُريد من الضمير الراجع إليه، فيكون المراد من المطلّقات خصوص الرجعيّات، ويكون المراد من قوله: (المطلّقات يتربّصن)، أي: الرجعيّات يتربّصن. فيكون الموضوع لكلا الحكمين المذكورين في الآية، أعني: الحكم بوجوب الأخذ بالعدّة، وبجواز رجوع الأزواج في العدّة، هو الرجعيّات.
وأمّا في ناحية الضمير، فالظاهر ـ كما هو معلوم ـ تطابق الضمير مع المرجع في العموم والخصوص، كما يتطابقان في التذكير والتأنيث، والتصرّف في هذا الظاهر والخروج عنه، يكون:
إمّا بإرجاع الضمير إلى بعض ما يراد من العامّ، كالرجعيّات في الآية، وهو المعبّر عنه ﺑ (الاستخدام)، وهو على خلاف الأصل، لكونه يندرج تحت ما يُسَمّى عندهم ﺑ (المجاز في الكلمة).
وإمّا بارتكاب المجاز في الإسناد، بأن يكون المراد بالعامّ ـ أعني: (المطلّقات) ـ حقيقةً هو خصوص الرجعيّات، واُسند الحكم إلى جميع المطلّقات على سبيل المجاز، فيكون إسناد الحكم إلى البعض حقيقةً وإلى الكلّ مجازاً.
وقد ذكر اُستاذنا المحقّق أنّه <لا شكّ في أنّ التخصيص والاستخدام كلاهما خلاف الظاهر ومخالفان للأصل العقلائيّ، أي: أصالة العموم وأصالة عدم الاستخدام، فيتعارض الأصلان ويتساقطان إذا لم يكن مرجّح لأحدهما في البين. ونتيجته: الشكّ في ثبوت هذه الأحكام المذكورة في الآية الشريفة لغير الرجعيّات، فلابدّ من الرجوع إلى الاُصول العمليّة في غيرها>( ).
إلّا أنّ المحقّقين صاحب الكفاية والمحقّق النائيني قدّما جريان أصالة العموم على أصالة عدم الاستخدام، وقالا بعدم جريان أصالة عدم الاستخدام، قال في الكفاية:
<كانت أصالة الظهور في طرف العامّ سالمةً عنها في جانب الضمير، وذلك لأنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو اتّباع الظهور في تعيين المراد، لا في تعيين كيفيّة الاستعمال، وأنّه على نحو الحقيقة أو المجاز، في الكلمة أو الإسناد، مع القطع بما يُراد، كما هو الحال في ناحية الضمير>( ).
وقال المحقّق النائيني:
<ولكنّ الشأن في جريان أصالة عدم الاستخدام حتى يعارض أصالة العموم. الأقوى: عدم جريان أصالة عدم الاستخدام:
أمّا أوّلاً: فلابتناء الاستخدام في المقام على مجازيّة العامّ المخصّص، وأمّا بناءً على الحقيقة، فلا يلزم استخدام أصلاً حتى تجري أصالة عدم الاستخدام، وذلك لأنّ رجوع الضمير إلى المطلّقات الرجعيّة لا يوجب المغايرة بين ما يراد من المرجع وما يراد من الضمير...>، لأنّ استعمال المطلّقات في الرجعيّات التي يرجع الضمير إليها لا يوجب المجازيّة حتى يقال: بأنّ المراد من المرجع هو المعنى الحقيقيّ للّفظ، وأمّا المراد من الضمير فهو المعنى المجازيّ حتى تحصل المغايرة والاستخدام، فلا مغايرة بين المعنى الحقيقيّ ﻟ (المطلّقات) المذكورة في صدر الآية، وبين المطلّقات الرجعيّة التي يرجع الضمير إليها، بعدما قلنا بأنّ استعمال المطلقات في الرجعيات لا يوجب المجازيّة؛ لأنّ المطلقات موضوعة للطبيعة، وأمّا العموم والشمول فمستفادان من دليلٍ آخر، وهو مقدّمات الحكمة، مع كون المعنى الموضوع له اللّفظ محفوظاً في المطلّقات الرجعيّات.
هذا أوّل إشكالاتٍ ثلاثة أوردها المحقّق النائيني على دعوى معارضة أصالة العموم بأصالة عدم الاستخدام وتأدية هذه المعارضة إلى التساقط بينهما.
وأمّا الإشكال الثاني، فقد عبّر عنه بقوله:
<وأمّا ثانياً: فلأنّ استفادة (الرجعيّات) في قوله تعالى: (وبعولتهنّ أحقّ بردّهنّ) ليس من نفس الضمير، بل يستفاد ذلك من عقد الحمل، وهو قوله تعالى: (أحقّ بردّهنّ)؛ حيث إنّه معلوم من الخارج أنّ ما أحقّ بالردّ هو خصوص الرجعيّات، فالضمير لم يرجع إلى الرجعيّات، بل رجع إلى نفس المطلّقات، وكان استفادة الرجعيّات من عقد الحمل، فيكون من باب تعدّد الدالّ والمدلول...>.
وإنّما كان من هذا الباب لما عرفناه من أنّه قد اُريد من الضمير شيء، وهو نفس ما اُريد من العامّ، أعني: المطلّقات، واُريد من عقد الحمل شيء آخر، وهو الرجعيّات، فلا مغايرة أصلاً بين ما اُريد من المرجع وما اُريد من الضمير، فأين يلزم الاستخدام؟!
وأمّا الإشكال الثالث ـ وهو المشار إليه في كلام الكفاية المتقدّم ـ فقد بيّنهبقوله:
<وأمّا ثالثاً: فلأنّ الاُصول العقلائيّة إنّما تجري عند الشكّ في المراد، وفي المقام، لا شكّ في المراد من الضمير، وأنّ المراد منه المطلّقات الرجعيّات، وبعد العلم بما اُريد من الضمير لا تجري أصالة عدم الاستخدام حتى يلزم التخصيص في ناحية العامّ>( ).
وحاصله: أنّ الاُصول العقلائيّة لما كانت من الأدلّة اللّبّيّة، كان لابدّ فيها من الأخذ بالقدر المتيقّن منه خاصّةً، والقدر المتيقّن في المقام هو صورة عدم العلم بالمراد؛ فإنّه إذا لم يعلم المراد من لفظ (الأسد) ـ مثلاً ـ، بأنّه قد اُريد منه في كلام المتكلّم معناه الحقيقيّ أو المجازيّ، أعني: (الرجل الشجاع)؛ فإنّ بناء العقلاء هنا مستقرّ على إجراء أصالة الحقيقة.
وأمّا لو كان مراد المتكلّم من هذا اللّفظ معلوماً، وعلم بأنّه اُريد به (الرجل الشجاع) ـ مثلاً ـ، ولكن لم يعلم بأنّه معنىً حقيقيّ للفظ (الأسد) أم لا، فلا تجري أصالة الحقيقة لإدخال (الرجل الشجاع) في المعنى الحقيقيّ.
وفي المقام، حيث كان إرادة (الرجعيّات) معلومةً من الخارج، من الضمير في بعولتهّن، وإنّما كان الشكّ هنا في كيفيّة إرادتها منه، وأنّ إرادتها منه هل كانت بنحو الحقيقة أو المجاز، فلا يمكن جريان أصالة عدم الاستخدام حتى يلزم التخصيص في ناحية العامّ، وإنّما تجري أصالة العموم، أي: ظهور العامّ في العموم، فيحكم بوجوب التربّص على جميع المطلقات، ومعه: فلابدّ من القول بوجود الاستخدام.
فالنتيجة: أنّ أصالة عدم الاستخدام غير جاريةٍ رأساً حتى تنهض لمعارضة أصالة العموم، فإنّ الأصل في طرف العموم جارٍ.
اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ أصالة العموم إنّما تجري إذا لم يكن هناك ما يصلح للقرينيّة على التخصيص، وفيما نحن فيه، ما يصلح للقرينيّة موجود؛ لأنّ رجوع الضمير إلى بعض أفراد المطلّقات، وهي الرجعيّات خاصّةً، يشكّل قرينةً على أنّ المراد من العامّ إنّما هو الخاصّ.
وبعبارة أُخرى: فإنّ انعقاد الظهور للعامّ لتجري فيه أصالة العموم مبنيّ على عدم احتفاف العامّ بما يمنع من ظهوره من العموم، كما في المقام، فإنّ في الآية ضميراً راجعاً للعامّ صالحاً لأن يمنع من انعقاد العموم له، وحينئذٍ: لا تجري أصالة العموم بعدما كان العموم مكتنفاً ومحتفّاً بضميرٍ بحيث يصبح أن يكون صالحاً للقرينيّة على عدم إرادة العموم منه، ومع وجود مثل هذه القرينة فلم ينعقد للعامّ ظهور في العموم أصلاً.
ولكنّ الحقّ: أنّ ما يصلح لأن يكون قرينةً لا يصل إجماله إلى العامّ إلّا إذا كان هو مجملاً، وأمّا إذا كان معلوماً من جهة ما هو المراد منه، كما فى الضمير الموجود في ذيل الآية، فإنّه لا يُعقل أن يكون سبباً لإجمال العامّ. على أنّ ما شكّ في قرينيّته لا يكون موجباً للإجمال مطلقاً.

الاستثناء المتعقّب لجملٍ متعدّدة:
الاستثناء الذي يأتي عقيب جمل متعدّدة ـ كالاستثناء في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأتـُوا بِأَرْبـَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لــَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾( )، وفي مثل قولك: (أكرم العلماء وأكرم الصلحاء وأكرم الشعراء إلّا الفسّاق) ـ هل هو ظاهر في الرجوع إلى الكلّ أو إلى خصوص الجملة الأخيرة، أو لا ظهور له في واحد منها، بل لابدّ في تعيين رجوعه إلى أحدها بعينه من قرينةٍ رافعةٍ للإجمال؟
وجوه وأقوال عدّة.
وأمّا المحقّق النائيني فقد فصّل بين أن تكون الجمل السابقة على الاستثناء مذكوراً فيها الموضوع والمحمول، كقولك: (أكرم العلماء، وضيّف السادات، ووقّر الاُدباء، إلّا الفسّاق منهم)، فيكون الاستثناء راجعاً إلى خصوص الأخيرة، وبين أن لا يكون كذلك، بل يكون الموضوع هو المذكور، دون المحمول، كقولك: (أكرم العلماء والسادات والاُدباء إلّا الفسّاق منهم) فيكون الاستثناء راجعاً إلى الجميع.
قال): <والتحقيق هو التفصيل بين ما إذا كانت الجمل المتقدّمة مشتملةً على الموضوع والمحمول، وبين ما إذا حُذِف فيها الموضوع. ففي الأوّل يرجع إلى خصوص الأخيرة، وفي الثاني يرجع إلى الجميع، مثال الأوّل: ما إذا قال: (أكرم العلماء وأضف الشعراء وأهن الفسّاق إلّا النحويّ)، أو قال: (أكرم العلماء وأكرم الشعراء وأكرم السادات إلّا النحويّ)، ومثال الثاني: ما إذا قال: (أكرم العلماء والشعراء والسادات إلّا النحويّ)>( ).
وما يمكن أن يقال في توجيه هذا التفصيل:
أنّ رجوع الاستثناء في الصورة الأُولى ـ أعني: ما كان الموضوع والمحمول كلاهما مذكورين فيها ـ إلى خصوص الأخيرة، نظراً إلى أنّه إذا تكرّر الموضوع والمسند إليه وأُعيد في الجملة الأخيرة يأخذ الاستثناء محلّه؛ لأنّه القدر المتيقّن من رجوع الاستثناء إليه، ولا يكون هناك دليل على رجوعه بعد ذلك إلى بقيّة الجمل، لا من باب لزوم استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد كما قد يتوهّم، بل لأنّه ليس هناك شيء يمنع ظهور سائر الجمل في العموم، إلّا ما قد يتوهّم كونه صالحاً للقرينيّة، والصالح للقرينيّة هي جملة الاستثناء.
ولكن الاستثناء المذكور لا يصلح لذلك؛ لأنّه بعدما رجع إلى الجملة الأخيرة واستقرّ فيها وأخذ محلّها، بعدما كانت الجملة الأخيرة لها موضوع ومحمول مستقلّ، فليس هناك من شيء آخر يكون سبباً للتخصيص والتضييق لبقيّة الموضوعات في بقيّة الجمل بالنسبة إلى الحكم المذكور في القضيّة.
ولكن يمكن أن يقال: بأنّ هذا الاستثناء يصلح للرجوع إلى الجميع؛ بحيث لو علمنا أنّ المتكلّم أرجعها للجميع، أي: أنّه أراد الاستثناء من الجميع، فلا يلزم منه أيّ خلاف للأصل، ولا هناك ارتكاب منه للتجوّز والعناية في كلامه.
وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن لنا أن نجري أصالة العموم مع وجود ما يصلح للمخصّصيّة؟ وكيف يصحّ لنا التمسّك بالعموم في مثل هذا المقام؟ وهل للعقلاء بناء على عدم المخصّص؟!
نعم، لو عرفنا من الخارج أو بحسب المتفاهم العرفيّ بأنّها ترجع إلى خصوص الجملة الأخيرة أو إلى الجميع، فهو المتّبع، ولو بواسطة القرائن الحاليّة أو المقاليّة، أو لجهة أُخرى، ولكنّه ـ كما هو ظاهر ـ خارج عن محلّ الكلام.
وخلاصة الكلام: أنّه لا ظهور لنفس أداة الاستثناء في الرجوع إلى خصوص الجملة الأخيرة ولا في الرجوع إلى الجميع، بل لابدّ في إثبات الرجوع إلى أحدهما من قرينةٍ، والرجوع إلى الأخيرة، وإن كان متيقّناً، إلّا أنّه لا يوجب أن تكون سائر الجمل سالمةً من التخصيص والإخراج والاستثناء وأن تبقى على عمومها؛ إذ المفروض أنّها قد احتفّت بما يصلح للقرينيّة، ولا يثبت الرجوع إلى الأخيرة فقط من جهة الظهور، وحينئذٍ: فلا أقلّ من أنّه لا دليل على صحّة هذا التفصيل الذي أفاده المحقّق المذكور.
ولا فرق في هذا الذي ذكرناه بين أن يكون الاستثناء بواسطة حرف الاستثناء، أو بواسطة الاسم ﻛ (سوى) وأمثاله.
لا يقال: لا يمكن تعدّد الإخراج بأداة الاستثناء بعد أن كان الوضع فيها عامّاً والموضوع له خاصّاً.
فإنّه يقال: أوّلاً: يمكن أن يقال بأنّ كلاً من الوضع والموضوع له فيها يكون عامّاً كالأسماء.
وثانياً: إنّ أداة الاستثناء إنّما تستعمل في النسبة الإخراجيّة، بلا فرق بين أن يكون المستثنى والمستثنى منه واحداً أو متعدّداً، فإنّ تعدّد المستثنى والمستثنى منه لا يوجب تعدّد النسبة الإخراجيّة.
فلا تنافي بين تعدّد الإخراج وبين أن تكون النسبة جزئيّة؛ لوضوح أنّه يمكن إخراج المستثنى من تحت عناوين متعدّدة بإخراجٍ واحد، كما في مثل: (أكرم العلماء والزهّاد والسادات إلّا النحويّين) إذا كان قصده إخراج النحويّين من الجميع أو من خصوص الأخيرة؛ لأنّها غالباً ما تستعمل في إخراج ما بعدها عن حكم ما قبلها.
ولا يلزم أن يكون هناك استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، حتى ولو فرض بأنّ المستثنى شخص واحد وهو زيد ـ مثلاً ـ، نعم، لو كان هناك المسمّى بزيد شخصين اثنين، أحدهما: زيد عمرو، والآخر: زيد بن بكر، واُريد إخراج أحدهما من جملة وإخراج الآخر من جملة أُخرى يكون استعمال اللّفظ ـ حينئذٍ ـ من باب استعمال اللّفظ الواحد في أكثر من معنى.
اللّهمّ إلّا أن يريد (المسمّى بزيد) الذي هو عنوان جامع بين الشخصين المذكورين، ولكنّ هذا ليس من جهة مفاد أداة الاستثناء، وإنّما هو من ناحية إرادة معنيين اثنين من مدخولها، وهو (زيد) ـ مثلاً ـ إذا لم يُرَد به المسمّى بزيد.

تخصيص عمومات الكتاب والسنّة بالمفهوم
المفهوم ـ كما عرفنا آنفاً ـ على قسمين: المفهوم المخالف والمفهوم الموافق.
أمّا المفهوم المخالف، فهو المفهوم الذي يكون مخالفاً لمنطوقه من ناحية السلب والإيجاب، كما في مثل: (الماء إذا بلغ قدر كرٍّ لا ينجّسه شيء)، فإنّ مفهومه: (إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجّسه شيء) أو (كلّ شيء)، فلو ورد في رواية ـ مثلاً ـ (الماء كلّه طاهر)، كان له عموم، وهذا العموم في صورة المعارضة بينه وبين المفهوم المخالف يكون هذا المفهوم مخصِّصاً له.
وأمّا المفهوم الموافق، فهو المفهوم الذي يكون موافقاً للمنطوق في السلب والإيجاب، كالمفهوم المستفاد من قوله تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ٍ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾( )، فإنّه يدلّ بالمفهوم على عدم جواز ضربهما بطريقٍ أولى.
وقد تعرّض المحقّق النائيني إلى هذا البحث، فذكر أنّ <المفهوم الموافق يكون على نحو الأولويّة تارةً، وعلى نحو المساواة أُخرى، والأوّل إنّما يتحقّق فيما إذا كانت الأولويّة من المدركات العقليّة، وأمّا إذا كانت عرفيّةً... فالمدلول خارج عن المفهوم وداخل في المداليل اللّفظيّة العرفيّة.
وأمّا الثاني: فهو يتحقّق غالباً فيما إذا كانت علّة الحكم منصوصةً، ونعني به ما إذا كانت العلّة المذكورة فيه واسطةً في العروض لثبوت الحكم للموضوع المذكور في القضيّة بأن يكون الموضوع الحقيقيّ هو العنوان المذكور في التعليل، ويكون ثبوته للموضوع المذكور من جهة انطباق ذلك العنوان عليه، كما في قضيّة: (لا تشرب الخمر فإنّه مسكر)، فإنّها ظاهرة في أنّ موضوع الحرمة فيها إنّما هو عنوان المسكر، وحرمة الخمر إنّما هي من جهة انطباق ذلك العنوان عليه، فيسري الحكم ـ حينئذٍ ـ إلى كلّ مسكر، فلا تبقى للخمر خصوصيّة في الحكم المذكور في القضيّة.
وأمّا إذا كانت العلّة المذكورة في القضيّة واسطةً في الثبوت ومن قبيل دواعي جعل الحكم على موضوعه من دون أن يكون هو الموضوع في الحقيقة، كما في قضيّة: (لا تشرب الخمر لإسكاره)، فإنّها ظاهرة في أنّ موضوع الحرمة فيها إنّما هو نفس الخمر، غاية الأمر: أنّ الداعي إلى جعل الحرمة عليها إنّما هو إسكارها.
فلا يسري الحكم إلى غير الموضوع المذكور في القضيّة ممّا يشترك معه في العلّة المذكورة فيها، إذ يُحتمل ـ حينئذٍ ـ أن تكون في خصوص العلّة المذكورة في القضيّة خصوصيّة داعية إلى جعل الحكم على الموضوع المذكور فيها، وأن لا تكون هذه الخصوصيّة موجودة في غيرها ممّا يشترك معها في الحقيقة والعنوان.
فإذا احتمل أنّ في خصوص إسكار الخمر ـ مثلاً ـ خصوصيّةً داعيةً إلى جعل الحرمة عليها، لم يمكن الحكم بحرمة غيرها ممّا يشترك معها في أثر الإسكار، وهذا الذي ذكرناه هو الميزان في تسرية الحكم من الموضوع المذكور في القضيّة إلى غيره وعدمها>( ).
ثمّ تعرّضلتحقيق البحث في مفهوم الموافقة بقسميه، وكلامه طويل، وملخّص ما أفاده:
أمّا في مفهوم الموافقة بالأولويّة، فذكر أنّه ربّما يُدَّعى تقدّم هذا المفهوم على العموم بدعوى:
<أنّ المعارض للعامّ إن كان هو نفس المفهوم بمجرّده، فلابدّ من تقديم المفهوم عليه مطلقاً، سواء كانت النسبة بينهما بالعموم من وجه أم كانت بالعموم والخصوص على الإطلاق، فإنّ رفع اليد عن المفهوم مع عدم التصرّف في المنطوق ـ مع أنّ المفروض لزومه له بنحو الأولويّة ـ أمر غير ممكن، وأمّا رفع اليد عن المنطوق والتصرّف فيه ـ مع عدم كونه معارضاً للعموم ـ فلا وجه له، وعليه: فيتعيّن التصرّف في العموم، وتخصيصه بغير مورد المفهوم لا محالة>.
ولكنّه ناقشهبما حاصله:
أنّ المنطوق كما يدلّ بالأولويّة على حكمٍ آخر منافٍ للعامّ، فكذلك العامّ يدلّ بالأولويّة على ما ينافي حكم المنطوق؛ وذلك لأنّ العامّ بعمومه ينفي الحكم عن مورد المفهوم، فهو يدلّ بالأولويّة على نفي حكم المنطوق، فيقع التعارض بين المنطوقين:
فإن كان المنطوق أخصّ مطلقاً من العموم، كما لو ورد (لا تكرم الفسّاق)، وورد (أكرم فسّاق خدّام العلماء)، الدالّ بالأولويّة على وجوب إكرام العلماء، كان المفهوم مقدّماً على العامّ، ولو كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه ـ كما في المثال ـ، لعدم إمكان رفع اليد عن المفهوم بنفسه، ولا يمكن رفع اليد عن المنطوق؛ لأنّه أخصّ مطلقاً من العموم، فيُقَدَّم عليه، فيكون المورد من موارد تقديم أحد العامّين من وجهٍ على الآخر لمرجّحٍ فيه.
وإن كان بين المنطوق والعامّ عموم من وجه، كما لو ورد: (لا تكرم الفسّاق)، وورد: (أكرم خدّام العلماء)، الدالّ بالأولويّة على وجوب إكرام العلماء، فإن قدّم المنطوق على العموم في مورد التعارض كان المفهوم مقدّماً على العموم في ذلك المورد أيضاً، وإن قدّم العموم على المنطوق فخرج الخادم الفاسق عن المنطوق، فلا يثبت بالأولويّة إلّا وجوب إكرام العلماء العدول، فلا تعارض بينهما حينئذٍ.
هذا بالنسبة إلى مفهوم الموافقة بالأولويّة.
وأمّا مفهوم الموافقة بالمساواة فقال فيه:
<فيظهر الحال فيه على قسميه ممّا ذُكر في المفهوم الموافق على نحو الأولويّة، فإنّه إذا كانت النسبة بين منطوق الكلام المستفاد منه المفهوم وما له العموم نسبة العموم والخصوص مطلقاً، قدّم المفهوم على العموم، ولو كانت النسبة بين أنفسهما نسبة العموم والخصوص من وجه، وأمّا إذا كانت النسبة بين المنطوق وما له العموم نسبة العموم من وجه، فيأتي فيه التفصيل المتقدّم>( ).
وأمّا مفهوم المخالفة، فلا شكّ في أنّه يخصّص العامّ إذا كان بين المفهوم والعامّ عموم وخصوص مطلق، أي: أنّ العامّ المنطوقيّ يخصّص بالخاصّ المفهوميّ أيضاً؛ لأنّه لا فرق بين المفهوم والمنطوق، فالأوّل يكون مدلولاً التزاميّاً والثاني مدلول مطابقيّ أو تضمّني، هذا إذا كانت دلالة كلّ منهما بالوضع.
أمّا إذا كانت دلالة العامّ بالوضع ودلالة المفهوم بمقدّمات الحكمة، فحيث إنّ أحد الشروط المعتبرة في صحّة الأخذ بمقدّمات الحكمة هو عدم وجود بيان وظهور منجَّز على خلاف ما تقتضيه، فيكون العامّ ـ الذي فرضنا أنّ دلالته على العموم بنحو الدلالة الوضعيّة ـ بياناً، فيؤخذ به.
وأمّا إذا كانا كلاهما يدلّان بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، فهل يكون المرجع ـ حينئذٍ ـ هو التساقط والإجمال، خصوصاً إذا كانا في كلام واحد؟ أم أنّ المفهوم هو الذي يقدّم على العامّ؟
الحقّ: لزوم تقديم المفهوم على العامّ؛ لأنّ المفهوم لو كانت دلالته مستفادة من الوضع فإنّه يقدّم على العامّ، حتى لو كانت دلالة العامّ على العموم مستفادة من الوضع أيضاً، فكذلك إذا كانت دلالة كلّ منهما بالإطلاق وإجراء مقدّمات الحكمة؛ إذ بعد جريان مقدّمات الحكمة في جانب المفهوم، يكون المفهوم قرينةً صالحةً لبيان أنّ مراد المتكلّم من العامّ الذي أورده في كلامه إنّما هو الخاصّ، هذا إذا كان النسبة بينهما هي العموم المطلق.
ومن هنا ظهر الحال فيما أفاده صاحب الكفاية من <أنّه إذا ورد العامّ وما له المفهوم في كلامٍ أو كلامين، ولكن على نحوٍ يصلح أن يكون كلّ منهما قرينةً متّصلةً للتصرّف في الآخر، ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم، فالدلالة على كلٍّ منهما إن كانت بالإطلاق بمعونة مقدّمات الحكمة، أو بالوضع فلا يكون هناك عموم ولا مفهوم، لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة في واحدٍ منهما لأجل المزاحمة، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعاً لظهور الآخر كذلك، فلابدّ من العمل بالاُصول العمليّة فيما دار فيه بين العموم والمفهوم، إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر، وإلّا كان مانعاً عن انعقاد الظهور أو استقراره في الآخر>( ).
وحاصله: أنّهما إذا كانا يُعدّان في نظر العرف في كلامٍ واحدٍ أو كلامين، فإن كان منشأ الظهور في كلّ منهما هو الوضع أو مقدّمات الحكمة، ففي كلتا هاتين الصورتين، لا مفهوم ولا عموم.
اللّهم إلّا أن يكون أحدهما أظهر من الآخر، أمّا في الصورة الثانية فلعدم تماميّة مقدّمات الحكمة؛ لأنّ تماميّتها ـ كما هو معلوم ـ في كلّ واحدٍ منهما تتوقّف على عدم تماميّتها في الآخر.
ومعه: فلا يبقى منشأ للظهور في كلّ منهما. وأمّا في الصورة الأُولى، فلتزاحم الظهورين.
نعم، يقدّم ما هو الأظهر لو كان، فيكون مانعاً إمّا عن أصل انعقاد الظهور في الآخر، وإمّا عن استقراره فيه بعد فرض انعقاده، فإن لم يكن ثمّة أظهر، كان لابدّ من العمل على وفق ما تقتضيه الاُصول العمليّة فيما دار فيه بين العموم والمفهوم.
ثمّ قال: <ومنه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دلّ على العموم وما له المفهوم ذاك الارتباط والاتّصال، وأنّه لابدّ أن يعامل مع كلٍّ منهما معاملة المجمل، لو لم يكن في البين أظهر، وإلّا، فهو المعوّل، والقرينة على التصرّف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل>( ).
وقد يقال:
إنّه لا يمكن تقديم المفهوم المخالف على العامّ وتخصيص الكتاب به، وذلك للأخبار المستفيضة بل المتواترة، التي دلّت على أنّ أيّ خبر يكون مخالفاً للكتاب فلابدّ من طرحه، أو أنّه يكون من الباطل أو الزخرف.
ولكنّ الجواب عن ذلك:
أوّلاً: أنّه لو أخذنا بعموم هذه الأخبار، فلابدّ أن نقول بطرح المنطوق ـ أيضاً ـ في صورة مخالفة ظاهر الخبر للكتاب، وأنّه يكون باطلاً وزخرفاً، فلا معنى ـ حينئذٍ ـ لاختصاص المنع بالمفهوم.
وبالجملة: فلو سلّمنا هذا الدليل، فهو أعمّ من المدّعى؛ لأنّه كما يُثبت ـ على فرض تماميّته ـ عدم صحّة الأخذ بالمفهوم وتخصيص الكتاب به، فهو كذلك يُثبت عدم صحّة الأخذ بالمنطوق وتخصيص الكتاب به، والتفريق بينهما تحكّم وصرف دعوىً بلا دليلٍ عليها.
وثانياً: لا نسلّم أنّ الخبر المخالف بمفهومه لظاهر الكتاب بمجرّد العموم والخصوص المطلق يندرج تحت المخالفة التي توجب ردّ الخبر وعدّه باطلاً وزخرفاً، بل كون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق لا تعدّ بنظر العرف مخالفةً للكتاب.
وثالثاً: سلّمناه، ولكنّ لازمه أن تخصّص هذه الروايات بغير هذه الموارد؛ لأنّ المخالفة من هذا النوع قد وردت عنهم كثيراً.

هل يجوز تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد أم لا ؟
الحقّ: جواز ذلك، كما عليه صاحب الكفاية، وهذا نظير جواز تخصيص الكتاب بالكتاب، وبالخبر المتواتر المفيد للقطع بالصدور، وبالخبر الواحد القطعيّ الصدور بسبب احتفافه بالقرائن القطعيّةالتي تكون سبباً للقطع بالصدور.
قال الآخوند الخراساني:
<الحقّ: جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص، كما جاز بالكتاب، أو بالخبر المتواتر، أو المحفوف بالقرينة القطعيّة من خبر الواحد بلا ارتياب...>( ).
وقد استُدِلّ للجواز بقيام سيرة المتشرّعة على ذلك، وهي متّصلة بزمان المعصوم، فإنّ الأصحاب كانوا على العمل بأخبار الآخاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمّة.
وقد استشكل في الاستدلال بهذه السيرة بما حاصله: أنّ عملهم بتلك الأخبار غير العلميّة، لعلّه كان من جهة كونها محفوفة بالقرائن القطعيّة، وكانت هذه القرائن معلومة عندهم، ولكنّها ضاعت ولم تصل إلينا.
وفيه: أوّلاً: أنّه لو كان لبان، مع كثرة تلك الموارد، بحيث نعلم يقيناً بقيام سيرة عظيمة على العمل بخبر الواحد في قبال العمومات.
وثانياً: أنّه لو قلنا بعدم جواز تخصيص العامّ الكتابيّ بخبر الواحد للزم إلغاء حجّيّة أخبار الآحاد مطلقاً، وسدّ باب العمل بها بالكلّيّة، لوضوح أنّه قلّما يوجد مورد لم يكن فيه مخالفة للكتاب من هذا النحو.
واستدلّ المانعون: بأنّ الكتاب قطعيّ الصدور، والخبر الواحد ظنّيّ الصدور، ولا يصلح الظنّيّ لتخصيص القطعيّ.
وأُجيب عنه: بالنقض تارةً والحلّ أُخرى:
أمّا النقض، فحاصله: أنّه لو لم يمكن تخصيص الكتاب بالخبر الواحد لكونه قطعيّ الصدور، لم يمكن تخصيص الخبر المتواتر به لكونه قطعيّ الصدور أيضاً، مع أنّ جواز تخصيص الخبر المتواتر بأخبار الآحاد محلّ اتّفاق عندهم.
وأمّا الحلّ، فبأنّ التمسّك بأصالة العموم إنّما يكون جائزاً فيما لو لم يكن ثمّة قرينة على الخلاف، والخبر الواحد بدلالته وسنده يصلح لأن يكون قرينة على الخلاف.
وأمّا أصالة العموم فإنّها غير صالحة لرفع اليد عن أخبار الآحاد بعد نهوض أدلّة حجّيّتها، وبعد كون مورد أصالة العموم منحصراً ـ كما عرفنا ـ بصورة عدم قيام ما يصلح للقرينيّة على التخصيص.
وأمّا الأخبار الواردة بطرح ما يخالف القرآن:
فأوّلاً: لا نسلّم أنّها بإطلاقها تشمل ما إذا كان النسبة بين الكتاب والخبر نسبة العموم المطلق.
وثانياً: أنّه حتى لو أخذنا بإطلاق هذه الأخبار، ولم نحملها على خصوص ما لو كانت المخالفة بينهما بنحو التباين، فلابدّ من الالتزام بتخصيص هذه المخالفة بغير صورة المخالفة بالعموم والخصوص، وإلّا، كان لابدّ من طرح كثير من الأخبار التي عُلِم صدورها عن المعصومين مع كونها مخالفةً للكتاب بالعموم والخصوص.
وثالثاً: أنّ مثل هذه المخالفة لا تعدّ ـ كما عرفنا آنفاً ـ مخالَفةً للكتاب في نظر العرف؛ لأنّ المخالفة العرفيّة هي التي توجب تخيّرهم، والمخالفة بالإطلاق والتقييد أو العموم والخصوص ليس كذلك.
وأمّا ما استدلّ به للمنع: من أنّه لو جاز تخصيص العامّ الكتابيّ بأخبار الآحاد لجاز نسخ الكتاب بخبر الواحد أيضاً؛ لأنّهما ـ أعني: التخصيص والنسخ ـ من وادٍ واحد، إذ النسخ في الحقيقة ما هو إلّا تخصيص أزمانيّ، وحيث إنّه قد قام الإجماع على عدم جواز النسخ بخبر الواحد، فيدلّ ذلك على عدم جواز التخصيص به أيضاً.
فقد ردّه في الكفاية بقوله:
<والملازمة بين جواز التخصيص وجواز النسخ به ممنوعة، وإن كان مقتضى القاعدة جوازهما؛ لاختصاص النسخ بالإجماع على المنع، مع وضوح الفرق بتوافر الدواعي إلى ضبطه، ولذا قلّ الخلاف في تعيين موارده، بخلاف التخصيص>( ).


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com