حجّيّة قول اللّغويّ

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

حجّيّة قول اللّغويّ


قد عرفت ثبوت الحجّيّة للظواهر، فإن كانت هذه الحجّيّة قد أحرزت بالقطع، فلا كلام.
وأمّا إذا لم يحرز المفهوم العرفيّ للكلام، ولم يحصل العلم بما هو الموضوع لغة، فهل يكفي الظنّ بذلك أم لا؟
لا يخفى: عدم حجّيّة الظنّ في تعيين الموضوع له؛ لعدم وجود دليل على اعتباره.
إلّا أنّه نسب إلى المشهور القول بحجّيّة قول اللّغويّ بالخصوص في تعيين الأوضاع( ).
وهو غير تامّ؛ لأنّ ما هو حجّة هو الظاهر، لا الظنّ به.
وكيف كان، فقد يستدلّ على حجّيّته بوجوه:
منها:
اتّفاق العلماء، بل العقلاء، على الرجوع إلى قول اللّغويّ في تشخيص وضع اللّفظ، واستشهادهم بأقوالهم في مقام المحاجّة، الأمر الذي يدلّ على أنّ فصل النزاع إنّما هو قول اللّغويّ.
وفيه:
أوّلاً: منع حصول مثل هذا الاتّفاق.
وثانياً: ما أورده صاحب الكفاية من أنّه لو سلّم لا يفيد؛ إذ لم يعلم رجوعهم إلى قول اللّغويّ فيما يترتّب عليه الحكم الشرعيّ، ككلمة (الصعيد) الدائر أمرها بين مطلق وجه الأرض والتراب الخالص، بل الثابت هو الرجوع إليهم في الموارد التي لا يترتّب عليها أثر عمليّ شرعيّ، كفهم الأشعار والخطب ونحوها.
قال: <وفيه: أنّ الاتّفاق، لو سلّم اتّفاقه، فغير مفيد، مع أنّ المتيقّن منه هو الرجوع إليه مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة>( ).
ومنها:
دعوى الإجماع، ونسبه الشيخ إلى السيّد( ).
والفرق بين إجماع العلماء واتّفاقهم هو أنّ الأوّل إجماع قوليّ، بمعنى: تصريحهم في كتبهم بحجّيّة قول اللّغويّ، والثاني إجماع عملي، بمعنى: جريان سيرتهم على الرجوع إلى قول اللّغويّ واستعلام والاستشهاد بقولهم في مقام المخاصمة والاحتجاج.
واعترضه صاحب الكفاية بما حاصله:
أنّ الإجماع المحصّل غير حاصل في المقام؛ لأنّه لم تذكر هذه المسألة في كتب الأعلام فلا يمكن نسبة القول بالحجّيّة إليهم، وأنّ الإجماع المنقول غير مقبول، خاصّة في مثل المسألة ممّا يحتمل كونه مدركاً للإجماع:
وهو أن يكون مستند المجمعين اعتقادهم بأنّ المورد من مصاديق ما اتّفقت عليه السيرة العقلائيّة من الرجوع إلى أهل الخبرة في كلّ صنعة، فلا يكون مثل هذا الإجماع إجماعاً تعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم، فلا يستقلّ الإجماع في الدليليّة، بل لابدّ من ملاحظة هذا المستند.
وإليك نصّ ما أفاده:
<والإجماع المحصّل غير حاصل، والمنقول منه غير مقبول، خصوصاً في مثل المسألة ممّا احتمل قريباً أن يكون وجه ذهاب الجلّ لولا الكلّ، هو اعتقاد أنّه ممّا اتّفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة من كلّ صنعةٍ فيما اختصّ بها>( ).
ومنها:
دعوى: أنّ صحّة الرجوع إلى أصحاب الصناعات البارزين في صنعتهم البارعين في فنّهم فيما اختصّ بصناعتهم هي ممّا اتّفق عليه العقلاء في كلّ عصر وزمان، واللّغويّ من أهل الخبرة في تشخيص الأوضاع، فيصحّ الرجوع إليه للسيرة.
واعترض عليه صاحب الكفاية بما يرجع إلى اعتراضين، فقال:
<والمتيقّن من ذلك إنّما هو فيما إذا كان الرجوع يوجب الوثوق والاطمئنان، ولا يكاد يحصل من قول اللّغويّ وثوق بالأوضاع، بل لا يكون اللّغويّ من أهل خبرة ذلك، بل إنّما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال>( ).
وحاصل الاعتراضين:
الأوّل: أنّ المتيقّن من سيرة العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة فيما اختصّوا به إنّما هو فيما إذا كان الرجوع ممّا يوجب الوثوق والاطمئنان، وهما غير متحقّقين بقول اللّغويّ.
والثاني: أنّ اللّغويّ ليس من أهل الخبرة في تشخيص الأوضاع، بل إنّما هو من أهل الخبرة في موارد الاستعمال، بلا نظر إلى تعيين الحقيقة من المجاز؛ إذ ليس هذا همّه، وهذا كلّه على فرض التسليم بأنّ قوله موجب للوثوق والاطمئنان كما تقدّم في الاعتراض الأول.
ومنع المحقق النائيني ـ بعدما ذكر أنّ المتيقّن من بناء العقلاء هو حجّيّة أهل الخبرة فيما إذا حصل الوثوق من قولهم ـ من وقوع الصغرى بما هذا لفظه:
<وأمّا الصغرى: وهي كون اللّغويّ من أهل الخبرة بمعاني الألفاظ وتعيين حقائقها ومجازاتها، فللمنع عنه مجال؛ لأنّ أهل اللّغة شأنهم بيان موارد الاستعمالات، وتشخيص مواردها لا يحتاج إلى إعمال الحدس والرأي بل هو من الأمور الحسيّة.
نعم، في استخراج المعنى الموضوع له من بين المعاني المستعمل فيها اللّفظ قد يحتاج إلى إعمال نحو من الرأي والاجتهاد، وبهذا الاعتبار يمكن اندارج قول اللّغويّ في ضابط أهل الخبرة، إلّا أنّ الغالب في اللّغة هو بيان موارد الاستعمالات، مع أنّه لو فرض أنّه عين معنى الموضوع له ففي حصول الوثوق من قول لغوي واحد محل منع.
فالإنصاف أنّ كون اللّغويّ من أهل الخبرة واعتبار قوله لذلك دون إثباته خرط القتاد>( ).
ومنها:
دعوى أنّ طرح قول اللّغويّ غير المفيد للعلم في الكتاب والسنّة مستلزم لانسداد باب العلم في غالب الأحكام، فلابدّ من جريان مقدّمات الانسداد في الأحكام لكي تثبت حجّيّة مطلق الظنّ الذي من جملته قول اللّغويّ.
والتحقيق: عدم إمكان إثبات قول اللّغويّ بجريان مقدّمات الانسداد؛ ضرورة أنّ انسداد باب العلم في بعض ما يتوقّف العلم بالحكم عليه لا يوجب انسداده في جميع الأحكام، فانسداد باب العلم بتفاصيل اللّغات لا يوجب انسداده في جميعها. كيف؟! وموارد الحاجة إلى قول اللّغويّ قليلة جدّاً، فإنّ الغالب هو انفتاح باب العلم بمعاني الألفاظ.
فلا يكون الاحتياط وعدم العمل بالظنّ فيما لا يعلم مستوجباً للمحذور المزبور.
لا يقال: بناءً على عدم حجّيّة قول اللّغويّ لا يعود هناك فائدة في الرجوع إلى اللّغة.
لأنّا نقول: هو مع ذلك لا يخلو من فائدة، إذ قد يحصل العلم بالمعنى اللّغويّ بسبب الرجوع إليها، كما إذا اتّفق اللّغويّون جميعاً على أنّ وضع لفظ ما للمعنى الكذائيّ.
بل قد يحصل بسبب الرجوع إلى اللّغة العلم بالظهور أيضاً، كما إذا شككنا في معنى لفظ في آية أو رواية، فراجعنا اللّغة ولكن ظفرنا فيها بمعنيين أو أكثر، وكان بعض تلك المعاني متناسباً مع المورد؛ فإنّ هذا الرجوع يوجب انعقاد ظهور للّفظ فيه، وإن لم يوجب ذلك الظهور القطع بالمراد، لعدم تصريحهم بذلك وتنصيصهم عليه.
وهنا لابدّ من البحث في اُمور ترتبط بالإجماع:

الأمر الأوّل: في معنى الإجماع وتحديده.
اعلم أنّ الإجماع أصل للعامّة، وهم أصل له، لأنّهم من خلاله يثبتون صحّة ما يزعمونه أحقّيّة أبي بكر بالخلافة.
وهو ـ عندهم ـ دليل برأسه وباستقلاله، في مقابل الكتاب والسنّة، وقد نقلوا عن النبيّ: <لا تجتمع اُمّتي على خطأ> أو <على ضلالة>، واشترطوا فيه اتّفاق الكلّ. وعرّفه الغزاليّ بأنّه <اتّفاق اُمّة محمّد خاصّةً على أمر من الأمور الدينيّة>( ).
وما ذكره غير تامّ، وذلك:
أوّلاً: لعدم حصول هذا الإجماع في أيّ زمان حتى في صدر الإسلام؛ بداهة عدم اجتماع الاُمّة كلّها على خلافة أبي بكر؛ لمخالفة كثير من الأصحاب، كما أثبتته كتب التاريخ.
وثانياً: لعدم اختصاص الإجماع بعصر دون عصر، ولا باُمّة دون اُمّة، وملّة دون ملّة، بل هو حاصل بالنسبة إلى كلّ عصر، وبالنسبة إلى كلّ اُمّةٍ صنعت اتّفاقاً على أمر.
وأمّا عند الخاصّة: فليس له حجّيّة بنفسه، وإنّما يكون حجّة عندنا لدخول المعصوم فيه؛ لأنّه حينئذٍ يكون كاشفاً عن قوله.
فظهر من ذلك: أنّه ليس للإجماع عندنا موضوعيّة في الفقه في مقابل الكتاب والسنّة، وأنّ الحجّيّة إنّما هي لقول المعصوم الذي يكشف الإجماع عنه.

الأمر الثاني: في مفاد الإجماع:
وحاصله: أنّ نقل الإجماع: تارةً يكون نقلاً للسبب، واُخرى يكون نقلاً للمسبّب.
والمراد من الأوّل: نقل أقوال العلماء وفتاواهم الكاشفة عن رأي المعصوم، فيكون إخباراً عن الحسّ؛ ومن الثاني: رأيه، فيكون راجعاً إلى الحدس.
فإن كان الإجماع من قبيل الأوّل دخل في عموم أدلّة حجّيّة خبر الواحد.
وإن كان من الثاني كان مجرّد حدس، ولا دليل على حجّيّة هكذا إجماع.

الأمر الثالث: في مدركه:
اختلف العلماء في طريق استكشاف مدرك الإجماع على خمسة أقوال:
القول الأوّل: الإجماع الدخوليّ، وهو دخول الإمام بنفسه، وبشخصه المبارك في المجمعين، وهو ما اختاره السيّد المرتضى.
قال: <والصحيح الذي نذهب إليه: أنّ قولنا (إجماع)، إمّا أن يكون واقعاً على جميع الاُمّة، أو على المؤمنين منهم، أو على العلماء فيما يراعى فيه إجماعهم. وعلى كلّ الأقسام: لابدّ من أن يكون قول الإمام المعصوم داخلاً فيه...>.
إلى أن يقول: <لأنّنا نعلّل كون الإجماع حجّةً بأنّ العلّة فيه اشتماله على قول معصومٍ قد علم اﷲ سبحانه أنّه لا يفعل القبيح منفرداً ولا مجتمعاً...>( ).
إلّا أنّ مثل هذا الإجماع إنّما يكون ممكناً في عصر الحضور، حيث يفرض أنّ الإمام يجالس الناس ويجتمع بهم، ولا سبيل له في عصر الغيبة، كما هو واضح.
القول الثاني: قاعدة اللّطف، والمراد منها أنّ اﷲ بما له من العناية الخاصّة واللّطف بخلقه في إيصال الممكنات إلى الغايات التي أعدّها لهم، أرسل الرسل ونزّل الكتب لتبيّن شريعته التي إذا التزم بها العبد وصل إلى الكمال المطلق، وقد تمّم تلك الحجّة وكمّلها على لسان نبيّه الأكرم «اليوم أكملت لكم دينكم»، وحينئذٍ: كيف يمكن أن تجتمع الاُمّة على خطأ مع فرض كمال الدين وعدم خلوّ الأرض من حجّة؟ فيكون إجماع الاُمّة دائماً كاشفاً عن الواقع.
قال شيخ الطائفة في العدّة:
<والذي نذهب إليه أنّ الاُمّة لا يجوز أن تجتمع على خطأ، وأنّ ما يجمع عليه لا يكون إلّا حجّة؛ لأنّ عندنا أنّه لا يخلو عصر من الأعصار من إمام معصوم حافظ للشرع، يكون قوله حجّة يجب الرجوع إليه، كما يجب الرجوع إلى قول الرسول، وقد دللنا على ذلك في كتابنا (تلخيص الشافي) واستوفينا كلّ ما يسأل عن ذلك من الأسئلة.
وإذا ثبت ذلك، فمتى اجتمعت الاُمّة على قول فلابدّ من كونها حجّة لدخول الإمام المعصوم في جملتها>( ).
وقال صاحب المعالم:
<ونحن لمّا ثبت عندنا بالأدلّة العقليّة والنقليّة ـ كما حُقّق مستقصىً في كتب أصحابنا الكلاميّة أنّ زمان التكليف لا يخلو من إمام معصوم حافظ للشرع يجب الرجوع إلى قوله فيه ـ فمتى اجتمعت الاُمّة على قول كان داخلاً في جملتها؛ لأنّه سيّدها، والخطأ مأمون على قوله، فيكون ذلك الاجماع حجّة>( ).
وقال صاحب الفصول في مقام ذكر طرق الأصحاب في حجّيّة الإجماع ما لفظه:
<الأوّل: ما ذكره العلاّمة وجماعة، وهو أن الاُمّة إذا قالت بقول، فقد قال المعصوم به أيضاً؛ لأنّه من الاُمّة بل سيّدها ورئيسها، والخطأ مأمون عليه>( ).
فحاصل هذا القول: أنّه كلّما انعقد إجماع من الاُمّة، فالمعصوم داخل في أشخاصهم، وقوله داخل في أقوالهم. ولو كان ما أجمعت عليه الاُمّة خالياً عن حكم اﷲ ومخالفاً لما أراده، لكان على الإمام إلقاء الخلاف بين الاُمّة.
وفيه: أنّ وظيفة الإمام هي إيصال الأحكام بالطرق المتعارفة، وقد أدّاها، والاختفاء لبعض المصالح ليس من قبله حتى يقال بوجوب إلقاء الخلاف.
القول الثالث: قاعدة الحدس، وهي الملازمة بين آراء المرؤوسين ورأي رئيسهم، وأنّ رأي الرئيس داخل في ضمن آرائهم.
وفيه: أنّه إنّما يتمّ إذا كان عن تواطئهم على ذلك، وأمّا إذا حصل بنحو الاتّفاق فلا تصحّ الملازمة.
القول الرابع: أنّ تراكم الظنون من آراء الأعلام ممّا يوجب القطع بموافقة الإمام.
ولكنّ هذا ممّا لا يمكن المساعدة عليه أيضاً؛ لأنّ للظنون مراتب، فالإرجاع إلىه إرجاع إلى المجهول؛ لاختلافه باختلاف الموارد والأشخاص، فقد يحصل من الظنّون القطع بالنسبة إلى شخص دونه بالنسبة إلى آخر.
القول الخامس: أنّ اتّفاق العلماء كاشف عن وجود دليل معتبر عند المجمعين.
وفيه: أنّه إنّما يتمّ إذا كان الإجماع تعبّديّاً، كما إذا فرض أنّ الإمام قد أودع جملة من الأحكام عند الخواصّ من أصحابه، ثمّ قاموا هم بدورهم بإيداعها عند طبقة منهم، حتى وصلت إلى عصرنا، وأصبحت مجمعاً عليها، من دون أن يكون لها مدرك بالخصوص.
وأمّا إذا كان مدركيّاً، كما إذا كان مورد الإجماع أصلاً أو قاعدة أو دليلاً يحتمل أن يكون مدركاً للمجمعين ومستنداً لاتّفاقهم؛ فإنّه لا يكشف اتّفاقهم عن دليل آخر وراء ذلك، فلا يكون حجّة لذلك.