في حجّيّة خبر الواحد

تقييم المستخدم: 5 / 5

تفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجوم
 

في حجّيّة خبر الواحد


والكلام يقع فيها في اُمور:

الأمر الأوّل: في موضوع البحث:
وحاصله: أنّ من جملة ما يتوقف عليه إثبات الحكم الشرعيّ بالخبر والواحد هو الوثوق بالصدور، والمراد به: الأدلّة الدالّة على حجّيّة خبر الواحد، وهو محلّ بحثنا.
أمّا إحراز جهة الظهور، فقد تقدّم البحث عنها في مبحث حجّيّة الظواهر.
وأمّا جهة الصدور، فيبحث فيها عن أنّ الخبر إنّما صدر لأجل بيان الحكم الواقعيّ، وليس لأجل التقيّة ونحوها، وهذا هو ما عليه بناء العقلاء؛ إذ هم يحملون الكلام الصادر من المتكلّم على مراده الجدّيّ الواقعيّ، ويبنون على أنّ مؤدّى كلام المتكلّم هو ما مقصوداً له، ما لم يثبت خلاف ذلك.

الأمر الثاني: هل تعدّ هذه المسألة من المسائل الاُصوليّة أم لا؟
لا ينبغي النزاع في اُصوليّة البحث عن حجّيّة خبر الواحد؛ ضرورة ما عرفته مراراً من أنّ الملاك في اُصوليّة المسألة إنّما هو وقوعها كبرىً في قياس استنباط الحكم الشرعيّ، وهذه المسألة ـ بلا ريب ـ كذلك.

الأمر الثالث:
نسب الشيخ الأعظم إلى كلٍّ السيّد والقاضي وابن زهرة والطبرسيّ وابن ادريس القول بعدم حجّيّة خبر الواحد( ).
وقد استدلّوا لقولهم هذا باُمور:
الأوّل: الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم.
قال الشيخ: <أمّا حجّة المانعين: فالأدلّة الثلاثة:
أمّا الكتاب: فالآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم، والتعليل المذكور في آية النبأ على ما ذكره أمين الإسلام من أنّ فيها دلالة على عدم جواز العمل بخبر الواحد>( ).
وتلك الآيات هي:
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾( ).
وقوله: ﴿إنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾( ).
وقوله: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾( ).
وكذلك قوله: ﴿أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾( ).
وفيه: أنّ الظاهر كون هذه الآيات واردةً في باب الاُصول الاعتقاديّة، فيكون ظاهرها إفادة النهي عن اتّباع الظنّ في اُصول الدين.
ويمكن أن يكون المراد بالعلم ما تطمئنّ به النفس ويسكن إليه العقلاء، والخبر الواحد كذلك.
ولو سلّم شموله لفروع الدين؛ فإنّه يخصّص بما دلّ على حجّيّة خبر الواحد.
ولكنّ الآخوند الخراسانيّ ناقش في دلالة الآيات المذكورة على مدّعاهم بوجوه:
منها: أنّها ظاهرة في النهي عن اتّباع غير العلم في اُصول الدين، كما يظهر من ملاحظة سياقها.
ومنها: أنّه لو سلّم عدم ظهورها في خصوص الاُصول، فإنّ القدر المتيقّن منها هو ذلك، ومعه: فتكون مجملةً، ولا ظهور لها في العموم للفروع.
ومنها: أنّه حتى لو سلّم عمومها لفروع الدين، فإنّ ما دلّ على حجّيّة خبر الواحد يكون مخصّصاً لعمومها( ).
فيما ذهب المحقّق النائيني إلى أنّ دليل الحجّيّة حاكم على الآيات، حيث قال ما نصّه:
<نسبة تلك الأدلّة إلى الآيات ليست نسبة التخصيص، بل نسبة الحكومة؛ فإنّ تلك الأدلّة تقتضي إلقاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرزاً للواقع، فيكون حاله حال العلم في عالم التشريع فلا يمكن أن تعمّه الأدلّة الناهية عن العمل بالظن لنحتاج إلى التخصيص، لكي يقال: إنّ مفاد الآيات الناهية آبية عن التخصيص>( ).
الثاني: الأخبار الناهية عن العمل بما ليس عليه شاهد من كتاب اﷲ، كما عبّروا بأنّ ما خالف قول ربّنا لم نقله، وما لم يكن موافقاً للقرآن لا نقبله.
واعترض عليه صاحب الكفاية بما حاصله:
أنّه لا مجال للاستدلال بأيٍّ منها؛ لأنّها أخبار آحاد، فيلزم من الاستدلال بها على عدم حجّيّة خبر الواحد الخلف. وليست تلك الأخبار متواترة لفظاً ولا معنى.
نعم، هي متواترة إجمالاً، للعلم الإجمالي بصدور إحداها، ولكن مقتضى ذلك هو الالتزام بأخصّها من حيث المضمون للقطع بصدوره عن المعصوم، ولازمه: عدم حجّيّة الخبر المخالف للكتاب والسنّة لأنّه مما توافقت عليه الروايات، وهو لا ينفع في نفي حجّيّة خبر الواحد بنحو السلب الكلّي؛ ضرورة أنّ الالتزام به في مقام التعارض ممّا لا محيص عنه( ).
والتحقيق: أنّ الكلام إنّما هو في أصل حجّيّة الخبر الواحد، لا في حجّيّة مقام التعارض؛ ضرورة أنّ الخبرين في مورد التعارض هما في ذاتهما حجّة لولا تعارضهما، فلا يضرّ التعارض بكون كلٍّ منهما حجّة في نفسه.
وقد ذكر الشيخ الأعظم أنّ المراد بالمخالفة غير المخالفة بالعموم والخصوص، أو الإطلاق والتقييد، بل المراد منها هو المخالفة بنحو التباين، أو بضميمة المخالفة بنحو العموم من وجه.
واستند في ذلك إلى عدم صدق المخالفة عرفاً على التخصيص أو التقييد، وإلى القطع بصدور التخصيص والتقييد لعمومات الكتاب ومطلقاته بضميمة إباء عمومات النهي عن العمل بالمخالف للكتاب عن التخصيص( ).
قال المحقّق النائيني:
<ولا يبعد أن يكون صدور هذه الأخبار في مقام الردّ على الملاحدة الذين كانوا يضعون الأخبار ويدسّونها في كتب الأصحاب هدماً للشريعة المطهّرة، حتى نقل عن بعضهم أنّه قال بعدما استبصر ورجع إلى الحقّ: (إنّي قد وضعت اثني عشر ألف حديثاً).
فأقرب المحامل لهذه الأخبار حملها على الخبر المخالف للكتاب بالتباين أو بالعموم من وجه، وإن كان يبعد حملها على المخالفة بالتباين؛ لأنّه ليس في الأخبار ما يخالف الكتاب بالتباين الكلّيّ، حتى أنّ من يريد الوضع والدسّ في الأخبار لا يضع ما يخالف الكتاب بالتباين الكلّي؛ لأنّه يُعلَم أنّه من الموضوع.
ولا يبعد ـ أيضاً ـ حمل الأخبار الناهية على الأخبار الواردة في باب الجبر والتفويض والقدر، ونحو ذلك. ويمكن أيضاً حمل بعضها على صورة التعارض بين الروايات، فيؤخذ بالموافق للكتاب ويطرح المخالف له.
وكيف كان، لابدّ من حمل هذه الأخبار على أحد هذه المحامل، لما عرفت من أنّه لو بنينا على شمولها للمخالفة بالعموم والخصوص يلزم تعطيل كثير من الأحكام>( ).
وعلى هذا الأساس: فتكون الأخبار المتقدّمة مطلقة، ومن مصاديقها الردّ على الملاحدة، وحملها على الجبر والتفويض، وكذا يصحّ حمل بعضها على صورة التعارض.
ولكن لا يخفى: عدم إمكان التمسّك بها للاستدلال على عدم حجّيّة الخبر الواحد؛ وإلّا، لزم تعطيل كثير من الأحكام كما مرّ.
هذا بالإضافة إلى أنّ هذه الأخبار ـ هي بنفسها ـ من أخبار الآحاد، فيلزم من الاستدلال بها الخلف.
الثالث: الإجماع المحكيّ عن السيّد المرتضى( ).
وفيه: أنّ هذا الإجماع غير متحقّق، والاعتماد على نقله تعويل على خبر الواحد.
مضافاً إلى أنّه معارض بما عن الشيخ ـ المعتضدة بدعوى جماعة اُخرى ـ من الإجماع على حجّيّة خبر الواحد في الجملة، وتحقّق الشهرة على خلافها بين القدماء والمتأخرين.
الرابع: حكم العقل بلزوم التعبّد به تحليل الحرام وتحريم الحلال، وقد مرّ جوابه عند الكلام على الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ.

وأمّا المثبتون لحجّيّة خبر الواحد:
فهم ـ كذلك ـ استدلّوا بالأدلة الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل.
أمّا الكتاب:
فبآيات عدّة:

الاستدلال بآية النبأ:
منها: آية النبأ، قال تعالى: ﴿إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتبيّنوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾( ).
والاستدلال بهذه الآية تارةً يكون بمفهوم الشرط، واُخرى بالوجوب النفسيّ للتبيّن:

أمّا الاستدلال بمفهوم الشرط:
فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ تعليق الحكم بإيجاب التبيّن عن النبأ المجيء به على كون الجائي به فاسقاً، يقتضي انتفاءه عند انتفائه، وعليه: فلا يكون الشرط مسوقاً لبيان تحقّق الموضوع.
وهذا نصّ كلامه:
<نعم، لو كان الشرط هو نفس تحقّق النبأ ومجيء الفاسق به، كانت القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقّق الموضوع.
مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ القضية ولو كانت مسوقة لذلك، إلّا أنّها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاء وجوب التبيّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر، فتدبّر>( ).
وقد صوّر المحقّق النائيني الاستدلال <بمفهوم الشرط ببيان: أنّه تعالى علّق وجوب التبيّن عن الخبر بمجيء الفاسق به، فإذا انتفى الشرط وكان المخبر عدلاً، ينتفي وجوب التبيّن عن خبره، وإذا لم يجب التبيّن عن خبر العادل، فإمّا أنْ يردّ، وإمّا أن يقبل، ولا سبيل إلى الأوّل؛ لأنّه يلزم أن يكون العادل أسوأ حالاً من الفاسق، فيتعيّن الثاني، وهو المطلوب؛ لأنّه لا نعني بحجّيّة الخبر الواحد إلّا قبوله.
ولعلّ أخذ هذه المقدّمة الأخيرة وهي: أنّه (لو لم يجب قبول قوله يلزم أنّه يكون أسوأ حالاً من الفاسق) مبنيّ على كون التبيّن واجباً نفسيّاً، ولو كان وجوبه شرطاً للعمل بخبر الفاسق فلا نحتاج إلى هذه المقدّمة>( ).
وإذا كان احتمال الوجوب النفسيّ ساقطاً، فلا محيص عن كونه الوجوب في الآية شرطيّاً كما هو ظاهر التعليل؛ فإنّ إصابة القوم بجهالة إنّما تكون عند العمل بخبر الفاسق لا مطلقاً، ولو كان عادلاً.
وكيف كان، فحاصل الاستدلال بهذه الآية بناءً على مفهوم الشرط هو أنّ وجوب التبيّن عند العمل معلّق على مجيء خبر الفاسق، فإذا انتفى الشرط ينتفي المشروط، فلا يجب التبيّن عند العمل بخبر العادل.
ثمّ إنّه هل لهذه الآية مفهوم أو لا؟
ذهب الشيخ الأعظم إلى أنّ المفهوم في الآية من باب السالبة بانتفاء الموضوع؛ لأنّ الآية قد سيقت لبيان الموضوع، فيكون الشرط هو مجيء الفاسق بنبأ.
وظاهر: أنّ عدم التبيّن عند عدم مجيئه لهو من باب عدم وجود ما يتبيّن. وحينئذٍ: فيكون انتفاء الحكم بانتفائه أمراً تكوينيّاً، على حدّ قولك: (إن رزقت ولداً فاختنه)، فالشرط هنا شرط لتحقّق الموضوع به عقلاً بحيث لا يتصوّر بقاء الموضوع بانتفائه.
وقد تقرّر في محلّه: أنّ مثل هذه الشروط لا يثبت لها مفهوم، إذ المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم بانتفاء الشرط عن الموضوع الذي ثبت له الحكم عند وجود الشرط.
ومن الواضح: أنّ هذا يستدعي أن يكون الموضوع موجوداً عند انتفاء الشرط، كما كان موجوداً في حال وجوده، فإذا فرض أنّ الشرط كان مقوماً للموضوع عقلاً كان انتفاؤه ملازماً لانتفاء الموضوع فلا مفهوم( ).
هذا. ويمكن أن يقال:
إنّ القضيّة الشرطيّة في الآية الشريفة وإن فرض المجيء بها لبيان تحقّق الموضوع، إلّا أنّها ظاهرة في انحصار موضوع التبيّن بخصوص نبأ الفاسق.
ومقتضى هذا الانحصار: أنّه إذا انتفى نبأ الفاسق وتحقّق موضوع آخر مكانه كنبأ العادل لم يجب التبيّن عنه، فتأمّل.
وقد خالف الشيخَ فيما ذهب إليه صاحبُ الكفاية ذاهباً إلى ثبوت مفهوم للآية في حدّ نفسه، وذلك بافتراض أنّ موضوع الحكم هوالنبأ، وهو جهة إضافيّة للفاسق؛ فإنّ الشرط ـ حينئذٍ ـ لا يكون مقوّماً للموضوع؛ لأنّ النبأ كما يضاف إلى الفاسق فهو ـ أيضاً ـ يضاف إلى غيره.
ثمّ ذكر أنّ الموضوع لو كان هو طبيعيّ النبأ، وكان الشرط مجيء الفاسق بنحو يكون المجيء دخيلاً فيه، لم يكن للقضيّة مفهوم، أو أنّه يكون لها مفهوم، ولكن بنحو السالبة بانتفاء الموضوع( ).
وأمّا الإشكالات التي أوردوها على حجّيّة خبر العادل:
فعمدتها: أنّ صدر الآية وإن كان دالاً بمفهومه على حجّيّة خبر العادل، إلّا أنّ التعليل يدلّ على وجوب التبيّن في كلّ خبر غير مفيد للعلم.
فالمراد من الجهالة في قوله: ﴿أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين﴾ هو عدم العلم بمطابقة الخبر للواقع، فالتعليل ـ إذاً ـ بمنزلة أن يقال: إن جاءكم خبر لا يُعلم صدقه وكذبه فتبيّنوا فيه، وهو ـ كما لا يخفى ـ مشترك بين خبر العادل والفاسق على حدٍّ سواء.
وإذا كان عموم التعليل بوجوب الفحص شاملاً لخبر العادل، فإذا تعارض المفهوم وعموم التعليل يرجّح عموم التعليل؛ لأنّه أقوى ظهوراً من القضيّة الشرطيّة في المفهوم، بعد ما عرفت من إباء هذا التعليل عن التخصيص.
على أنّه لو سلّم عموم مقتضى التعليل وقبوله للتخصيص بالمفهوم كما هو حال سائر العمومات.
ففيه: أنّ تقديم الخاصّ على العامّ إنّما يكون فيما إذا كان الأمر دائراً بين طرح دليل الخاصّ بالمرّة وبين طرح عموم العامّ، فلا إشكال ـ حينئذٍ ـ في حمل العامّ على الخاصّ؛ لأنّه جمع بين الدليلين وطرح لعموم العام.
ولكنّ بحثنا ليس من هذا القبيل؛ ضرورة أنّ الأخذ بالعموم طرح للمفهوم، وهو بعض مدلول القضيّة، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية، فإنّ طرح العموم مترتّب على المفهوم. فحينئذٍ: يقع التعارض بين ظهورين، وهما: ظهور القضيّة الشرطيّة في المفهوم، وظهور التعليل في العموم.
ولا يخفى: أنّ ظهور التعليل في العموم أقوى وآكد من دلالة القضيّة على المفهوم، فيقدّم عموم التعليل؛ لمكان أظهريّته، بل إنّه يصلح لأن يكون قرينة صارفة عن أصل انعقاد ظهورٍ للقضيّة الشرطيّة في المفهوم.
فانقدح مما تقدّم: أنّ المفهوم مخصّص لعموم العلّة، وعموم العلّة مستلزم لإلقاء المفهوم، لكون العلّة متّصلةً بالكلام؛ أو فقل: إنّه لا يبقى للكلام مفهوم أصلاً حتى يكون موجباً لتخصيص العامّ.
ويمكن الإجابة عن ذلك: بأنّ الجهالة في الآية ليست بمعنى عدم العلم ليقال حينئذٍ: بأنّه كما يجب التبيّن في خبر الفاسق فيجب التبيّن في خبر العادل أيضاً.
بل الجهالة هنا إنّما هي بمعنى السفاهة، وليس العمل بخبر العادل ـ كما هو واضح ـ سفهاً أو عملاً غير عقلائيّ، فيجوز لا محالة الركون والاعتماد عليه.
ولكن، قال المحقّق العراقيّ في تعليقته على الفوائد:
<أمكن أن يقال: إنّ السفاهة يوجب الملامة لا الندامة، بل ما يوجب الندامة جارٍ في كل أمارة مخالفة للواقع، فضلاً عن مجرّد عدم العلم به إذا كان المقصود به حفظ الواقع، خصوصاً في الأمور المهمة، كما هو مورد الآية الشريفة؛ وحينئذ فلا غرو في دعوى كون الجهالة مطلق عدم العلم.
ومن هذا البيان ظهر أيضاً: أنّ العلّة جارية حتى في صورة العمل بما هو حجّة لديهم من خبر الثقة والعدل؛ لأنّ العمل بمثله في مثل حفظ النفوس والأعراض يوجب الندامة وإن لم يوجب الملامة، فإذا شمل العلّة بهذه القرينة ما هو حجّة لديهم أيضاً، كان لازمه بمقتضى عموم العلّة ردعهم عن مثل هذا العمل مطلقاً، ومع هذا التعميم لايبقى مجال لحكومة المفهوم على عموم العلّة، بل عموم العلّة موجب لمنع المفهوم>( ).
والتحقيق: أنّه ليس معنى الجهالة في الآية هو السفاهة، بل ما يلازمها، وهو العمل الصادر من الإنسان بنحو التسرّع ومن دون رويّة وبصيرة، فإنّه ـ حينئذٍ ـ يكون عملاً سفهيّاً.
ويؤيّده: ما ذكره الطبرسيّ في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله ِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ الله ُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله ُ عَلِيماً حَكِيماً﴾( )، في المرويّ عن أبي عبد اﷲ:
<كلّ ذنب عمله العبد، وإن كان عالماً، فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه، فقد حكى اﷲ تعالى قول يوسف لإخوته: ﴿هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ﴾( )، فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية اﷲ>( ).
وكيف كان، فقد تحصّل: أنّ المراد من الجهالة، بقرينة قوله: ﴿ثُمَّ يَتُوبونَ مِنْ قَرِيب﴾، ليس ما يقابل العلم؛ لأنّ العمل الصادر عن عدم العلم ليس محرّماً ولا مفتقراً إلى التوبة، بل المراد بها: صدور ما لا ينبغي صدوره عن العاقل المتأمّل في عواقب الاُمور، والمعنى: إنّ الذي عمل بسفاهة ثمّ ندم وتاب يتوب اﷲ عليه.
وبعبارة ثانية: فليس الظاهر من التعليل هو عدم جواز مطلق الإقدام بغير علم: فاسقاً كان أو عادلاً، بل خصوص الإقدام الذي يحصل منه ندامة. وليس في الإقدام الذي يكون عن حجّة واطمئنان ندامة، كما لا يخفى، فلا منافاة بين المفهوم والعلّة.
قال بعض المحقّقين المعاصرين:
<وممّا يشهد لإرادة هذا المعنى من الجهالة في الآية الكريمة دون مطلق عدم العلم، هو أنّ إقدام المسلمين على محاربة من أخبر الوليد (لعنه اﷲ) بكفرهم، لم يكن مع الترديد والتشكيك في ردّتهم وإلّا لتوقفوا في حربهم، بل كانوا واثقين من ذلك بسبب إخبار الوليد (لعنه اﷲ) بسبب غفلتهم وبساطتهم بحيث كانوا يصدقون كلّ أحد بمجرّد كونه مسلماً أو نحو ذلك. ففي الآية تنبيه على هذا المعنى وأنّه ينبغي التروي والتبصر في الأمور وعدم الإقدام على ما لا ينبغي أن يقدم عليه العقلاء في اُمورهم، وهو الاعتماد على خبر الفاسق المتهم بالكذب في اخباره>( ).
ولكن في كلام المحقّق النائيني ما يصلح لأن يكون جواباً عنه، بما لفظه:
<إنّه على فرض أن يكون معنى الجهالة عدمَ العلم بمطابقة الخبر للواقع لا يعارض عموم التعليل للمفهوم، بل المفهوم يكون حاكماً على العموم>( ).
وبعبارة اُخرى: فإنّ غاية ما يدل عليه التعليل هو لزوم التبيّن عمّا ليس بعلم، دون أن يتعرّض لبيان ما هو علم وما هو ليس كذلك؛ ضرورة أنّ الحكم لا يتعرّض إلى إثبات موضوعه بنحو من الأنحاء، بل يكون ثابتاً بعد ثبوت موضوعه فالمفهوم يقضي أن يكون خبر العادل علماً بعد إلغاء احتمال خلافه للواقع.
وحينئذٍ: يكون المفهوم حاكماً على عموم التعليل، ولكن لا لأجل تخصيصه لكي يقال: إنّ عموم العلّة آبٍ عن التخصيص، بل لأجل حكومته، والمحكوم لا يعارض الحاكم، فلا يقع التعارض بينهما، وإن فرض أنّ ظهور المحكوم كان أقوى من ظهور الحاكم، فإنّه مع ذلك يجب تقديم الحاكم.
ثمّ إنّ هناك إشكالات أُخرى لا تختصّ بالاستدلال على الحجّيّة بمفهوم آية النبأ:
منها: إشكال شمول أدلّة الحجّيّة للأخبار الحاكية لقول الإمام بواسطة أو بوسائط، كإخبار الشيخ عن المفيد عن الصدوق عن الصفّار عن العسكري، بقول الصفّار ـ مثلاً ـ: (كتبت إلى العسكري)، فهي منصرفة عن الإخبار مع الواسطة.
وجوابه:
أوّلاً: بمنع هذا الانصراف.
وثانياً: بأنّ الحكم المستفاد من أدلّة الاعتبار هو تصديق العادل، ونسبته إلى الموضوع نسبة العرض إلى المعروض، فلا يمكن إثبات الموضوع بالحكم، بل لابدّ من وجود الموضوع أولاً ثم يعرض عليه الحكم؛ لأنّ العرض لا يوجد معروضه.
فإذا قال الشيخ ـ مثلاً ـ: (حدّثني المفيد، قال: حدّثني الصدوق) فحجّيّة خبر المفيد تابعة لدليل حجّيّة قول الشيخ: (صدّق خبر العادل)، فكيف يجعل خبر المفيد الذي تحقّق تعبّداً بواسطة قول الشارع موضوعاً لهذا الحكم؟ فهو نظير ما يقال: (كلّ خبري صادق) حيث يشمل نفس هذا الخبر.
ومنها: أنّ الخبر لا بد له من حكم شرعيّ، ولا أثر لخبر الشيخ والمفيد والصدوق إلّا نفس وجوب تصديق العادل حتى يصح اعتبار التعبّد بإخباره، فعلم: أنّه لا أثر للمخبريّة غير وجوب التصديق والحجّيّة، فيلزم اتّحاد الحكم والموضوع.
وبتعبير آخر: فإنّ أقصى ما تدلّ عليه الآية الشريفة هو وجوب تصديق كلّ مخبر، وليس معنى تصديقه إلّا ترتيب الآثار الشرعيّة عليه. فإذا قال المخبر: (إنّ زيداً عادل)، فليس معنى وجوب تصديقه إلّا ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على عدالة زيد، من قبول شهادته وجواز الاقتداء به ونحو ذلك من الآثار، على أنّ الآثار المترتّبة ليست مختصّة بالآثار الثابتة في نفس الآية.
أمّا الجواب عن الأوّل:
فبأنّ هذا الإشكال إنّما يتأتّى فيما لو فرض أنّ الحكم مثبت لموضوع نفسه وشخصه، وأمّا إثباته لموضوع حكم آخر فلا مانع منه.
ومقامنا من قبيل الثاني، فإن خبر المفيد إنّما يثبت بوجوب تصديق الشيخ في إخباره عنه الذي فرض أنّه محرز بالوجدان، وإذا ثبت خبر المفيد بوجوب تصديق الشيخ يعرض عليه وجوب التصديق، ومن وجوب تصديق المفيد يثبت خبر الصدوق فيعرض عليه وجوب التصديق، وهكذا إلى أن ينتهي إلى أوّل سلسلة الوسائط.
فكلّ حكم لموضوع مثبت لموضوع آخر يترتّب عليه حكم آخر، فيكون هناك موضوعات متعددة لأحكام متعدّدة، غايته: أنّ الأحكام تكون من سنخ واحد.
وأجاب عنه صاحب الكفاية بما حاصله:
إنّ الملحوظ في الموضوع هو طبيعيّ الأثر، لا شخصه، أعني: وجوب تصديق العادل، وعليه: فيختلف الحكم عن الموضوع( ).
واستشكل عليه بعضهم بما لفظه:
<إنّ القضيّة الطبيعيّة ما كان الحكم فيها وارداً على نفس الطبيعة بما هي بملاحظة تجرّدها عن الوجود الخارجي بحيث لا يسري المحمول إلى الخارج، كالنوعيّة في مثل: (الإنسان نوع).
وقضايا الأحكام ليست كذلك؛ إذ هي ترتبط بالماهيّة بلحاظ وجودها الخارجي، والحكم يعرض على الموضوع الموجود في الخارج>( ).
وفيه: أنّ الحكم قد ورد على الطبيعة باعتبارها قنطرة إلى الخارج لا بما هي في الذهن، فيتعدّد الموضوع والحكم ولا يكون الحكم مأخوذاً في موضوع نفسه.
وأمّا الجواب عن الثاني:
فبأنّ الآثار الشرعيّة للقضايا لا يجب أن تكون في نفس مؤدّاها، بل يكفي انتهاء تلك القضايا إلى أثر ولو بألف واسطة، كما في محلّ الكلام، فجعل الحجّيّة والطريقيّة في أقوال السلسلة صحيح؛ لانتهائه قول المعصوم.
ويمكن أن يقال أيضاً: إنّما يكون تحقّق الجعل متوقّفاً على الأثر العمليّ فيما لو كان الأثر العمليّ من مقوّماته، وليس كذلك، بل يكفي في تحقّق الجعل أن يكون على صورةٍ تُخرجه عن اللّغْوية، وذلك فيما إذا كانت أخبار الوسائط متّصلة بالإمام؛ فإنّه ـ حينئذٍ ـ يصبح كل خبر من تلك الوسائط ذا فائدة وأثر عملي؛ لاتّصاله بما له أثر عملي وهو خبر الإمام، فلا يكون جعلها لغواً.
وممّا يدلّ عليه: أنّه لولا حجّيّة تلك الأخبار لم يمكن إثبات حجّيّة الخبر المتّصل بالإمام؛ لعدم وصوله إلينا وجداناً، فلا تترتّب عليه الحجّيّة مع قطع النظر عن حجّيّة الوسائط.
فانقدح: أنّ إثبات الحجّيّة للخبر المتّصل بالإمام من دون حجّيّة الوسائط، لا يكاد يكون ممكناً.

الاستدلال بآية النفر:
ومن جملة الآيات التي استدلّ بها على حجّيّة خبر الواحد: آية النفر، وهي قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾( )، حيث تدلّ على وجوب الحذر، وهو ترتّب الأثر على قول المنذرين، وليس معنى حجّيّة الأثر إلّا ذلك.
ويمكن تقريب الاستدلال بهذه الآية على حجّيّة خبر الواحد من وجوه:
الوجه الأوّل: ظهور كلمة (لعلّ) في الترجّي الحقيقيّ، وهو مستحيل في حقّه تعالى بالدليل، فلابدّ أن يكون المراد منه في مقام الاستعمال معنى المحبوبيّة، فتكون الآية دالّةً على محبوبيّة الحذر، وإذا ثبتت محبوبيّته فقد وجب عقلاً؛ لأنّ مقتضي الحذر إن كان موجوداً فقد وجب الحذر؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته، وإلّا، فلا يحسن من أصله، بل يكون مستحيلاً؛ لأنّ المعلول عدم عند عدم علّته.
الوجه الثاني: أن الإنذار واجب بظاهر الآية الشريفة؛ لأنّه غاية للنفر الواجب بدلالة الآية، بمقتضى (لولا) التحضيضيّة، فإذا وجب النفر وجب الإنذار فيه، وإذا وجب الإنذار وجب التحذّر كذلك، وإلّا كان وجوب الإنذار لغواً.
الوجه الثالث: أنّ التحذّر قد جعل غاية للإنذار في الآية الكريمة، وهو واجب، وغاية الواجب واجبة، فيكون التحذّر واجباً.
وقد استشكل صاحب الكفاية:
على الأوّل: بأنّ حسن التحذّر غير منحصر بالعقاب، إذ قد يكون للخوف من فوت المصلحة والوقوع في المفسدة، كما هو كذلك بالنسبة إلى الشبهات البدويّة التي لا حجّة فيها على التكليف من علم أو علميّ، فإنّ التحذّر فيها لأجل إدراك الواقع وعدم الوقوع في فوت المصلحة أو درك المفسدة وإن كان حسناً إلّا أنّه ليس واجباً.
وعلى الثاني: بعدم انحصار فائدة الإنذار بوجوب التحذّر تعبّداً؛ إذ من الممكن أن يكون لأجل زيادة المنذرين فيحصل العلم من قولهم.
وأيضاً: بمنع الملازمة بين وجوب الإنذار ووجوب الحذر على نحو الإطلاق، نعم إنّما تتحقّق فيما لو حصل العلم بقول المنذر.
وعلى الثالث: بأنّه لا يوجد في المقام إطلاق يقتضي وجوب الحذر على الإطلاق عند الإنذار؛ إذ ليست الآية في مقام بيان غاية التحذّر حتى يتمسّك بإطلاق الكلام، بل هي مسوقة لبيان وجوب النفر( ).
وهل وجوبه مشروط بما إذا حصل العلم من قول المنذر؟
قال المحقّق النائيني ـ بعدما ذهب إلى أنّ المراد من الجمع في قوله تعالى: (ليتفقّهوا) و(لينذروا) و(يحذرون) هو الجمع الاستغراقيّ ـ ما هذا لفظه:
<ليس المراد من الحذر: مجرّد الخوف والتحذّر القلبي، بل المراد منه هو التحذّر الخارجي، وهو يحصل بالعمل بقول المنذر وتصديق قوله والجري على ما يقتضيه من الحركة والسكون.
وليس المراد أيضاً: الحذر عند حصول العلم من قول المنذر، بل مقتضى الإطلاق والعموم الاستغراقي في قوله تعالى: (لينذروا) هو وجوب الحذر مطلقاً، حصل العلم من قول المنذر أو لم يحصل؛ غايته: أنّه يجب تقييد إطلاقه بما إذا كان المنذر عدلاً، لقيام الدليل على عدم وجوب العمل بقول الفاسق، كما هو مفاد منطوق آية النبأ.
وبعد العلم بهذه الأمور لا أظن يشكّك أحد في دلالة الآية الشريفة على حجّيّة خبر العدل>( ).
وإن شئت فقل: ليست الآية في مقام بيان وجوب الحذر عند الإنذار بحيث إذا شُكّ في اشتراط وجوبه بشيء أمكن التمسّك بالإطلاق لنفي اشتراطه به، بل هي في مقام بيان وجوب نفر طائفة من كلّ فرقة.
ويحتمل ـ قويّاً ـ أن تكون الغاية هي الحذر عند حصول العلم، فيثبت ـ حينئذٍ ـ بمعونة القرينة الخارجيّة: أنّ الحذر إنّما يكون واجباً عند حصول العلم؛ ضرورة أنّ التفقّه الواجب ليست سوى معرفة الاُمور الواقعيّة من الدين التي تفقّه فيها وتعلّمها بواسطة النفر والحذر، فلا يكون الحذر واجباً إلّا عقيب الإنذار، أمّا لو شك في أنّه صادق في خبره أو لا، فإنّ شكّه هذا شكّ في كون إخباره عن اُمور الدين أو لا، فلا يجب.
فظهر بهذا التقريب: انحصار وجوب الحذر بما إذا علم صدق المنذر في إنذاره.
ولم يرتضه المحقّق النائيني، بل أجاب عنه بقوله:
<وهذا الإشكال يتلو السابق في الفساد، فإنّ نفس الآية تدل على ما أنذر به المنذر يكون من الأحكام؛ لأنّ قول المنذر إذا جعل طريقاً إليها ومحرزاً لها فيجب اتباع قوله والبناء على أنّه هو الواقع، كما هو الشأن في سائر الأدلّة الدالّة على اعتبار الطرق والأمارات، فانّ نتيجة دليل الاعتبار كون مؤدى الطريق هو الواقع، لا يجعل المؤدّى حتى يرجع إلى التصويب بل جعل الطريقيّة يقتضي ذلك؛ ومن هنا، كانت أدلّتها حاكمة على الأدلّة المتكفّلة للأحكام الواقعيّة؛ فالآية بنفسها تدلّ على أنّ ما أنذر به المنذر يكون من الأحكام الواقعيّة>.
ثمّ قال: <ومنها: ـ أي: ومن الإشكالات على التمسّك بآية النفر ـ أنّ الحذر إنّما يجب عقيب الإنذار، والإنذار ليس مطلق الإخبار عن الحكم، بل هو الإخبار المشتمل على التخويف، والتخويف ليس من شأن الراوي، بل هو من شأن المفتي والواعظ ـ كأن يقال: أيّها الناس اتّقوا اﷲ في أكل الربا فإنّي سمعت المعصوم يقول: (من أكل الربا فكأنّما زنى في الكعبة)، أو (فهو مجرم يوجب استحقاق العقاب)، فالأوّل إفتاء بلفظ الخبر، وأمّا الثاني فإفتاء محض ـ فالآية تدلّ على حجّيّة قول المفتي، لا قول الراوي>( ).
وأمّا ما يمكن أن يقال في دفع هذا الإشكال:
من أنّ الإنذار وإن كان بمعنى الإخبار المشتمل على التخويف، لكنّه أعمّ من الصراحة والضمنيّة؛ إذ يصدق على الإخبار المتضمّن للتخويف وإن لم يصرّح به المنذر، ولولا ذلك لما صدق الإنذار على فتوى المفتي؛ لأنّه ليس في فتواه تصريح بالتخويف، هذا مع اعتراف المستشكل بصدق الإنذار على الفتوى.
فقد أجاب المحقّق العراقي عنه بقوله:
<عمدة نظر المستشكل إلى احتياج الإنذار والتخويف من شخص إلى الالتفات بلازم تخويفه وبعنوانه، ومثل هذا المعنى لا يصدق على العامي البحت الحاكي لمسموعاته من الإمام، فتعميم التخويف إلى الصراحة والضمنيّة أجنبي عن جهة الإشكال>( ).
والحقّ أن يقال:
إنّ الإنذار في الآية الشريفة ليس من قبيل وعظ الواعظين، بل هو فيها من المتفقّه في الدين إلى الجاهل بالأحكام، فيكون من قبيل إرشاد المرشدين.
وإذا كان الإبلاغ مع التخويف حجّة ـ بمقتضى الآية الشريفة ـ بحيث يجب التحذّر والتخوف عقيبه شرعاً، كان الإبلاغ بلا تخويف حجّة أيضاً؛ ضرورة القطع بأنّ التخويف ممّا لا دخل له في حجّيّة كلام المبلغ، وإن كان يحصل له مع التخويف من العزم على الامتثال ما لا يحصل له من مجرّد الإبلاغ بلا تخويف.

الاستدلال بآية الكتمان:
وممّا استدلّ به على حجّيّة خبر الواحد ـ أيضاً ـ: آية الكتمان، وهي قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ الله ُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾( ).
وحاصل الاستدلال بها: أنّ حرمة الكتمان لو لم تستلزم وجوب القبول لكانت لغواً.
وأورد عليه صاحب الكفاية منع لزوم اللّغويّة؛ <لعدم انحصار الفائدة ـ أي: فائدة حرمة الكتمان ـ بالقبول تعبّداً، وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لأجل وضوح الحق بسبب كثرة من أفشاه وبيّنه، لئلّا يكون للناس على اﷲ حجّة، بل كان له عليهم الحجّة البالغة>( ).
وإن شئت فقل: إنّ حرمة الكتمان لمّا كانت لأجل أن يكثر المظهرون فيتّضح الحقّ ويحصل العلم من قولهم، علم ـ حينئذٍ ـ أنّ ترتّب وجوب القبول عليها إنّما هو لأجل حصول العلم بالواقع.
وأورد عليه الشيخ الأعظم بعين ما أورده على الاستدلال بآية النفر من دعوى: إهمال الآية وعدم تعرّضها لوجوب القبول مطلقاً، ولو مع عدم حصول العلم؛ وكذا دعوى: اختصاص وجوب القبول في الأمر الذي يجب إظهاره ويحرم كتمانه وهو الحقّ والواقع، بتقريب:
أنّ ظاهر الأمر ههنا وأمثاله هو أنّ المقصود فيه هو عمل الناس بالحقّ، وليس المقصود منه جعل قول المظهر حجّة تعبّداً، وإذا لم يحرز الواقع لا يحرز موضوع وجوب العمل ولا يثبت وجوب القبول( ).
واسشكل الآخوند الخراسانيّ على كلا الإيرادين بما هذا لفظه:
<ولا يخفى: أنّه لو سلّمت هذه الملازمة ـ بين حرمة الكتمان ووجوب القبول ـ لا مجال للإيراد على هذه الآية بما أورد على آية النفر، من دعوى الإهمال أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم>( ).
فظهر: أنّه لا يمكن الإشكال على الاستدلال بالآية إلّا بمنع أصل الملازمة، بنفس البيان المتقدّم في آية النفر من عدم انحصار فائدة الإظهار بإيجاب القبول تعبّداً، ووجوب الإظهار إنّما هو لأجل أن يكثر المظهرون فيحصل العلم من قولهم، فلولا إفادة قول المظهرين العلم لم يعمل به.
وذهب المحقّق الأصفهاني إلى أنّ الآية ظاهرة في حرمة كتمان وستر ما فيه مقتضى للظهور لولا الستر، بقرينة قوله تعالى: ﴿مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ﴾( )، فلا نظر فيها إلى وجوب الإعلام، بل غاية ما تدل عليه هو لزوم الكشف عمّا بيّنه اﷲ تعالى وأظهره.
وعلى هذا: تكون آية الكتمان أجنبيّة بالكلّيّة عن حجّيّة خبر الواحد بالمرّة( ).

الاستدلال بآية السؤال:
وممّا استدلّ به على حجّيّة الخبر الواحد أيضاً آيةُ السؤال، وهي قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلــُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾( ).
وحاصل الاستدلال بها: أنّ وجوب السؤال لو لم يكن مستلزماً لوجوب القبول لكان لغواً.
وقال العلّامة الأنصاريّ في تقريب الاستدلال بها:
<بناءً على أنّ وجوب السؤال يستلزم وجوب قبول الجواب، وإلّا لغا وجوب السؤال، وإذا وجب قبول الجواب وجب قبول كلّ ما يصحّ أن يسأل عنه ويقع جواباً له؛ لأنّ خصوصيّة المسبوقيّة بالسؤال لا دخل فيه قطعاً>( ).
وإذا حصل القطع بأنّ خصوصيّة السؤال ممّا لا دخالة لها في وجوب القبول، ظهر ـ حينئذٍ ـ أنّ الموضوع هو نفس الجواب في حدّ ذاته، وليس هو جواب سؤال يجب قبوله.
وهنا، لابدّ من التعرّض إلى ما ذكره الثقة الطبرسيّ في تفسير هذه الآية من أنّ في معنى (أهل الذكر) أقوالاً ثلاثة:
الأوّل: أنّ المعنيّ بذلك هم أهل العلم بأخبار من مضى من الاُمم، سواء كانوا مؤمنين أو كفّاراً.
الثاني: أنّ المراد بأهل الذكر أهل الكتاب، أي: فاسألوا أهل التوراة والإنجيل إن كنتم لا تعلمون.
الثالث: أنّ المراد بهم أهل القرآن؛ لأنّ الذكر هو القرآن، قال ابن زيد: ويقرّب منه ما رواه جابر ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر أنّه قال: نحن أهل الذكر، وقد سمّى اﷲ رسوله ذِكراً. وقال في موضع ثانٍ: روي عن علي أنّه قال: (نحن أهل الذكر)( ).
وأيّاً كان، فإنّ الآية أجنبيّة عن حجّيّة خبر الواحد؛ لأنّ المراد منها هو حصول العلم لا القبول تعبّداً؛ ولأنّها وردت في معرفة النبيّ وعلاماته، وأنّ معرفته من اُصول الدين فلا ينفع فيها التقليد.
فظهر: أنّ الآية لا تتكفّل حجّيّة قول المخبر على الإطلاق.
وكذا لو كان المراد من أهل الذكر أهل العلم؛ لأنّ وجوب قبول قولهم إنّما هو لأجل أنّهم أهل العلم بمناسبة الحكم والموضوع، فلا تشمل أخبار المخبر الذي ليس ديدنه إلّا نقل الرواية التي صدرت عن المعصوم دون أن يكون له معرفة بكلامهم.
وممّا ذكرنا ظهر: الوجه في ما ذكره صاحب الكفاية في مقام الجواب عن هذا الإيراد من:
<أنّ كثيراً من الرواة ـ أي: رواة الصدر الأوّل ـ يصدق عليهم أنّهم أهل الذكر والاطلاع على رأي الإمام كزرارة ومحمد بن مسلم ومثلهما، ويصدق على السؤال عنهم أنّه السؤال عن أهل الذكر والعلم، ولو كان السائل من أضرابهم، فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية، وجب قبول روايتهم ورواية غيرهم من العدول مطلقاً؛ لعدم الفصل جزماً>( ).
وذهب المحقّق الأصفهاني إلى أنّ العلم بالحكم لا يحتاج في بعض الموارد إلى إعمال نظر أو رأي، فقبول قوله في مثل ذلك متمحّض في جهة خبريّته. وبضميمة عدم الفصل بينه وبين غيره يثبت المطلوب( ).
فإن قلت: إنّا نفرض الراوي من أهل العلم، وإذا وجب قبول روايته وجب قبول رواية من ليس من أهل العلم بالإجماع المركّب.
قلت: سؤال أهل العلم من الألفاظ التي سمعها من الإمام وليس سؤالاً عن أهل العلم.
أو فقل: ليس السؤال عن أهل العلم بما هم كذلك أهل علم، بل بما هم رواة، فلا تكون الآية شاملة له. فظهر: عدم نفع آية السؤال في الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد.

الاستدلال بآية الاُذن:
ومن الآيات التي استدلّ بها ـ كذلك ـ على حجّيّة الخبر:
آية الاُذن، قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيـُؤْمِنُ لِلْمُؤْمـِنِينَ﴾( ).
فإنّ الآية ظاهرة في أنّه تعالى مدح نبيّه لتصديقه المؤمنين، وقرنه بتصديقه تعالى، ولولا حسنه لما مدحه، وإذا كان حسناً فقد وجب.
قال الشيخ الأعظم في البحث عن الاستدلال بآية النفر:
<إنّه لا معنى لندب الحذر، إذ مع قيام المقتضي يجب ومع عدمه لا يحسن>( ).
وفيه: أنّه إنّما مدحه لأنّه سريع القطع ـ كما هو معنى الاُذن والاعتقاد ـ، وليس له أيّ تأمّل يورثه التشكيك، لا لأنّه يعمل تعبّداً بما يسمع من دون حصول الاعتقاد بصدق القائل.
فمدحه ـ إذاً ـ إنّما هو لحُسْن ظنّه بالمؤمنين وعدم اتّهامهم فوراً، وهذا أجنبيّ عن الأخذ بقول الغير.
والتحقيق: أنّه ليس المراد من الاُذن في الآية سريع الاعتقاد، بل المراد أنّه يسمع كلام كلّ أحد ويقبله منه، وهو لا يستلزم الاعتقاد؛ فإنّ تسريع الاعتقاد مذموم؛ لأنّه من الصفات البلهاء والسفهاء، فالمراد بتصديقهم إنّما هو تصديقهم فيما ينفعهم ولا يضرّ غيرهم، لا جعل المخبريّة واقعاً، وترتّب جميع آثاره عليه، وإلّا لما كان أُذن خيرٍ لجميع الناس، كما لو أخبره أحد بزنا رجل أو شربه أو ارتداده، فقتله النبي؛ فإنّه ـ حينئذٍ ـ لا يكون اُذن خيرٍ على الإطلاق، حتى بالنسبة إلى المخبر عنه، بل هو شرّ محض بالنسبة إليه، خصوصاً فيما لو كان خبره كاذباً، وإن كان خيراً للمخبر نفسه من حيث متابعته.
فظهر: أنّ مدح النبي على التصديق في الآية لأجل تأليفه القلوب، لا لترتيبه الأثر، فالتصديق هنا بمعنى التصديق الوارد في الخبر:
<يا محمّد، كذّب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسّامة وقال لك قولاً فصدّقه وكذبهم، لا تذيعنّ عليه شيئاً تشينه>( ).

وأمّا الاستدلال بالسنّة:
فلا يذهب عليك أنّ الأخبار التي يمكن أن يستدلّ بها على حجّيّة خبر الواحد متواترة تواتراً معنويّاً وإن لم تأتي على لفظ واحد.
قال في الكفاية: <إلّا انّه يشكل الاستدلال بها على حجّيّة أخبار الآحاد بأنّها أخبار آحاد؛ فإنّها غير متّفقة على لفظ ولا على معنى، فتكون متواترة لفظاً أو معنى>( ).
وقد أطال الشيخ الأعظم البحث فيها، فصنّف الروايات إلى أصناف متعدّدة.
فمنها: ما دلّ على إرجاع بعض الرواة إلى بعض أصحابهم  كإرجاعه إلى زرارة ومحمّد بن مسلم وأبان بن تغلب وأبي بصير وزكريّا بن آدم( ).
ومنها: ما ورد في الخبرين المتعارضين من الأخذ بالأعدل والأصدق والمشهور، والتخيير عند التساوي( ).
ومنها: ما دلّ على وجوب الرجوع إلى الرواة والثقات والعلماء، كرواية الاحتجاج وغيرها( ).
ومنها: ما دلّ على الأمر بحفظ الحديث وكتابته وتداوله( ).
ولا يخفى: أنّ استفادة حجّيّة خبر الواحد من هذه الأخبار محل تأمّل؛ أما ما دلّ على حسن حفظ الحديث وكتابته: فلأنّه من المحتمل قويّاً أن يكون الأمر بذلك لأجل ما في الحفظ والكتابة من إبقاء الحقّ وحفظ الأحكام عن الزوال.
وأمّا ما ورد في الخبرين: فلأنّها لا تدل على حجّيّة خبر الواحد مطلقا، بل في خصوص صورة المعارضة.
قال المحقّق النائيني:
<والقدر المتيقّن دلالتها على حجّيّة الخبر الموثوق به صدوراً أو مضموناً كما يدل على الأوّل الترجيح باشتهار الرواية بين الرواة أو وثاقة الراوي وعدالته، فإنّ هذه المرجّحات كلها ترجع إلى اعتبار الخبر الموثوق صدوره، وعلى الثاني الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة>( ).
ولكن يمكن أن يقال: ليس القدر المتيقن هو مطلق الوثوق، بل عدالة الراوي بجميع طبقاته وهو المعبّر عنه عند أرباب الحديث بالصحيح الأعلائي.
فإن قلت: ما ورد في تعابير الإمام: (خذ بأوثقها)، يدل على كفاية وثاقة الخبر.
قلت: قد يكون المراد منها في تلك التعابير العدالة، لا مطلق من يخبر عن الكذب وإن كان فاسقاً، فإثبات حجّيّة الثقة من هذه الروايات مشكل لولا السيرة والإجماع العمليّ على ذلك في مقام استنباط الأحكام، مع العلم بعدم كفاية أخبار العدل بجميع طبقاته في استنباط معظم الأحكام.
والحقّ: أنّ المناط في الحجّيّة هي الوثاقة، كما يظهر من بعض الروايات من إرجاع الإمام إلى كتب بني فضّال. فتثبت بذلك حجّيّة خبر الواحد، لكن لا مطلقاً، بل في خصوص صورة التعارض.
والعمدة من هذه الأخبار: إرجاعهم إلى أشخاص معيّنين؛ فإنّه يكشف عن حجّيّة خبر الثقة.
ويؤيّده: ما ورد عنهم: <فإنّه لا عذر لأحدٍ من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقات شيعتنا>( ).
وفيما رواه عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن عليّ بن يقطين جميعاً عن أبي الحسن الرضا:
قال: <قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني فقال: نعم>( ).
ودعوى: أنّ هذه الأخبار أخبار آحاد، فلا يمكن الاستدلال بها على حجّيّة الخبر.
مدفوعة بأنّها متواترة تواتراً إجماليّاً، فإنّها ما إن يُتأمّل فيها حتى يحصل القطع بحجّيّة الخبر الواحد.

الاستدلال بالإجماع:
وأمّا الإجماع: فعلى قسمين: قوليّ وعمليّ.
أمّا الإجماع القوليّ: فهو عبارة عن اتّفاق أرباب الفتوى على الفتوى بحكم فرعيّ أو اُصوليّ، فيحصل بموجب هذا الاتّفاق القطع برضا الإمام.
قال الشيخ الطوسي في العدّة:
<فأمّا ما اخترته من المذهب فهو: أن خبر الواحد إذا كان وارداً من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة، وكان ذلك مروياً عن النبي أو عن واحد من الأئمة، وكان ممّن لا يطعن في روايته، ويكون سديداً في نقله، ولم تكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر؛ لأنّه إن كانت هناك قرينة تدلّ على صحّة ذلك، كان الاعتبار بالقرينة، وكان ذلك موجباً للعلم ـ كما تقدّمت القرائن ـ، جاز العمل به.
والذي يدلّ على ذلك: إجماع الفرقة المحقة، فإني وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودوّنوها في اُصولهم، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه>( ).
وقال الشيخ الأعظم:
<وممّن نقل الإجماع على حجّيّة أخبار الآحاد: السيّد الجليل رضيّ الدين بن طاووس، حيث قال في جملة كلام له يطعن فيه على السيّد: ولا يكاد تعجّبي ينقضي كيف اشتبه عليه أنّ الشيعة لا تعمل بأخبار الآحاد في الأمور الشرعيّة؟
ومن اطّلع على التواريخ والأخبار وشاهد عمل ذوي الاعتبار، وجد المسلمين والمرتضى وعلماء الشيعة الماضين عاملين بأخبار الآحاد بغير شبهة عند العارفين، كما ذكر محمّد ابن الحسن الطوسي في كتاب العدة، وغيره من المشغولين بتصفّح أخبار الشيعة وغيرهم من المصنفين> ـ إلى أن قال: ـ <وممّن نقل الإجماع أيضاً: العلاّمة في النهاية حيث قال: (إنّ الإخباريّين منهم لم يعوّلوا في اُصول الدين وفروعه إلّا على أخبار الآحاد، والاُصوليّين منهم ـ كأبي جعفر الطوسيّ وغيره ـ وافقوا على قبول خبر الواحد، ولم ينكره سوى المرتضى وأتباعه لشبهة حصلت لهم). انتهى.
وممّن ادّعاه أيضاً: المحدّث المجلسي في بعض رسائله، حيث ادّعى( ) تواتر الأخبار وعمل الشيعة في جميع الأعصار على العمل بخبر الواحد>( ).
واعترض عليه صاحب الكفاية: بأنّ فتاوى العلماء في حجّيّة الخبر مختلفة من حيث الخصوصيّات المعتبرة في الحجّيّة، ومعه: فلا يمكن استكشاف رضا الإمام؛ لعدم اتّفاقهم على أمر واحد.
نعم، لو علم اجتماعهم على حجّيّة الخبر الواحد في الجملة، وأنّ الاختلاف إنّما هو في الخصوصيّات المعتبرة فيها، بحيث يكون القول بحجّيّة الخبر الخاصّ بنحو تعدّد المطلوب، لا وحدته، لتمّ ذلك، ولكن أنّى لهم إثبات ذلك( )؟!
وأمّا الإجماع العملي: فهو إجماع العلماء بل كافّة المسلمين واتّفاقهم على العمل بخبر الواحد.
والفرق بين الإجماع القوليّ والعمليّ:
أنّ الثاني لا يكون إلّا في المسائل الاُصوليّة، والأوّل يكون فيها وفي الفرعيّة.
واستشكل صاحب الكفاية على هذا الإجماع ـ أيضاً ـ بما حاصله:
إنّه لم يعلم أنّ اتّفاقهم كان من جهة تديّنهم، بل قد يكون من جهة عقلانيّتهم وإن لم يلتزموا بدين؛ فإنّ العلماء يعملون بخبر الثقة مطلقاً ولو لم يكن من أمر دينيّاً.

الاستدلال بسيرة العقلاء:
وكيف كان، فمن جملة ما استدلّوا به على حجّيّة خبر الواحد سيرة العقلاء، وهو عمدة الوجوه بل عمدة الأدلّة التي أقيمت على حجّيّة خبر الواحد بعد الأخبار بطوائفها الأربع.
بل الظاهر من شدّة اهتمام صاحب الكفاية بهذا الوجه أنّه يعتبره عمدة الأدلّة وأهمّها، حتى بالنسبة إلى الأخبار.
قال الشيخ الأعظم ما هذا لفظه:
<الرابع: استقرار طريقة العقلاء طرّاً على الرجوع إلى خبر الثقة في أمورهم العاديّة، ومنها: الأوامر الجارية من الموالي إلى العبيد. فنقول: إنّ الشارع إن اكتفى بذلك منهم في الأحكام الشرعيّة فهو، وإلّا وجب عليه ردعهم وتنبيههم على بطلان سلوك هذا الطريق في الأحكام الشرعيّة، كما ردع في مواضع خاصة، وحيث لم يردع علم منه رضاه بذلك؛ لأنّ اللّازم في باب الإطاعة والمعصية الأخذ بما يعدّ طاعة في العرف وترك ما يعد معصية كذلك>( ).
وإن شئت فقل: هو عبارة عن استمرار عمل العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم ممّن لا يلتزمون بالدين ـ سواء كان هذا الاستمرار ممّا عليه طريقتهم في المسائل الاُصوليّة أو الفرعيّة أو لا ـ إلى زمان الشارع بحيث يكون هذا الاستمرار على مرأى منه ومسمع، فإذا لم يردع عنها مع تمكّنه منه صحّ ـ حينئذٍ ـ الاعتماد عليه والأخذ به.
ومن الواضح: أنّه لم يردع عن مثل هذا الاستمرار، وإلّا، لاشتهر وبان، فيكشف كشفاً قطعيّاً عن رضاهم.
وبعبارة أُخرى: فلا حاجة في اعتبار طريقة العقلاء إلى إمضاء من الشارع، بل يكفي عدم ردعه عنه، وحيث لم يردع مع تمكّنه منه يكشف عن اعتباره لطريقتهم، وإلّا، لردع عنه، كما ثبت أنّه فعل ذلك تجاه الكثير من بناءات الجاهليّة.
وأمّا ما يمكن أن يقال: من كفاية الآيات الناهية عن العمل بغير علم في الردع، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾( )، وقوله: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إلّا ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾( )، فشمول الآيات للسيرة يكشف عن عدم دليليّة السيرة على حجّيّة الخبر الواحد؛
فقد أجاب عنه صاحب الكفاية بوجوه:
الأوّل: أنّها وردت إرشاداً إلى عدم كفاية الظنّ في اُصول الدين.
الثاني: أنّ المتيقّن من الآيات الناهية والمنصرف من إطلاقها هو الظنّ الذي لم يقم على اعتباره حجّة.
الثالث: أنّ رادعيّة الآيات الناهية عن سيرة العقلاء دوريّ؛ ضرورة أنّ الردع عن السيرة بها يتوقّف على عدم تخصيص عمومها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة، وعدم التخصيص يتوقّف على رادعية الآيات عنها، وإلّا كانت مخصّصة.
ثمّ أورد على نفسه بما حاصله:
إنّ عدم رادعيّة الآيات عن السيرة أيضاً دوريّ؛ لأنّ عدم رادعيّتها يتوقّف على مخصصيّة السيرة لها، وإلّا كانت الآيات رادعة عنها، ومخصّصيّة السيرة لها تتوقّف على عدم رادعيّتها عنها، وإلّا، لم تكن مخصّصة لها، وهو دور محال.
ثمّ أجاب عنه: بأنّه يكفي في اعتبار خبر الواحد بالسيرة عدم ثبوت الردع عنها، لا عدم الردع واقعاً عنها، وتخصيص السيرة وإن كان دوريّاً، كالردع بالآيات، ولكن يكفي في عدم ثبوت الردع إحراز عدم الردع بالفحص( ).
وأيّاً ما كان، فإنّ من تأمّل في طريقة العقلاء حصل له القطع بخروج خبر الثقة عن عموم العمل بالظنّ، وإن كان في الحقيقة من أفراده، فيكون من العمل بالعلم بالسيرة، وإن كان بلحاظ نفسه عملاً بغير العلم، فلا يكون العمل به عملاً بالظن.
ومن هنا نجد: أنّ المحقّق العراقي قد نفى رادعية الآيات عن السيرة، ببيان أنّ عمل العقلاء بخبر الواحد يرجع إلى إلغاء احتمال الخلاف بنظرهم ورؤيته علماً، فلا تشمله آيات الردع عن غير العلم لخروجه موضوعاً عنها وانصرافها عنه بعد عدم التفات العقلاء إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع.
وكذا اعترف بعدم صحّة دعوى دوريّة مانعيّة الآيات عن السيرة فيما لو أغمض عن دعوى الانصراف وخروج السيرة موضوعاً عن الآيات الناهية( ).
وقد ادّعى المحقّق النائيني حكومة السيرة على الآيات، لاعتبار الخبر علماً لدى العقلاء فتترتّب عليه آثاره.
قال: <ومنه يظهر: أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ لا تشمل خبر الثقة حتى يتوهّم أنّها تكفي للردع عن الطريقة العقلائيّة؛ لأنّ العمل بخبر الثقة في طريقة العقلاء ليس من العمل بما وراء العلم، بل هو من أفراد العمل بالعلم؛ لعدم التفات العقلاء إلى مخالفة الخبر للواقع، لما قد جرت على ذلك طباعهم واستقرّت عليه عادتهم، فهو خارج عن العمل بالظنّ موضوعاً، فلا تصلح لأن تكون الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم رادعةً عن العمل بخبر الثقة، بل الردع عنه يحتاج إلى قيام الدليل عليه بالخصوص، بل لابدّ من تشديد النكير على العمل به، كما شدّد النكير على العمل بالقياس؛ لاشتراك العمل بالقياس مع العمل بخبر الثقة في كونه ممّا استقرّت عليه طريقة العقلاء وطبعت عليه جبلّتهم>( ).

الاستدلال بالعقل:
وأمّا العقل:
فالاستدلال به بوجوه:
الوجه الأوّل: أنّنا نعلم إجمالاً بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار المشتملة على أحكام شرعيّة، وهذا العلم الإجماليّ منّجز، ونحن مكلّفون بالعمل بما تضمّنته تلك الأخبار، فمقتضى هذا العلم الإجماليّ: لزوم الاحتياط في جميع الأحكام، وهو إمّا غير ممكن أو متعسّر، ولا يمكن العمل بالاُصول العمليّة؛ لمنافاتها للعلم الإجماليّ، فينتج وجوب العمل بمظنون الصدور.
وقد اعترض العلّامة الأنصاري على هذا الوجه باعتراضات ثلاثة:
الاعتراض الأوّل:
أنّ وجوب العمل بالأخبار الصادرة إنّما هو لأجل وجوب امتثال أحكام اﷲ الواقعيّة المدلول عليها بتلك الأخبار، فالعمل بالخبر الصادر عن الإمام إنّما يجب من حيث كشفه عن حكم اﷲ الواقعيّ لا من حيث هو خبر.
فالعلم الإجمالي بصدور كثير من الأخبار يرجع في الواقع إلى وجود تكاليف واقعيّة، ولا تنحصر أطرافه بما بين أيدينا من الأخبار، بل تشمل الأمارات الظنيّة كالشهرة والإجماع المنقول والأولويّة الظنيّة. وحينئذٍ: مقتضى هذا العلم الإجمالي: إمّا الاحتياط إن أمكن، أو العمل بكل ما حصل من التعبّد بالظنّ بالحكم الشرعيّ ـ خبراً كان أم غير خبر ـ، فلا اختصاص له في إثبات حجّيّة الخبر.
ثمّ تعرّض إلى نفي دعوى انحلال العلم الإجماليّ الكبير ـ الذي تكون أطرافه مطلق الأمارات الظنّيّة ـ بالعلم الإجماليّ الصغير الذي تكون أطرافه خصوص الأخبار فقط؛ وذلك لأنّ هذا الانحلال إنّما يتصوّر فيما إذا لم يبق العلم الإجماليّ الكبير لو فرض عزل المقدار المعلوم بالإجمال عن أطراف العلم الإجماليّ الصغير.
أمّا إذا فرض بقاء العلم الإجماليّ بين الباقي من أطراف العلم الإجماليّ الصغير وبين سائر أطراف العلم الإجماليّ الكبير: فلا يكون العلم الإجماليّ الصغير موثّراً في انحلال العلم الإجماليّ الكبير، فيكون الكبير منجّزاً.
وما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّه لو عزلنا من الأخبار طائفة بمقدار معلوم صدوره من الأخبار، وكان هناك علم إجماليّ بوجود أحكام واقعيّة بين باقي الأخبار وسائر الأمارات الظنيّة كما يشهد به الوجدان؛ إذ لا يمكن لأحد إنكار عدم مطابقة جميع هذه الأطراف للواقع، فلا ينحلّ العلم الإجماليّ الكبير بالصغير، فيكون منجّزاً، وحينئذٍ: يجب العمل بكلّ مظنونٍ من الأخبار، فلو كان العلم الإجماليّ مختصّاً بالأخبار فقط، لانحلّ العلم الإجماليّ بمجرّد عزل مقدارٍ منه بمقدار المعلوم بالإجمال فيه، وإن انضمّ إلى الباقي.
الاعتراض الثاني:
أنّ اللّازم من هذا العلم الإجماليّ هو العمل بالخبر الذي يظنّ بمضمونه، لا العمل بالظنّ في صدور تلك الأخبار؛ وذلك لما عرفت من أنّ العمل بالخبر الصادر إنّما هو باعتبار كون مضمونه حكم اﷲ الذي يجب العمل به، فحينئذٍ: كلّما ظنّ بمضمون الخبر ولو من جهة الشهرة على طبقه أُخِذ به ولو لم يكن مظنون الصدور. وكلّ خبر لم يحصل الظنّ بكون مضمونه حكم اﷲ تعالى لا يؤخذ به وإن كان مظنون الصدور، فالمناط فيه هو الظنّ، لا الصدور.
الاعتراض الثالث:
أنّ هذا الدليل يقتضي وجوب العمل بالخبر المثبت للتكليف دون الخبر النافي له، ومقتضى العمل به يكون من باب الاحتياط، فلا تثبت به حجّيّة الأخبار بنحو تصلح لصرف ظواهر الكتاب والسنّة القطعيّة، مع أنّ المقصود في حجّيّة الخبر هو إثبات كونه دليلاً متّبعاً في قبال الاُصول اللفظيّة والعمليّة، من غير فرق بين أن يكون مثبتاً للتكليف أو نافياً له كذلك( ).
أمّا صاحب الكفاية فقد نقل هذا الوجه بنحوٍ لا يرد عليه الاعتراضان الأوّلان من اعتراضات الشيخ.
فظهر بذلك: أنّ ورود الاعتراض الثالث عنده ممّا لا محيص عنه؛ فإنّه لما كان هناك علمان إجماليّان: علم إجماليّ صغير في خصوص الأخبار، وآخر إجماليّ كبير موجود في مجموع ما في أيدينا من الأخبار وسائر الأمارات؛ كان لابدّ من مراعاة العلم الإجماليّ الكبير، والنتيجة حينئذٍ: حجّيّة كلّ أمارة وإن لم تكن خبراً؛ وقد قرّبه بما لفظه:
<إنّه يعلم إجمالاً بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار من الأئمة الأطهار( بمقدار وافٍ بمعظم الفقه، بحيث لو علم تفصيلاً ذاك المقدار لانحل علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الأمارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة تفصيلاً، والشك البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات الغير المعتبرة>( ).
وذلك بعد التتبّع في أحوال الرواة المذكورة في تراجمهم والتأمّل في كيفيّة اهتمام أرباب الكتب من المشايخ الثلاثة ومن تقدمهم في تنقيح ما أودعوه في كتبهم، إلى غير ذلك ممّا ذكر عند الاستدلال بهذا الوجه.
فظهر: أنّه بعد انحلال العلم الإجماليّ الكبير قهراً إلى العلم الإجماليّ الصغير في خصوص الأخبار، يجب: إمّا الاحتياط، أو التنزّل إلى الظن في خصوص الأخبار المثبتة، وأمّا النافي منها: فإن كان على خلافه أصل يثبت التكليف لم يجز العمل به، بل يلزم الرجوع إلى الأصل، وإن لم يكن على خلافه أصل مثبت للتكليف جاز العمل به.
الوجه الثاني: ما نسب إلى صاحب الوافية مستدلاً به على حجّيّة الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة، كالكتب الأربعة، مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر، وهو:
<أنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة، سيّما بالاُصول الضروريّة، كالصلاة والزكاة والصوم والحج والمتاجر والأنكحة ونحوها، مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما يثبت بالخبر الغير القطعي، بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد، ومن أنكر فإنّما ينكره باللّسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان>( ).
وأورد عليه الشيخ ما نصّه:
<إنّ العلم الإجماليّ حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره، ومجرّد وجود العلم الإجماليّ في تلك الطائفة الخاصّة لا يوجب خروج غيرها عن أطراف العلم الإجماليّ، كما عرفت في الجواب الأوّل عن الوجه الأوّل؛ وإلّا لما أمكن إخراج بعض هذه الطائفة الخاصّة ودعوى العلم الإجماليّ في الباقي، كأخبار العدول مثلاً، فاللّازم حينئذٍ: إمّا الاحتياط والعمل بكل خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته، وإمّا العمل بكل خبر ظُنّ بصدوره ممّا دلّ على الجزئيّة أو الشرطيّة>( ).
وأجاب عنه صاحب الكفاية:
بأنّ العلم الإجماليّ وإن كان حاصلاً في بادئ الأمر بين جميع الأخبار، ولكن لمّا كان العلم الإجماليّ الصادر هو بقدر الكفاية بين تلك الأخبار المشروطة بما ذكره صاحب الوافية، كان انحلال العلم الإجمالي الكبير الموجود في جميع الأخبار منحصراً بالعلم الإجمالي الصغير المختص بالأخبار المشروطة التي ذكرها صاحب الوافية، فيجب حينئذ الاحتياط في المجموع، إلّا أن يمنع عن ذلك، ويدّعى عدم الكفاية فيما علم بصدوره في تلك الكتب( ).
الوجه الثالث: ما ذكره صاحب الحاشية، وحاصله:
أنّ وجوب العمل بالكتاب والسنّة ثابت بالإجماع، وهذه التكاليف باقية إلى يوم القيامة بالأدلّة المذكورة، وحينئذٍ: فإن أمكن الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم بالحكم الواقعيّ تعيّن ذلك، وإلّا، فالمتّبع من الرجوع إلى الظنّ بالصدور أو الاعتبار هو قول المعصوم وفعله وتقريره، فلزوم الرجوع إليه غير مختصّ بما إذا ثبت بالخبر، بل يجب بكلّ ما ثبت: خبراً كان أو غيره.
وإليك نصّ كلامه:
<السادس: إنّه قد دلّت الأخبار القطعيّة والإجماع المعلوم من الشيعة على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة، بل ذلك ممّا اتّفقت عليه الاُمّة، وإن وقع الخلاف بين الخاصّة والعامّة في موضوع السنّة، وذلك ممّا لا ربط له بالمقام، وحينئذٍ نقول: إن أمكن حصول العلم بالحكم الواقعيّ من الرجوع إليهما في الغالب، تعيّن الرجوع إليهما على الوجه المذكور، حملاً لما دلّ على الرجوع إليهما على ذلك، وإن لم يحصل ذلك بحسب الغالب وكان هناك طريق في كيفيّة الرجوع إليهما تعيّن الأخذ به، وكان بمنزلة الوجه الأوّل.
وإن انسدّ سبيل العلم به ـ أيضاً ـ وكان هناك طريق ظنّيّ في كيفيّة الرجوع إليهما لزم الانتقال إليه والأخذ بمقتضاه، وإن لم يفد الظنّ بالواقع، تنزّلاً من العلم إلى الظنّ مع عدم المناص عن العمل، وإلّا، لزم الأخذ بهما والرجوع إليهما على وجهٍ يظنّ منهما بالحكم على أيّ وجهٍ كان، لما عرفت من وجوب الرجوع إليهما ـ حينئذٍ ـ فيتنزّل إلى الظنّ.
وحيث لا يظهر ترجيح لبعض الظنون المتعلّقة بذلك على بعض، يكون مطلق الظنّ المتعلّق بهما حجّةً، فيكون المتّبع ـ حينئذٍ ـ هو الرجوع إليهما على وجهٍ يحصل الظنّ منهما>( ).
وحينئذٍ: إذا لم يحصل به العلم تعيّن الرجوع إلى كلّما يحصل به الظن من خبر وغيره، وإن كان المراد به الأخبار الحاكية عن قول المعصوم  أو فعله أو تقريره فهو ـ مضافاً إلى كونه خلاف الاصطلاح ـ راجع إلى القول الأوّل بلزوم الرجوع إلى الأخبار، وإن لم يحصل الظنّ منها برأي المعصوم، فإذا كان منشؤه العلم الإجماليّ بمطابقة بعضها للأحكام الواقعيّة رجع هذا الوجه إلى دليل الانسداد( ).
وخلاصة تلك المناقشة: أنّ هذا الوجه ليس دليلاً برأسه؛ لأنّه على تقديرٍ يرجع إلى القول الأول، وعلى آخر يرجع إلى دليل الانسداد.
وأجاب عنه صاحب الكفاية بما هذا نصّه:
<إنّ ملاكه إنّما هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة، فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه>( ).
فلا يكون هذا الوجه من القول الأوّل، ولا من دليل الانسداد بشيء.


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com