المبحث الثاني في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

المبحث الثاني
في قيام الأمارات والاُصول مقام القطع


وها هنا اُمور لابدّ من بيانها:
الأمر الأول: أنّ المراد من الاُصول المبحوث عنها في المقام من حيث قيامها مقام القطع ـ على ما نبّه عليه جملة من المحقّقين كالمحقّق النائيني( ) ـ ليس هو مطلق الاُصول، بل خصوص الاُصول التنزيليّة، أي: الاُصول التي تكون متكفّلة لتنزيل المؤدّى منزلة الواقع، وهو البناء العمليّ على أحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع، وإلقاء الطرف الآخر، كالاستصحاب وأصالة الصحّة، دون أصالة الطهارة والبراءة والاشتغال.
الأمر الثاني: هو ما ذكره المحقّق النائيني حيث قال:
<قد عرفت أنّ القطع من الصفات الحقيقيّة ذات إضافة، ولأجل ذلك يجتمع في القطع جهات ثلاث:
الجهة الاُولى: جهة كونه صفة قائمة بنفس العالم من حيث إنشاء النفس في صقعها الداخلي صورة على طبق ذي الصورة، وتلك الصورة هي المعلومة بالذات، ولمكان انطباقها على ذي الصورة يكون ذيها معلوماً بتوسط تلك الصورة، فالمعلوم أولاً وبالذات هي الصورة، وتلك الصورة هي حقيقة العلم والمعلوم، وهذا من غير فرق بين أن نقول: إنّ العلم من مقولة الكيف، أو من مقولة الفعل، أو من مقولة الانفعال، أو من مقولة الإضافة ـ على اختلاف الوجوه والأقوال ـ فإنّه على جميع التقادير تكون هناك صفة قائمة في نفس العالم، فهذه أوّل جهات العلم.
الجهة الثانية: جهة إضافة الصورة لذي الصورة، وهي جهة كشفه عن المعلوم ومحرزيّته له وإراءته للواقع المنكشف، وهذه الجهة مترتّبة على الجهة الاُولى؛ لما عرفت من أنّ إحراز الواقع وكشفه إنّما يكون بتوسّط الصورة.
الجهة الثالثة: جهة البناء والجري العمليّ على وفق العلم، حيث إنّ العلم بوجود الأسد مثلاً في الطريق يقتضي الفرار عنه، وبوجود الماء يوجب التوجّه إليه إذا كان العالم عطشاناً، ولعلّه لذلك سمّي العلم اعتقاداً، لما فيه من عقد القلب على وفق المعتقد والبناء العمليّ عليه.
فهذه الجهات الثلاث كلّها مجتمعة في العلم وتكون من لوازم ذات العلم، حيث إنّ حصول الصورة عبارة عن حقيقة العلم ومحرزيّته وجداني والبناء العمليّ عليه قهري.
ثمّ إنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هي الجهة الثانية من جهات العلم، وفي باب الاُصول المحرزة هي الجهة الثالثة، وتوضيح ذلك: هو أنّ المجعول في باب الأمارات نفس الطريقيّة والمحرزيّة والكاشفيّة، بناءً على ما هو الحقّ عندنا من تعلّق الجعل بنفس الطريقيّة، لابمنشأ انتزاعها>( ).
وبعبارة أُخرى: فلمّا كان للأمارات مقدار من الكشف والطريقيّة، فقد تمّم الشارع المقدّس كشفه هذا، وجعله كشفاً محرزاً للواقع، فكأنّه جعل الظنّ علماً من حيث الكاشفيّة، بلا تصرّف ـ أصلاً ـ في الواقع والمؤدّى، بل المؤدّى باقٍ على ما هو عليه، سواء صادفت الأمارة الواقع أم خالفته؛ وذلك لترتّب عدّة محاذير فاسدة عليه، كلزوم التصويب المعتزليّ الباطل، أو التصويب الأشعريّ المحال، ولزوم اجتماع الضدّين، وكذا لزوم الإجزاء بالنسبة إلى الأوامر الظاهريّة، والحكومة الواقعيّة لأدلّة اعتبار الأمارات والاُصول على أدلّة الأحكام الواقعيّة، من قبيل: (الصلاة بالبيت طواف) أو (لا شكّ لكثير الشكّ)، حيث يوجب التوسعة أو التضييق في موضوعات الأحكام الواقعيّة، حتى يتحقّق موضوع حكمٍ آخر مقابل لموضوع الحكم الواقعيّ، مع أنّ الحكومة هنا ظاهريّة، بل التحقيق: أنّ المجعول هو نفس المحرزيّة، وأمّا المنجزيّة والمعذّريّة هما من لوازمها العقلية، فليس هناك حكم ظاهريّ في مقابل الحكم الواقعيّ، بل هو ظاهر الحكم.
وفي هذا يقول المحقّق النائيني:
<وأمّا المجعول في باب الاُصول التنزيليّة فهي الجهة الثالثة من العلم، وهو الجري والبناء العمليّ على الواقع من دون أن يكون هناك جهة كشف وطريقيّة، إذ ليس للشكّ الذي أخذ موضوعاً في الاُصول جهة كشف عن الواقع كما كان في الظنّ فلا يمكن أن يكون المجعول في باب الاُصول الطريقيّة والكاشفيّة، بل المجعول فيها هو الجري العمليّ والبناء على ثبوت الواقع عملاً الذي كان ذلك في العلم قهريّاً وفي الاُصول تعبّدياً>( ).
وخلاصة ما تقدّم: أنّ المجعول في باب الاُصول ليس إلّا البناء العمليّ وعمل الواقع المحرز للشيء المجهول، فليس فيها أيّة جهة كشف أو طريقيّة، إلّا البناء على ثبوت الواقع عملاً، ومن دون النظر إلى الواقع أصلاً.
فتحصّل: إمكان قيام الأمارات مقام القطع الطريقيّ بنفس دليل حجّيّتها، والمراد من كونها تقوم مقامه: أنّ أثره يترتّب عليها، فيثبت للأمارات بحكم العقل نفس ما ثبت للقطع من المنجزّية في صورة الإصابة والمعذّريّة في صورة الخطأ، بلا فرق بين كون حجّيّتها من باب الجعل التكليفي ـ أي: وجوب العمل على طبقه ـ أو من باب تتميم الكشف.
فكلّما قام دليل على حجّيّة الأمارات واعتبارها، قامت هي مقام القطع الطريقيّ المحض، ولأجل ذلك، فكما يكون القطع منجّزاً عند الإصابة، ومعذّراً عند الخطأ، وموضوعاً لحكم العقل بوجوب المتابعة، ولزوم المشي على وفقه، فكذلك تكون الأمارة الظنّيّة، بعد أن صارت حجّة معتبرةً عند الشارع، منجّزةً ومعذّرة، وموضوعاً لحكم العقل بوجوب المتابعة ولزوم السير.
نعم، منجّزيّة القطع ومعذّريّته ثابتة له بنفسه؛ لأنّ العقل يستقلّ بوجوب متابعته، وهذا بخلاف الأمارة التي لا تكتسب حجّيّتها إلّا بعد قيام الدليل عليها.
فالقطع إن كان كان طريقيّاً: يترتّب أثره بتنجّز المؤدّى عند الإصابة وتعذّره عند الخطأ، وإن كان موضوعيّاً: يترتّب أثره بتنجّز المؤدّى على كلّ حال، طابق الواقع أم خالفه.
ولكن مع ذلك، فلا يمكن للأمارة أن تقوم مقام القطع الذي أخذ على نحو الصفتيّة، وقد ذهب العلّامة الأنصاريّ( ) إلى قيامها مقام القطع الموضوعيّ الطريقيّ دون الصفتيّ.
وقد تابعه على ذلك المحقّق النائيني حيث قال: <فاعلم: أنّ الوجوه أو الأقوال في قيام الطرق والأمارات والاُصول التنزيليّة مقام القطع ثلاثة:
الأوّل: قيامها مقامه بجميع أقسامه حتى فيما إذا أُخذ موضوعاً على نحو الصفتيّة.
الثاني: عدم قيامها مقام ما أخذ في الموضوع مطلقاً ولو على نحو الطريقيّة والكاشفيّة.
الثالث: قيامها مقام القطع الطريقيّ مطلقاً ولو كان مأخوذاً في الموضوع، وعدم قيامها مقام القطع الصفتي، وهذا هو الأقوى>( ).
وذلك لأنّ القطع بما هو صفة يكون كسائر الموضوعات في عدم الإحراز للواقع، فإذا فرض أنّ الشارع أخذ العلم في موضوع جواز الشهادة بما هو صفة خاصة كما ورد عن النبي أنّه قال ـ وقد سئل عن الشهادة ـ: <هل ترى الشمس، على مثلها فاشهد أو دع>( )، فلا يقوم شيء من الأمارات أو الظنون مقامه إلّا بدليل خاصّ، كرواية حفص بن غياث( ) الدالّة على جواز الشهادة استناداً إلى اليد.
وكذا لا يقوم شيء من الأمارات والظنون مقام موضوع حكم الركعتين الأُوليين فيما لو فرض أخذ العلم فيه إلّا بدليل خاصّ.
وقد ظهر من عدم قيام الأمارة ـ بمجرّد دليل اعتبارها ـ مقام القطع الموضوعيّ الصفتيّ، عدم قيامها كذلك مقام القطع الموضوعيّ الذي يكون مأخوذاً على وجه الطريقيّة.
وقد أنكر صاحب الكفاية قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الموضوعيّ بأقسامه، فإنّه بعد أن نفى قيام الأمارة مقام القطع الصفتيّ، عطف عليه قيام الأمارة مقام القطع الموضوعيّ الطريقيّ، ونفاه بعين ما نفي به قيامها مقام القطع الصفتيّ.
وهذا نصّ كلامه: <لا ريب في عدم قيامها [أي: الأمارة] بمجرد ذلك الدليل مقام ما أخذ في الموضوع على نحو الصفتيّة من تلك الأقسام ـ إلى أن قال ـ ومنه قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل مقام ما أخذ في الموضوع على نحو الكشف>( ).
وإنّما امتنع قيام الأمارات مقام القطع الموضوعيّ الطريقي؛ لأنّ أدلّة حجّيّة الأمارات لا تثبت لها أزيد من كونها كالقطع بلحاظ الكشف عن الواقع، فإذا كان للقطع حيثيّات اُخرى، فإنّ دليل اعتبار الأمارة يكون قاصراً عن إثبات هذه الحيثيّات لها أيضاً، فأدلّة الأمارات لا تثبت إلّا الطريقيّة والكشف عن الواقع، حكماً كان الواقع أو موضوعاً، فإثبات الموضوعيّة يحتاج إلى دليل آخر.
والسرّ في ذلك: أنّ قضيّة الحجّيّة والاعتبار إنّما هي ترتيب ما يكون للقطع من الآثار، بما هو حجّة، لا بما هو موضوع.
فانقدح بذلك: عدم قيام الطرق والأمارات ـ بمجرّد الدليل القائم على حجّيّتها واعتبارها ـ مقام القطع المأخوذ في الموضوع بما هو كاشف وحاكٍ.
وأمّا ما قد يقال: في تقريب قيام الأمارة مقام القطع الطريقيّ والموضوعيّ بنحو الطريقيّة: من أنّ دليل الاعتبار يتكفّل نفي احتمال الخلاف، فهو ينزّل الأمارة منزلة العلم، ومقتضى إطلاقه تنزيل الأمارة منزلة العلم من جهة كونه طريقاً ومن جهة كونه موضوعاً، فتقوم الأمارة مقام القطع الطريقيّ والموضوعيّ.
فقد أجاب عنه صاحب الكفاية بما حاصله:
أنّه يؤدّي إلى لزوم اجتماع النقيضين؛ وذلك لأنّ دليل الاعتبار لا يكفي إلّا لتنزيل الواحد؛ إذ لابدّ في التنزيل من لحاظ المنزّل والمنزّل عليه، ولحاظ القطع والأمارة في تنزّلهما منزلة القطع الطريقيّ لحاظ آليّ؛ لأنّ النظر في الحقيقة إنّما هو إلى نفس الواقع والمؤدّى، ولحاظهما في تنزيلها منزلة القطع الموضوعيّ استقلاليّ؛ لأنّ النظر ـ حينذاك ـ إلى نفسيهما؛ فيلزم من كون الدليل الواحد متكفّلاً لكلا التنزيلين أن يجتمع اللّحاظان: الآليّ والاستقلاليّ، على شيء واحد، وهو محال ضرورةً.
ومعه: فلابدّ أن يكون الدليل متكفّلاً لأحدهما فقط، وهو معنى: تنزيلها منزلة القطع الطريقيّ.
وفي ذلك يقول:
<فإنّ الدليل الدالّ على إلغاء الاحتمال، لا يكاد يكفي إلّا بأحد التنزيلين، حيث لابدّ في كل تنزيل منهما من لحاظ المنزّل والمنزّل عليه، ولحاظهما في أحدهما آليّ، وفي الآخر استقلاليّ.
بداهة أنّ النظر في حجّيّته وتنزيله منزلة القطع في طريقيّته في الحقيقة إلى الواقع ومؤدّى الطريق، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما، ولا يكاد يمكن الجمع بينهما>( ).
ثمّ أضاف إلى ذلك ـ ما لفظه ـ:
<ولا يخفى: أنّه لولا ذلك، لأمكن أن يقوم الطريق بدليل واحد ـ دالّ على إلغاء احتمال خلافه ـ مقام القطع بتمام أقسامه، ولو فيما أخذ في الموضوع على نحو الصفتيّة>( ).
ولكنّ المحقّق النائيني خالف في ذلك، حيث ذكر أنّ حكومة الأمارات على أدلّة الأحكام الواقعيّة حكومة ظاهريّة، لا واقعيّة، وأنّ المجعول في باب الأمارات هو الكاشفيّة التامّة والمحرزيّة، وأنّ الدليل الدالّ على اعتبارها يتكفّل بتنزيلها منزلة القطع من جهة كاشفيّته عن الواقع ومحرزيّته له، فعبّر عنها:
تارةً: بالحكومة في مقام الإثبات في قبال الحكومة الواقعيّة، وهي الحكومة في مقام الثبوت، باعتبار أنّ دليل الأمارة لا يتكفّل التوسعة أو التضييق في الواقع بل في طريق إحرازه.
واُخرى: بأنّها ما كانت في طول الواقع، باعتبار أنّ حكومة دليل الأمارة بلحاظ وقوعها في طريق إحراز الواقع في رتبة الجهل به، لا بلحاظ التوسعة في رتبة الواقع نفسه.
ثمّ ذكر أنّ إشكال صاحب الكفاية إنّما يتأتى بناء على مسلك جعل المؤدّى في باب الأمارة، وأمّا بناءً على ما اختاره من جعل المحرزيّة والوسطيّة في الإثبات فلا يتم ما ذكره؛ ضرورة أنّه لم يلحظ الواقع والمؤدّى في مقام التنزيل حتى يرد عليه أنّه يستلزم اجتماع اللّحاظين، بل لم يلحظ سوى الأمارة والقطع، ودليل الاعتبار يتكفّل جعل الأمارة بمنزلة القطع في المحرزيّة، فتقوم مقام القطع الطريقيّ المحض والموضوعيّ إذا كان بنحو الطريقيّة( ).
وأمّا قيام الطرق والاُصول مقام العلم الطريقيّ فهو كما ذكر المحقّق النائيني:
<لا يحتاج إلى كلفة جعلين ولحاظين [حتى يقال: إنّه لا يمكن بجعل واحد اجتماع لحاظي الآلي والاستقلاليّ] بل نفس أدلّة حجّيّتها تفي بذلك بعدما كانت حجّيّتها عبارة عن وسطيّتها في الإثبات ووقوعها في طريق إحراز الواقع وكونها محرزةً له ـ كما هو الشأن في الطرق العقلائيّة ـ بل الظاهر أنّه ليس للشارع طريق مخترع، بل الطرق الشرعيّة كلّها إمضاء لما في يد العقلاء من الطرق المحرزة لمؤديّاتها، ولكونها واقعة في طريق إحراز الواقع كان حكومتها حكومة ظاهريّة؛ ويستقيم حينئذ جميع ما فرّع على ذلك ممّا يقتضيه اُصول المخطئة من عدم الإجزاء وإيجاب الإعادة والقضاء عند المخالفة.
وهذا بخلاف ما إذا كان المجعول هو المؤدّى، فإنّه يكون من الحكومة الواقعيّة، ولابدّ حينئذ من القول بالإجزاء، ويكون ذلك من التصويب المعتزليّ>( ).
وأمّا الاُصول العمليّة ممّا عدا الاستصحاب:
فلا معنى لقيامها مقام القطع بدليل حجّيّتها؛ لأنّ القيام مقام القطع ليس إلّا ترتيب ما للقطع من الآثار، من المنجّزيّة عند الإصابة والمعذّريّة عند الخطأ وحكم العقل بوجوب المتابعة.
أمّا الاُصول العمليّة كمثل قاعدة الطهارة والحلّ والبراءة:
فهي ليست سوى وظائف مقرّرة للجاهل في ظرف الجهل والحيرة، بلا فرق بين أن تكون البراءة عقليّةً أو شرعيّة.
وأمّا الاستصحاب:
فإنّه لمّا كان له جهة كشف ونظر إلى الواقع، صحّ ـ حينئذٍ ـ أن يقوم مقام القطع؛ نظراً لوجود سنخيّة بينه وبين القطع من ناحية الكشف والطريقيّة، بخلاف باقي الاُصول العمليّة، حيث لا تسانخ بينها وبين الواقع أصلاً.
فظهر من ذلك: صحّة الدعوى القائلة: بأنّ كلّ أصل عمليّ تثبت له جهة كشف ما ونظر إلى الواقع، فيمكن أن يقوم مقام القطع واليقين، كأصالة الصحّة وقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز، بناءً على القول بأنّها اُصول عمليّة، لا أمارات.

الكلام في الظنّ الطريقيّ والموضوعيّ:
لا شكّ في أنّ الظنّ كالقطع في كونه مثله ينقسم إلى طريقيّ تارةً، وموضوعيّ أُخرى.
فالظنّ الطريقيّ هو الظنّ الذي يكون طريقاً محضاً إلى الواقع، من دون أن يكون مأخوذاً في موضوع الحكم كالقطع الطريقيّ.
والفرق بين القطع الطريقيّ وبين الظنّ الطريقيّ يكمن في أنّ طريقيّة القطع ذاتيّة وغير قابلة للجعل الشرعيّ، كما تقدّم، بخلاف الظنّ؛ فإنّ طريقيّته مجعولة من الشارع، إمّا إحداثاً وتأسيساً، أو إمضاءً من قبل الشارع لما عند العقلاء، كحجّيّة الأمارة شرعاً بنحو الطريقيّة، بعدما لم تكن تلك الحجّيّة ذاتيّةً له كالقطع.
قال في الكفاية: <لا ريب في أنّ الأمارة الغير العلميّة ليست كالقطع في كون الحجّيّة من لوازمها ومقتضياتها بنحو العلّيّة، بل مطلقاً، وأنّ ثبوتها لها محتاج إلى جعل أو ثبوت مقدمات وطروء حالات موجبة لاقتضائها الحجّيّة عقلاً، بناءً على تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومةوذلك لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجّيّة بدون ذلك ثبوتاً بلا خلاف، ولا سقوطاً [أي: امتثالاً] وإن كان ربّما يظهر فيه من بعض المحقّقين الخلاف والاكتفاء بالظنّ بالفراغ، ولعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل، فتأمّل>( ).
فهو ـ إذاً ـ محتاج إلى الجعل على كلّ حال، وإلّا، لزم أن يكون حدوث الحادث بلا علّة.
ثمّ إنّ الظنّ:
تارةً: يكون طريقاً محضاً إلى موضوعٍ، أو حكم شرعيّ، وضعيّ أو تكليفيّ، تماماً كما في القطع.
واُخرى: يكون مأخوذاً في موضوع حكم، أي: يكون دخيلاً فيه، وهنا: فإمّا أن يؤخذ فيه على نحو الطريقيّة أو على نحو الصفتيّة.
والأقسام المتصوّرة في القطع الموضوعيّ بعينها، تجري هنا ـ أي: في الظنّ الموضوعيّ ـ فإنّ الحكم المأخوذ في الموضوع: إمّا أن يكون نفس الحكم الذي تعلّق به الظنّ أو حكماً آخر يماثله أو يضادّه أو يخالفه، والمأخوذ في موضوع كلّ واحد منها: إمّا أن يكون هو الظنّ المعتبر أو غير المعتبر.
أمّا أخذ الظنّ موضوعاً في حكم نفس الحكم الذي يكون ذلك الحكم متعلّق ـ سواء كان تمام الموضوع أو جزؤه، على وجه الصفتيّة أو الطريقيّة، معتبراً كان الظنّ أو غير معتبر ـ فغير ممكن يقيناً كما مرّ ذلك عند الكلام على القطع؛ لأنّ الظنّ متأخّر رتبةً عن متعلّقه، فلو أنّه أخذ فيه، للزم أن يصير المتأخّر متقدّماً، وهو ظاهر الاستحالة.
وأمّا أخذ الظنّ في موضوع مماثل أو مضادّ: فإن كان ظنّاً غير معتبر فهو جائز قطعاً، فيجوز للمولى أن يقول ـ مثلاً ـ: (إذا ظننت بوجوب صلاة الجمعة من إخبار الصبيّ، يجب أو يحرم عليك صلاة الجمعة)؛ لأنّ الظنّ في مفروض المسألة غير منجّز على المكلّف، وهو الصبيّ؛ لعدم حجّيّة ظنّه، فالحكم المرتّب على ظنّه حكم ظاهريّ، فلا يكون هناك تنافٍ بينه وبين الحكم الواقعيّ، كما في مورد الشك.
وهذا بخلاف ما إذا كان الظنّ معتبراً شرعاً، فلا يجوز أن يقال: (إذا أخبرك العدل بوجوب صلاة الجمعة يجب أو يحرم عليك صلاة الجمعة)؛ لأنّ الواقع منجّز في حقّه حينئذٍ، والحكم المرتّب على الظنّ فعليٌّ، فيلزم اجتماع المثلين أو الضدّين: إمّا في الواقع أو في نظر الظانّ.
فإن قلت: لا مانع من أخذ الظنّ في موضوع حكم مماثل بحيث يكون ذلك الجعل الثاني تأكيداً له، كما هو كذلك في الاُمور التي تكون قابلة للاشتداد، وذلك فيما إذا كان له مرتبة ضعيفة ثمّ جاءت مرتبة اُخرى من نفس العرض، فإنّها تشتدّ وتقوى تدريجيّاً، كما في الكيفيّات المحسوسة التي يكون حصولها في موضوعاتها تدريجيّاً، مرتبة بعد مرتبة، وتسمّى بالحركة في الكيف، كالحلاوة التي توجد في التمر والعنب.
قلت: لا معنى للتأكيد والاشتداد في الأحكام الشرعيّة؛ بداهة أنّها من الاُمور الاعتباريّة التشريعيّة، لأجل تحريك العبد نحو الفعل أو الترك، وليست من سنخ الكيفيّات والأعراض الخارجيّة حتى تكون قابلةً للاشتداد.
وأمّا أخذ الظنّ موضوعاً لحكم آخر لا يضادّ حكم متعلّقه، ولا يماثله ـ سواء كان الظنّ حجّة وطريقاً معتبراً إلى متعلّقه أم لا ـ: فلا مانع منه بالنسبة إلى جميع أقسامه، بلا فرق بين أن يكون أخذه لموضوع الحكم الآخر على وجه الصفتيّة أو الطريقيّة، سواء كانت الصفتيّة هي تمام حكم الموضوع أو جزأه، وسواء كان الموضوع في كلٍّ من هذه الثلاثة هو الظنّ المجعول حجّة شرعيّة لمتعلّقه أم الظنّ غير المجعول كذلك.