دوران الأمر بين المحذورين

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

دوران الأمر بين المحذورين


اعلم أنّ دوران حكم الواقعة بين الوجوب والحرمة على نحو الشبهة الحكميّة على أنحاء، فهو:
تارةً: لفقدان النصّ وعدم الدليل على تعيين أحدهما بعدم قيام الدليل على أصل الإلزام الدائر بينهما، كما لو اختلفت الاُمّة على قولين، الوجوب والحرمة، مع العلم بعد الثالث.
وثانيةً: لإجمال النصّ، كما إذا ورد أمر بالتحرّز عن أمرٍ مردّد بين فعل الشيء وتركه.
وثالثةً: لتعارض النصّين، كما إذا ورد خبران: أحدهما يأمر بالشيء، والثاني ينهى عنه.
وقد يقع دوران الأمر بين المحذورين في الشبهة الموضوعيّة، كما لو وجب إكرام العدول وحرم إكرام الفسّاق واشتبه حال زيد من حيث الفسق والعدالة، ولم يكن هناك أصل موضوعيّ يدرجه تحت أحد العنوانين.
والحكم المشتبه قد يكون توصّليّاً في كلا الطرفين، أو توصّليّاً في أحدهما تعبّدياً في الآخر، وقد يكون في كليهما تعبّديّاً.
والأوّل: إمّا أن يكون في واقعة واحدة أو في وقائع متعدّدة.

أمّا الصورة الاُولى:
أي: فيما إذا كان الحكمان توصّليّين، أي: يسقطان بمجرّد الموافقة بلا احتياج إلى قصد القربة، وكان الدوران بين المحذورين في واقعة واحدة، كما لو علم بأنّه قد حلف، ولكن لم يدرِ أنّ حلفه كان قد تعلّق بالإتيان بفعل أو بتركه. فالعلم الإجماليّ فيها لا يكون قابلاً لتنجيز معلومه؛ لعدم قدرة المكلّف على الاحتياط في مقام الامتثال والجمع بين المحتملين، فيكون وجوده كعدمه في مقام التنجيز والتأثير بالنسبة إلى كلٍّ من الموافقة القطعيّة والمخالفة القطعيّة؛ إذ كلاهما لا يكون ممكناً ومقدوراً للمكلّف.
وحينئذٍ: يحكم العقل بكون المكلّف مخيّراً بين الفعل والترك، وليس هذا التخيير حكماً واقعيّاً أو ظاهريّاً صادراً ومجعولاً من قبل الشارع، بل إنّما هو تخيير قهريّ وتكوينيّ؛ لأنّ المكلّف في الخارج إمّا أن يصدر عنه الفعل أو الترك، وظاهر: أنّه ما دام التخيير قهريّاً كذلك، فجعله وتشريعه من قبل الشارع يكون لغواً لا ثمرة فيه؛ ضرورة أنّه ـ حينئذٍ ـ لا يعدو أن يكون تحصيلاً لما هو حاصل تكويناً.
وإنّما الكلام في أنّه هل يمكن في مثل المقام جعل الإباحة الظاهريّة أم لا؟
قد يقال: بإمكان ذلك؛ لأنّ البراءة العقليّة والنقليّة لا مانع من جريانهما؛ وذلك لأنّ موضوعهما، وهو عدم البيان، متحقّق؛ حيث لم يرد بيان على خصوص الوجوب أو الحرمة، والمكلّف وإن كان عالماً بأصل الإلزام، إلّا أنّ علمه هذا لم يكن باعثاً ولا زاجراً، فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وكذا تجري البراءة النقليّة المستفادة من قوله: <رفع ما يعلمون>، بلا مانعٍ في كليهما؛ فإنّ هاتين القاعدتين لا اختصاص لهما بصورة دوران الأمر بين الحرمة والإباحة، بل هما تشملان المورد أيضاً.
وعلى هذا الأساس: فإمّا أن يقال بارتفاع كلٍّ من الوجوب والحرمة المشكوكين، أو بلزوم تقديم جانب الحرمة؛ لأنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.
وقد ذهب الشيخ إلى لزوم الإتيان بأحدهما وترك الآخر بنحو التخيير؛ لأنّ الموافقة القطعيّة لأحد العلمين ـ أعني: العلم الإجماليّ بوجوب أحد الفعلين، والعلم الإجماليّ الآخر بحرمة أحد الفعلين ـ تستلزم المخالفة القطعيّة للآخر، فيتعيّن الموافقة الاحتماليّة لكلٍّ منهما؛ لأنّها أولى من الموافقة القطعيّة لأحدهما، والمخالفة القطعيّة للآخر.
قال في المقام ما لفظه:
<والحكم فيما نحن فيه: وجوب الإتيان بأحدهما وترك الآخر مخيّراً في ذلك؛ لأنّ الموافقة الاحتماليّة في كلا التكليفين أولى من الموافقة القطعيّة في أحدهما مع المخالفة القطعيّة في الآخر. ومنشأ ذلك: أنّ الاحتياط لدفع الضرر المحتمل لا يحسن بارتكاب الضرر المقطوع، واﷲ أعلم>( ).
وقد يقال في هذه الصورة: بلزوم تقديم جانب الحرمة وتغليبها على جانب الوجوب، وقد يستدلّ لهذا التقديم بوجوه:
الوجه الأوّل: أنّ الحرمة المحتملة فيها احتمال للمفسدة، والوجوب المحتمل فيه احتمال النفع، ولا يخفى: أنّ دفع المفسدة المحتملة أولى من جلب النفع المحتمل، كما أنّ دفع المفسدة المتيقّنة أولى من جلب المنفعة المتيقّنة.
وفيه: أوّلاً: أنّه غير تامّ؛ لأنّ ترك الواجب المحتمل ـ أيضاً ـ مظنّة لترتّب المفسدة المحتملة.
وثانياً: أنّه لم يظهر من طريقة العقلاء استقرار بنائهم على ذلك على نحو الإطلاق، أي: حتى ولو كانت المفسدة قليلة والمنفعة كثيرة، بل لم يظهر استقرار بنائهم على ذلك في صورة التساوي بينهما من ناحيّة القلّة والكثرة أيضاً.
الوجه الثاني: أنّ تقديم جانب الحرمة هو الأصل. وقرّره المحقّق الآشتياني في شرحه على الرسائل، فقال: <أي: قاعدة الاحتياط عند دوران الأمر بين التخيير والتعيين؛ فإنّ مقتضاها تقديم احتمال التحريم والبناء عليه في مرحلة الظاهر>، انتهى ما أفاده في تقرير هذا الوجه( ).
أقول: ومراده: أنّ مقامنا هو من موارد الدوران المذكور، فيكون اللّازم هنا ـ أيضاً ـ تقديم احتمال التحريم.
الوجه الثالث: دعوى استقراء حال الشريعة في حالات دوران الأمر بين الحرمة وغيرها؛ فإنّه يستكشف منه: أنّ مذاق الشارع هو تقديم وتغليب جانب الحرمة على ما سواها، ففيما إذا اشتبه الواجب بالحرام ـ أيضاً ـ يكون اللّازم هو تقديم جانب الحرمة.
الوجه الرابع: أنّ إفضاء الحرمة إلى المقصود منها يكون أتمّ من إفضاء الوجوب إلى المقصود منه؛ لأنّ المقصود من الحرمة هو ترك الحرام، والترك يجتمع مع كلّ فعل، بخلاف الوجوب؛ فإنّه ليس كذلك؛ إذ المقصود منه، وهو فعل الواجب، لا يتأتّى غالباً مع كلّ فعل، فيكون تقديم جانب الحرمة ـ لذلك ـ أرجح.
ولكنّ الحقّ: أنّ دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ينبغي أن يندرج تحت قواعد باب الأهمّ والمهمّ؛ فالموجب لتقديم أحد الجانبين على الآخر هو أن يكون ملاكه أهمّ.
والمراد بالملاك الأهمّ: ما يكون سبباً لتأكّد الطلب وأشدّيّته بالنسبة إلى الطلب المأخوذ في الجانب الآخر، بحيث لو كان المحتملان معلومين لكان أحدهما المعيّن ـ لأهمّيّته ـ مقدّماً على صاحبه عند المزاحمة، كما في مثال إنقاذ الغريق المتوقّف على التصرّف في مال الغير بدون رضاه، فإنّ كلاً من الحكمين ـ أعني: وجوب الإنقاذ وحرمة ـ الغصب معلوم للمكلّف، ولابدّ له من امتثاله، وقد اتّفق ابتلاء المكلّف بهما في زمان واحد، فكان لابدّ من تقديم الأهمّ منهما.
وبما أنّ وجوب إنقاذ المؤمن أهمّ من حرمة الغصب، لما يترتّب عليه من حفظ النفس المحترمة، كان اللّازم التصرّف في مال الغير بدون رضاه لأجل إنقاذ الغريق المؤمن. هذا في باب التزاحم.
وكذلك في مقامنا ـ وهو مقام وجود احتمال حكمين، لا نفس الحكمين الواقعيّين ـ فإذا كان الوجوب المحتمل أولى وأهمّ من الحرمة المحتملة كان لابدّ من تقديمه على الترك، وإن كان احتمال الحرمة أقوى؛ وذلك لأنّ المدار في الترجيح على أهمّيّة المحتمل، لا على أقوائيّة الاحتمال.
فإذا فرض أنّ احتمال الحرمة كان أقوى من احتمال الوجوب، ولكنّ الوجوب المحتمل كان ـ على تقدير ثبوته في الواقع ـ أهمّ وأشدّ من الحرمة، سواء كانت محتملة أم مظنونة؛ فإنّه يجب تقديم احتمال الوجوب الأهمّ على احتمال الحرمة الأقوى، كالصلاة في أيّام الاستظهار مثلاً، فإنّها يحتمل وجوبها ويحتمل حرمتها؛ لأنّها إن كانت طاهرة تجب عليها الصلاة، وإن كانت حائضاً تحرم عليها الصلاة، فهنا لابدّ لها من تقديم جانب الوجوب على الحرمة؛ لأهمّيّته؛ لأنّ وجوبها ـ على تقدير ثبوته واقعاً ـ يكون ذاتيّاً، بخلاف حرمتها، فإنّها ـ على فرض ثبوتها ـ تكون حرمة تشريعيّة، فيرجّح الوجوب على الحرمة.
ومن هنا، يحكم بوجوبها عليها في تلك الأيّام، حتى ولو فرض أنّ احتمال حرمتها وكونها حائضاً كان أقوى من احتمال وجوبها؛ لأنّ الملاك الداعي إليه من قبل المولى أقوى وأهمّ بحسب الفرض.
فكما أنّ العلم بشدّة الطلب وأقوائيّة الملاك أو احتمالهما يكون مرجّحاً في باب التكليفين المعلومين المتزاحمين، فكذلك يكون مرجّحاً ـ أيضاً ـ في مثل المقام حيث يدور الأمر بين المحذورين المحتملين.
فتحصّل: أنّ محتمل الحرمة ليس دائماً مقدّماً على محتمل الوجوب، بل لابدّ من ملاحظة المصالح والملاكات، وتقديم ما هو الأهمّ ملاكاً، وإلّا، كان اللّازم ـ بناءً على التمسّك بالقاعدة المذكورة مطلقاً ـ هو لزوم تقديم صغائر المحرّمات عند دوران الأمر بينها وبين ترك أهمّ الفرائض، مع أنّ المفسدة المترتّبة على ترك ذلك الواجب المحتمل أقوى وأهمّ، ولا يمكن الالتزام به، كما لا يخفى.
هذا تمام الكلام في الصورة الاُولى.

وأمّا الصورة الثانية:
وهي ما إذا كان الدوران بين وجوب فعل شيء وبين حرمة ذلك الفعل بعينه في وقائع متعدّدة، فهل يكون التخيير بدويّاً، بمعنى: أنّه ليس له أن يختار في الواقعة اللّاحقة إلّا نفس ما اختاره في الواقعة السابقة، أم أنّه يكون استمراريّاً، بحيث يتخيّر في كلّ واقعةٍ كما لو أنّها الواقعة الأُولى بالنسبة إليه؟
ذهب المحقّق النائيني إلى أنّه لابدّ في صورة تعدّد الواقعة من القول بالتخيير الاستمراريّ؛ وذلك لعدم منجّزيّة العلم الإجماليّ، فلا مانع من المخالفة القطعيّة، فلو علم ـ مثلاً ـ بأنّه حلف بالنسبة إلى امرأته المعيّنة، إمّا على وطئها وإمّا على ترك وطئها في كلّ ليلة جمعة، فإنّه:
<لا يكون التكليف منجّزاً في كلّ ليلةٍ من ليالي الجمعة؛ لأنّه في كلّ ليلةٍ منها الأمر دائر بين المحذورين، وكون الواقعة ممّا تتكرّر لا يوجب تبدّل المعلوم بالإجمال، ولا خروج المورد عن كونه من دوران الأمر بين المحذورين؛ فإنّ متعلّق التكليف إنّما هو الوطء أو الترك في كلّ ليلةٍ من ليالي الجمعة.
ففي كلّ ليلة يدور الأمر بين المحذورين، ولا يُلاحظ انضمام اللّيالي بعضها مع بعض حتى يقال: إنّ الأمر فيها لا يدور بين المحذورين؛ لأنّ المكلّف يتمكّن من الفعل في جميع اللّيالي المنضمّة، ومن الترك في جميعها ـ أيضاً ـ، ومن التبعيض، ففي بعض اللّيالي يفعل وفي بعضها الآخر يترك، ومع اختيار التبعيض، تتحقّق المخالفة القطعيّة؛ لأنّ الواجب عليه إمّا الفعل في الجميع، وإمّا الترك في الجميع؛ وذلك لأنّ اللّيالي بقيد الانضمام لم يتعلّق الحلف والتكليف بها، بل متعلّق الحلف والتكليف كلّ ليلة من ليالي الجمعة مستقلّةً بحيال ذاتها، فلابدّ من ملاحظة اللّيالي مستقلّةً، ففي كلّ ليلةٍ يدور الأمر فيها بين المحذورين، ويلزمه التخيير الاستمراريّ>( ).
ولكنّ الحقّ: عدم جواز التخيير الاستمراريّ هنا أيضاً؛ لأنّ عدم تنجيز التكليف بالعلم الإجماليّ بلحاظ كلّ واقعة بحيالها، لا ينافي حدوث علم إجماليّ حقيقيّ آخر يستلزم تنجيز التكليف بلحاظ تعدّد الواقعة.

وأمّا الصورة الثالثة:
وهي أن يكون الحكم المحتمل في كلا الطرفين تعبّديّاً، فلا شكّ ـ حينئذٍ ـ في إمكان المخالفة القطعيّة، بأن يأتي بالفعل أو يتركه بغير قصد القربة. وعندئذٍ: فلا يجوز المخالفة القطعيّة، بل لابدّ له أن يأتي أو يترك بنحوٍ يحقّق الموافقة الاحتماليّة، فالحكم هنا هو التخيير ـ أيضاً ـ ولكن يشترط فيه أن يكون بنحوٍ لا يلزم منها حصول المخالفة القطعيّة.
وهذا هو السرّ في أنّ بعضهم اشترط في مسألة دوران الأمر بين المحذورين أن لا يكون أحدهما المعيّن أو كلاهما تعبّديّين.
ومنه يُعلم: حكم ما لو كان أحدهما المعيّن فقط تعبّديّاً.
وبهذا تمّ الكلام في مسألة دوران الأمر بين المحذورين.

 


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com