في حجّيّة الظواهر

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

في حجّيّة الظواهر


والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل:
لا يخفى: أنّ المراد من الظهور هو انكشاف المعنى من اللّفظ وانسباقه إلى الذهن بحيث إذا أُلقي اللّفظ إلى العرف حملوه عليه، وإن لم يكن هناك ظنّ بالمراد؛ لأنّ تحقّق الظهور لا يدور مدار الظنّ بالمراد، كما أنّ الظنّ بالمراد ممّا لا يدور مدار الظهور.
فبينهما نسبة العموم وخصوص من وجه؛ إذ يمكن أن يتحقّق الظهور من دون أن يكون هناك ظنّ بالمراد، كما لو كان للّفظ ظهور بحسب الانفهام العرفيّ، كما أنّه قد يحصل الظنّ بالمراد، ولو من الخارج، من دون أن يكون للّفظ ظهور فيه أصلاً، وقد يجتمعان، فصدقت ضابطة العموم والخصوص الوجهيّ.
وقد عبّر الشيخ عن الظهورات ﺑ <الاُصول المعمولة لتشخيص مراد المتكلّم>، قال ما لفظه:
<منها: ـ أي: من الاُمور الخارجة عن تحت أصالة حرمة العمل بما سوى العلم ـ الأمارات المعمولة في استنباط الأحكام الشرعيّة من ألفاظ الكتاب والسنّة، وهي على قسمين:
القسم الأوّل: ما يعمل لتشخيص مراد المتكلّم عند احتمال إرادة خلاف ذلك، كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز، وأصالة العموم والإطلاق.
ومرجع الكلّ إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بإرادة المتكلّم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة، وكغلبة استعمال المطلق في الفرد الشايع بناءً على عدم وصوله إلى حدّ الوضع، وكالقرائن المقاميّة التي يعتمدها أهل اللّسان في محاوراتهم كوقوع الأمر عقيب توهّم الحظر>( ).
والذي يظهر من كلامه:
أنّه أرجع هذه الاُصول اللّفظيّة إلى أصالة عدم القرينة، وأنّه ليس للعقلاء إلّا بناء واحد، هو اتّباع الظهور، فلا يكون عندنا سوى أصالة الظهور، لا أنّهم يبنون على أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الذي يقطع بإرادة المتكلّم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة.

الأمر الثاني:
اعلم أنّ البحث عن الظواهر:
تارةً: يكون صغرويّاً، كحصول الظهور من الوضع، أو من القرائن: الشخصيّة أو النوعيّة، كوقوع الأمر عقيب الحظر الموجب لظهوره في الإباحة، والاستثناء عقيب الجمل المتعدّدة ممّا يوجب انعقاد ظهور لمفردات الكلام، أو غلبة وجوده في الخارج الموجب لانصراف اللّفظ إليه.
وأُخرى: يكون كبرويّاً كالبحث عن حجّيّة أصل الظهور بعد فرض انعقاده في الكلام.

الأمر الثالث: هل الظهور من مسائل علم الاُصول؟
الظاهر: كونه كذلك؛ بداهة ما عرفت من أنّ المناط في اُصوليّة المسألة إنّما هو وقوعها كبرىً لقياس يستنتج منه حكم فرعيّ كلّيّ.
ثمّ إنّه قد تقدّم في باب الأوامر والنواهي الحديث عن الظواهر صغرويّاً. فالكلام عنها هنا ينعقد كبرويّاً ليس غير، فيقع البحث في أنّ الظهور بعد انعقاده هل يكون حجّة أو لا؟
بمعنى: أنّ ما يظهر من الكلام، هل يكون هو المراد النفس الأمريّ للمتكلّم ـ بدعوى: أنّ الكلام بظاهره موضوع لأجل إفادة المعنى، وعليه بناء العقلاء وأهل العرف مطلقاً، حيث يدور عليه رحى معاشهم ونظامهم ـ أم أنّه لا يكون كذلك؟
قال المحقّق الخراساني في المقام ما لفظه:
<لا شبهة في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة؛ لاستقرار طريقة العقلاء على اتّباع الظهورات في تعيين المرادات، مع القطع بعدم الردع عنها، لوضوح عدم اختراع طريقة اُخرى في مقام الإفادة لمرامه من كلامه، كما هو واضح>( ).
وحاصله: أنّ الشارع لم يردع عن اتّباع الظهور والأخذ به؛ لأنّه لو ردع عن ذلك، لكان عليه أن يخترع طريقة اُخرى لنفسه، فعدم اختراعه هذا يكون كاشفاً ـ لا محالة ـ عن عدم ردعه.
واستدلّ الشيخ الأعظم على حجّيّة الظواهر بما نصّه:
<أمّا القسم الأوّل: وهو ما يعمل لتشخيص مراد المتكلّم ـ عند احتمال إرادة خلاف ذلك ـ فاعتباره في الجملة ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف؛ لأنّ المفروض كون تلك الأمور معتبرة عند أهل اللّسان في محاوراتهم المقصود بها التفهيم.
ومن المعلوم بديهةً أنّ طريق محاورات الشارع في تفهيم مقاصده للمخاطبين لم يكن طريقاً مخترعاً مغايراً لطريق محاورات أهل اللّسان في تفهيم مقاصدهم>( ).

الأمر الرابع: في أنّ للظهور مراتب متفاوتة في المحاورات العرفيّة.
بمعنى: أنّ كلّ ما لا يكون مجملاً فهو ظاهر، حتى يصل إلى مرتبة النصوصيّة، وحينئذٍ: فإن قلنا بحجّيّة الظهور لدى العقلاء، فيكون هذا الظاهر حجّة عندهم بجميع مراتبه.
وكيف كان، فبعد ما عرفت من أنّ الشارع قد جرى على طريقة العقلاء دون أن يختار لنفسه طريقاً خاصّاً مغايراً لطريقتهم، نقول:
ينبغي أن يُعلم: أنّ الطريقة المعمول بها عند العقلاء تتمثّل في أنّ الكلام لو كان ظاهراً في معنى، أخذوا بهذا الظاهر، بحيث لو احتملوا عدم إرادة المتكلّم لما هو الظاهر من كلامه، فلا يعتنون بهذا الاحتمال، ولا يبالون به؛ ضرورة أنّ احتمال خلاف الظاهر منشؤه:
إمّا احتمال غفلة المتكلّم عن نصب قرينةٍ على الخلاف، أو احتمال عدم إرادته استيفاء مراده من الكلام، أو نحو ذلك ممّا يوجب احتمال عدم إرادة المتكلّم لظاهر الكلام.
ولكنّ جميع هذه الاحتمالات مدفوعة بالاُصول العقلائيّة التي جرت عليها طريقتهم، وهي اُصول لم يردع عنها الشارع المقدّس، بل إنّه أقرّهم عليها، بل وقد اتّخذها طريقةً له ـ هو أيضاً ـ لمكان أنّه أحد العقلاء، بل هو سيّدهم ورئيسهم، فليس له طريق خاصّ في بيان مراداته، بل إنّما يتكلّم على وفق طريقتهم المعمول بها عندهم، ولا يعتني بالاحتمالات التي توجب الشكّ في أنّه قد أراد ظاهر كلامه.
وممّا ذكرنا يتّضح: أنّه لا فرق بين ظاهر الكتاب وغيره، بل ولا فرق ـ أيضاً ـ بين مطلق كلام الشارع ومطلق كلام غيره، في كونه معتبراً في تعيين المراد، وكذا لا فرق بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد كذلك؛ وذلك خلافاً لما ذهب إليه الأخباريّون من التفصيل بين ظواهر الكتاب وغيره، حيث منعوا من حجّيّة ظواهر الكتاب، دون ظواهر غيره.
وقد ذكر صاحب الكفاية لهذا المنع وجوهاً خمسة، إذ قال:
<وإن ذهب بعض الأصحاب إلى عدم حجّيّة ظاهر الكتاب:
إمّا بدعوى: اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به، كما يشهد به ما ورد في ردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به.
أو بدعوى: أنّه لأجل احتوائه على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية، لا يكاد تصل إليها أيدي أفكار أُولي الأنظار الغير الراسخين العالمين بتأويله، كيف؟ ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل إلّا الأوحديّ من الأفاضل، فما ظنّك بكلامه تعالى، مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كلّ شيء؟!
أو بدعوى: شمول المتشابه الممنوع عن اتّباعه للظاهر، لا أقلّ من احتمال شموله؛ لتشابه المتشابه وإجماله.
أو بدعوى: أنّه وإن لم يكن منه ذاتاً، إلّا أنّه صار منه عرضاً؛ للعلم الإجماليّ بطروء التخصيص والتقييد والتجوّز في غير واحدٍ من ظواهره، كما هو الظاهر.
أو بدعوى: شمول الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي لحمل الكلام الظاهر في معنىً على إرادة ذلك المعنى>( ).
وحاصل هذه الوجوه كالتالي:
الأوّل:
الإخبار باختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به، وهم النبيّ والأئمّة ( ).
الثاني:
دعوى احتواء القرآن على مستوى عالٍ من المطالب العالية والمضامين الشامخة التي لا يصل إليها فهم كلّ أحد؛ لاشتماله على علم ما كان وما هو كائن وما سيكون.
الثالث:
دعوى كون المتشابه، والذي دلّ الدليل على المنع عن اتّباعه، شاملاً للظاهر؛ ولا أقلّ من احتمال شموله له، وهو كافٍ في المنع عن العمل به.
ولا بأس هنا بنقل كلام السيّد الصدر شارح الوافية على ما لخّصه الشيخ الأعظم في فرائده، قال:
<إن المتشابه كما يكون في أصل اللّغة، كذلك يكون في الاصطلاح، مثل أن يقول أحد: (أنا أستعمل العمومات وكثيراً ما أريد الخصوص من غير قرينة، وربّما اُخاطب أحداً وأريد غيره)، ونحو ذلك. والقرآن من هذا القبيل؛ لأنّه نزل على اصطلاح خاصّ>.
إلى أن قال: <قال سبحانه: ﴿مِنْهُ آيـَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ الآية( ).. ذمّ على اتّباع المتشابه ولم يبيّن لهم المتشابهات ما هي وكم هي، بل لم يبين لهم المراد من هذا اللّفظ، وجعل البيان موكولاً إلى خلفائه>.
ثمّ قال:
<لا يقال: إنّ الظاهر من المحكم، ووجوب العمل بالمحكم إجماعيّ.
لأنّا نمنع الصغرى؛ إذ المعلوم عندنا مساواة المحكم للنصّ، وأمّا شموله للظاهر، فلا>.
إلى أن قال:
<لا يقال: إنّ ما ذكرتم، لو تمّ، لدلّ على عدم جواز العمل بظواهر الأخبار أيضاً؛ لما فيها من الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والعامّ المخصَّص، والمطلق المقيَّد.
لأنّا نقول: إنّا لو خُلّينا وأنفسنا، لعملنا بظواهر الكتاب والسنّة، مع عدم نصب القرينة على خلافها، ولكن مُنعنا من ذلك في القرآن؛ للمنع من اتّباع المتشابه، وعدم بيان حقيقته، ومنعنا رسول اﷲ عن تفسير القرآن، ولا ريب في أنّ غير النصّ محتاج إلى التفسير.
وأيضاً: ذمّ اﷲ تعالى على اتّباع الظنّ، وكذا الرسول وأوصياؤه، ولم يستثنوا ظواهر القرآن>.
إلى قوله:
<وأمّا الأخبار، فقد سبق أنّ أصحاب الأئمة كانوا عاملين بأخبار الآحاد من غير فحصٍ عن مخصّصٍ أو معارضٍ ناسخٍ أو مقيّد، ولولا هذا لكنّا في العمل بظواهر الأخبار ـ أيضاً ـ من المتوقّفين>( ).
والذي يظهر من كلامه:
أوّلاً: أنّه لم يدّعِ شمول المتشابه الممنوع عن اتّباعه للظاهر، وإنّما احتمل شموله لتشابه المتشابه.
وثانياً: أنّه لم يرَ جواز العمل بظواهر الكتاب والسنّة مطلقاً، وإنّما جواز العمل بظاهر الأخبار اتّباعاً للأئمّة حيث عملوا بأخبار الآحاد من دون فحصٍ عن مخصّص أو معارض أو ناسخ أو مقيّد.
الرابع: من وجوه منع الأخباريّين الأخذ بظواهر الكتاب:
دعوى العلم الإجماليّ بطروء التقييد والتخصيص والتجوّز في غير واحدٍ من ظواهر الكتاب، وهو كافٍ لعدم إمكان العمل به، وإجراء أصالة الظهور في كلّ ظاهر لا يمكن، كما هو ظاهر؛ لمكان حصول المعارضة.
قال الشيخ: <الثاني من وجهي المنع: أنّا نعلم بطروّ التقييد والتخصيص والتجوّز في أكثر ظواهر الكتاب، وذلك ممّا يسقطها عن الظهور>( ).
الخامس:
دعوى شمول الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي لحمل الكلام الظاهر في معنىً على إرادة هذا المعنى.
قال في الفرائد: <وعن مجمع البيان: أنّه قد صحّ عن النبي وعن الأئمّة القائمين مقامه أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلّا بالأثر الصحيح والنصّ الصريح.
وقوله: (ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إنّ الآية يكون أوّلها في شيء وآخرها في شيء، وهو كلام متّصل ينصرف إلى وجوه)>( ).
وهذه الوجوه كلّها مردودة:
أمّا الأوّل:
فلبداهة أنّ في القرآن ما لا يختصّ علمه بهم، كيف؟! وقد وقع في غير واحدٍ من الروايات الإرجاع إلى الكتاب، كما في رواية عبد الأعلى عن أبي عبد اﷲ في حكم من عثر فوقع ظفره فجعل على إصبعه مرارة، أنّه قال: <يُعرف هذا وأشباهه من كتاب اﷲ عزّ وجلّ، قال اﷲ تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾( )، امسح عليه>( ).
وأمّا الثاني:
فلأنّ اشتمال القرآن على مطالب عالية ومضامين شامخة إنّما هو ببعض آياته، لا بتمامها، ولا ينافي غموض بعض الآيات حجّيّة ظهور غيرها.
وأمّا الثالث:
فلأنّ هناك فرقاً شاسعاً بين المتشابه والظاهر؛ إذ الأوّل هو المجمل الخفيّ معناه، بخلاف الظاهر، فإنّه قسيمه، وإذا كان كذلك، فلا يمكن أن يكون الظاهر بمعنى المتشابه، كما هو أوضح من أن يخفى.
وأمّا الرابع:
فلأنّه وإن سلّمنا بطروء ما يخالف الظاهر، من مخصّص وغيره، إلّا أنّه ممّا لا يوجب إجمال الظواهر وعدم الأخذ بها والعمل على طبقها؛ ضرورة أنّه مع الفحص عمّا يخالف الروايات، ينحلّ العلم الإجماليّ من أصله إلى العلم التفصيليّ، فلا يعود هناك مانع من الأخذ به.
وأمّا الخامس:
فلأنّ الممنوع عنه إنّما هو التفسير بالرأي، وحمل الكلام على ظاهره ليس تفسيراً؛ لأنّ التفسير هو كشف القناع، ولا قناع على الظاهر.
على أنّه لو سلّم كونه تفسيراً، فليس تفسيراً بالرأي؛ إذ المراد بالرأي ليس إلّا هو الاعتبارات والاستحسانات الظنّيّة.
هذا كلّه فيما يتعلّق بظواهر الكتاب.
وأمّا بالنسبة إلى من قصد إفهامه بالكلام، ومن لم يقصد كذلك، فيظهر من كلمات بعضهم اختصاص الأوّل بحجّيّة الظهور دون من لم يقصد إفهامه( )؛ وذلك لأنّ حجّيّة الظاهر هي من باب إفادة الظنّ النوعيّ بالمراد، بحيث لو خلّي وطبعه لكان مفيداً للظنّ، فإذا كان مقصود المتكلم إفهام المخاطب شيئاً ما، فلابدّ له أن يلقي الكلام إليه بنحوٍ لا يوجب أن يفهم المخاطب من الكلام خلاف مراده، فلو فرض أنّ المخاطب فهم خلاف ما أراده المتكلم، فيكون ذلك لأجل أحد احتمالين:
إمّا لأنّ المخاطب غفل عن القرائن المكتنفة بالكلام، والتي قد نصبها المتكلّم فعلاً على تبيين ما أراده.
وإمّا لأنّ المتكلّم ـ نفسه ـ قد غفل عن نصب القرينة التي تعيّن مقصوده ومراده.
ولكنّ كلا الاحتمالين ـ كما مرّت إليه الإشارة ـ يكون منفيّاً بالأصل.
هذا بالنسبة إلى المخاطب ومن قصد إفهامه.
وأمّا بالنسبة إلى غيره، فلا يشمله هذا البيان؛ لعدم انحصار الأمر في الاحتمالين المتقدمين، بل ثمّة احتمال ثالث، وهو احتمال وجود قرائن حاليّة أو مقاليّة، كانت موجودة، ولكنّها خفيت عليه، إمّا اختياراً: لداعٍ من دواعي الإخفاء، أو قهراً.
ومع هذا الاحتمال، فلا يمكن البناء على حجّيّة ظاهر الكلام بالنسبة إليه؛ إذ لا دافع لمثل هذا الاحتمال عند العقلاء.
وعليه: فنقول: إنّ أغلب الروايات التي بأيدينا هي من هذا القبيل؛ لأنّها لمّا كانت مختصّة بالمشافهين، حيث كانت واردةً في مقام الجواب عن أسئلة خاصّة، فلا يكون ظاهرها حجّة بالنسبة إلينا.
فليست تلك الخطابات كالتأليف والتصنيف اللّذين يقصد بهما إفهام كلّ من يطّلع عليهما، لا خصوص المخاطبين بهما.
ولمّا لم نكن نحن من المقصودين بالإفهام، فلا يكون الظاهر حجّة بالنسبة إلينا، إلّا من باب الظنّ المطلق الثابت بدليل الانسداد.
قال الشيخ الأعظم في بيان هذا التفصيل:
<كأمثالنا بالنسبة إلى أخبار الأئمّة الصادرة عنهم في مقام الجواب عن سؤال السائلين، وبالنسبة إلى الكتاب العزيز، بناءً على عدم كونه خطاباته موجّهةً إلينا، وعدم كونه من باب تأليف المصنّفين، فالظهور اللّفظيّ ليس حجّةً ـ حينئذٍ ـ لنا إلّا من باب الظنّ المطلق الثابت حجّيّته عند انسداد باب العلم>( ).
والصحيح في مقام الجواب:
أنّ هذا الاحتمال الثالث، هو كالاحتمالين السابقين في انتفائه واندفاعه بالاُصول العقلائيّة؛ فإنّ جميع المحتملات التي تقتضي عدم إرادة المتكلّم ظاهر كلامه تكون منفيّة بالأصل، والاُصول العقلائيّة جارية بالنسبة إلى جميع هذه الاحتمالات، فلا يمكن استفادة كونه مختصّةً بغفلة المتكلّم عن نصب قرينة على المراد.
وأمّا احتمال القرائن المنفصلة، الناشئ من قبيل اعتياد المتكلّم أن ينصب قرينة على مراده: فهو، وإن كان احتمالاً راجحاً، إلّا أنّه لا يكون سبباً لنفي حجّيّة الظواهر، بل هو سبب لوجوب الفحص، وبعد الفحص وعدم تبيّن أيّة قرينةٍ خلافيّة، فلا محيص عن اندفاعه، وإمكان الأخذ بالظواهر.
قال المحقّق الأنصاريّ:
<ولكنّ الإنصاف: أنّه لا فرق في العمل بالظهور اللّفظي وأصالة عدم الصارف عن الظاهر بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد، فإنّ جميع ما دل من إجماع العلماء وأهل اللّسان على حجّيّة الظاهر بالنسبة إلى من قصد إفهامه جارٍ فيمن لم يقصد؛ لأنّ أهل اللّسان إذا نظروا إلى كلام صادر من متكلّم إلى مخاطب، يحكمون بإرادة ظاهره منه إذا لم يجدوا قرينة صارفة بعد الفحص في مظانّ وجودها، ولا يفرّقون في استخراج مرادات المتكلمين بين كونهم مقصودين بالخطاب وعدمه.
فإذا وقع المكتوب الموجّه من شخص إلى شخص بيد ثالثٍ، فلا يتأمل في استخراج مرادات المتكلم من الخطاب المتوجه إلى المكتوب إليه، فإذا فرضنا اشتراك هذا الثالث مع المكتوب إليه فيما أراد المولى منهم، فلا يجوز له الاعتذار في ترك الامتثال بعدم الاطلاع على مراد المولى، وهذا واضح لمن راجع الأمثلة العرفية.
هذا حال أهل اللّسان في الكلمات الواردة إليهم.
وأمّا العلماء فلا خلاف بينهم في الرجوع إلى أصالة الحقيقة في الألفاظ المجرّدة عن القرائن، الموجّهة من متكلّم إلى مخاطب، سواء كان ذلك في الأحكام الجزئيّة كالوصايا الصادرة عن الموصي المعين إلى شخص معين، ثمّ مسّت الحاجة إلى العمل بها مع فقد الموصى إليه.
فإنّ العلماء لا يتأمّلون في الإفتاء بوجوب العمل بظاهر ذلك الكلام الموجّه إلى الموصى إليه المفقود، وكذا في الأقارير؛ أم كان في الأحكام الكلّيّة كالأخبار الصادرة عن الأئمّة مع كون المقصود منها تفهيم مخاطبهم لا غير، فإنّه لم يتأمّل أحد من العلماء في استفادة الأحكام من ظواهرها معتذراً بعدم الدليل على حجّيّة أصالة عدم القرينة بالنسبة إلى غير المخاطب ومن قصد إفهامه>( ).
هذا.
وقد استدلّوا للمنع من الأخذ بالظواهر بدعوى:
أنّ علمنا الإجماليّ بوقوع التحريف في القرآن يكون مانعاً عن العمل بظواهر الكتاب وعن الأخذ والتمسّك به.
ولكنّ صاحب الكفاية أجاب عن هذه الدعوى بما حاصله:
أنّ مجرّد العلم الإجماليّ بالتحريف سواء كان بالإسقاط أو بالتصحيف لا يستوجب خللاً في الأخذ بالظواهر لاحتمال عدم كون تلك الظواهر المستوجبة للخلل متعلقة بالأحكام الشرعيّة التي أمرنا بالرجوع فيها إلى ظاهر الكتاب.
ثمّ إنّ وقوعها طرفاً للعلم الإجماليّ منحلّ؛ لأنّ ما وقع عليه العلم الإجماليّ مستوجبٌ للخلل، وهو غير الأحكام فيكون خارجاً عن محل الابتلاء، وبهذا يثبت أنّ أصالة الظهور حجّة بالنسبة إلى ظواهر الأحكام وبلا معارض.
هذا فيما إذا كان الخلل المنحلّ من القرائن المنفصلة.
وأمّا إذا كان من القرائن المتّصلة: فإنّه يخلّ بالحجّيّة؛ لعدم انعقاد الظهور مع احتمال القرينة المتّصلة؛ لأنّ احتمال وجود القرينة وإن لم يكن مخلاً بالظهور، ولكن احتمال قرينية الموجود ممّا يخلّ به لعدم انعقاد الظهور معه( ).
وأمّا الاختلاف في القراءة:
فقد ذكر الشيخ الأعظم:
<أنّه إذا اختلفت القراءة في الكتاب على وجهين مختلفين في المؤدّى كما في قوله تعالى: ﴿حَتَّىَ يَطْهُرْنَ﴾( )، حيث قُرئ بالتشديد: من التطهّر الظاهر في الاغتسال، وبالتخفيف: من الطهارة الظاهرة في النقاء عن الحيض، فلا يخلو: إمّا أن نقول بتواتر القراءات كلّها، كما هو المشهور، خصوصاً فيما كان الاختلاف في المادة، وإما أن لا نقول، كما هو مذهب جماعة.
فعلى الأوّل: فهما بمنزلة آيتين تعارضتا، لابدّ من الجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ، أو على الأظهر، ومع التكافؤ، لابدّ من الحكم بالتوقّف والرجوع إلى غيرهما.
وعلى الثاني: فإن ثبت جواز الاستدلال بكل قراءة كما ثبت بالإجماع جواز القراءة بكل قراءة، كان الحكم كما تقدّم وإلّا فلابدّ من التوقّف في محل التعارض والرجوع إلى القواعد مع عدم المرجّح، أو مطلقاً بناء على عدم ثبوت الترجيح>( ).
ولكنّ الآخوند الخراساني اعترض:
على الشقّ الأوّل من كلام الشيخ بما يرجع إلى إنكار صحّة القول بتواتر القراءات.
وعلى الشقّ الثاني : بعدم جواز الاستدلال بها، بدعوى: أنّه لا يوجد ملازمة بين جواز القراءة وبين جواز الرجوع إليها والاستدلال بها.
وإليك نصّ كلامه:
<ولم يثبت تواتر القراءات، ولا جواز الاستدلال بها، وإن نسب إلى المشهور تواترها، لكنّه ممّا لا أصل له، وإنّما الثابت جواز القراءة بها، ولا ملازمة بينهما، كما لا يخفى>( ).


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com