في البراءة

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

في البراءة


ولا يخفى: انحصار البحث فيها في الشبهة الوجوبيّة والتحريمية، دون الاستحبابيّة والكراهيّة.
قال الشيخ: <وهذا مبنيّ على اختصاص التكليف بالإلزام، أو اختصاص الخلاف في البراءة والاحتياط به، ولو فرض شموله للمستحبّ والمكروه يظهر حالهما من الواجب والحرام، فلا حاجة إلى تعميم العنوان>( ).
والحاصل: أنّه إذا شكّ في كون التكليف واجباً أو حراماً ولم يقم دليل على خصوص أحدهما لأجل فقدان النصّ، وقع النزاع ـ حينئذٍ ـ بين الاُصوليّين والأخباريّين ـ كما سيأتي في البحث عن الشبهة التحريميّة ـ فاختار الاُصوليّون البراءة، فيما ذهب الأخباريّون إلى القول بالاحتياط.
هذا، ولا يذهب عليك أنّ النزاع بين الاُصوليّين والأخباريّين في الشبهات التحريميّة الحكميّة نزاع صغرويّ، وليس كبرويّاً؛ لاتّفاقهما جميعاً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ إذ هي من الفطريّات العقلائيّة، غاية ما في الأمر: أنّ الأخباريّين يدّعون صلاحيّة أخبار الاحتياط للبيانيّة، فيما يثبت الاُصوليّون عدم الصلاحيّة، فيعود النزاع صغرويّاً.
ثمّ إنّ للشبهة الوجوبيّة والتحريميّة أقساماً ثمانية، أشار إليها الشيخ  بما هذا لفظه:
<ثمّ إنّ متعلّق التكليف المشكوك: إمّا أن يكون فعلاً كليّاً متعلّقاً للحكم الشرعيّ الكلّي، كشرب التتن المشكوك في حرمته، والدعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه. وإمّا أن يكون فعلاً جزئيّاً متعلّقاً للحكم الجزئيّ، كشرب هذا المائع المحتمل كونه خمراً.
ومنشأ الشكّ في القسم الثاني: اشتباه الأمور الخارجيّة. ومنشؤه في الأوّل: إمّا أن يكون عدم النصّ في المسألة، كمسألة شرب التتن، وإمّا أن يكون إجمال النصّ، كدوران الأمر في قوله تعالى: (حتى يطهرْنَ)( ) بين التشديد والتخفيف مثلاً. وإمّا أن يكون تعارض النصّين، ومنه الآية المذكورة بناءً على تواتر القراءات.
إلى أن قال: فالمطلب الأول فيما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب ـ يعني به الشبهة التحريميّة ـ وقد عرفت أنّ متعلّق الشكّ تارة: الواقعة الكلّيّة كشرب التتن، ومنشأ الشك فيه عدم النصّ أو إجماله أو تعارضه، واُخرى: الواقعة الجزئيّة. فهنا أربع مسائل>( ).
ولم يعقد صاحب الكفاية للبراءة سوى مسألة واحدة جمع فيها بين الشبهة الوجوبيّة والتحريميّة، ولم يشر إلى الشبهة الموضوعيّة أصلاً، فقال:
<وأمّا الشبهة الموضوعيّة فلا مساس لها بالمسائل الاُصوليّة، بل فقهيّة، فلا وجه لبيان حكمها في الاُصول إلّا استطراداً، فلا تغفل>( ).
وإذا قد عرفت هذا، فاعلم أنّه قد استدلّ للبراءة بالأدلّة الأربعة:

فأمّا الكتاب: فبآيات:

منها:
قوله تعالى: ﴿وَمَا كُـنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَـبْعَثَ رَسُولاً﴾( )؛ فإنّ المراد من بعث الرسول إمّا قيام الحجّة، فلا عذاب قبلها، أو بيان التكاليف وانجلاؤها للمكلّف.
وإنّما اُريد البيان من بعث الرسول لكونه يحصل بسببه غالباً، كما يكون دخول الوقت بأذان الموذّن.
وهذا البيان: قد يكون بالعقل؛ لأنّه الرسول الباطن، وقد يكون بالنقل، والمراد به البيان النقليّ الذي يأتي به الرسول الظاهر.
ولا يخفى: عدم كفاية إرسال الرسول وبعثه في استحقاق العقاب، بل لابدّ أن يكون له طريقيّة في إيصال الأحكام وتبليغها، فلو لم يبلّغها أو بلّغ بعضها دون بعض، أو بلّغ بعض الناس دون بعض، لم يحسن العقاب بالنسبة إلى البعض الذي لم يبلغ، وكذا لو بلّغ جميع الأحكام في عصره إلى جميع الناس فانقطع الوصول في الأعصار المتأخرة، فلا يجوز عقابهم؛ لأنّ العقاب والعذاب إنّما يكون بالنسبة إلى التكليف الواصل والفرض عدمه.
فظهر: أنّه إنّما يجوز تعذيب الجميع إذا كانت الحجّة تامّة بالنسبة إليهم على السواء، وأنّ التعذيب مع عدم البيان وإتمام الحجّة منافٍ لمقامه الشامخ. وهو أجلّ من أن يرتكب مثل هذا الأمر، وليس معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كـــُنَّا مُعَذِّبِينَ﴾ إلّا هذا، أي: ليس من ديدننا ذلك؛ لأنّه خلاف العدل ومناف للرأفة والعطف.
وكيف كان، فقد استشكل على دلالة الآية على البراءة من وجوه:
الوجه الأوّل: ما ذكره الشيخ الأعظم، وهذا نصّه:
<وفيه: أنّ ظاهره الإخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الاُمم السابقة>( ).
وإذا لم تكن الآية في مقام بيان نفي العذاب الاُخرويّ، فلا تصلح دليلاً على البراءة.
الوجه الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية، وحاصله:
أنّه قد استدلّ الأخباريّون بالآية الشريفة لنفي الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، بدعوى: أنّ ما حكم به العقل قبل بعث الرسول مثل وجوب قضاء الدين وردّ الوديعة وحرمة الظلم ونحو ذلك، لو كان الشرع يحكم به ـ أيضاً ـ لكان عذاب قبل بعث الرسول، وحيث لا عذاب قبل البعث فلا حكم للشارع قبله، فيثبت ـ حينئذٍ ـ التفكيك بين حكم العقل وحكم الشارع في الخارج( ).
وردّه الاُصوليّون: بأنّ الاستدلال المزبور إنّما يتمّ فيما إذا كانت الآية مسوقة لنفي استحقاق العقاب قبل البعث؛ فإنّه ـ حينئذٍ ـ يستكشف به عدم حكم الشرع قبله؛ وليس كذلك، بل هي مسوقة لنفي فعليّة التعذيب، وهو أعمّ من نفي الاستحقاق، ولعلّهم كانوا مستحقّين له فلم يعذّبهم تعالى منّةً منه عليهم، فإذا كانوا مستحقّين له كفى ذلك في ثبوت حكم الشرع على طبق ما حكم به العقل.
والتحقيق: أنّ من أمعن النظر في الآية الكريمة لم يَرْتب في أنّ المراد منها نفي الاستحقاق، وأنّها جارية على طبق السنّة للقطع بعدم الفرق بين الاُمم السابقة واللّاحقة بحكم العقل، ومناسبة الحكم والموضوع قاضية بأنّ التعذيب قبل البيان ممّا لم ولن يقع.
وذهب المحقّق العراقي: إلى أنّه لا ظهور للآية في إرادة الزمان الماضي عن وقت التكلّم، بل هي ظاهرة في إرادة الماضي منه بالنسبة إلى زمان بعثة الرسول وقيام الحجّة، فلا عذاب قبلها، فتكون الآية ظاهرة في بيان ما هو شأن اﷲ تعالى وسنّته في باب العذاب، وأنّه ليس من شأنه العذاب قبل قيام الحجّة( ).
وذهب المحقّق النائيني إلى أنّ الاستدلال بالبراءة متوقّف على نفي الاستحقاق في ارتكاب الشبهة لا على في فعليّة العذاب، أو فقل: الاستدلال بالبراءة متوقّف على أن يكون المراد من نفي العذاب هو نفي الاستحقاق، وهو منافٍ لما ذكره الأخباريّون من عدم الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل، حيث ذهبوا: إلى أنّ المراد من نفي العذاب هو نفي الفعليّة لا الاستحقاق.
فظهر: أنّ <الاستدلال بالآية المباركة على البراءة لا يجتمع مع القول بأنّ مفادها نفي فعليّة التعذيب لا استحقاقه>( ).
ثمّ قال: <وإلى ذلك ينظر كلام المحقّق القمّي حيث قال: (إنّ من جمع في الآية بين الاستدلال بها على البراءة وبين رد الأخباريّين لإثبات الملازمة يكون قد جمع بين النقيضين)> ( ).
ولكن يمكن أن يقال: إنّ النزاع بين الأخباريّين والاُصوليين ليس من جهة استحقاق العقاب وعدمه، بل من جهة المؤمّن في ارتكاب الشبهات وعدمه.
وبعبارة ثانية: لابدّ للقائل بالبراءة وجواز شرب التتن المشتبه حكمه من الاعتماد في تجويزه على مؤمّن شرعيّ أو عقليّ؛ وإلّا لكان في شربه محذور، من غير فرق بين عدم العقوبة الفعليّة أو نفي الاستحقاق.
وعليه: فالاستدلال بالآية على جواز الشرب إنّما كان لرفع العقوبة، كما يستدلّ بحديث الرفع على البراءة، أعني: رفع المؤاخذة لا نفي الاستحقاق. وحينئذٍ: تكون الآية أجنبيّة عن المقام؛ لأنّ البحث عن الاستحقاق وعدمه خارج عن دائرة نزاع الفريقين، فلا تضادّ.
وأمّا ما يمكن أن يقال: من أنّ لفظة (كنّا) في الآية ظاهرة في الزمان الماضي عن وقت التكلّم، فيكون نظر الآية إلى خصوص العذاب الدنيويّ، ولا ربط لها بالعذاب الاُخرويّ.
فجوابه: ما قد عرفته من عدم اختصاص العذاب الدنيويّ بمن تقوم عليه الحجّة، بل يشمل المؤمن والفاسق والصغير والكبير، فإنّه إذا نزل البلاء عمّ.
نعم، إنّما يكون المراد من العذاب العذاب الاُخرويّ فيما إذا كان معلقاً على قيام الحجّة؛ لأنّ العذاب منوط بها، وأمّا العذاب الدنيويّ فقد يكون لمصالح شخصيّة أو نوعيّة.
ولو فرض أنّ العذاب الحقير الذي لا دوام لمدّته متوقّف على قيام الحجّة، فتوقّف العذاب الجليل عليها حاصل بطريق أولى.
فظهر: أنّ الآية تدل مطلقاً على نفي استحقاق العقاب ومن قيام الحجّة.
ثمّ إن كان المراد من نفي الاستحقاق نفي فعليّة العذاب، فهل تدل على البراءة أم لا؟
وجوابه: أنّه ـ بعد ثبوت الملازمة بين نفي الفعليّة ونفي الاستحقاق ـ فالآية ـ حينئذٍ ـ تكون دليلاً على رد الأخباريّين القائلين باستحقاق العقاب في ارتكاب الشبهة.
ولكن ناقش فيه صاحب الكفاية بما حاصله:
أنّه لو سلّم، فيكون اعترافاً بأنّه كلّما انتفت الفعليّة انتفى الاستحقاق، فإنّه مع ذلك، لا يصحّ الاستدلال بالآية إلّا جدلاً، ومن باب الإلزام لا من باب الإقناع، فلا يقتنع بها إلّا المستدلّ نفسه بعد وضوح عدم الملازمة عندة بين نفي الفعليّة ونفي الاستحقاق عقلاً( ).
بل يمكن أن يقال: بمنع الملازمة بين نفي استحقاق العقاب ونفي الفعليّة؛ ضرورة أنّه لو كان هناك ملازمة بين النفيين لحصل الملازمة بين الاستحقاق والفعليّة، مع وضوح عدمها بينهما، فإنّ مشتبه الحرام، كشرب التتن الذي يحتاط فيه ليس بأعظم من الحرام القطعيّ؛ لإمكان المغفرة، ولأنّ الوعيد بالعقاب فيه قد لا يصبح فعليّاً؛ لإمكان التوبة أو شفاعة الشفعاء،
وإذا لم يكن هناك ملازمة بين الاستحقاق والفعليّة، فلا ملازمة بين منفيّيهما.
وبملاحظة ما ورد من عددٍ من النصوص والأخبار من الأمر بالتوقّف والاحتياط، كما رُوي من قوله: <الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة>( )، مع كون تلك الأخبار في مقام بيان الحكم الواقعي وإقامة الحجّة، يُعلم:
أنّه لا يمكن الاستدلال بالآية الشريفة على البراءة؛ لأنّها إنّما تدلّ على انتفاء العذاب والعقاب إذا لم يكن هناك حجّة، وقد عرفت حجّيّة تلك النصوص والروايات، فتكون واردة على الآية.
ولعلّه إلى ذلك أشار الشيخ الأعظم فيما ذكره من أنّ هذه الآيات تكون مورداً لدليل الاحتياط لو تمّ، وتكون نسبتها له نسبة الأصل إلى الدليل( ).

ومن الآيات:
قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا مَا آتـَاهَا﴾( ).
والحاصل: أنّه لا يخلو:
إمّا أن يكون المراد من كلمة (ما): إمّا خصوص المال بقرينة قوله تعالى في صدر الآية: ﴿لــِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ﴾، فتكون الآية خارجة عن محلّ الاستدلال؛ لأنّ معناها ـ حينئذٍ ـ أنّه لا يكلّف نفساً إلّا إنفاق ما أعطاه من المال.
أو: مطلق الفعل، فيكون المعنى: إنّ اﷲ لا يكلّف اﷲ نفساً إلّا بالفعل الذي قدّرها عليه وكان ممّا تطيقه، إذ الإنفاق مع التقتير في الرزق من مصاديق ما لم يقدّر اﷲ عبده عليه.
فإذا كان المراد هو مطلق الفعل كما تقدّم، وكان الإيتاء بمعنى إعطاء القدرة، فأيضاً لا تكون الآية شاملة لمورد البراءة؛ لأنّها على هذا التقدير من مصاديق نفي التكليف بغير المقدور.
أو يكون المراد منها: خصوص الحكم الشرعيّ، فيكون الإيتاء حينئذٍ بمعنى الإعلام.
أو أنّ المراد: ما هو أعمّ من الفعل والحكم، فيكون المراد بالإيتاء الإعلام بالنسبة إلى الحكم والإقدار بالنسبة إلى الفعل، فإنّ إيتاء كلّ شيء بحسبه. فتلك احتمالات أربعة.
ولا يخفى: أنّ الآية ـ على هذين التقديرين الأخيرين ـ ممّا تقع مورداً للاستدلال بها على ثبوت أصالة البراءة.
وقد يُستشكل على الاحتمال الثالث:
بأنّه يتنافى مع مورد الآية الكريمة؛ لأنّ موردها الإنفاق بما يملك من المال، فلا يمكن الالتزام به.
واستشكل الشيخ على التقدير الرابع بما حاصله:
أنّ تعلّق الفعل في الآية وهو (يكلّف) بالحكم يختلف عن نحو تعلّقه بالفعل، فإنّ تعلّقه بالحكم والنسبة بينهما نسبة المفعول المطلق، ونسبته إلى الفعل نسبة المفعول به، ولا جامع بين النسبتين، فإرادتهما معاً تستلزم استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، وهو كما ترى( ).
وصححّ المحقّق العراقي إرادة الجامع للفعل والحكم من الموصول بوجهين:
الوجه الأوّل: أنّ إشكال استعمال اللّفظ في أكثر من معنى إنّما يرد إذا فرض إرادة الخصوصيّات المذكورة من نفس الموصول. وأمّا إذا استعمل الموصول في معناه الكلّيّ العامّ، واُريدت تلك الخصوصيّات من دوال اُخر خارجيّة، فلا يكون هناك محذور؛ لأنّ تعلّق الفعل بالموصول يكون بنحو واحد، والتعدّد إلى نحوين إنّما حصل بالتحليل، وتعدّده كذلك لا يقتضي تعدده بالنسبة إلى الجامع الذي هو مفاد الموصول، وعليه: يمكن التمسّك بإطلاق الآية على البراءة؛ لإمكان إرادة الأعم من الموصول.
الوجه الثاني: أنّه ليس المراد من التكليف في الآية الشريفة هو المعنى الاصطلاحيّ، وهو الحكم لكي يلزم منه كون نسبته إلى الحكم نسبة المفعول المطلق؛ لأنّه لو كان كذلك للزم اختصاص الأحكام الواقعيّة بالعالمين بها؛ لتكفّل الآية نفي التكليف واقعاً في حقّ الجاهل، وهو مما لا يمكن الالتزام به؛ بل المراد بالتكليف معناه اللغوي، وهو الكلفة والمشقّة، وحينئذٍ: يكون تعلّقه بالموصول بمعناه الجامع بنسبة المفعول به أو المفعول منه.
والمعنى على الأوّل: أنّه تعالى لا يوقع عباده في كلفة حكم أو فعل إلّا الحكم والفعل الذي آتاه المكلّف.
وعلى الثاني: أنّه تعالى لا يوقع عباده في كلفة إلّا من قبل حكم أو فعل آتاه إياهم.
وإذا كانت نسبة الفعل والحكم إلى الموصول نسبة واحدة مع التحفظ على إرادة المعنى العامّ منه واستفادة الخصوصيّات من دوالّ خارجيّة اُخرى، لم يكن مانع من التمسّك بإطلاق الآية لاستفادة البراءة منها.
وهذا الاستدلال ـ مع ذلك ـ لا يخلو عن إشكالات ثلاثة:
الأوّل: أنّ القدر المتيقّن بقرينة السياق هو المال، وهو مانع من التمسّك بإطلاق الموصول.
الثاني: أنّ مفاد الآية مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ أدلّة الاحتياط بيان، فتنفي الكلفة من قبل التكليف مع عدم وصوله، فأدلّة الاحتياط على تقدير تماميّتها واردة عليها؛ لأنّها تفيد إيجاب الاحتياط فيكون واصلاً.
وإن شئت فقل: الاحتياط حجّة على الواقع بمقتضى دليله، فيرتفع به موضوع الآية، ولا يضر الأخباريّ التمسّك بالآية.
الثالث: أنّ الإيتاء لمّا كان منسوباً إليه عزّ وجل، فهو عن عبارة عن إعلامه بالتكليف بالسبب العادي المتعارف، أي: إعلامه بطريق الوحي إلى الأنبياء وأمرهم بتبليغ الحكم، فما لم يعلمه يكون عبارة عمّا لم يبلّغه لأنبيائه، أو هو عبارة عمّا أمرهم عدم تبليغهم. فمفاد الآية هو مفاد قوله:
<إنّ اﷲ سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً، فلا تتكلفوها رحمةً من اﷲ لكم>( ).
فلو فرض تماميّة تلك الإشكالات لم يكن للآية ربط بما نحن فيه ممّا لم يصل الينا من جهة خفائه من قبل الظالمين أو بسببهم( )، لولا أنّ في كلامه موارد للإشكال.
والعمدة في عدم إمكان التمسّك بالآية في المقام إنّما هو نفس سياقها؛ لظهور قوله تعالى في صدر الآية: ﴿فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ الله﴾، في أنّ المراد من الموصول هو خصوص المال.
وأمّا إرادة الحكم من الموصول فمتوقّفة على أن يكون الإيتاء بمعنى الإعلام، وهو خلاف الظاهر؛ لبداهة ظهور الإيتاء في معنى الإعطاء، فالآية أجنبيّة عن مورد البراءة.
وقد استدلّ للبراءة بآيات اُخرى، لا تخلو كلّها عن قصور في الدلالة، وقد ذكرها الشيخ الأعظم الواحدة تلو الاُخرى.

وأمّا الاستدلال على البراءة بالسنّة:
فبأخبار:

منها :حديث الرفع:
وهو رواية حريز بن عبد اﷲ عن أبي عبد اﷲ قال:
<قال رسول اﷲ: رفع عن اُمتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما اُكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطرّوا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة>( ).
والكلام فيه في اُمور:
الأوّل: في سنده، قال المحقّق النائيني:
<واشتهار الحديث المبارك بين الأصحاب واعتمادهم عليه يغني عن التكلّم في سنده، مع أنّه من الصحاح>( ).
فالمهمّ ـ إذاً ـ هو بيان دلالته وما يستفاد منه.
الثاني: في بيان معنى الرفع والدفع، والقول بتغايرهما أو اتحادهما في المعنى.
والحاصل: أنّ الرفع خلاف الوضع؛ فإنّ الرفع هو ما يمنع من المقتضي في مرحلة البقاء كقوله: <رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم>( )، وذلك لعدم وجود المقتضي. والدفع ما يمنع من المقتضي في مرحلة الوجود.
واختار المحقّق النائيني اتّحادهما في الحقيقة، وأنّ الرفع دفع؛ لأنّه يمنع من تأثير المقتضي في الزمان اللّاحق؛ فإنّ بقاء الشيء ـ كحدوثه ـ محتاج إلى علّة.
إلى أن قال: <وممّا ذكرنا من معنى الرفع والدفع يظهر: أنّه لا مانع من جعل الرفع في الحديث المبارك بمعنى الدفع في جميع الأشياء التسعة المرفوعة؛ ولا يلزم من ذلك مجاز في الكلمة، ولا في الإسناد.
أمّا عدم المجازيّة في الإسناد: فلما سيأتي من أنّ إسناد الرفع إلى المذكورات يكون على وجه الحقيقة بلا تقدير وإضمار.
وأمّا في الكلمة: فلمّا عرفت من أنّ حقيقة الرفع هي الدفع، فيكون من رفع التسعة دفع المقتضي عن تأثيره في جعل الحكم وتشريعه في الموارد التسعة>( ).
والتحقيق الذي يقتضيه النظر الدقيق:
أنّ مفهوم الرفع مغاير لمفهوم الدفع؛ لما ذكرنا من عدم استعمال أحدهما مكان الآخر.
نعم، هو بمعناه في الحدث؛ إذ من المعلوم عدم وضع الأحكام في هذه الموارد، لا أنّها وضعت ثمّ ارتفعت.
الثالث: لا يخفى: أنّ الحديث لمّا كان في مقام الامتنان على الاُمّة، فهو كلّيّ، ومقتضى كلّيّته وعمومه: شموله لكلّ ما أمكن رفعه في الشريعة؛ لأنّ الشريعة سهلة سمحاء، والباري عزّ وجل في مقام التسهيل على الاُمّة.
من غير فرق في ذلك بين أن يكون الحكم تكليفيّاً أو وضعيّاً، نفسيّاً أو غيريّاً، تأسيسيّاً أو إمضائيّاً، وسواء كانت الشبهة حكميّة أو موضوعيّة. وغير ذلك من الموارد، فيرفع كلّ أثر شرعيّ من الإلزام والصحّة والجزئيّة والشرطيّة والسببيّة والقضاء والإعادة، إلّا ما خرج بالدليل.
وعليه: فما ذكر من أنّ المراد من الموصول بقرينة الأخوات وسائر الفقرات هو خصوص فعل المكلّف غير المعلوم، كالفعل الذي لا يعلم أنّه شرب خمر: في غير محلّه، بل المراد منه ما يشمل كلا الموردين.
ومن هنا يظهر الوجه في ما اختاره صاحب الكفاية من كون المراد من الموصول خصوص الحكم المجهول، سواءً كان من الشبهات الحكميّة أو الموضوعيّة، كما يفهم ذلك من قوله:
<ثمّ لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعيّة في (ما لا يعلمون)، فإنّ ما لا يعلم من التكليف مطلقاً كان في الشبهة الحكمية أو الموضوعية بنفسه قابل للرفع والوضع شرعاً...>( ).
وليس المراد من الرفع هو الرفع التكويني حتى يكون منافياً للتحقّق الخارجي في بعض الفقرات، بل المراد: الرفع التشريعيّ التنزيلي، وهو لا ينافي بقاء الرفع التكويني، كما أنّ وجود الضرر خارجاً لا ينافي انتفاءه تشريعاً، كما في قوله: <لا شك في النافلة>، <ولا شكّ لكثير الشكّ>؛ فإنّ نفيه بلحاظ الآثار الشرعيّة أو العقاب.
فما قد يُستشكل من أنّ ظاهر الأخبار نفي وجود ما هو موجود في الخارج بالضرورة.
مدفوع بأنّ ضرورة صون كلام الحكيم عن اللّغوية تقتضي أن يكون في الحديث تقدير، وأنّ هذا التقدير هو المؤاخذة.
ولكنّ تقدير المؤاخذة إنّما يصح في (ما لا يطاق) و(ما اضطرّوا إليه) و(ما أُكرِهوا عليه).
وأمّا (ما لا يعلم): فإن اُريد منه الشبهة الموضوعيّة والمجهول من ناحية المصداق، صحّ تقديرها فيه كذلك، وأمّا إن أريد منه الأعمّ أو نفس الحكم المجهول، فتقدير المؤاخذة فيه يحتاج إلى عناية.
فانقدح: أنّه إنّما كانت دلالة الاقتضاء مقتضية للتقدير؛ لأنّ المرفوع في تلك الأخبار كالخطأ والنسيان وغيرهما لمّا كان موجوداً في الخارج بشهادة الحسّ والوجدان، اقتضت ضرورة صون الكلام الحكيم عن اللغوية أن يكون المرفوع غيرها، وهو المقدّر.
الرابع: في بيان ما هو المقدّر.
قيل: هو المؤاخذة والعقاب، وقيل: عموم الآثار، وقيل: ظهور الآثار.
وذهب المحقّق النائيني إلى عدم الحاجة إلى التقدير، وأنّ <التقدير إنّما يحتاج إليه إذا توقّف تصحيح الكلام عليه، كما إذا كان الكلام إخباراً عن أمر خارجي أو كان الرفع رفعاً تكوينيّاً، فلابدّ في تصحيح الكلام من تقدير أمر يخرجه عن الكذب.
وأمّا إذا كان الرفع رفعاً تشريعيّاً: فالكلام صحيح بلا تقدير، فإنّ الرفع التشريعيّ كالنفي التشريعي ليس إخباراً عن أمر واقع بل إنشاء لحكم يكون وجوده التشريعيّ بنفس الرفع والنفي، كقوله: (لا ضرر ولا ضرار)، وكقوله: (لا شكّ لكثير الشكّ) ونحو ذلك ممّا يكون متلواً لنفي أمر ثابت في الخارج>( ).
وفيه: أنّ المراد من الرفع التشريعيّ إن كان هو رفع هذه الاُمور حقيقةً، فهو غير معقول. وإن كان هو عدم جعلها في موارد أحكامه، فهو رفع حقيقي، لكن لا مطلقاً، بل في دائرة أحكامه، فهو يناسب مع الأخباريّة.
وحيث إنّا نعلم عدم رفع الشارع هذه الاُمور حقيقة في عالم التشريع، فلا يكون هناك فرق بين الرفع التكوينيّ والتشريعيّ في عدم معقوليّة كليهما.
فظهر: أنّ دعوى: كون الغرض هو إنشاء الحكم وتشريعه لا الإخبار عن الواقع ـ كما ذكره ـ حتى لا يلزم الكذب؛ فاسدة؛ ضرورة أنّ الإخبار بداعي الإنشاء لا يجعله إنشاءً، ولا يسلخه عن الأخباريّة بل هو باقٍ علىها وإن كان الداعي هو البعث والإنشاء.
فما ذكره المحقّق المذكور من أنّ دلالة الاقتضاء لا تقتضي تقديراً في الكلام، فلا حاجة حينئذٍ للبحث عمّا هو المقدّر؛ غير تام.
ثمّ إنّه قد يقال: إنّ وحدة السياق تقتضي أن يكون المراد من الموصول في (ما لا يعلمون) هو الموضوع المشتبه لا الحكم المشتبه المجهول؛ لأنّ المراد من الموصول في (ما أُكرهوا) (وما اضطرّوا إليه) (وما لا يطيقون) هو الفعل الذي أُكرهوا عليه واضطرّوا إليه ولم يطيقوه؛ لأنّ هذه العناوين الثلاثة إنّما تعرض للموضوع الخارجي، ولا تعرض للحكم الشرعيّ، فيكون الحديث فيها مختصاً بالشبهات الموضوعية.
هذا، مضافاً إلى عدم إمكان فرض جامع بين الشبهات الموضوعيّة والحكميّة، يكون هو المراد من الموصول فيشمل كلتا الشبهتين؛ وذلك لأنّ المرفوع في الشبهة الحكمية هو الحكم الشرعيّ الذي هو متعلّق الجهل في (ما لا يعلمون)، فالموصول الذي تعلّق الجهل به قابل للوضع والرفع الشرعيّين.
أمّا في الشبهات الموضوعيّة: فالذي تعلّق الجهل به أوّلاً وبالذات هو الموضوع الخارجي، وهو غير قابل للرفع والوضع الشرعيّين. ولولا وحدة السياق لقلنا: إنّ الحديث مختص بالشبهات الحكميّة؛ لأنّها هي التي تكون قابلة للرفع شرعاً، غيرأنّها تقتضي اختصاصه بالشبهات الموضوعيّة.
وأجاب عنه المحقّق النائيني بما هذا لفظه:
<فإنّ المرفوع في جميع الأشياء التسعة إنّما هو الحكم الشرعيّ، وإضافة الرفع في غير (ما لا يعلمون) إلى الأفعال الخارجيّة إنّما هو لأجل أنّ الإكراه والاضطرار ونحو ذلك إنّما يعرض الأفعال، لا الأحكام، وإلّا فالمرفوع فيها هو الحكم الشرعيّ، كما أنّ المرفوع في (ما لا يعلمون) أيضاً هو الحكم الشرعيّ، وهو المراد من الموصول والجامع بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة.
ومجرّد اختلاف منشأ الجهل ـ وأنّه في الشبهات الحكميّة إنّما يكون إجمال النص أو فقده أو تعارض النصّين، وفي الشبهات الموضوعيّة يكون المنشأ اختلاطَ الأمور الخارجيّة ـ لا يقتضي الاختلاف فيما اُسند الرفع إليه، فإنّ الرفع قد اُسند إلى عنوان (ما لا يعلم)، ولمكان أنّ الرفع التشريعي لابدّ وأن يرد على ما يكون قابلا للوضع والرفع الشرعيّ، فالمرفوع إنّما يكون هو الحكم الشرعيّ، سواء في ذلك الشبهات الحكميّة والموضوعيّة، فكما أنّ قوله : (لا تنقض اليقين بالشك) يعمّ كلا الشبهتين بجامع واحد، كذلك قوله: (رفع عن اُمتي تسعة أشياء)>( ).
وأمّا ما استشكل في المقام من أنّ إسناد الرفع إلى الحكم إسناد حقيقي؛ لأنّه إسناد إلى ما هو له، وإسناده إلى الموضوع مجازيّ؛ لأنّه إسناد إلى غير ما هو له؛ لأنّ المرفوع حقيقة هو الحكم لا الموضوع، فإرادة الأعم منهما من الموصول تستلزم استعمال النسبة الكلاميّة الواحدة في نسبتين مختلفتين، وهو ممنوع؛ لاستلزامه استعمال اللفظ في أكثر من معنى مع عدم إمكان فرض جامع بينهما؛
فجوابه: أنّ الإسناد حقيقيّ في كليهما؛ لأنّ كون الرفع إنّما هو بملاحظة ما يمكن رفعه، وهو الحكم الشرعيّ، أي: الرفع التشريعيّ لا التكوينيّ، فإرادة الجامع لا تستلزم تعدّد النسبة بل في الواقع لا يكون هناك إلّا نسبة واحدة.
وإذ قد عرفت أنّ المراد من المرفوع هو الحكم، من غير فرق بين كونه كلّياً أو جزئيّاً، ومن غير فرق بين كون الجهل ناشئاً من جهة إجمال النص أو عدمه أو تعارض النصّين أو من الاُمور الخارجيّة؛ فهو حينئذٍ: لا شكّ يشمل كلا الشبهتين: الحكمية والموضوعية، كما هو مختار صاحب الكفاية.
فإن قلت: حمل الموصول على خصوص الحكم في (ما لا يعلمون ينافي وحدة السياق).
قلت: وحدة السياق إنّما تلزم إذا أمكنت، فإن لم تكن ممكنة كما في (ما لا يعلمون) حيث لا يمكن حمل الموصول على الموضوع؛ لأنّه لا يعرض عليه الجهل بنفسه، كان لابدّ من حمله على الحكم خاصة.
وكذلك الاضطرار، فإنّه لمّا لم يكن يعرض إلّا للموضوع، كان لابدّ من حمل الموصول فيه على الموضوع خاصة.
الخامس: لا يخفى: أنّ الأحكام الواقعيّة مقتضيات محضة، ووصولها إلى مرتبة الفعليّة يحتاج إلى اجتماع الشرائط وفقد الموانع، وحديث الرفع كسائر القواعد في طول الأحكام الواقعيّة ومتقدّم عليها، فإن كان بمنزلة فقد الشرط بالنسبة إلى الأدلّة الواقعيّة أو فقد المانع من فعليّة الأحكام الواقعيّة، كان تقدّمه عليها تقدّم حكومة أو ورود من غير أن يلزم النسخ أو التصويب.
أمّا النسخ؛ فلأنّه عبارة عن زوال مدّة التشريع، وحديث الرفع يبيّن قيد الحكم المشروع في مرتبته الفعليّة، لا أنّه تزول مدّته، فلا ربط له بالنسخ.
وأمّا التصويب؛ فلأنّه عبارة عن حدوث الحكم والمصلحة بتمام مراتبه، وليس مقامنا من هذا القبيل؛ ضرورة أنّ الواقع متحقّق اقتضاءً ومصلحةً، نعم الجهل بالحكم يمنع الفعليّة وسقوط الآثار عن المؤاخذة وغيرها.
السادس: أنّ حديث الرفع يرفع الحكم ظاهراً في مورد يكون وضعه بيده، ففي المقام: الحكم موضوع برفع وجوب الاحتياط؛ بداهة أنّ وضعه في مرحلة الحكم الظاهريّ إنّما يكون بجعل الاحتياط. أمّا الحديث: فلا يشمل موارد العلم الإجماليّ؛ لأنّ ثبوته ليس بيد الشارع، والحديث إنّما يرفع ما يكون ثبوته بيد الشارع، فهو منصرف إلى موارد يكون وضعه ومنعه بيد الشارع.
وأمّا في موارد العلم الإجماليّ حيث يكون الحكم الواقعي فيها منجّزاً بالفعل أو غير منحصر بالشارع، فعلى فرض شموله لمورد العلم الإجماليّ لم يفد في نفي وجوب الاحتياط؛ لأنّ غاية مدلول الحديث هو أنّ الشارع لم يجعل الاحتياط في مورد العلم الإجمالي، ولكنّه لا ينافي تنجيز الواقع بطريق آخر وهو العقل.
ولذا: لو قلنا بعدم انحلال العلم الإجمالي بالنسبة إلى الأقل والأكثر، يشكل حينئذٍ جريان البراءة الشرعيّة فيه كما ذهب إليه صاحب الكفاية؛ لأنّ حديث الرفع: إمّا قاصر، فلا يشمل المورد، أو يشمله، فلا ينافي شمول المورد الاحتياط العقليّ الذي هو ثابت في مورد العلم الاجمالي( ).
السابع: قد عرفت أنّ الحديث يرفع ما في رفعه منّة على العباد، ولا يرفع ما يكون رفعه مستوجباً للصدق. وكذا عرفت أنّ الحديث يوقع الأثر الذي يكون ووضعه ورفعه بيد الشارع، فلا يكون الأثر العقليّ مشمولاً له.
فاعلم أنّ الأثر الذي يرفعه الحديث إنّما هو الأثر المترتّب على الموضوع من دون طرو العناوين المذكورة والموجودة فيه، بأن لا يعتبر في موضوع الأثر عنوان الخطأ أو النسيان مثلاً، وإلّا لم يكن مرفوعاً بحديث الرفع، فإذا أخذ في موضوع بعض الآثار عنوان خصوص الإكراه أو خصوص الاضطرار أو غير ذلك من العناوين الخمسة، فلا يشمل ذلك الأثر مشمولاً لحديث الرفع.
الثامن: قال المحقّق النائيني:
<الأحكام المترتبة على أفعال العباد، إمّا أن تكون وضعية ـ كما في باب العقود والإيقاعات والطهارة والنجاسة وأمثال ذلك ـ وإمّا أن تكون تكليفية؛ وهي إمّا أن تكون مترتّبة على الفعل بلحاظ صرف الوجود بحيث لا يكون لوجوده الثاني ذلك الأثر. وإمّا أن تكون مترتّبة عليه بلحاظ مطلق الوجود بحيث كلّما وجد الفعل كان الأثر مترتّباً عليه.
ثمّ إنّ معروض الحكم والأثر، إمّا أن يكون هو الفعل الصادر عن الفاعل بمعنى أنّ الفاعل يكون هو المخاطب بالحكم كحرمة شرب الخمر حيث إنّ خطاب (لا تشرب) متوجّه إلى شخص الشارب، وإمّا أن يكون الفعل الصادر عن الفاعل علّة لتوجّه حكم إلى غير الفاعل، كوجوب إقامة الحد على من شرب الخمر، حيث إنّ شرب الخمر من شخص يكون علّة لتوجّه خطاب (إقامة الحد) إلى الحاكم المقيم للحدّ>( ).
فتارةً: يكون المجهول هو الحكم التكليفيّ الاستقلاليّ كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال وحرمة شرب التتن.
وأُخرى: يكون الجهل متعلّقاً بالحكم الضمنيّ كالشك في وجوب السورة في الصلاة. ويصطلح على مثل هذه الموارد بموارد الأقل والأكثر.
أمّا إذا كان الجهل جهلاً بالحكم الاستقلاليّ، فهو المتيقّن من حديث الرفع، ولا شبهة في شموله له، وإنّما الكلام في شمول الحديث للشكّ الضمنيّ، وهو الأقل، وسيأتي الكلام فيه في محلّه.
أمّا الأحكام الوضعيّة: فتارة تكون في غير المعاملات كالنجاسات والطهارات، واُخرى تكون في المعاملات.
أمّا الطهارة والنجاسة: فليستا من الاُمور الموضوعيّة بل هي اُمور واقعيّة تكوينيّة، وإذا لم يكن وضعهما بيد الشارع لم يمكن رفعهما من قبله، فليسا قابلين للوضع والرفع التشريعي؛ لأنّ الرفع فيهما لابدّ أن يكون من قبيل الوضع فيهما، فكل ما يمكن وضعه يمكن رفعه، وبما أنّهما من الاُمور التكوينيّة فتدور مدار وجودها التكويني فمتى تحقّقت وجدت، فلا تقبل الرفع التشريعيّ، لأنّ رفعها لابدّ أن يكون من سنخ وضعها.
ولا يخفى: أنّ لازم كونهما من الاُمور التكوينيّة عدم وجوب الجنابة وعدم وجوب التطهير منها فيما لو أكره عليها.
ولكنّ الجنابة المكره عليها وإن لم تكن قابلةً للرفع التشريعيّ، إلّا أنّها باعتبار ما لها من الأثر ـ وهو الغسل ـ قابلة للرفع؛ فإنّ الجنابة والنجاسة حيث كانا أمرين وجوديّين قد أمر الشارع بهما، فلا فرق بين حصولهما باختيار أو بغير اختيار.
وأمّا الأحكام الوضعيّة التي تكون في باب المعاملات، وهي الاُمور الاعتباريّة التي لها حقيقة في وعائها، ولكن ليس لها ما بحذائها في وعاء الخارج شيء، فهل هي قابلة للرفع أم لا؟
فالحاصل: أنّ الأحكام الوضعيّة على قسمين: عقود وإيقاعات.
أمّا العقود: كالبيع، فلا يشملها رفع الإكراه والاضطرار؛ لما عرفت من أنّ الرفع يقع في مكان قابل للوضع، وهو إنّما يكون في محلّ فيه نقل، ولا نقل في الحكم الوضعيّ، مثل صحّة البيع إذا لوحظ بذاته؛ لأنّ المكلّف قد يرغب في تحقيقه بطرق شتّى.
ثمّ إنّ هذا الحديث قد ورد في مقام الامتنان على المكلّفين، فهو متوجّه إلى عامّة المكلّفين، مع أنّ الخطاب يكون لمكلّف خاص، فإنّما يجوز ارتفاع العقود بالاضطرار والإكراه مثلاً فيما لو كانت مجعولة على مضطرّ أو مكره خاصّين، وليس الجعل فيها كذلك.
أضف إلى ذلك: أنّ رفع الصحّة للبيع بالنسبة إلى المضطرّ خلاف الامتنان، مع أنّ الحديث ـ كما عرفت ـ وارد في مقام الامتنان.
وكذلك، فإنّ شمول الإكراه للمعاملات الماليّة كالبيع ونحوه مستلزم لتحصيل الحاصل؛ ضرورة أنّ الصحّة فيها مقيّدة بصورة عدم الإكراه، بأن يكون حصول المعاملة عن رضا وطيب نفس، فتكون الصحّة منتفية حتى ترفع بحديث الرفع.
وهذا الحكم جارٍ ـ أيضاً ـ بالنسبة إلى المعاملات الإيقاعيّة، فلا يشملها حديث الرفع.
وهل يشمل الحديث الترك أيضاً؟
ذهب المحقّق النائيني إلى عدم شموله لمورد الترك، حيث قال:
<وإن أكره المكلّف على الترك أو اضطر إليه أو نسي الفعل: ففي شمول حديث الرفع لذلك إشكال. مثلاً: لو نذر أن يشرب من ماء دجلة، فأكره على العدم أو اضطر إليه أو نسي أن يشرب، فمقتضى القاعدة وجوب الكفارة عليه لو لم تكن أدلّة وجوب الكفارة مختصّة بصورة تعمّد الحنث ومخالفة النذر عن إرادة والتفات؛ فإنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود؛ لأنّ تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنّما يكون وضعاً لا رفعاً، والمفروض أنّ المكلّف قد ترك الفعل عن إكراه أو نسيان فلم يصدر منه أمر وجودي قابل للرفع، ولا يمكن أن يكون عدم الشرب في المثال مرفوعاً وجعله كالشرب، حتّى يقال: إنّه لم يتحقّق مخالفة النذر فلا حنث ولا كفارة.
والحاصل: أنّه فرق بين الوضع والرفع، فإنّ الوضع يتوجّه على المعدوم فيجعله موجوداً ويلزمه ترتيب آثار الوجود على الموضوع، والرفع يتوجّه على الموجود فيجعله معدوماً ويلزمه ترتيب آثار العدم على المرفوع>( ).
وخلاصة ما أفاده: أنّ الحديث في مقام التنزيل؛ لأنّ الرفع هو تنزيل الموجود منزلة المعدوم، فلو كان شاملاً للترك، لكان معناه: تنزيل المعدوم منزلة الموجود، وهذا في الحقيقة وضع وليس رفعاً.
وعليه: فلو كان هناك عبادة فاقدة لبعض الأجزاء والشرائط لإكراهٍ أو نسيان، فلا يمكن تصحيح تلك العبادة وجعلها منزلة الكاملة، وكذا بالنسبة إلى الجزء المنسيّ؛ لخلوّها من صفحة الوجود.
ولكنّ هذا الإشكال منه إنّما يتم فيما لو كان حديث الرفع في مقام التنزيل، وليس كذلك، بل نظره في رفع ما يعرض على هذه العناوين حقيقة من غير فرق بين أن يكون فعلاً أو تركاً.
ولو سلّم كونه في مقام التنزيل، فليس معناه أنّه ينزل المعدوم منزلة الموجود، حتى يرد أنّه وضع وليس رفعاً؛ بل المعنى أنّه ينزّله منزلته في عدم ترتّب أثر المعدوم عليه، لا في ترتّب أثر الموجود.
والكلام نفسه يجري في النسيان، فيتعلّق بالترك كما يتعلّق بالفعل.
وأمّا ما قد يُقال: في تقريب عدم شمول الحديث للجزء من جهة النسيان والاكراه من أنّ شموله له خلاف الامتنان؛ لأنّ جريانه يقتضي الكلفة؛ إذ مقتضى اضطراره إلى ترك الجزء هو سقوط الوجوب عن الكلّ؛ لانتفاء المركّب بانتفاء جزئه، فينتفي الكلّ بارتفاع الأمر الضمنيّ المتعلّق بالجزء، ومقتضى رفع جزئيّته في حال الاضطرار بالحديث هو لزوم الإتيان بالباقي؛ لأنّه هو المركب التام في الاضطرار، فيكون حديث الرفع مقتضياً للوضع وهو خلاف الامتنان.
ففيه: أنّه غير تامّ بالنسبة إلى الناسي؛ ضرورة أنّه إذا أتى ونسي الجزء فأتى بالمركّب الناقص غير ملتفت إلى نسيانه، فعمله صحيح.
نعم، لو أتى به كذلك، ولكن التفت إليه بعد زوال النسيان، فعدم رفع جزئيّته للجزء المنسي تقتضي الإعادة؛ للإخلال بما أتى به، فلا شبهة في كون شمول الحديث موافقاً للامتنان.
ولكن يمكن أن يقال: إنّ الجزئيّة غير قابلة للرفع؛ لأنّها ليست مجعولة، نعم، هي باعتبار كونها جزءاً من المركّب، والأمر بالمركّب يترشّح إلى أجزائه، فتكون منتزعة من تعلّق الأمر بالمركّب، فهي ـ بهذا المعنى ـ قابلة للوضع والرفع شرعاً، ولكنّ قبولها للرفع إنّما هو بلحاظ رفع منشأ انتزاعها، وهو الأمر المتعلّق بالجزء الذي يكون ضمنيّاً.
ولمّا لم يكن للأمر الضمنيّ استقلال وانفراد عن سائر الأوامر الضمنيّة المتعلّقة بسائر الأجزاء، فلا يمكن رفعه وحده، بل هو لا يرتفع إلّا بارتفاع الأمر بالكلّ، فلا يكون رفع الجزئيّة ممكناً إلّا برفع الأمر بالكلّ؛ إذ لا دليل على ثبوت الأمر بالباقي.
ويمكن أن يُجاب عنه: بأنّ الامر بالجزء وإن كان أمراً ضمنيّاً، ولكنّه استقلاليّ، فلا يكون ارتفاعه مربوطاً بارتفاع بقيّة الأجزاء.
وعليه: فما قد يُذكر من مخالفة الامتنان غير تامّ؛ لأنّ مقتضى الاضطرار إلى ترك الجزء ليس معناه: سقوط الوجوب عن الكلّ بارتفاع الأمر الضمني المتعلّق بالجزء، ومقتضى رفع الجزئيّة هو: كفاية الإتيان بالباقي، ولا حاجة ـ حينئذٍ ـ إلى الإعادة بعد رفع الاضطرار أو النسيان؛ لأنّه امتنان.
أمّا صاحب الكفاية فقد أجاب عن هذا الإشكال بما حاصله:
أنّ هناك دليلاً على الأمر بالكلّ، ودليلاً يرشد إلى جزئيّة أمرٍ كقوله: <لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب>( )، وهذا يشمل بمقتضى إطلاقه جزئيّة الفاتحة في مطلق الأحوال.
وأمّا حديث الرفع فهو يتكفّل عدم جزئيّة الفاتحة في حال الاضطرار أو الجهل، فيخصص دليل الجزئيّة، فحاله حال المستثنى المتّصل الدالّ على عدم الجزئيّة في مورد الجهل، فكأنّه ورد الأمر هكذا: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب في حال عدم الجهل، ومعناه: أنّه في مورد الجهل لا أمر هناك، فظهر أنّ الأمر بالباقي ثابت بعد تخصيص دليل الجزئيّة بحديث الرفع( ).

ومنها: حديث الحجب:
عن زكريا بن يحي عن أبي عبد اﷲ: <ما حجب اﷲ علمه عن العباد، فهو موضوع عنهم>( ).
وفيه اُمور لابدّ من بيانها:
الأوّل: أنّ المراد بالحجب هل هو ما حجب عن مجموع المكلّفين، أو عن كلّ فرد فرد، أو المراد: كلّ علم حجبه اﷲ عن شخص فهو مرفوع عن ذلك الشخص، سواء كان معلوماً لغيره أم لا.
والظاهر من الحديث هو الأخير.
الثاني: أنّ المراد: هو المرفوع ظاهراً، وإن كان ثابتاً في الواقع.
الثالث: اختلفوا في إمكان التمسّك بعموم حديث الحجب وشموله للشبهات الحكميّة والموضوعيّة ـ فيكون كحديث الرفع ـ وعدمه.
والحقّ: عدم إمكان الاستدلال بهذا الحديث على جريان الرفع في الشبهات الموضوعية؛ ضرورة أنّ بيان الأفعال غير المعلومة ـ كالفعل الذي لا يعلم أنّه شرب خمر أو خلّ ليس من شأن المولى ـ، فلا يصدق عليها أنّها ممّا حجب اﷲ علمه عن العباد وإن لم تكن معلومة.
فالمراد من الموصول ـ إذاً ـ: هو خصوص الحكم المجهول الذي من شأن المولى بيانه، كحرمة شرب التتن أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، وعلى هذا: فالحديث مختصّ بالشبهات الحكميّة، دون الموضوعيّة.
وقد استشكل العلّامة الأنصاريّ على الاستدلال بالحديث بما لفظه:
<وفيه: أنّ الظاهر ممّا حجب اﷲ علمه ما لم يبيّنه للعباد، لا ما بيّنه واختفى عليهم بمعصية مَن عصى اﷲ في كتمان الحق أو ستره؛ فالرواية مساوقة لما ورد عن مولانا أمير المؤمنين : (إنّ اﷲ تعالى حدّ حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائضَ فلا تعصوها وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تتكلّفوها، رحمةً من اﷲ لكم)>( ).
ولكن الحقّ: أنّ معنى الرفع المستفاد من قوله (موضوع عنهم) هو رفع ما هو مجعول بحسب الواقع، لا ما لم يجعل وسكت عنه تعالى من أوّل الأمر.
فليس المراد به: ما لم تعلّقت عنايته بمنع اطّلاع العباد عليه؛ إذ لم يبيّنه لرسله، أو بلّغها إليهم ولكن لم يأمرهم بتبليغها، ولو كان الحجب مساوقاً لقوله: (وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً)، لما كانت تلك الاُمور المحجوبة موضوعة أصلاً، فلا حاجة إلى البيان.
فظهر: أنّ المراد من الحجب: الحجب الخارج عن اختيار المكلّف، لا المستند إلى تقصيره وعدم فحصه، بل المراد: كلّ حجب لم يكن مستنداً إلى تقصيره، فيشمل ضياع الكتب وطول الزمان وقصور البيان وغير ذلك.
فإن قلت: الجهل بالحكم بالنحو الثاني ـ وهو فيما إذا كان الحكم مبيّناً للناس من قبل اﷲ تعالى ولكنّه خفي عليهم ـ لم يكن سببه اﷲ تعالى؛ إذ هو أمر بتبليغه وبلّغ، وإنّما نشأ عن إخفاء الظالمين للأحكام ومنعهم من انتشارها وتدليس المدلّسين وغير ذلك من الأسباب الخارجيّة، بخلاف الجهل بالمعنى الأوّل ـ وهو فيما لو لم يبيّنه المولى للناس لبعض المصالح ـ؛ فإنّه ناشئ من عدم أمر اﷲ تعالى بتبليغه وبيانه.
وعليه: فلا يصح نسبة الحجب إلى اﷲ سبحانه بلحاظ الجهل بالنحو الثاني، ويصح نسبته إليه بلحاظ النحو الأوّل، فلابدّ من حمل الحديث على إرادة النحو الأوّل من الأحكام.
قلت: إنّ الأسباب الخارجيّة التي تكون سبباً لخفاء النحو الثاني من الأحكام:
تارةً: لا تكون من الأفعال الاختيارية للعباد، بل من الأسباب التكوينيّة، كضياع كتب الحديث بواسطة غرق أو عارض سماويّ أو نحو ذلك.
وتارةً أُخرى: تكون من الأفعال الاختياريّة، كوضع الوضّاعين وإتلاف الظالمين لكتب الحقّ.
ولا يخفى: أنّه يصحّ نسبة الحجب إلى اﷲ تعالى إذا كان سبب الخفاء هو العوارض السماويّة ونحوها ممّا لا تتدخل فيها إرادة العباد.
وأمّا إذا كان سبب الخفاء هو الفعل الاختياريّ للعبد، فتصحّ نسبته إلى اﷲ تعالى ـ بناءً على ما هو المذهب الحقّ من الالتزام بالأمر بين الأمرين ـ؛ فإنّ الفعل الصادر من العبد كما تكون له نسبة إلى العبد، فكذلك تكون له نسبة إلى اﷲ سبحانه، فتصحّ ـ حينئذٍ ـ نسبة الحجب إلى اﷲ بالمعنى الثاني.
ثمّ ها هنا وجه آخر لعدم شمول حديث الحجب لمحلّ البحث، وحاصله:
أنّه وإن فرض صحّة نسبة الحجب إلىه تعالى، لكنّ الظاهر العرفيّ من إسناد الحجب إليه تعالى هو إرادة ما إذا كان الإخفاء بأمره؛ إذ لا يسند الحجب إليه عرفاً إذا كان الإخفاء على خلاف أمره، بل إذا كان بواسطة الظلم؛ لأنّه يكون محرّماً ومبغوضاً بالنسبة إليه، فيختصّ الحديث ـ حينئذٍ ـ بالوجه الأوّل فقط.
ولكن قد عرفت جوابه: وهو أنّ معنى الموضوع في الحديث هو المرفوع، وهو غير ممكن قبل ثبوت الحكم في نفسه في الواقع؛ فإنّ ظاهر الحديث هو أنّه للحكم الذي له تقرّر وثبوت في الواقع، فهو موضوع ومرفوع عنهم، رفقاً بهم، وتسهيلاً عليهم.
فالحكم القابل للرفع ـ في الحقيقة ـ هو الحكم الفعليّ المبيّن للعباد وإن خفي عنهم بعد ذلك؛ فإنّ هذا هو الذي يكون قابلاً للرفع الظاهريّ في حال الجهل بجعل الاحتياط.
وأمّا الحكم المختصّ به تعالى، أو غير المختصّ المبيّن من قبله للرسل والأنبياء والأئمة ولكن من غير أن يأمرهم بتبيينه للناس، لمصلحة اقتضت ذلك، فهذا لمّا لم يكن قابلاً للوضع، فهو أَولى بأن لا يقبل الرفع كذلك. بل لو فرض علم العباد به، فهم لا يكونون مكلّفين بإتيانها، وهذا لا يسمّى حكماً عند العرف.
فانقدح بهذا البيان: أنّه لا مجال للقول بعدم دلالة الحديث على البراءة، بل الظاهر: شموله للشبهة الموضوعيّة أيضاً؛ لإطلاق الحكم.

ومنها: حديث الحلّ:
وهو قوله: <كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه أو خُدِع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة>( ).
وقد استدلّ صاحب الكفاية بهذه الرواية على حليّة ما لم تعلم حرمته مطلقاً: موضوعيّة كانت، وهي التي قد ينشأ الشكّ فيها من اشتباه الاُمور الخارجيّة، أو حكميّة، وهي التي قد ينشأ الشكّ فيها من عدم الدليل أو غيره( ).
واستشكل المحقّق النائيني في شموله للشبهة الحكميّة، وذلك بملاحظة:
<ظهور كلمة (فيه) و(منه) و(بعينه) في الانقسام والتبعيض الفعلي ـ أي كون الشيء بالفعل منقسماً إلى الحلال والحرام ـ بمعنى أن يكون قسم منه حلالاً، وقسم منه حراماً، واشتبه الحلال منه بالحرام ولم يعلم أنّ المشكوك من القسم الحلال أو الحرام، كاللحم المطروح المشكوك كونه من الميتة أو المذكّى، أو المايع المشكوك كونه من الخل أو الخمر، فإنّ اللحم أو المايع بالفعل منقسم إلى ما يكون حلالاً وإلى ما يكون حراماً، وذلك لا يتصوّر إلّا في الشبهات الموضوعيّة.
وأمّا الشبهات الحكميّة: فليس القسمة فيها فعليّة، وإنّما تكون القسمة فيها فرضية ـ أي: ليس فيها إلّا احتمال الحل والحرمة ـ فإنّ شرب التتن الذي فرض الشك في كونه حلالاً أو حراماً ليس له قسمان: قسم حلال وقسم حرام، بل هو إمّا أن يكون حراماً وإمّا أن يكون حلالاً، فلا يصح أن يقال: إنّ شرب التتن فيه حلال وحرام، إلّا بضرب من التأويل والعناية>( ).
فكلّ من كلمتي (فيه) و(بعينه) ظاهرتان في اختصاص الحديث في الشبهات الموضوعيّة.
ولكن يمكن أن يقال: إنّ معنى معرفة الحرام بعينه أو بنفسه هو تشخيص الحرام من الحلال، لا تشخيصه خارجاً، فلا يكون الحديث ـ حينئذٍ ـ مختصّاً بالموضوعيّة، إلّا أنّ العمدة في الإشكال هي شمول الرواية للحكميّة، كما يظهر ذلك من الأمثلة المذكورة في ذيلها.
قال في الوسائل بعد ذكر الحديث الشريف ما هذا لفظه:
<هذا مخصوص بما يشتبه فيه موضوع الحكم ومتعلّقه كما مثّل به في هذا الحديث وغيره بقرينة الأمثلة وذكر البيّنة والتصريحات الآتية، لا نفس الحكم الشرعيّ كالتحريم>( ).
وذهب صاحب الكفاية إلى شمول الرواية للشبهة الوجوبية، وإن كانت بحسب ظهورها الأوّلي مختصة بالشبهة التحريميّة، على أنّ هذا الشمول مستفاد من عدم بالفصل بين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريميّة وعدم وجوبه في الشبهة الوجوبيّة؛ ضرورة أنّه إمّا أن بالاحتياط في الشبهات التحريميّة فقط كما عليه الأخباريّون، أو نقول بالبراءة فيها وفي الشبهات الوجوبيّة جميعاً كما هو مختار المجتهدين، فظهر: أنّ القول بالبراءة في الشبهة التحريميّة فقط دون الوجوبيّة قول ثالث ينفيه عدم القول بالفصل بالإجماع المركّب( ).
بل يمكن تقريب شمول الحديث للوجوبيّة من دون التمسّك بعدم القول بالفصل؛ وذلك لأنّ ترك الواجب حرامٌ، فلو شكّ مثلاً في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، فقد شكّ في حرمة تركه، والترك على تقدير الوجوب محرّم، فيصير حلالاً ببركة الحديث الشريف.
ويمكن أن يُجاب عن كلا التقريبين:
أمّا عن الأول: فبأنّ الاستدلال بعدم القول بالفصل إنّما يتمّ فيما إذا كان منشؤه الكشف عن رأي المعصوم، وليس مقامنا من هذا القبيل، فتكون حجّيّة الإجماع المركّب محتاجة إلى الدليل، وحيث لا دليل عليها لا يمكن العمل بها.
وأمّا عن الثاني: فلأنّه لا يصدق على الترك في مورد الوجوب أنّه حرام عرفاً، كما لا يصدق على الشك فيه أنّه شك في الحرام.

ومنها: حديث السعة:
وهو قوله: <إنّ الناس في سعةٍ ما لم يعلموا>( ).
والحاصل: أنّ لفظة (ما) إمّا موصولة، فالمعنى: الناس في سعةِ الذي لا يعلمون، أو مصدريّة ظرفيّة، ومعناها حينئذٍ: الناس في سعةٍ ما داموا لا يعلمون.
ولذا قال صاحب الكفاية: <فهم في سعة ما لم يعلم، أو ما دام لم يعلم>( ).
وهل لهذين التقديرين مدخليّة في دلالة الحديث على البراءة، فتستفاد البراءة على أحدهما دون الآخر أو لا؟ فالخبر دالّ على البراءة بأيٍّ أخذنا؟
الظاهر: ممّا تقدّم من كلمات صاحب الكفاية هو القول بعدم الفرق، فسواء كانت (ما) موصولة وأضيف إلى السعة، ولم تكن السعة منويّة، أو كانت مصدرية ظرفيّة بمعنى (ما دام)، فإنّ الحديث يدلّ على البراءة، أي: الناس في سعة من جهة التكليف الذي لا يعلمونه، أو ما داموا لا يعلمونه، فالحديث معارض لأدلّة الاحتياط.
هذا وقد ذكر بعضهم الحديث بشكل تتعيّن فيه (ما) للموصولية، حيث قال: <الناس في سعة مما لم يعلموا>.
وأمّا ما قد يقال: من أنّ أدلّة الاحتياط توجب العلم بوجوب الاحتياط، فتكون واردة على هذا الحديث.
فقد أجاب عنه صاحب الكفاية بأنّه يقع التعارض بين الدليلين؛ ضرورة أنّ دليل الاحتياط طريقيٌّ فيستوجب ضيق ما لم يعلم من الوجوب والحرمة بالنسبة إلى الواقع، وهذا الحديث يثبت سعة ما لم يعلم كذلك، فيتعارضان( ).
فليس معنى أدلّة الاحتياط هو العلم حتى يكون وارداً على الحديث؛ بداهة أنّ العلم بوجوب الاحتياط ليس علماً بالواقع، إذ هو عبارة عن الطرق العقلائيّة والشرعيّة إلى الواقع الكاشف عنه، وليس الاحتياط من تلك الطرق. ويشهد لذلك أنّه لو أفتى المفتي من جهة قيام الأمارة عليه، فإنّه يقال: (أفتى بالعلم) لا بغير علم، بخلاف ما إذا أفتى بالوجوب من جهة الاحتياط فإنّه يقال: أفتى بغير علم.
ويبقى: أنّ تعارض الحديث مع أدلّة الاحتياط لا يكفي لوحده للاستدلال على البراءة، فتبقى مفتقرة إلى دليل يثبتها.

ومنها: مرسلة الصدوق:
<كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي>( ).
وواضح: أنّ كون الرواية مرسلة، يشكّل مانعاً من قبول حجّيّتها من جهة الصدور.
وقد حاول بعض المحقّقين المعاصرين الاستدلال على حجّيّة الرواية بقوله:
<وإسناد الصدوق متن الحديث إليه بصورة الجزم والقطع شهادة منه على صحّة الرواية وصدورها عنهم في نظره الشريف، وهذا الإرسال بهذه الصورة ـ من دون أن يقول: وعن الصادق ـ حاكٍ عن وجود قرائن كاشفة عن صحّة الحديث ومعلوميّة صدوره عنده كما لا يخفى>( ).
ومحاولته غير تامّة؛ لعدم كفاية صحّة الحديث في نظره، نعم لو حصل لنا العلم بتلك القرائن وحصل منها الاطمئنان لكنّا قلنا بصحّته كما هو المبنى المختار.
ومثله في الفساد ما ذكره بعضهم من أنّ المناقشة فيه بالإرسال مع اعتماد الفقهاء عليه واعتضاده بروايات مختلفة في أبواب متفرّقة وسهولة الشريعة المقدّسة ممّا لا وجه لها؛
لأنّا نقول: أمّا ما ذكره من اعتماد الفقهاء واعتضاده فإن حصل منهما الاطمئنان بالصدور تثبت حينئذٍ له الحجّة من جهة السند، لأنّه أمر عقلائي. وأمّا ما ذكره من سهولة الشريعة: فلا معنى له؛ لأنّها إنّما كانت من جهة الحكم لا من جهة السند.
وأمّا فقه الحديث: ففيه احتمالات:
فإمّا أن يكون المراد من الشيء عنوانه الأوّلي ومن حيث هو، فيرجع البحث حينئذٍ إلى مسألة الحظر والإباحة، ويكون أجنبيّاً عن مسألة إثبات البراءة لمجهول الحكم.
وإمّا أن يكون المراد به مجهول الحكم، وبالورود: مطلق التشريع، فتكون أدلّة الاحتياط في الشبهة التحريميّة الحكميّة متقدّمة عليه؛ لأنّها تكفي لتشريع الحكم، فتكون المرسلة حينئذٍ مؤيّدة لما قاله الأخباريّون من الاحتياط في الشبهات التحريمية فقط، وتصلح دليلاً على مدّعاهم.
ويحتمل أن يكون المراد به مطلق مجهول الحكم حتى يرد الحكم الثابت غير القابل للمناقشة، فإنّها حينئذٍ تكون دليلاً على البراءة.
وكيف كان، فقد ذهب الشيخ إلى أنّ دلالة هذا الحديث على المطلب أوضح من الكلّ( ).
وتوقّف صاحب الكفاية في دلالته على المدّعى بما حاصله أنّه ليس معنى الورود هو الوصول المساوق للعلم بالنهي، بل هو الصدور من الشارع وإن خفي علينا لبعض الأسباب والدواعي، ومن المعلوم: أنّا نحتمل الصدور في كل شبهة حكميّة.
وعليه: فلا يمكن التمسّك بالحديث؛ لأنّه من التمسك بالدليل في الشبهة المصداقيّة، ومفاد الحديث حينئذٍ: إنّ الأصل في الأشياء هو الإباحة الى أن يرد فيه النهي لا الحظر والتوقّف( ).
وحاول المحقّق الأصفهاني إثبات دلالة الحديث على المدّعى ـ وهو الإباحة الظاهريّة في مورد الشك في صدور الحرمة وعدم وصولها للمكلّف ـ بما هذا لفظه:
<تحقيق المقام: أنّ المراد بقوله : (حتى يرد فيه نهي) تارةً هوالورود في نفسه المساوق للصدور واقعاً، وأُخرى هو الورود على المكلّف المساوق للوصول إليه. والنافع في المقام هي إباحة ما لم يصل حرمته إلى المكلّف، لا إباحة ما لم يصدر فيه نهي واقعاً، فإنّه دليل إباحة الأشياء قبل الشرع لا الإباحة في ما لم يصل وإن صدر فيه نهي واقعاً>( ).
وتوضيحه: أنّ الإباحة على قسمين:
الأول: الإباحة المالكيّة، ومعناها: اللاحرج من قبل المولى في قبال الحظر العقليّ، لكونه عبداً مملوكاً فيكون فعله تصرّفاً في سلطان المولى، فينبغي أن يكون وروده وصدوره عن رأي مالكه.
والثاني: الإباحة الشرعيّة، وهي الترخيص المجعول من قبل الشارع، في قبال الحرمة الشرعيّة الناشئة عن المفسدة الباعثة للمولى على زجره عمّا فيه المفسدة.
ثمّ الإباحة الشرعيّة على قسمين؛ لأنّها تارة تكون إباحة واقعيّة ثابتة لذات الموضوع ناشئة عن لا اقتضائيّة الموضوع لخلوه عن المصحلة والمفسدة.
وتارةً اُخرى تكون إباحة ظاهريّة ثابتة للموضوع بما هو محتمل الحرمة والحليّة ناشئة عمّا يقتضي التسهيل على المكلّف بجعله مرخّصاً فيه.
وعليه: فالمراد من الإطلاق إمّا الإباحة الشرعيّة الواقعيّة أو الظاهريّة أو الإباحة المالكيّة.
فإن كان الأوّل، بأن كان المراد منه: أنّ كل شيء لم يتعلّق به نهي فهو مباح واقعاً، وكلّ ما ورد فيه نهي فليس بمباح واقعاً؛ فإن كان بنحو المعرّفيّة، فلا محالة: يكون حمل الخبر عليه حملاً على ما هو كالبديهيّ، وهو لا يناسب شأن الإمام، لأنّه لوضوحه لا يحتاج إلى بيان.
وإن كان بمعنى: تقييد موضوع أحد الضدّين بعدم الضدّ الآخر، أو فقل: أخذ عدم الحرمة في موضوع الإباحة، فهو غير معقول؛ بداهة عدم شرطيّة أحد الضدّين في وجود ضدّه، بل هما متلازمان، وليس معنى تقييد موضوع الإباحة بعدم ورود النهي حقيقة إلّا كونه شرطاً في تحقّقه.
وأمّا الإباحة الظاهريّة: فجعلها مغياة أو محدّدة ومقيّدة بعدم صدور النهي في موضوعها واقعاً فاسد من وجوه:
الأوّل: استلزامها تخلّف الحكم عن موضوعه؛ لأنّ موضوع الحكم الظاهري هو الجهل، فلو كان مقيّداً بعدم صدور النهي، للزم انتفاء الحكم الظاهري مع تحقّق موضوعه وهو الشك؛ ضرورة أنّه يكون النهي صادراً ومشكوكاً.
الثاني: أن موضوع الاباحة حيث إنّه مغيّىً بصدور النهي واقعاً أو محدد بعدم صدروه فهو مشكوك، فلا يمكن إثبات الإباحة الظاهريّة في مورد الشك؛ لأنّه من التمسّك بالدليل مع الشك في موضوعه، فلا محالة: يحتاج إلى أصالة عدم صدوره؛ لفعليّة الإباحة.
على أنّ التمسّك باستصحاب عدم الصدور لا يجدي في المقام؛ إمّا لكفايته بنفسه وإن لم يكن هذا الخبر فلا استدلال به، أو لا يكون كافياً إن أردنا ترتيب مضمون الخبر عليه تعبّداً فلا يصحّ كذلك.
الثالث: أنّ جعل ورود النهي في الخبر غاية رافعة للإباحة الظاهرية يرجع إلى عدم الحرمة حدوثاً، ومقتضاه: عدم الشك في الحليّة والحرمة من أوّل الامر، وحينئذٍ: لا معنى لجعل الإباحة الظاهرية.
وأمّا الإباحة المالكيّة بمعنى: اللّاحرج العقليّ، مع كون المراد من الصدور هو الورود، فلا مناص من حمل الإباحة على إباحة الأشياء قبل الشرع بمعنى اللّاحرج الفعليّ، فإنّها محدودة ومغياة بعدم صدور الحرمة الشرعيّة، فيكون الخبر دليلاً على هذه الإباحة، لا الإباحة الشرعيّة الظاهريّة التي هي محلّ البحث.
ثمّ قال: <إلّا أنّ حمل الإباحة على الإباحة المالكية قبل الشرع التي يحكم بها عقل كل عاقل بعيدٌ غير مناسب للإمام المعد لتبليغ الأحكام، خصوصاً بملاحظة أنّ الخبر مروي عن الصادق بعد ثبوت الشرع وإكمال الشريعة خصوصاً في المسائل العامة البلوى التي يقطع بصدور حكمها عن الشارع، فلا فائدة في الإباحة مع قطع النظر عن الشرع.
وعليه: فالمراد من الورود، هو الورود على المكلف المساوق لوصوله إليه، والمراد بالإطلاق هو الترخيص الشرعيّ الظاهري وعدم تقيّد المكلّف ظاهراً بطرف الترك أو بطرف الفعل فيكون دليلاً على المسألة، والتعبير عن الوصول بالورود تعبير شائع لا ينسبق إلى أذهان أهل وغيره>( ).
وأمّا ما أفاده المحقّق العراقي في تقريب دلالتها من أنّها تشمل الجاهل الملتفت غير القادر على الفحص، وبضميمة عدم الفصل تثبت المعذوريّة بالنسبة للجاهل الذي لا يعرف شيئاً خاصاً الذي هو محل الكلام فيما نحن فيه( ).
ففيه ـ مضافاً إلى عدم تسليمه في نفسه ـ: أنّه حمل للكلام على خلاف ما هو ظاهر فيه، ولا يخفى: أنّ الكلام إنّما هو في ظهور الحديث، لا فيما يمكن حمله عليه.

ومنها:
قوله <أيّ رجلٍ ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه>( ).
وتقريب الاستدلال به واضح.
واستشكل الشيخ في دلالته، وذلك بدعوى: ظهوره في كون المراد هو الجاهل بالجهل المركّب، والغافل عن الواقع رأساً، لا الجاهل بالجهل البسيط المتردّد الذي هو محلّ الكلام في أصالة البراءة( ).
ويؤيّده: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ﴾( ).
وقوله تعالى: ﴿ كَتَبَ رَبـُّـكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنــَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنــَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾( ).
وما عن أبي عبد اﷲ أنّه قال: <كلّ ذنب عمله العبد وإن كان عالماً فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه، فقد حكى اﷲ تعالى قول يوسف لإخوته: ﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ﴾( ) فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية اﷲ>( ).
ثمّ أيّد الشيخ كلامه بقوله:
<إنّ تعميم الجهالة لصورة التردّد يُحوِج الكلام إلى التخصيص بالشاكّ الغير المقصّر، وسياقه يأبى عن التخصيص، فتأمّل>( ).
وردّ عليه المحقّق العراقي بما حاصله:
أنّ السبب في الارتكاب في مورد الجهل البسيط هو الجهل أيضاً، كما هو مقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولا ضير بها كون الباء للسببيّة ( ).
ويؤيّد شموله لموارد الجهل البسيط: ما ورد عن أبي عبد اﷲ أنّه قال لرجل أعجميّ أحرم في قميصه: <فأخرجه من رأسك، فإنّه ليس عليك بدنة، وليس عليك الحجّ من قابل، أيّ رجل ركب أمراً بجهالة فلا شيء عليه>( ).
فظهر من هذا الحديث: أنّ المراد بالجهالة ما يقابل العلم، لا السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل.

ومنها:
رواية عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي عبد اﷲ  قال:
<سألته عن الرجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة، أهي ممّن لا تحلّ له أبداً، فقال: لا، أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعدما تنقضي عدّتها، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك، فقلت: بأيّ الجهالتين يعذر بجهالته: أنّ ذلك محرم عليه؟ أم بجهالته أنّها في عدة؟ فقال: إحدى الجهالتين أهون من الأُخرى: الجهالة بأنّ اﷲ حرّم ذلك عليه، وذلك بأنّه لا يقدر على الاحتياط معها، فقلت: وهو في الأُخرى معذور؟ قال: نعم، إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوّجها..>( ).
فإنّه يفهم من إطلاق هذه الرواية أنّ الجاهل معذور، سواء كان جهله جهلاً بالحكم أم جهلاً بالموضوع، فلا شكّ ـ حينئذٍ ـ في أنّها تكون دالّة على ثبوت البراءة، وهو المطلوب.
وقد ناقش فيه الشيخ الأعظم بما محصّله: أنّ موضوع السؤال: إن كان هو الجاهل بالجهل المركّب، أو الغافل، فهو خارج عمّا نحن فيه.
وإن كان هو الملتفت: فإن كان الشكّ في أصل انقضاء العدّة مع العلم تشريعها ومقدارها، كانت الشبهة موضوعيّة، فتخرج كذلك.
وإن كان الشكّ في مقدار العدّة، فالشبهة ـ حينئذٍ ـ من الشبهة المفهومية.
أو كان في أصل تشريعها، فالشبهة حكميّة.
وهذه الأخيرة هي ـ فقط ـ محلّ بحثنا، مع أنّه يمكن أن يقال بعدم جريان البراءة فيها؛ لأنّ مقتضى الاستصحاب المرتكز في الأذهان هو بقاء العدّة، وهو متقدّم على البراءة، فلا يكون معذوراً.
وكذا لا يكون معذوراً في الشبهة المفهوميّة؛ ضرورة أنّه يلزمه السؤال وتحصيل العلم، وبتركه يكون مقصّراً، فمقتضى الأصل بقاء العدّة وترتّب أحكامها.
وإنّما لا يكون معذوراً في الشبهة الحكمية؛ لأجل تقصيره في السؤال خصوصاً مع وضوح الحكم بين المسلمين الكاشف عن تقصير الجاهل لا قصوره، مضافاً: إلى اقتضاء أصالة عدم ترتّب الأثر على العقد للحكم بفساده( ).
فظهر: عدم إمكان الالتزام بالمعذوريّة من حيث الحكم التكليفيّ في جميع الصور، فلابدّ من الالتزام بها من حيث الحكم الوضعيّ، وهو الحرمة الأبديّة، كما وقع التصريح به، من غير نظر إلى المؤاخذة وعدمها.
والحاصل: أنّ الشيخ يرى أنّ لزوم التفكيك بين الجهالتين إشكال مستحكم على الرواية؛ ضرورة أنّ المكلّف إن كان جاهلاً بالحكم، فالاحتياط غير مقدور له، وإن كان ملتفتاً، كان ممّا يقدر عليه، كما لو كان جاهلاً بالموضوع، ومعه: فلا وجه للتفكيك بين الجهالتين.
ويمكن أن يُجاب عنه: بأنّ الغالب في الجهل بحرمة النكاح هو الغفلة واعتقاد الخلاف حين التزويج، بخلاف ما إذا علم حرمته وجهل العدّة فيكون على العكس؛ لأنّ الغالب ـ حينئذٍ ـ هو الالتفات إليه وعدم الغفلة عنه عند الزواج بسؤاله عن خصوصيّات الزوجة عادة، فإذا تحقّق الجهل بها كان من الجهل البسيط.

ومنها:
قوله: <إنّ اﷲ يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم>( ).
وناقشه الشيخ بما هذا لفظه: <وفيه: أنّ مدلوله ـ كما عرفت في الآيات وغير واحد من الأخبار ـ ممّا لا ينكره الأخباريّون>( ).
يعني: أنّها لا تنافي دعوى الأخباريّين حيث ذهبوا إلى أخبار الاحتياط، وهو احتجاج بما آتهم، فدليل الاحتياط كالأصل بالنسبة إلى الدليل الاجتهاديّ، يرتفع به موضوعه، وهو: اللّابيان، فعلى مدّعي البراءة ردّ ذلك الدليل أو معارضته بما دلّ على الرخصة.
وبهذا تمّ الاستدلال على البراءة بالأخبار.

وأمّا الاستدلال عليها بالإجماع:
فهو إنّما يفيد فيما لو انعقد إجماع العلماء كافّةً على البراءة، وليس كذلك؛ فإنّ أكثر الأخباريّين على القول بوجوب الاحتياط؛ مضافاً إلى أنّ هذا الإجماع ليس تعبّديّاً؛ لأنّه محتمل المدركيّة، بل متيقّنها؛ فإنّه قد تظافرت الأدلة النقليّة به، وكذا حكم العقل.

وأمّا الاستدلال عليها بالدليل العقليّ:
قال المحقّق الأصفهاني: <توضيح المقام: أنّ هذا الحكم العقليّ حكم عقليّ عمليّ بملاك التحسين والتقبيح العقليّين، وقد بيّنّا في مباحث القطع والظنّ مراراً: أنّ مثله مأخوذ من الأحكام العقلائيّة التي حقيقتها ما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظاً للنظام وإبقاءً للنوع، وهي المسمّاة ﺑـ(القضايا المشهورة) المعدودة في الصناعات الخمس من علم الميزان>( ).
وهل حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان حكم عقليّ منفرد عن سائر الأحكام العقليّة العملية؟ أو هو داخل في حكم العقل بقبح الظلم؟
قال: <ومن الواضح: أنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس حكماً عقليّاً عمليّاً منفرداً عن سائر الأحكام العقليّة العمليّة، بل هو من أفراد حكم العقل بقبح الظلم عند العقلاء، نظراً إلى أنّ مخالفة ما قامت عليه الحجّة خروج عن زيّ الرقّية ورسم العبوديّة وهو ظلم من العبد إلى مولاه فيستحقّ منه الذمّ والعقاب>( ).
ولكنّ هذا إنّما يكون تمرّداً وهتكاً لحرمة المولى وخروجاً عن العبوديّة في فرض العلم بالحكم، وأمّا مع الجهل به فتكون كلّها مفقودة، فلو ارتكب ما هو المبغوض عند المولى مع الجهل بمبغوضيّته له لم يخرج بذلك عن زيّ العبوديّة.
كما أنّ مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة ليست من أفراد الظلم؛ إذ ليس من زيّ الرقّية أن لا يخالف العبد مولاه في الواقع ونفس الأمر، فليس مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة خروجاً عن زيّ الرقّية حتى يكون ظلماً، وحينئذ: فالعقوبة عليه ظلم من المولى تجاه عبده؛ بداهة أنّ الذمّ على ما لا يذمّ عليه، والعقوبة على ما لا يوجب العقوبة عدوان محض، وإيذاء بحت، بلا موجب عقلائيّ، فهو ظلم، والظلم بنوعه يؤدي إلى فساد النوع واختلال النظام، وهو قبيح من كلّ أحد، ولو من المولى إلى عبده.
ولكن الحقّ: أن يقال: إنّ العقل ينفرد ويستقل بوجوب إطاعة المنعم وقبح مخالفته ويحكم باستحقاق المخالف للعقوبة، من غير مدخليّة لعنوان الظلم فيه، بل يحكم به العقل مع الغفلة عن الظلم.
فالحكم بالبراءة إنّما يكون لاستقلاله بقبح العقاب بلا بيان، أعني: بلا بيان واصل إلى المكلّف، بعد فرض اشتغاله بوظيفته، من الفحص عن الحكم المشتبه واليأس عن الظفر به في مظانّ وجوده.
ولا يكفي في صحّة المؤاخذة واستحقاق العقوبة مجرّد البيان الواقعيّ، وإن لم يصل إلى المكلّف؛ لأنّ وجود البيان الواقعيّ حاله حال عدمه بالنسبة إلى فاقده، فلا يقبل المحرّكيّة والباعثيّة.
فإن قلت: البيان الوارد في موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان إنّما هو البيان الواقعي بلا فرق بين ما وصل إلى العبد وما لم يصل.
قلت: إن فرض عدم استقلال العقل بذلك؛ لمكان عدم تماميّة مبادئ الأمر، إذاً: فلا إرادة في الواقع، فلا مقتضي لاستحقاق العقاب؛ إذ لم يحصل تفويت لمراد المولى في الواقع.
وهذا بخلاف البيان الذي لم يصل؛ فإنّه ـ حينئذٍ ـ لا يحصل مراد المولى ولا يتحقّق مطلوبه.
ولكنّ فواته هذا لم يستند إلى المكلّف؛ إذ المفروض: أنّه قد فحص وعمل بوظيفته، بل فواته إمّا يكون من قبل المولى نفسه؛ لأنّه لم يستوفِ مراده بإيصاله إلى العبد، أو لسببٍ موجب لاختفاء مراده عن المكلّف. وعلى كلّ حال: فالفوت لا يكون مستنداً إلى العبد، فلا يستحقّ العقوبة.
فانقدح مما تقدّم: أنّ المناط في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، إنّما هو عدم البيان الواصل إلى المكلّف، لا مطلقاً.
وبعبارة ثانية: لا ملازمة بين مخالفة التكليف الواقعيّ واستحقاق الذمّ والعقاب، وإنّما الملازمة بين التكليف الذي قامت عليه الحجّة وبين استحقاق الذمّ والعقاب.
لا يقال: حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل وارد على حكمه بقبح العقاب بلا بيان؛ بداهة أنّ الأوّل بيان، فيصير العقاب عقاباً مع البيان.
لأنّا نقول: هذا لا يتّم فيما لو كان المراد به الضرر الأخرويّ.
قال المحقّق النائيني:
<وإن كان المراد منه الضرر الأخرويّ، فحكمه بلزوم دفع المقطوع والمظنون والمحتمل، بل الموهوم، إنّما يكون إرشاداً محضاً ليس فيه شائبة المولويّة، ولا يمكن أن يستتبع حكماً شرعيّاً؛ لأنّ حكم العقل في ذلك إنّما يكون واقعاً في سلسلة معلولات الأحكام، فلا يكون مورداً لقاعدة الملازمة ـ كما أوضحناه في محلّه ـ، ولكنّ ذلك فرع احتمال العقاب، ومع عدم وصول التكليف بوجه: لا تفصيلاً ولا إجمالاً، لا يحتمل العقاب؛ لقبح العقاب بلا بيان، فحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان حاكم ووارد على حكمه بلزوم دفع الضرر المحتمل>( ).
فظهر: أنّ قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل تختصّ بأطراف العلم الإجماليّ أو الشبهة البدويّة قبل الفحص.
وأمّا الشبهة البدويّة بعد الفحص فلا يحتمل فيها العقاب، فلا تشملها قاعدة دفع الضرر المحتمل؛ فحكم العقلاء بقبح مؤاخذة المولى عبده إنّما هو على فعلٍ لم يُطلِعه على تحريمه.
وخلاصة البحث أمران:
الأوّل: أنّ المراد من عدم البيان الذي هو موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس هو عدم البيان الواصل بنفسه، بل عدم البيان الذي يمكن أن يصل إليه ولو بالفحص عنه؛ فإنّ مجرّد عدم الوصول مع احتمال إيجاده لو فحص عنه لا يكفي لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.
الثاني: أنّ المراد من عدم البيان الذي هو موضوع حكم العقل هو عدم البيان الواقعيّ المجهول، فلا يشمل عدم الاحتياط؛ لما عرفت من وروده على دليل الاحتياط.
وأمّا إذا كان الضرر دنيويّاً، فلا يجب دفعه على الإطلاق، إلّا أن يحتمل العقاب.
لا يقال: الارتكاب مع احتمال الضرر ممّا يحكم العقل بقبحه، فتثبت حرمته بحكم الملازمة.
لأنّا نقول: ارتكاب الضرر إنّما يكون قبيحاً إذا لم يكن هناك داعٍ عقلائيّ إليه، فإن فُرض أنّ لوجوده الواقعيّ تأثيراً في القبح فلابدّ من العلم به، والعلم به يشكل موضوعاً للقبح، وهذا لا يُخرج احتمال الضرر عن كونه قبيحاً في نفسه.