أصالة الاشتغال

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

أصالة الاشتغال


الكلام في قاعدة الاحتياط، ويعبّر عنها ﺑ <قاعدة الاشتغال>.
ولابدّ قبل الدخول في البحث فيها من بيان اُمور:
الأمر الأوّل: أنّ مجرى هذه القاعدة هو الشكّ في المكلّف به بعد العلم بأصل التكليف، ولو بجنسه، مع إمكان الاحتياط، بأن لا يكون الأمر دائراً بين المحذورين.
الأمر الثاني: لا فرق ـ كما أشرنا ـ في العلم بأصل التكليف، بين أن يكون علماً بنوع التكليف أو بجنسه.
كما أنّ الشكّ في المكلّف به مع العلم بأصل التكليف قد يكون من جهة المتعلّق، كما إذا علم بأصل الإلزام، مع الشكّ في أنّ متعلّق هذا الإلزام هل هو الدعاء عند رؤية الهلال ـ مثلاً ـ أو غسل الجمعة؟ وقد يكون من جهة خصوصيّات المتعلّق، كالشكّ في أنّ متعلّق الوجوب ظهر الجمعة هل هو صلاة الظهر أو صلاة الجمعة؟ كما أنّه قد يكون من جهة الموضوع الخارجيّ، أعني: متعلّق المتعلّق.
الأمر الثالث: أنّ الشبهة قد تكون حكميّة، سواء كان منشؤها فقدان النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين، وقد تكون موضوعيّة، ومنشؤها ـ حينئذٍ ـ هي الاُمور الخارجيّة.
وفي الجميع، فهي إمّا وجوبيّة وإمّا تحريميّة، وعلى التقادير: فإمّا أن يكون التردّد بين اُمور محصورة، وإمّا أن يكون بين اُمور غير محصورة، وعلى التقادير ـ أيضاً ـ فالشبهة قد تكون بين المتباينين وقد تكون بين الأقلّ والأكثر، فأقسام المسألة وصورها في غاية الكثرة.
فهنا مباحث:

المبحث الأوّل: في دوران الأمر بين المتباينين:
قال صاحب الكفاية:
<لا يخفى: أنّ التكليف المعلوم بينهما مطلقاً ـ ولو كان كانا فعل أمر وترك آخر ـ:
إن كان فعليّاً من جميع الجهات، بأن يكون واجداً لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعليّ، مع ما هو عليه من الإجمال والتردّد والاحتمال، فلا محيص عن تنجّزه وصحّة العقوبة على مخالفته. وحينئذٍ: لا محالة يكون ما دلّ بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة ممّا يعمّ أطراف العلم مخصَّصاً عقلاً، لأجل مناقضتها معه.
وإن لم يكن فعليّاً كذلك ـ ولو كان بحيث لو علم تفصيلاً لوجب امتثاله وصحّ العقاب على مخالفته ـ لم يكن هناك مانع عقلاً ولا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشرعيّة للأطراف.
ومن هنا انقدح: أنّه لا فرق بين العلم التفصيليّ والإجماليّ، إلّا أنّه لا مجال للحكم الظاهريّ مع التفصيليّ، فإذا كان الحكم الواقعيّ فعليّاً من سائر الجهات، لا محالة، يصير فعليّاً معه من جميع الجهات، وله مجال مع الإجماليّ، فيمكن أن لا يصير فعليّاً معه؛ لإمكان جعل الظاهريّ في أطرافه، وإن كان فعليّاً من غير هذه الجهة>( ).
وملخّص ما أفاده: أنّ التكليف المعلوم بالإجمال في العلم الإجماليّ بالتكليف المردّد بين أمرين متباينين:
إن كان فعليّاً من جميع الجهات فيكون التكليف منجّزاً، وتصحّ العقوبة على مخالفته، ومعه: فلابدّ عقلاً من رفع اليد عن عموم دليل أصالة البراءة والإباحة؛ لمناقضته لفعليّة التكليف من جميع الجهات.
وإن لم يكن فعليّاً من جميع الجهات، حتى وإن كان فعليّاً من سائر الجهات غير جهة العلم، لم يكن ثمّة مانع، لا عقلاً، ولا شرعاً، من شمول أدلّة البراءة للأطراف جميعاً.
ولا يخفى: أنّ التكاليف التي تكون ناشئة عن مصلحة ملزمة، أو مفسدة كذلك، بحيث لا يرضى المولى بمخالفتها، بل تتعلّق إرادته باستيفائها على نحو الحتم، فعلى المولى أن يعمد إلى إيصال هذا التكليف الملزم إلى المكلّف، ورفع جميع موانع تنجيزه.
وهذا الإيصال: تارةً يكون برفع جهل المكلّف رأساً، بحيث يصير عالماً بالحكم تفصيلاً، وأُخرى: يكون بتعيين له الطريق له إلى ذلك، وثالثةً: بإيجاب الاحتياط تجاهه.
فلو تنجّز التكليف، بأيّ سببٍ من أسباب التنجّز، كانت مخالفته ـ لا محالة ـ موجبةً للعقاب، ضرورة أنّ التكليف كما يتنجّز بعد العلم به تفصيلاً، يتنجّز كذلك بعد العلم به إجمالاً، بل في حقيقة الأمر: لا علم هناك إجمالاً، فإنّ العلم ينافي الإجمال والترديد، وإنّما المعلوم هو الذي يكون مجملاً ومردّداً.
وكيف كان، فإذا علم بالتكليف، ولو بنحو العلم الإجماليّ، يصبح التكليف منجّزاً، ويرتفع عذر جهله، فيكون العلم الإجماليّ ـ بذلك ـ علّة تامّةً لحرمة المخالفة القطعيّة، ومع تحقّقه: فلا يمكن جعل الحكم الظاهريّ في الأطراف؛ لأنّه موجب للتناقض.
وهذا هو معنى ما أفاده صاحب الكفاية ـ كما نقلناه عنه آنفاً ـ من أنّه لا فرق بين العلمين، فكما أنّ متعلّق العلم التفصيليّ معلوم، فكذلك متعلّق العلم الإجماليّ؛ لأنّ متعلّقه إنّما هو الجامع، وهو معلوم بالتفصيل، والشكّ والترديد إنّما هو في خصوصيّات الأطراف.
وهذا ما جعل المحقّق الأصفهانيّ يذهب إلى امتناع تعلّق العلم بالمردّد لوجهين:
الأوّل: أنّ الفرد المردّد ليس له ثبوت في أيّ وعاءٍ من الأوعية، ذهناً كان أو خارجاً، ماهيّةً أو هويّة؛ لأنّ كلّ شيء يُفرض فلا يُعقل إلّا يكون معيّناً، وهو هو، لا مردّداً بينه وبين غيره، ولا هو أو غيره.
الثاني: أنّ حضور متعلّق العلم بنفس العلم؛ فإنّ العلم من الصفات التعلّقيّة فلا يمكن دعوى حضور الخصوصيّة؛ لأنّها مجهولة على الفرض، ولا المردّد؛ إذ لا يمكن أن يكون حاضراً في النفس؛ لأنّه خلف تردّده.
قال في مبحث الواجب التخييريّ ـ ما لفظه ـ:
<المردّد بما هو مردّد لا وجود له خارجاً، وذلك لأنّ كلّ موجود له ماهيّة ممتازة عن سائر الماهيّات بامتيازٍ ماهويّ، وله وجود ممتاز بنفس هويّة الوجود عن سائر الهويّات، فلا مجال للتردّد في الموجود بما هو موجود، وإنّما يوصف بالتردّد بلحاظ علم الشخص وجهله، فهو وصف له بحال ما يضاف إليه، لا بحال نفسه...>( ).
وقال ـ أيضاً ـ في مبحث أصالة الاشتغال:
<أنّ العلم الإجماليّ المصطلح عليه في هذا الفنّ لا يفارق العلم التفصيليّ في حدّ العلميّة، وليسا سنخين من العلم نظراً إلى تعلّق العلم الإجماليّ بالمردّد؛ لما مرّ مراراً أنّ المردّد بما هو مردّد لا ثبوت له ذاتاً ووجوداً، ماهيّةً وهويّةً، فلا يعقل تقوّم العلم الإجماليّ به.
مع بداهة أنّ العلم المطلق لا يوجد، كما أنّ وجوده في اُفق النفس وتعلّق بالخارج عن اُفق النفس غير معقول، بل المقوّم لهذه الصفة الجزئيّة لابدّ من أن يكون في اُفقها، فهو المعلوم بالذات، وما في الخارج معلوم بالعرض.
وعليه: فمتعلّق العلم حاضر بنفس هذا الحضور في النفس، غاية الأمر: أنّ طرف متعلّقه مجهول، أي: غير معلوم بخصوصيّته، فلم يلزم تعلّق صفةٍ حقيقيّةٍ بالمردّد حتى يكون أصلاً يبتني عليه إمكان إمكان تعلّق سائر الصفات الحقيقيّة وجملة الصفات الاعتباريّة بالمردّد.
وحيث عرفت أنّ تعلّق العلم الإجماليّ بالمردّد غير معقول، وبالواقع بخصوصه غير معقول؛ إذ لا معنى لتعلّقه به إلّا كونه معلوماً به، وهو خلف، فلا محالة، ليس المعلوم إلّا الجامع بين الخاصّين المحتملين، فهو مركّب من علمٍ واحتمالين، بل من علم تفصيليّ بالوجوب، ومن علمٍ آخر بأنّ طرفه ما لا يخرج عن الطرفين...>( ).
وكيفما كان، فإذا لم يكن ثمّة فرق جوهريّ بين العلم الإجماليّ والعلم التفصيليّ، وكان العلم الإجماليّ ـ أيضاً ـ علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعيّة، فلا محالة: ينسدّ باب جعل الحكم الظاهريّ بحيث يكون موجباً للوقوع في المخالفة القطعيّة؛ لكونه موجباً للتناقض.
بيان ذلك: أنّ الحكم الواقعيّ محفوظ، ولا يمكن رفع اليد عنه، لمكان أنّ تأثير العلم الإجماليّ في تنجيز متعلّقه المعلوم ـ وإن كان الترديد في انطباق الحكم على متعلّقه ـ لا يكون قابلاً لمنع المانع من تنجيزه، لا عقلاً، أي: بإجراء البراءة العقليّة وقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّه مع وجود العلم الإجماليّ فالبيان موجود، فلا يكون العقاب عقاباً بلا بيان، فلا محيص عن تنجّزه وصحّة العقوبة على مخالفته.
فإذا عرفت ذلك، فلا يُعبأ بقول من شذّ من الفقهاء ممّن قال بعدم تأثير العلم الإجماليّ للتنجيز على نحو الإطلاق، وأنّه ليس مقتضياً للمنجّزيّة وليس ببيان حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعيّة، بل حال العلم الإجماليّ من هذه الناحية هو حال الشكّ، كما ربّما ينسب هذا القول إلى المحقّقين القمّي والخونساريّ( )، وإن ناقش الاُستاذ المحقّق في صحّة هذه النسبة قائلاً: <وإن كانت هذه النسبة لا تخلو عن إشكال؛ لأنّ الظاهر من كلامهما إجراء البراءة الشرعيّة وانفتاح باب الترخيص الظاهريّ في جميع الأطراف على خلاف المعلوم بالإجمال>( ).
وقد يقال في توجيه هذا الذي ذهبا إليه: بأنّه عين ما يقتضيه الجمع بين الحكم الواقعيّ والظاهريّ، فكما أنّه قد ثبت هناك إمكان إجراء أصالة البراءة أو أصالة الحلّ، بالرغم من انحفاظ الحكم الواقعيّ، ولم يلزم التناقض، للأجوبة التي تُذكر في مقام الجمع بين هذين السنخين من الحكم الشرعيّ، فكذلك فيما نحن فيه، بلا فرقٍ بين المقامين أصلاً.
ولكنّ الحقّ: أنّ قياس المقام على موارد الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ قياس مع الفارق؛ إذ في تلك الموارد ليس هناك بيان أصلاً، ولذا لم يتنجّز الحكم الواقعيّ، لا ببركة منجّز واقعيّ وجدانيّ كالقطع، ولا ببركة منجّز تعبّديّ كالاُصول والأمارات، وبالتالي: فلا يحكم العقل هناك بلزوم الإطاعة واستحقاق العقوبة على المخالفة، فلو أنّ الشارع أراد أن يعاقب على المخالفة لكان عليه أن يوجب عليه الاحتياط، وإلّا، لزم أن يكون عقاباً بلا بيان، وهو قبيح.
وهنا يجب التنبيه على اُمور:

الأمر الأوّل :في أنّ وجوب الاحتياط حكم عقليّ:
لا إشكال في أنّ وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجماليّ حكم عقليّ إرشاديّ، فلو خالف المكلّف، بأن أتى بأحد الأطراف في مورد الشبهة التحريميّة، أو ترك بعض الأطراف في مورد الشبهة الوجوبيّة، ولم يصادف الواقع، فلا يعاقب على ذلك، وليس هناك إلّا التجرّي.
نعم، لو صادف الواقع، بأن كان ما أتى به حراماً واقعاً في الأوّل، أو كان ما تركه واجباً واقعاً في الثاني، فإنّه يعاقب على العصيان، بعد أن كان الواقع منجّزاً عليه وكان عالماً به بالعلم الإجماليّ.

الأمر الثاني: خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء:
لا يخفى: أنّ من شرائط فعليّة الحكم أن يكون المكلّف به مقدوراً للمكلّف؛ فالعلم ـ مطلقاً ـ تفصيليّاً كان أم إجماليّاً، إنّما يؤثّر في تنجيز ما يتعلّق به فيما إذا كان متعلّقه هو التكليف الفعليّ على جميع التقادير، وفي أيّ طرفٍ كان.
وعلى هذا الأساس، فالعقل يحكم باعتبار القدرة العقليّة في جميع أطراف العلم الإجماليّ، وإلّا، لم يكن منجّزاً له بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته، فإذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء، ولم يكن للمكلّف قدرة على ارتكابه في طرف من الأطراف، كان التكليف بالنسبة إليه ساقطاً في هذا الطرف؛ لقبح التكليف بغير المقدور، وحينئذٍ: ففي سائر الأطراف، يصبح الحكم مشكوك الحدوث، فيجري فيها الأصل النافي للتكليف بلا معارض.
فمثلاً: لو كان هناك كأسان، وعلم بأنّ أحدهما كان نجساً، ولكنّ أحد الكأسين كان خارجاً عن محلّ ابتلائه، بحيث لم يكن له قدرة على الوصول إليه عادةً ـ وإن كان له قدرة عقليّة بالنسبة إليه ـ فلا يمكن تعلّق النهي بالشرب منه ـ مثلاً ـ لعدم القدرة عليه ـ وعدم كونه تحت اختياره، وحينئذٍ: فينحلّ العلم الإجماليّ، ويكون الشكّ بالنسبة إلى الكأس الثاني شكّاً بدويّاً.
وقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ القدرة التي هي شرط في التنجّز والفعليّة إنّما هي القدرة العاديّة، أي: يأن يكون له قدرة على ارتكابه عادةً، وليس المدار على القدرة العقليّة، بأن يكون قادراً على ارتكابه ولو بمقدّمات غير عاديّة وبتحمّل الصعوبات والمشاقّ.
ولذا، فلو علم ـ مثلاً ـ بأنّ إحدى هاتين المرأتين ـ المرأة التي يريد تزويجها أو المرأة التي في أقصى بلاد الشرق ـ محرّمة عليه، فحيث إنّ الغرض من النهي المولويّ إنّما هو زجر العبد عن ارتكاب المنهيّ عنه، فلابدّ أن يكون هذا الارتكاب ممكناً ومقدوراً له بحسب العادة، وإلّا، كان النهي عنه بلا ثمرة ولا فائدة، فيكون لغواً، والمولى حكيم، فلا يعقل أن يصدر عنه مثل هذا النهي عنه، بل يكون مستهجناً.
ولكنّ الحقّ: أنّ ذلك على إطلاقه غير مسلّم، بل إذا كان الفعل يشتمل على مصلحة مهمّة بحيث يلزم تحصيلها، ولو ببذل الغالي والنفيس وتحمّل المشاقّ وتهيئة المقدّمات غير العاديّة في سبيل تحصيله، فهو وإن كان غير مقدور عادةً ـ بشرط أن يكون مقدوراً عقلاً ـ فلا يمكن أن يقال ـ حينئذٍ ـ بأنّه لا يجوز طلب مثل هذا الفعل، بزعم أنّه غير مقدور، وأنّ الأمر به مستهجن وقبيح؛ إذ مع كون المصلحة على تلك الدرجة العالية من الأهمّيّة، فلا يكون هناك استهجان من قبل النفس في صدور الخطاب والأمر به من قبل المولى، ولا محذور ـ حينئذٍ ـ عقلاً في توجيه التكليف إليه، وإن لم يكن تحت قدرته عادةً.
لا يقال: إنّ هناك اُموراً يتركها العبد من تلقاء نفسه من جهة انزجاره عنها، كنكاح الاُمّهات، أو كشف العورة لذوي المروءة، أو أكل الخبائث والقذارات، ونحو ذلك ممّا تشمئزّ منه النفوس الكاملة وتأبى عن ارتكابها، ومع ذلك، فقد توجّه الخطاب والنهي المولويّ إليهم عن ارتكاب مثل هذه الاُمور، مع أنّ مقتضى ما تقدّم، أنّه لا يجوز أن يتوجّه إلى هؤلاء أمثال هذه النواهي والخطابات.
لأنّا نقول: فرق بين أن يكون الشيء غير مقدور عادةً، بحيث يحتاج في تحصيله إلى إيجاد المقدّمات البعيدة والخارجة عن العادة مع تحمل المشاقّ والصعوبات، وبين أن يكون مقدوراً للمكلّف، غاية الأمر: أنّه منفور ومشمئزّ عنه.
ففي القسم الأوّل، يكون الخطاب بالترك مستهجناً بنظر العرف والعقلاء، لعدم قدرة المكلّف عليه.
وأمّا في القسم الثاني، فالعرف والعقلاء لا يرون قبحاً في توجيه خطاب النهي عن الترك إلى المكلّف القادر على الفعل؛ لأنّه وإن كان يشمئزّ منه ولا يرتكبه لمكان هذا النفور والاشمئزاز، إلّا أنّه حيث كان في الفعل مفسدة، وكان ارتكابه مقدوراً له، لم يكن في نهيه عنه قبح ولا استهجان أصلاً؛ وذلك لأنّ النهي ـ بنظر العرف والعقلاء ـ لابدّ أنّ يتوجّه إلى أحد طرفي المقدور، فإذا كان ارتكاب الفعل بنظر غير مقدور، فهو مجبور على الترك، فلا يكون مقدوراً له هو أيضاً، ومعه: فلا مجال للخطاب بالنهي عنه، بل هو مستهجن عندهم.
هذا. ولكن يمكن أن يقال:
بأنّه في الصورة الأخيرة ـ أيضاً ـ يقبح النهي، إذ لمّا كان المكلّف مشمئزّاً من ارتكاب الفعل، وتاركاً له قهراً، فيكون النهي عن ارتكابه مندرجاً في باب تحصيل الحاصل، فلا يكون للنهي مجال، لقبحه.
وكيف كان، فحاصل ما تقدّم: أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجماليّ أن يكون كلا الطرفين محلاً للابتلاء، وأمّا إذا خرج أحد الأطراف عن محلّ ابتلائه، فلا يكون له علم بثبوت التكليف على كلّ حال؛ لأنّ المعلوم بالإجمال ليس ممّا يصحّ النهي عنه في أيّ طرف كان؛ إذ لا يصحّ النهي عن طرفٍ يكون خارجاً عن محلّ الابتلاء، لعدم القدرة عليه بالبيان المتقدّم، وحينئذٍ: فلا يكون الأصل النافي للتكليف قابلاً للجريان في الطرف الخارج عن محلّ الابتلاء، بعد عدم ترتّب الأثر العمليّ لهذا الأصل في مورده، فيبقى الطرف الآخر، أي: الطرف الذي هو محلّ الابتلاء، مجرىً لذلك الأصل، وهذا هو معنى: سقوط منجّزيّة العلم الإجماليّ بخروج أحد أطرافه عن محلّ ابتلاء المكلّف.
هذا كلّه، في صورة العلم بأنّ بعض أطراف العلم الإجماليّ خارج عن محلّ الابتلاء.
وأمّا في صورة الشكّ في كونه خارجاً محلّ الابتلاء أم لا، فهل تجري فيه أصالة البراءة أم أصالة الاحتياط؟
فإنّ الخمر ـ مثلاً ـ تارةً: يكون موجوداً في أقصى بلاد الهند (لمن كان بعيداً عنها ـ فهذا الفرد ممّا يعلم خروجه عن محلّ الابتلاء، فيدخل في صورة العلم، وقد عرفنا أنّه لا يصحّ توجّه الخطاب بالنسبة إليه.
وأُخرى: يكون موجوداً في نفس البلد الذي هو فيه، فيقطع ـ حينئذٍ ـ بإمكان الابتلاء به، فلا يكون توجّه الخطاب إليه ونهيه عنه مستهجناً، فيكون العلم الإجماليّ منجّزاً بالنسبة إليه بلا مانع.
وثالثةً: يكون في بلاد متوسّطة، فيشكّ في خروجه عن محلّ الابتلاء وعدم قدرته عليه عادةً أو عقلاً أم لا، فهذا هو محلّ الكلام.
والأقوى في هذه الصورة هو القول بجريان أصالة الاحتياط، لا أصالة البراءة، فيجب الاجتناب عن الطرف الذي هو محلّ الابتلاء؛ والسرّ في ذلك: أنّ الشكّ في القدرة بعد إحراز الملاك التامّ ـ كما هو المفروض فيما نحن فيه، لعلمنا بعدم مدخليّة القدرة، عاديّةً كانت أم عقليّةً، في الملاك ـ فيكون المقام من قبيل الشكّ في السقوط، لا الثبوت، وهذا الشكّ ـ كما هو معلوم ـ ليس مجرىً لأصالة البراءة وقبح العقاب بلا بيان؛ فإنّ البراءة إنّما تجري فيما إذا كان هناك قصور في البيان من ناحية المولى، ولا تجري فيما لو كان عدم التكليف مستنداً إلى عجز العبد عن الامتثال عقلاً أو عادةً؛ إذ في هذه الحالة، فلو علم العبد بعجزه وانتفاء قدرته، فلا تكليف قطعاً، لقبح تكليف العاجز، ولأنّ القدرة شرط في حسن التكليف.
وأمّا إذا شكّ في انتفاء القدرة، فالعقل ـ حينئذٍ ـ يستقلّ بلزوم الاحتياط والامتثال ورعاية الاحتمال، حتى يتبيّن العجز، تخلّصاً عن احتمال الوقوع في مخالفة الواقع، وعند انكشاف العجز، يكون ـ عندئذٍ ـ مورداً لقاعدة دفع الضرر المحتمل، لا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وبعبارة أُخرى: فكما أنّه عند الشكّ في القدرة العقليّة لا يمكن أن تجري أصالة البراءة، فكذلك إذا شكّ في القدرة العاديّة، فلا يكون له ـ أيضاً ـ الرجوع إلى البراءة لدفع الضرر المحتمل، فلو شكّ في مقدوريّة طرفٍ من الأطراف، فليس له أن يجري البراءة عن التكليف إذا كان تحريميّاً، وارتكاب سائر الأطراف، بل يجب الاجتناب حتى عن الطرف الداخل تحت ابتلائه وتحت قدرته.
ولا يمكن قياس حالة الشكّ على ما إذا علم بخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء؛ إذ مع علمنا بخروج أحد الأطراف عن محلّ الابتلاء نعلم بعدم التكليف بالنسبة إلى ذلك الطرف؛ لأنّه ـ كما تقدّم ـ غير مقدور، فنجري بالنسبة إلى ما هو محلّ الابتلاء نجري البراءة، ولا يبقى مجال للقول بلزوم الاحتياط بعد انحلال العلم الإجماليّ، بعدما كان وجود المعلوم بالإجمال في هذا الطرف مشكوكاً، فالعلم الإجماليّ ـ حينئذٍ ـ لم يتعلّق بخطاب فعليٍّ في أيّ طرفٍ كان، بل المعلوم بالإجمال تكليف مشكوك، فلا يؤثّر التنجيز، كما أنّ الملاك ـ أيضاً ـ لا يؤثّر؛ لأنّ الملاك على تقدير كونه في ذلك الطرف المعلوم الخروج عن محلّ الابتلاء لا يؤثّر قطعاً؛ لأنّه يقطع بعدم التكليف ـ حينئذٍ ـ، أعني: التكليف المطلق.
ومعه: فلا يبقى مجال لحكم العقل بلزوم الاحتياط، وتكون الشبهة ـ حينئذٍ ـ كالشبهة البدويّة.
وهذا بخلاف ما إذا شكّ في الخروج، فلا يقطع بعدم التكليف المطلق كالصورة السابقة، بل يحتمل وجوده، فيبقى مجال لأن يحكم العقل بالاحتياط لأجل وجود الملاك.
وقد ذهب المحقّق النائيني( ) تبعاً للشيخ الأعظم إلى التمسّك بالإطلاقات الواردة في باب الأحكام، وحاصله: أنّ النواهي الواردة في الآيات مطلقة تشمل جميع الموارد بحسب الظهور العرفيّ، سواء كانت خارجة عن محلّ الابتلاء أو داخلة فيه، والقدر المتيقّن من تقييد هذه الإطلاقات وتخصيص العمومات هو ما علم بخروجه عن محلّ الابتلاء، وأمّا ما شكّ فيه، فيبقى داخلاً تحت الإطلاقات والعمومات بمقتضى أصالة الإطلاق والعموم( ).
كما أنّ هناك فرقاً بين حصول العلم الإجماليّ وتنجّزه وخروج أحد الكأسين ـ مثلاً ـ عن محلّ الابتلاء، وبين ما إذا كان خروج أحد الكأسين عن محلّ الابتلاء قبل ورود العلم الإجماليّ.
ففي الصورة الأخيرة، فالشكّ بالنسبة إلى ما هو محلّ ابتلائه يرجع ـ لا محالة ـ إلى الشكّ البدويّ؛ إذ بعد أن لم يكن العلم الإجماليّ مؤثّراً التنجيز بالنسبة إليه، فينحلّ هذا العلم، والذي يبقى بالنسبة إلى ما هو محلّ ابتلائه إنّما هو الشكّ البدويّ.
وأمّا في الصورة الأُولى، أي: فيما لو فرض أنّ حصول العلم الإجماليّ كان قبل فرض خروج أحد الكأسين عن محلّ الابتلاء، فإنّ هذا الخروج لا يؤثّر في إسقاط العلم الإجماليّ عن أثره في التنجيز، بل يجب ـ حينئذٍ ـ رعاية الاحتياط بموافقة الواقع في الباقي من الأطراف في مورد الابتلاء، وإلّا، يلزم ارتكاب بعض الأطراف، أي: أطراف ما علم تحريمه بالإجمال، وهو كما ترى؛ لأنّ فقدان المكلّف به ليس من قيود التكليف، بل وجوده في الخارج أيضاً كذلك، وإن كان مشروطاً بعدمه عقلاً، وإن لم يكن شرطاً شرعيّاً للتكليف.
وبالجملة: فلمّا كان حصول العلم الإجماليّ سابقاً على خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء، فيعلم أنّه ممن اشتغلت ذمّته بالتكليف المعلوم بالإجمال يقيناً، فيكون مورداً لجريان أصالة الاشتغال في الأطراف الباقية مورداً للابتلاء.

الأمر الثالث :الاضطرار إلى بعض الأطراف:
وتوضيح الحال فيه يقتضي رسم نقاط:
الاُولى: أنّ المراد من الاضطرار هو المشقّة العرفيّة التي توجب ارتكاب بعض الأطراف، وليس بمعنى الإلجاء؛ إذ لو كان المراد منه الإلجاء، لكان رافعاً للتكليف الشرعيّ عقلاً، والتكليف ـ حينئذٍ ـ لا يكون قابلاً للوضع حتى يصحّ رفعه بمثل قوله في حديث الرفع المتقدّم: <رفع ما اضطرّوا إليه>.
الثانية: أنّ الاضطرار ـ مطلقاً ـ مانع عن فعليّة التكليف والحكم؛ لأنّه من حدوده وقيوده شرعاً كما هو مقتضى الجمع بين أدلّة الأحكام الأوّليّة وأدلّة الأحكام الثانويّة كالضرر والعسر والحرج ونحو ذلك، فإنّ مقتضى هذا الجمع هو تقييد إطلاق الأحكام الواقعيّة الأوّليّة بعدم طروّ العناوين الثانويّة، فإطلاق حرمة شرب الخمر أو شرب المتنجّس ـ مثلاً ـ يقيّد بعدم الضرورة إلى شربه حدوثاً وبقاءً، وهذا هو معنى: أنّ الاضطرار إلى بعض الأطراف يكون مانعاً عن فعليّة الحكم المعلوم، لكونه العناوين الثانويّة.
الثالثة: إذا اضطرّ إلى بعض أطراف المعلوم بالإجمال، فتارةً يكون إلى أحدهما بعينه، وأُخرى يكون إلى أحدهما لا بعينه، وكلّ واحد منهما، إمّا أن يكون حصول الاضطرار قبل حصول العلم بالتكليف أو بعده أو مقارناً لحصوله.
أمّا صورة الاضطرار إلى أحدهما بعينه، كما إذا كان هناك إناءان، في أحدهما ماء مطلق وفي الآخر ماء الرمّان، وعلم إجمالاً بإصابة قطرة من الدم لأحدهما، واضطرّ إلى شرب الماء لرفع عطشه المضرّ بحاله، أو اضطرّ إلى شرب ماء الرمّان للاستشفاء من مرضٍ يتوقّف الشفاء منه عليه، فإنّ حصول الاضطرار إذا كان قبل العلم الإجماليّ بوقوع النجس في أحدهما، فلا إشكال في عدم وجوب الاجتناب عن المحتمل الآخر أو المحتملات الأُخرى؛ لأنّ العلم الإجماليّ ـ حينئذٍ ـ لا يكون مؤثّراً مطلقاً وعلى كلّ حال، وذلك لعدم توجّه التكليف إلى الكأس الذي اضطرّ إليه، حتى ولو كان في الواقع هو النجس المعلوم بالإجمال، لأنّه ممّا يعلم بحلّيّته وارتفاع حرمته بمقتضى قوله: <رفع ما اضطرّوا إليه>، وحاله في ذلك ـ أي: في عدم ترتّب أثرٍ شرعيّ عليه ـ حال الكأس التالف قبل ورود العلم الإجماليّ.
ومعه: فيكون الطرف الآخر ممّا يشكّ في كونه موضوعاً لخطاب (اجتنب النجس)، فيكون حكمه حكم الشبهة البدويّة، فيرجع فيه إلى أصالة البراءة.
وإذا حدث العلم الإجماليّ بعد الاضطرار، أو مقارناً لحدوث الاضطرار، فلا يكون منجّزاً؛ لعدم كونه متعلّقاً بحكم فعليّ على كلّ تقدير، أي: سواء انطبق المعلوم بالإجمال على هذا الطرف أو الأطراف الأُخر؛ لأنّه بالنسبة إلى الطرف المضطرّ إليه، فليس هناك حكم أصلاً؛ لأنّ الحكم ـ كما عرفنا ـ قد ارتفع بطروّ الاضطرار.
وقد عرفنا أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجماليّ لمتعلّقه، وفي تأثيره لوجوب الموافقة القطعيّة أو حرمة المخالفة القطعيّة، أن يكون متعلّقه حكماً فعليّاً على كلّ تقدير، أو ذو حكم فعليّ، فيجري الأصل النافي في الطرف الآخر أو الأطراف الاُخرى بلا معارض.
وأمّا إذا حصل الاضطرار بعد حصول العلم الإجماليّ، فبما أنّ العلم قد تنجّز، والتكليف قد حصل، فكلّ واحدٍ من الطرفين يصير محتمل التكليف المنجّز والاضطرار، ولو فرض أنّ الاضطرار يرفع التكليف عن ذلك الطرف الذي اضطرّ إليه، ولكن لا تجري البراءة في الطرف الآخر؛ لأنّه محتمل التكليف، وقد أصبح هذا التكليف منجّزاً في كلّ من الطرفين في رتبة سابقة على طروّ الاضطرار.
والتكليف وإن ارتفع عن الطرف الذي اضطرّ إليه، ولكن لا يجري الأصل بالنسبة إلى الطرف الآخر، فيكون حال الاضطرار إلى أحد الأطراف بعد حصول العلم الإجماليّ حال ما إذا تعرّض بعض الأطراف للتلف بعد حصول العلم الإجماليّ، فكما أنّه إذا تلف بعض الأطراف بعد حصول العلم الإجماليّ لا تجري الاُصول النافية للتكليف في الطرف أو الأطراف الباقية، فكذلك الحال في مورد الاضطرار.
وأمّا إذا كان الاضطرار إلى أحدهما لا بعينه، فهل يمكن قياسه على صورة الاضطرار إلى أحد الأطراف بعينه حتى يجري ما ذكرنا هناك أم لا؟
الظاهر: العدم؛ لأنّه هناك طرأ الاضطرار على نفس ما هو الحرام الواقعيّ في البين، على تقدير كونه ذلك الفرد الذي اضطرّ إليه بعينه، بخلاف المقام.
وقد حكم الشيخ الأنصاري هنا بلزوم الاجتناب عن الطرف الآخر في جميع هذه الصور، أي: سواء كان حصول الاضطرار قبل العلم الإجماليّ، أو بعده، أو مقارناً له.
قال: <ولو كان المضطرّ إليه بعضاً غير معيّن، وجب الاجتناب عن الباقي، وإن كان الاضطرار قبل العلم الإجماليّ؛ لأنّ العلم حاصل بحرمة واحدٍ من أمورٍ لو علم حرمته تفصيلاً وجب الاجتناب عنه، وترخيص بعضها على البدل موجب لاكتفاء الأمر بالاجتناب عن الباقي>( ).
وحاصل ما أفاده:
أنّ الاضطرار تعلّق بالجامع بين الحرام والحلال، لا بخصوص الحرام كي ترتفع حرمته بطروّ الاضطرار، فما هو المضطرّ إليه، وهو الجامع، فليس بحرام، وما هو حرام واقعاً، فليس بمضطرّ إليه، فلا وجه لرفع اليد عن حرمة الحرام الواقعيّ المنجّزة بالعلم الإجماليّ بمجرّد الاضطرار إلى الجامع.
فيكون المقام نظير ما لو اضطرّ إلى الشرب من أحد كأسين مع العلم تفصيلاً بحرمة أحدهما بالخصوص، فإنّه لا شكّ في عدم ارتفاع الحرمة عن الكأس المحرّم الشرب منه المعلوم بالتفصيل بمجرّد الاضطرار إلى الشرب منه أو من الكأس الآخر.
وخلاصة البحث:
أنّ الاضطرار الذي هو عنوان ثانويّ لم يطرأ على ما هو المحرّم واقعاً كي ترتفع حرمته، بل الاضطرار إنّما تعلّق بالجامع، فلابدّ من الاحتياط في الطرف الآخر بعد فرض تنجّزه بالعلم الإجماليّ، بلا فرق في ذلك بين حصول الاضطرار قبل حصول التكليف أم بعده، قبل حصول العلم به أم بعده.
فإذا عرفت هذا، وقلنا بأنّ العلم الإجماليّ بالنسبة إلى تنجيز التكليف المحتمل في كلّ واحدٍ من أطرافه يكون علّة تامّة، فيجب فيه الموافقة القطعيّة، ولا تجري في شيءٍ من أطرافه الاُصول النافية، ولو لم يكن معارض في البين.
نعم، يجوز جريان هذه الاُصول في حالةٍ واحدة، وهي حالة الانحلال وجعل البدل.
فلا يجوز الترخيص الظاهريّ إلّا بالتصرّف في ناحية التكليف بالمعلوم بالإجمال، بأن يقيّده بما إذا لم ينطبق الاضطرار عليه، فلو طبّق المكلّف اضطراره عليه ـ ولو بتوسّط كونه جاهلاً بالاضطرار ـ فلا تكليف في البين أصلاً، لا أنّ التكليف يكون موجوداً، غاية الأمر: أنّه غير منجّز.
وذلك لأنّه لا انحلال ولا جعل بدل في البين، فيكون الترخيص ـ حينئذٍ ـ من باب التوسّط في التكليف، وهو أن لا يكون التكليف مطلقاً على كلّ حال، بل على تقديرٍ دون تقدير آخر، فالاضطرار إلى أحدهما المعيّن يكون من هذا القبيل؛ لأنّه:
لو فرض أنّ المعلوم بالإجمال كان في ذلك الطرف المعيّن الذي اضطرّ إليه، فلا تكليف في البين أصلاً؛ إذ هو يرتفع بطروّ الاضطرار.
ولو فرض أنّ المعلوم بالإجمال كان في الطرف الآخر، فيكون موجوداً، فلا يكون موجوداً مطلقاً، ولا معدوماً مطلقاً، بل معنىً متوسّط، أي: موجود على تقدير غير موجود على تقدير آخر.
نعم، بناءً على القول بالاقتضاء، حيث لا يتنافى بقاء التكليف على إطلاقه في مقام الواقع مع الترخيص الظاهريّ للاضطرار، فلا مناص عن القول بالتوسّط في التنجّز، أي: أنّ التكليف يكون موجوداً مطلقاً، وعلى كلّ حال، ولكنّ تنجّزه إنّما يكون في حالٍ دون حال.

الأمر الرابع :في الشبهة غير المحصورة:
وقد اختلفت كلمات الأصحابكثيراً في تحديدها وتعيين الضابط لها، وورد عنهم في ذلك تحديدات مختلفة:
قال الميرزا النائيني:
<فعن بعضٍ: تحديدها ببلوغ الأطراف إلى حدّ تعسير عدّها( )، وزاد بعضهم: قيد (في زمانٍ قليل)( )، وعن بعضٍ آخر: إرجاعها إلى العرف، وقد قيل في تحديدها أمور أُخر لا تخفى على المتتبّع، مع ما فيها من عدم الانعكاس والاطّراد>( ).
وأمّا ما اختاره هو، فحاصله:
أنّ الضابط في الشبهة غير المحصورة عبارة عن اجتماع أمرين:
أوّلهما: عدم إمكان الجمع بين أطرافها عادةً في مقام ارتكاب الأطراف.
والثاني: أن يكون عدم إمكان الجمع هذا مستنداً إلى كثرة أطرافها.
وبهذا الأمر الثاني تختلف الشبهة غير المحصورة عن حالات خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء، بسبب بعد المكان ـ مثلاً ـ أو أيّة جهةٍ أُخرى غير كثرة العدد.
قال: <والاُولى أن يقال: إنّ ضابط الشبهة الغير المحصورة هو أن تبلغ أطراف الشبهة حدّاً لا يمكن عادةً جمعها في الاستعمال: من أكلٍ أو شربٍ أو لبسٍ أو نحو ذلك، وهذا يختلف حسب اختلاف المعلوم بالإجمال.
فتارةً: يعلم بنجاسة حبّةٍ من الحنطة في ضمن حُقّةٍ منها، فهذا لا يكون من الشبهة الغير المحصورة؛ لإمكان استعمال الحقّة من الحنطة بطحنٍ وخبزٍ وأكل، مع أنّ نسبة الحنطة إلى الحقّة تزيد عن نسبة الواحد إلى الالف.
وأُخرى: يعلم بنجاسة إناءٍ من لبن البلد، فهذا يكون من الشبهة الغير المحصورة، ولو كانت أواني البلد لا تبلغ الألف، لعدم التمكّن العاديّ من جمع الأواني في الاستعمال، وإن كان المكلّف متمكّناً من آحادها، فليس العبرة بقلّة العدد وكثرته فقط، إذ ربّ عددٍ كثير تكون الشبهة فيه محصورة، كالحقّة من الحنطة، كما أنّه لا عبرة بعدم التمكّن العاديّ من جمع الأطراف في الاستعمال فقط، إذ ربّما لا يتمكّن عادةً من ذلك مع كون الشبهة فيه ـ أيضاً ـ محصورةً، كما لو كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب...>( ).
ولكن استشكل عليه المحقّق العراقي ـ على ما في تعليقته على الفوائد ـ بما لفظه:
بأنّ هذه الضابطة ـ أيضاً ـ لا تخلو عن شبهة؛ <لأنّه ربّما يتمكّن عادةً من الابتلاء بالجميع بطول الزمان وتدريج المضيّ من اللّيالي والأيّام، فلابدّ من أنّ يُحدد مقدار أيضاً، بحيث يصدق عليه كون كلّ واحدٍ محلّ ابتلائه، على وجهٍ لا يصير طول الزمان منشأً لخروجه عنه، كما لا يخفى>( ).
وقد حدّد الشيخ الأعظم ضابط الشبهة غير المحصورة بشكلٍ آخر، وهو أن تكون كثرة الأطراف بالغةً إلى حدٍّ يكون معه احتمال التكليف في كلّ واحدٍ من الأطراف احتمالاً موهوماً لا يعتني به العقلاء، بل يرون الاعتناء به نوعاً من الوسوسة، ولازم ذلك عدم وجوب الموافقة القطعيّة.
وفي ذلك يقول:
<ويمكن أن يقال ـ بملاحظة ما ذكرنا في الوجه الخامس ـ: إنّ غير المحصور ما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الإجماليّ الحاصل فيها، ألا ترى أنّه لو نهى المولى عبده عن المعاملة مع زيد، فعامل العبد مع واحدٍ من أهل قريةٍ كبيرةٍ يعلم بوجود زيدٍ فيها، لم يكن ملوماً وإن صادف زيداً؟>( ).
ثمّ إنّه ـ أي المحقّق النائيني ـ قال:
<وممّا ذكرنا من الضابط: يظهر حكم الشبهة غير المحصورة، وهو عدم حرمة المخالفة القطعيّة، وعدم وجوب الموافقة القطعيّة>( ).
وهذا على خلاف ما يظهر من الشيخ من التفصيل بين المخالفة القطعيّة والموافقة القطعيّة، بالقول بالحرمة في الاُولى، وبعدم الوجوب في الثانية.
قال: <والتحقيق: عدم جواز ارتكاب الكلّ [يعني: جميع المشتبهات في الشبهة غير المحصورة]؛ لاستلزامه طرح الدليل الواقعيّ الدالّ على وجوب الاجتناب عن المحرّم الواقعيّ، كالخمر في قوله: (اجتنب عن الخمر)؛ لأنّ هذا التكليف لا يسقط عن المكلّف مع علمه بوجود الخمر بين المشتبهات. غاية ما ثبت في غير المحصور: الاكتفاء في امتثاله بترك بعض المحتملات...>، انتهى موضع الحاجة( ).
ولكن هذا غير تامّ؛ والوجه في ذلك: أنّ حرمة المخالفة القطعيّة إنّما تتصوّر في ما إذا تمكّن المكلّف منها تمكّناً عاديّاً، ولكنّه مع التمكّن، لا تكون الشبهة من قبيل الشبهة غير المحصورة.
وعلى أيّ حال، فالظاهر: أنّ أحسن التعريفات لضابطة الشبهة غير المحصورة هي ما أفاده الشيخ الأنصاري من بلوغ كثرة الأطراف حدّاً تكون معه سبباً لضعف احتمال كون الحرام ـ مثلاً ـ في طرف يريد المكلّف ارتكابه.
وقد استدلّ على أنّ الحكم في الشبهة غير المحصورة هو عدم لزوم الاجتناب بوجوه:
الأوّل: الإجماع.
ولكن قد عرفت سابقاً حال هذه الإجماعات، وأنّها من الإجماعات المنقولة وغير التعبّديّة.
والثاني: دعوى أنّ الاجتناب مستلزم للمشقّة والعسر والحرج، فيمتنع الإلزام به.
وفيه: أنّه مختصّ بالموارد التي يلزم منها ذلك، فلا يمكن الحكم به على سبيل الإطلاق.
الثالث: ما دلّ من الروايات على حلّيّة كلّ ما لم يعلم حرمته، كصحيحة عبد اﷲ بن سنان قال: قال أبو عبد اﷲ: <كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال أبداً، حتى تعرف الحرام منه بعينه، فتدعه>( )، فقد يقال: بأنّها ظاهرة في أنّ موردها خصوص العلم الإجماليّ، خرج منها الشبهة المحصورة، إمّا بالإجماع أو بالعقل، فتبقى الشبهة غير المحصورة، فلا يلزم فيها الاجتناب، وهو المطلوب.
ولكن يمكن أن يقال: بأنّها مختصّة بالشبهة البدويّة، فلا تشمل المورد أصلاً.
ثمّ هل يجوز ارتكاب جميع الأطراف في الشبهة غير المحصورة أم أنّه لابدّ من الإبقاء على مقدارٍ منها؟
فصّل في ذلك الشيخ الأنصاري فقال بعدم العقاب إذا لم يقصد ارتكاب الجميع من أوّل الأمر، ولكن انجرّ الأمر إليه، وبالعقاب فيما إذا قصد الجميع من أوّله، أو توصّل به إلى ارتكاب الحرام.
قال: <فالأقوى في المسألة: عدم جواز الارتكاب إذا قصد ذلك من أوّل الأمر؛ فإنّ قصده قصدٌ للمخالفة والمعصية، فيستحقّ العقاب بمصادفة الحرام>( ).
والحقّ: هو التفصيل، فلو شرع المكلّف في الأطراف قاصداً ارتكاب جميعها، ولو في طول سنين متطاولة، لم يكن معذوراً؛ لأنّ التكليف بعد باقٍ على فعليّته، وكذا لو قسّم أطراف الشبهة غير المحصورة إلى أقسامٍ معدودة ومحصورة، وأراد ارتكاب بعض الأقسام الذي تكون نسبته إلى سائر الأقسام نسبةً محصورة، كما لو كانت الأطراف عشرة آلاف ـ مثلاً ـ فقسّمها إلى عشرة أقسام، فإنّه يكون حكمها حكم الشبهة المحصورة، ولا يكون معذوراً فيه، فلا يجوز له ارتكاب بعض أطرافه، فضلاً عن جميعه.

الأمر الخامس: في ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة:
وتحقيق الحال فيه في بيان نقاط:
النقطة الأُولى:
أنّ البحث هنا هل هو مختصّ بملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة، أم يأتي ـ أيضاً ـ في ملاقي بعض أطراف الشبهة غير المحصورة؟
قد يتصوّر: أنّه بملاحظة ما اشتهر على الألسنة، وما اشتهر في كتب الأعلام من عنونة هذه المسألة بأنّ <ملاقي الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة>، فالبحث لابدّ وأن يكون مختصّاً بها وغير شامل للشبهة غير المحصورة، قال السيّد اليزديّ في العروة: <ملاقي الشبهة المحصورة لا يحكم عليه بالنجاسة، لكنّ الأحوط الاجتناب>( ).
ولكنّ صاحب الكفاية جعل البحث أعمّ، بحيث يشمل ملاقي بعض أطراف الشبهة، سواء كانت محصورة أم غيرها؛ فإنّ من خصّ البحث بالشبهة المحصورة كان ناظراً إلى أنّ تنجيز العلم الإجماليّ يدور مدار حصر الأطراف.
وأمّا من كان يرى المدار في تنجيزه على فعليّة التكليف، كما هو مختار الآخوند( )، فقد عمّم البحث، وجعله متناولاً لملاقي أطراف الشبهة التي تنجّز فيها التكليف، محصورةً كانت أم لا.
والنقطة الثانية:
هل تعدّ الملاقاة سبباً وعلّة لحدوث النجاسة في الملاقي، ليكون حالها حال سائر الأسباب والعلل التكوينيّة التي تترتّب عليها مسبّباتها ومعلولاتها تكويناً، وبلا حاجةٍ إلى جعل من الشارع؟
من الواضح: أنّه إذا قلنا بذلك، فإنّ الملاقي يكون نجساً بسبب الملاقاة، لا أنّ نجاسة الملاقي تكون حكماً مجعولاً من الشارع مستقلّاً وفي عرض الحكم بنجاسة ما لاقاه.
غير أنّه لا يخفى: أنّ هذا غاية في الضعف والسقوط؛ إذ إنّ نجاسة الملاقي هي، كنجاسة الملاقاة، من الاُمور والمجعولات الشرعيّة، وليست من الأسباب التكوينيّة.
قال الشيخ الأعظم في رابع تنبيهات الشبهة المحصورة:
<الرابع: أنّ الثابت من كلٍّ من المشتبهين ـ لأجل العلم الإجماليّ بوجود الحرام الواقعيّ فيهما ـ هو وجوب الاجتناب؛ لأنّه اللّازم من باب المقدّمة من التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعيّ، أمّا سائر الآثار الشرعيّة المترتّبة على ذلك الحرام فلا تترتّب عليهما>.
إلى أن قال: <وهل يحكم بتنجّس ملاقيه؟ وجهان، بل قولان، مبنيّان على أنّ تنجيس الملاقي إنّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس>.
إلى قوله: <أو أنّ الاجتناب عن النجس لا يراد به إلّا الاجتناب عن العين>( )، أي: فعلى الأوّل يجب الاجتناب، وعلى الثاني لا يجب.
والصحيح: هو الثاني؛ فإنّ ظهور مثل: (اجتنب عن النجس)، هو نفس العنوان، أعني: عنوان الاجتناب عن العين، ولا يستفاد منه المعنى الأعمّ، أي: ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه أيضاً.
ومن هنا ما يقال: من أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) إنّما جاء من قبل وجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح)، أي: أنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي (بالكسر) هو من شؤون وجوب الاجتناب عن الملاقى (بالفتح)، لا أنّه لا يحصل امتثال الخطاب بالاجتناب عن النجس إلّا بالاجتناب عن ملاقيه، كما يستفاد من استدلال السيّد أبو المكارم ابن زهرة في الغنية( ) على أنّ الماء القليل يتنجّس بملاقاة النجاسة، بما دلّ على وجوب هجر النجاسة، كمثل قوله تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾( ).
فإنّ استدلاله على ذلك لا يتمّ إلّا بناءً على أنّ وجوب الاجتناب يقتضي وجوب نجاسة ملاقيه؛ لما نقلناه من الوجه، وحاصله: أنّ الاجتناب عن النجس يراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه، ولو بوسائط.
ولكنّك عرفت، أنّ الذي يظهر من مثل الآية الكريمة إنّما هو وجوب الاجتناب عن نفس النجس، أمّا الملاقي له فلا؛ لأنّ أقصى ما تدلّ عليه الآية هو وجوب الاجتناب عن الرجز، ولا تدلّ على وجوب الاجتناب عن ملاقي الرجز.
ثمّ إنّه لا يمكن أن نجعل عنوان الملاقي للنجس موضوعاً آخر يحكم الشارع عليه بالنجاسة في عرض سائر ما حكم عليه بالنجاسة، كالبول والغائط من حيوانٍ غير مأكول اللّحم، عدا الطيور.
والسرّ في ذلك: أوّلاً: أنّ الفقهاء حينما عدّوا النجاسات لم يعدّوا الملاقي للنجس من جملتها.
وثانياً: أنّ المستفاد من الأدلّة هو أنّ هذه النجاسة آتية من قبل ما لاقاه من النجس، وهذا هو المرتكز في أذهان المتشرّعة.
فإن قيل: إنّ النجاسة تسري من الملاقي إلى ملاقيه، فكأنّ موضوع النجاسة كان قبل الملاقاة ضيّقاً، وبعد الملاقاة صار أوسع، فشمل الملاقي ـ أيضاً ـ.
قلت: هذا الكلام إنّما يتمّ بالنسبة إلى الأعراض الخارجيّة، فإنّه ـ حينئذٍ ـ يكون ممكناً، بل وواقع كثيراً، فما يكون موجوداً في الشيء من اللّون أو الطعم أو الرائحة أو غير ذلك ربّما يسري من الملاقي إلى الملاقي، فتتّسع دائرة موضوع هذا العرض.
وأمّا في محلّ البحث، فالنجاسة لمّا كانت من المجعولات الشرعيّة، وإن كان جعلها لوجود مفسدة في عدم الاجتناب عنها، إلّا أنّ هذا الجعل المتعلّق بها هو كسائر الأحكام والمجعولات الشرعيّة يكون ناشئاً عن مفسدةٍ وملاكٍ أوجبه.
نعم، لو قلنا بأنّ النجاسة هي من الموضوعات الخارجيّة التي كشف عنها الشارع، لكان الكلام المذكور صحيحاً بلا إشكال.
ثمّ لو تنزّلنا وقلنا بالسراية، فالنجاسة في الملاقي ليست إلّا حكماً مجعولاً على عنوان الملاقي للنجس، ولكنّ ملاك الجعل إنّما هو جهة تأثير النجس الذي جاء من قبل الملاقي، ومعنى ذلك: أنّه بسبب الملاقاة مع النجس أو المتنجّس ـ على القول بأنّ ملاقي المتنجّس متنجّس أيضاً ـ فإنّ أمراً أو مفسدةً ما قد حصلا تكويناً في الملاقي بحيث أوجب حكم الشارع بنجاسته.
وأمّا القول بأنّ الملاقاة علّة تكوينيّة لحدوث ملاك جعل النجاسة في الملاقي، أو بانبساط النجاسة في الملاقي على ملاقيه أيضاً، فهو بظاهره غير معقول، إلّا إن كان العرف يرى أنّهما بالملاقاة يصبحان موضوعاً واحداً، ولكنّ هذا معلوم العدم؛ فإنّ الاصبع المتنجّس ـ مثلاً ـ إذا لاقاه الماء القليل، فإنّه يتنجّس الماء، مع وضوح عدم وحدة الملاقي ـ بالكسر ـ مع الملاقى ـ بالفتح ـ فهذا القول واضح الفساد.
وأمّا الأخبار التي يظهر منها السراية، فالمراد منها: أنّ نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ تكون منشأ لحصول الملاك والمفسدة التي على أساسها قام الشارع بجعل النجاسة في الملاقي ـ بالكسر ـ. ومن هذه الجهة يطلق عليها اسم السبب والمؤثّر، فإذا كان المقصود من استناد نجاسة الملاقي إلى الملاقى ـ بالفتح ـ هو هذا المعنى، فيصحّ.
ولكن مع ذلك، فهذا الكلام لا يأتي في صورة ملاقاة بعض أطراف الشبهة المحصورة، فيما لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، وقلنا بأنّ العلم الإجماليّ يكون علّة تامّة لتنجّز التكليف المحتمل في جميع الأطراف، فوجوب الاجتناب عن كلٍّ من الطرفين أو الأطراف بخصوصه، إنّما هو لتحصيل العلم بالاجتناب عن النجس الواقعيّ بينهما، ولا يحكم في شيء من الطرفين أو الأطراف بخصوصه بالنجاسة، لا ظاهراً ولا واقعاً.
أمّا واقعاً؛ فلعدم إحراز نجاسته بالخصوص، للجهل بكون النجس الواقعيّ في هذا الكأس أو في ذاك.
وأمّا ظاهراً؛ فلعدم ثبوت النجاسة فيه بخصوصه بأمارة أو أصل. وإنّما يجب الاجتناب عن كلٍّ من الطرفين عقلاً.
وعليه: فمقتضى العلم الإجماليّ بالنجس بين الأطراف هو ترتيب خصوص وجوب الاجتناب عن كلٍّ من الطرفين أو الأطراف بحكم العقل، حتى يحصل العلم بالامتثال، وليس هناك مجعول شرعيّ، ولا حكم بالنجاسة شرعاً، فلا سبيل لترتيب سائر الآثار الشرعيّة المتعلّقة بالحرام أو النجس عليه؛ لعدم إحراز أنّ التنجّس أو المتنجّس هو هذا أو ذاك بالخصوص.
ولذا، فإنّ ارتكاب أحد أطراف الخمر المعلوم إجمالاً لا يوجب الحدّ، وإن استحقّ العقوبة، إمّا لأجل أنّه قد شرب ما هو خمر واقعاً، أو لأنّه قد أصبح متجرّياً لو لم يكن ما شربه خمراً في الواقع، وإنّما لا يحدّ مع استحقاقه للعقوبة؛ لأنّ موضوع حكم الحاكم الشرعيّ بإقامة الحدّ هو شرب الخمر، ولمّا يُحرز ذلك.
إن قلت: بعد الملاقاة يحصل علم إجماليّ آخر؛ لأنّه يعلم إجمالاً: إمّا بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو بنجاسة طرف الملاقى ـ بالفتح ـ. ولك أن تقول: إنّه بعلم إجمالاً: إمّا بنجاسة المتلاقيين، أو بنجاسة الطرف الآخر، فيجب الاجتناب عن الجميع.
قلت: ثمّة فرق بين حصول هذا العلم الإجماليّ الآخر بعد العلم الإجماليّ الأوّل، وبين حصوله قبله، فإنّه:
إن حصل بعده، فلا أثر له؛ لفرض انحلاله بالعلم الإجماليّ الأوّل.
وإن حصل قبله، فيجب الاجتناب عن الجميع، الملاقي والملاقى وطرف الملاقى ـ بالفتح ـ لأنّه بعد انحلال العلم الإجماليّ المتأخّر بالعلم الإجماليّ المتقدّم، فلا تأثير لهذا العلم، لما عرفنا من أنّه لو تنجّز أحد أطراف العلم الإجماليّ بمنجّز شرعيّ، من أمارة أو أصلٍ شرعيّ، فينحلّ العلم الإجماليّ انحلالاً حكميّاً، وتجري الاُصول المؤمّنة في الطرف أو الأطراف الأُخرى.
النقطة الثالثة:
ينبغي أن يعلم: أنّ هذا البحث مختصّ بما لو كانت الملاقاة مختصّةً ببعض الأطراف دون بعض، كأحد أطراف العلم الإجماليّ، أو كطرفين إذا كان يدور بين أطراف ثلاثة، ضرورة أنّه لو فرضنا أنّ شيئاً واحداً قد لاقى جميع الأطراف، فإنّه لا إشكال في نجاسته حينئذٍ؛ إذ يكون حكمه، وهو النجاسة، معلوماً تفصيلاً.
كما أنّه لا يتمّ إلّا فيما لو لم يكن عدد الملاقي بمقدار عدد الأطراف، وإلّا، يجب اجتناب عن الجميع؛ لأنّه يحصل بهذه الملاقاة علم إجماليّ آخر في عدد الملاقيات أيضاً، فكما يجب الاجتناب عن جميع الأطراف، لتنجّز التكليف فيها بالعلم الإجماليّ، فحيث إنّ الملاقيات صارت أطرافاً لعلم إجماليٍّ آخر، فيجب الاجتناب عن جميعها أيضاً.
النقطة الرابعة:
يشترط في تأتّي هذا البحث أن لا يكون الملاقي ـ بالكسر ـ ظرفاً لعلم إجماليّ آخر، فلو كان كذلك، فلا إشكال في وجوب الاجتناب عنه.
النقطة الخامسة:
أنّ هذا البحث يتوقّف على أن لا يكون للملاقي جهة أُخرى تكون سبباً لوجوب الاجتناب عنه. وأمّا لو كانت كذلك، بأن كانت نجاسته ثابتةً بعلم تفصيليّ أو بأصل شرعيّ، كاستصحاب النجاسة أو أمارة، فلا إشكال ـ حينئذٍ ـ في نجاسة الملاقي ولزوم ترتيب آثار النجس الواقعيّ عليه.
النقطة السادسة:
أنّ محلّ البحث إنّما هو في أنّ الملاقاة مع أحد أطراف ما علم نجاسته إجمالاً، الذي يجب الاجتناب عنه من باب المقدّمة العلميّة، هل يحكم بوجوب الاجتناب عن هذا الملاقي، أم لا؟
والجواب: أنّه بناءً على نجاسة الملاقي، فيما لو علمنا بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ تفصيلاً، بالوجدان أو التعبّد بالسراية، بمعنى: الانبساط واتّساع دائرة موضوع النجس، فلا إشكال في وجوب الاجتناب عنه، أي: عن الملاقي، فإنّه كما يجب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ يجب الاجتناب عنه هو أيضاً، ويكون المقام بمثابة ما إذا جعل الكأس الذي هو أحد أطراف العلم الإجماليّ كأسين، فإنّه بعد جعله كأسين، لا يخرج عن كونه طرفاً، بل كلا الطرفين طرف واحد من أطرافه.
نعم، لو بنينا على أنّ نجاسة الملاقي من المجعولات الاستقلاليّة، وإن كان منشأ هذا الجعل وملاك المجعول قد حدث فيه بواسطة الملاقاة وتأثيره فيه، فتكون نجاسة الملاقي مشكوكة، ومن هنا ذهب الاُستاذ المحقّق إلى أنّه تجري فيه ـ حينئذٍ ـ قاعدة الطهارة بلا إشكال( )؛ لعدم تبيّن الملاك.
لا يقال: ففيما لو كشفنا الملاك فيكون الاجتناب واجباً، وإن لم نعلم بورود الأمر.
فإنّه يقال: قد ذكرنا مراراً أنّه لا سبيل إلى العلم بالملاك إلّا مع وجود الأمر.
في صور الملاقاة:
تارةً: يكون الواجب هو الاجتناب عن الملاقي دون الملاقى، وثانيةً: بالعكس، وثالثةً: يجب الاجتناب عن كليهما، فالصور ثلاث:
وملخّص البحث في هذه الصور:
أنّ العلم بنجاسة بالملاقي، إن حصل قبل العلم الإجماليّ بنجاسة الملاقي وصاحبه، فإنّه يدخل في أطراف العلم الإجماليّ، فتقع المعارضة بين الأصل الجاري في الملاقي وبين الأصل الجاري في الطرف الآخر، أي: طرف الملاقى.
وإذا حصلت الملاقاة بعد العلم الإجماليّ، فإنّ الأصلين اللّذين يجريان في الملاقى والطرف الآخر يتساقطان، وبما أنّ الأصل الجاري في الملاقى سببيّ، والأصل الجاري في الملاقي مسبّبيّ، فيكون بينهما تقدّم وتأخّر في الرتبة، ففي الرتبة السابقة على جريان أصالة الطهارة في الملاقي، يتعارض أصل الطهارة في الملاقى مع أصل الطهارة في طرفه، فيتساقطان؛ لكونهما في رتبة واحدة، ومع تعارضهما وتساقطهما، يبقى الأصل الجاري في ا لملاقي بلا معارض.
وبعبارة أُخرى: فإنّ العلم الإجماليّ بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو طرفه، لمّا كان متقدّماً على العلم الإجماليّ بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى ـ بالفتح ـ فلا محالة: لا يكون هذا العلم الثاني منجّزاً، وذلك لتنجّز طرف الملاقى ـ بالفتح ـ من قبل العلم الإجماليّ الأوّل، فلا يكون العلم الإجماليّ الثاني مؤثّراً التنجيز في هذه الصور بالنسبة إليه، كما لا يكون مؤثّراً بالنسبة إلى الملاقي أيضاً.
فإذا عرفت ذلك، فلابدّ من معرفة الاحتمالات في كيفيّة تنجّس الملاقي، وفي المقام احتمالات عدّة:
الأوّل: أن تكون الملاقاة سبباً لحدوث النجاسة في الملاقي، على حدّ الاُمور التكوينيّة، ومن أسبابها وعللها.
ويردّه ـ كما أسلفنا ـ: أنّا نعلم بأنّ نجاسة الملاقي بسبب الملاقاة، هي كأصل نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ من الاُمور الجعليّة والأحكام الشرعيّة، وليست من الاُمور والأسباب التكوينيّة.
الثاني: أن يقال بأنّ عنوان ملاقي النجس موضوع آخر حكم الشارع فيه بالنجاسة في عرض سائر النجاسات.
وفيه ـ كما ذكرنا سابقاً ـ: أنّ الفقهاء لم يذكروا عنوان ملاقي النجس في عداد النجاسات، كما مرّ. كما أنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة ومعاقد الإجماعات إنّما هو أنّ النجاسة الواردة على الملاقي إنّما حصلت له من قبل ملاقاته للنجس.
الثالث: أن يقال بتوسيع دائرة النجس، بمعنى: النجاسة الموجودة في النجس قد انبسطت وسرت إلى ملاقيه، فبعد أن كان موضوع هذه النجاسة قبل ذلك ضيّقاً ومختصّاً بالملاقى، فهو ـ الآن ـ قد أصبح واسعاً بحيث يشمل الملاقي أيضاً.
ويردّه ـ كما عرفنا آنفاً ـ: أنّ هذا الكلام إنّما يتمّ بالنسبة إلى الاُمور التكوينيّة، كاللّون أو الطعم أو الرائحة، فإنّ هذه الاُمور الواردة على موضوعاتها يمكن أن تتعدّى من الملاقى إلى ملاقيه بعد حصول الملاقاة، بل وحتى ولو لم تحصل ملاقاة فعليّة ـ أيضاً ـ كما إذا كانت الميتة ـ مثلاً ـ بجنب الحوض، فإنّ ماءه يكتسب رائحة الميتة ولو لم تحصل الملاقاة، فتتّسع دائرة موضوع هذا العرض، وهكذا، حتى ينعدم كلّيّاً بحسب النظر العرفيّ.
وأمّا لو قلنا بأنّ النجاسة ـ كما هو الحقّ ـ هي من المجعولات الشرعيّة، وإن كان جعلها لأجل وجود مفسدة في ترك الاجتناب عنها، كسائر الأحكام الشرعيّة التي تكون في جعلها تابعة للمصالح والمفاسد، ومجعولة عن ملاك لاحظه المولى في متعلّقاتها، فلا يكون لها ـ حينئذٍ ـ القابليّة للانبساط والسراية.
اللّهمّ إلّا بأن يصير الملاقي والملاقى أمراً واحداً عرفاً، كالماء النجس الذي يطهر بملاقاته للكرّ؛ لأنّ العرف يراهما بعد الملاقاة ماءً واحداً، أو لأنّ الشارع جعلهما شيئاً واحداً بالتنزيل والتعبّد، على حدّ (الطواف بالبيت صلاة)، بأن جعل الطواف وجوداً تنزيليّاً للصلاة، فصار ـ لذلك ـ يترتّب عليه من الحكم ما يترتّب على الصلاة.
ولكن يمكن أن يستدلّ بما رواه عمرو بن شمر عن جابر الجعفيّ عن أبي جعفر، قال: <أتاه رجل فقال له: وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت، فما ترى في أكله؟ فقال أبو جعفر: لا تأكله، فقال الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها، قال: فقال له أبو جعفر: انّك لم تستخفّ بالفأرة، وإنّما استخففت بدينك، إنّ اﷲ حرّم الميتة من كلّ شيء>( ).
فإنّ ما يظهر من هذه الرواية هو السراية، أعني: سراية النجاسة من الملاقي ـ بالفتح ـ للملاقي، وأنّ الملاقاة تكون منشأً لحصول ملاك جعل النجس في الملاقي، والرواية، وإن كانت ضعيفة، ولكنّها تكون مؤيّدة لما هو المرتكز في الأذهان من أنّ منشأ النجاسة في الملاقي نجاسة الملاقى، حيث جعلت الرواية ترك الاجتناب عن هذا الطعام الذي وقعت فيه الفأرة استخفافاً بالدين، معلّلاً ذلك بأنّ اﷲ حرّم الميتة من كلّ شيء، ولولا أنّ نجاسة الميتة ووجوب الاجتناب عنها يقتضي وجوب الاجتناب عن الطعام الملاقي لها، لم يكن معنى لجواب الإمام بذلك.
ولو فرض أنّ نجاسة الملاقي للميتة ليست لأجل السراية، وإنّما لكونها فرداً آخر للنجاسة مستقلاً، تثبت بتعبّد آخر صادر من الشارع وراء التعبّد بالميتة، ما كان الإمام ليعلل بأنّه استخفاف بتحريم الميتة، إذ بناءً على هذا الفرض المذكور، فإنّ نجاسة الملاقي لا يكون لها ربط أصلاً بنجاسة الملاقى، حتى يكون ترك الاجتناب استخفافاً بحرمة الميتة.
وعليه: فالرواية ظاهرة في أنّ نجاسة الملاقى بنفسها تكون سبباً ومؤثّراً لنجاسة الملاقي.
وأمّا ما قيل: من أنّه <يمكن أن يكون وجه السؤال عن الطعام الذي وقعت فيه الفأرة هو الجهل بنجاسة الفأرة، لا تنجيسها، فأراد السائل أن يستعلم نجاسة الفأرة، غايته: أنّه لما كان مغروساً في ذهنه نجاسة الملاقي للنجس، استعلم نجاسة الفأرة بالسؤال عن الطعام الذي وقعت فيه، فأعلمه الإمام بنجاسة الفأرة على طبق ما كان مغروساً في ذهنه، فقال: (لا تأكله)، ثمّ إنّ السائل استخفّ بنجاسة الفأرة بقوله: (الفأرة أهون علي من أن أترك طعامي لأجلها)، فأجابه الإمام بأنّ الاستخفاف بنجاسة الفأرة استخفاف بالدين؛ لأنّ اﷲ تعالى حرّم الميتة من كلّ شيء...>( ).
ففيه: أنّ الظاهر أنّ نجاسة الفأرة كانت مركوزة في ذهن السائل.
ولذا قال الاُستاذ المحقّق: <وأمّا الأخبار الظاهرة في السراية، فالمراد منها: أنّ نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ منشأ لحصول ملاك جعل النجاسة في الملاقي ـ بالكسر ـ، ومن هذه الجهة أُطلق عليها السبب والمؤثّر، وبهذه العناية يصحّ استناد نجاسة الملاقي إلى الملاقى ـ بالفتح ـ >( ).
ويؤيّد ذلك: أنّ السائل في الرواية قال: <الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها>، أي: من أجل الميتة، وقال له الإمام بما حاصله: أنّك لو أكلت ذلك الطعام لكنت مستخفّاً بشيءٍ ممّا حرّمه اﷲ، وهو استخفاف بأحكام اﷲ تعالى.
ويؤيّد ما ذكرناه من الارتكاز ـ أيضاً ـ: ما يقولونه من أنّ الماء العالي الوارد على النجس، لا يتنجّس، وإن كان قليلاً؛ لأنّ العرف لا يرى السراية من الداني إلى العالي.
وقد تحصّل بما ذكرناه: أنّ التصرّف في بعض الأطراف لا يكون حراماً شرعاً، وإنّما هو حرام عقلاً، فلا يكون في صورة عدم الموافقة والمصادفة للواقع موجباً للفسق، إلّا بناءً على حرمة التجرّي.
نعم، لو قلنا بحرمة التجرّي، فهذا الحكم العقليّ بوجوب الاجتناب عن جميع الأطراف هل يوجب بطلان البيع وفساده فيما لو باع بعض الأطراف أم لا؟
الحقّ: أنّه لو كان هناك أصل سببيّ، كأصالة عدم الملكيّة أو أصالة عدم السلطنة، ولم يكن لهذا الأصل معارض في الطرف الآخر، فإنّه يقدّم على أصالة الصحّة، ويحكم معه بفساد البيع.
وأمّا لو لم يكن مثل هذا الأصل موجوداً، فالكلام تارةً في مقام الثبوت وأُخرى في مقام الإثبات.
أمّا في مقام الثبوت: فإن صادف وقوع البيع على ما هو المغصوب في الواقع، كان البيع فاسداً، وإلّا، فلا.
وأمّا في مقام الإثبات، فإن قلنا بأنّ العلم الإجماليّ بالنسبة إلى تنجّز التكليف المحتمل في الأطراف علّة تامّة، فلا معنى لجريان أصالة الصحّة، ولو في طرف واحد، وبلا معارض، فتجري ـ حينئذٍ ـ أصالة الفساد.
وإن قلنا بالاقتضاء، لا العلّيّة التامّة، فلا مانع من جريان أصالة الصحّة؛ لعدم معارضتها بجريان مثلها في الطرف الآخر، لعدم وقوعها، أي: المعاملة، على سائر الأطراف، كما هو المفروض.
ثمّ إنّه لا يخفى: أنّه بعد الالتزام بعدم جواز التصرّف في نفس الأطراف من باب المقدّمة العلميّة، فالمنع يأتي بالنسبة إلى المنافع أيضاً، لو علم بغصبيّة أحدها، سواء كان لها وجود استقلاليّ، كالثمرة بالنسبة إلى الشجرة، أو اللّبن بالنسبة إلى الغنم ومطلق ذي اللّبن، أم لم يكن لها وجود استقلاليّ، كسكنى الدار أو ركوب الدابّة أو السفينة أو السيارة أو أمثالها، فيجب الاجتناب عن جميعها بحكم العقل ـ أيضاً ـ من باب المقدّمة العلميّة؛ للاجتناب عن الحرام المعلوم في البين.
وينبغي أن يُعلم هنا: بأنّ منجّزيّة العلم الإجماليّ منوطة بتعلّقه بأحد أمرين: إمّا بتكليف فعليّ على كلّ تقدير، بمعنى: تنجّز التكليف المعلوم بالإجمال وفعليّته في أيّ طرف من الأطراف كان، كالعلم بوجوب الظهر أو الجمعة، وإمّا بما هو تمام الموضوع للحكم الفعليّ، كالعلم بخمريّة أحد الإناءين. فيجب ـ حينئذٍ ـ ترتيب آثار المعلوم بالإجمال في كلّ ما يكون مقدّمة لتحقّق العلم بالامتثال.
وأمّا إذا لم يتعلّق بما هو تمام الموضوع، بل تعلّق بما هو جزء الموضوع للحكم الشرعيّ، لم يكن العلم الإجماليّ منجّزاً، كما إذا علم إجمالاً بأنّ أحد الجسدين ميّت إنسانٍ والآخر جسد حيوان؛ فإنّ هذا العلم الإجماليّ لا يكون منجّزاً، ولا يوجب حكم الشارع بوجوب غسل مسّ الميت؛ لأنّ حكمه مترتّب على مسّ ميت الإنسان، وهذا العلم الإجماليّ بحسب الفرض لم يثبت إلّا جزءاً من موضوع هذا الحكم، وهو أنّ الممسوس ميت. وأمّا جزؤه الآخر، وهو كونه إنساناً، فهو لم يُعلم حتى يتنجّز حكمه؛ لاحتمال أن يكون الممسوس جسد الحيوان، ومعه: فيجري الأصل النافي ـ من قبيل أصالة عدم تحقّق موجب الغسل أو أصالة البراءة عن وجوبه ـ بلا معارض.
وهذا مسلّم كبرويّاً، وإنّما وقع الكلام بينهم في تطبيق هذه الكبرى على بعض الموارد، ومنها: أنّه هل يحكم بنجاسة ملاقي بعض الأطراف، ويعطى حكم الملاقي لعين النجس في وجوب الاجتناب عنه أم لا؟
فيقال: إنّه لمّا كان حكم الشارع بالتنجّس منوطاً بما إذا كانت الملاقاة لعين النجس على وجه خاصّ، والمفروض عدم إحراز هذا الموضوع في ملاقي بعض الأطراف، فلا وجه للحكم بالنجاسة.
وكيف كان، فبعد أن ظهر الفرق بين القول بالسراية وبين القول بالتعبّد، فقد ذكر الشيخ الأعظم أنّ الحكم بتنجّس ملاقي أحد المشتبهين يبتني على هذين القولين، قال:
<وهل يُحكم بتنجّس ملاقيه؟ وجهان، بل قولان مبنيّان على أنّ تنجّس الملاقي إنّما جاء من وجوب الاجتناب عن ذلك النجس، بناءً على أنّ الاجتناب عن النجس يُراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه، ولو بوسائط...>.
إلى أن قال: <أو أنّ الاجتناب عن النجس لا يراد به إلّا الاجتناب عن العين، وتنجّس الملاقي للنجس حكم وضعيّ سببيّ يترتّب على العنوان الواقعيّ من النجاسات، نظير وجوب الحدّ للخمر، فإذا شكّ في ثبوته للملاقي، جرى فيه أصل الطهارة وأصل الإباحة>( ).
وأورد عليه صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل بمنع ابتناء القولين على المبنيين المذكورين، بقوله:
<لا يخفى: أنّ تنجّس الملاقي للنجس، ولو جاء من قبل وجوب الاجتناب عنه، بأن كان الخطاب الدالّ على وجوب الاجتناب عنه دالّاً على وجوب الاجتناب عن ملاقيه عرفاً، غير مستلزم للحكم بنجاسة ملاقي أحد الطرفين؛ لأنّ العقل الحاكم في الباب بوجوب الاجتناب إنّما يحكم به من باب المقدّمة العلميّة، وهذا الباب منسدّ في طرف الملاقي، فكيف يتعدّى حكمه إلى ما ليس فيه ملاكه ومناطه؟! فتأمّل جيّداً>( ).
ومحصّل كلامه: أنّ نجاسة الملاقي تتوقّف على سراية النجاسة من الملاقى المعلوم النجاسة إليه، حتى يكون الملاقي محكوماً بحكم الملاقى، والمفروض أنّ الملاقاة كانت لما هو محتمل النجاسة بالاحتمال المنجّز؛ لوقوعه طرفاً من أطراف العلم الإجماليّ، ولم تكن ملاقاة لمعلوم النجاسة حتى يحكم بنجاسته، فلا وجه ـ حينئذٍ ـ لتسرية الحكم إلى الملاقي؛ لما عرفت من أنّ تمام الموضوع لحكم الشارع بالنجاسة بوجوب الاجتناب عن الملاقي إنّما هو ملاقي النجس أو المتنجّس ـ بناءً على أنّ المتنجّس ينجّس ـ وهو ما لم يحرز بعد حتى يكون مشمولاً للدليل.
ولكن فيه: أنّ السراية سبب لاتّحاد المتلاقيين في الحكم، وليس المراد إثبات الحكم الشرعيّ بنجاسة الملاقي حتى يقال: إنّه هنا لم يُلاقِ معلوم النجاسة أو التنجّس، وإنّما لاقى محتمل النجاسة، فلا يحكم بنجاسته.
وإنّما المراد إثبات كونه متنجّزاً كتنجّز ملاقيه، وإثبات دخوله تحت عموم منجّزيّة العلم الإجماليّ؛ فإنّ مناط وجوب الاجتناب عن الأطراف عقلاً هو المقدّميّة، وهذا المناط موجود كلٍّ من الملاقي والملاقى على وزانٍ واحد.
وبالجملة: فإنّ منجّزيّة العلم الإجماليّ لا تقتضي أزيد من لزوم رعاية المعلوم الذي يكون منجّزاً في كلّ طرفٍ من أطرافه، وكلّ ما يكون مقدّمة علميّة لإحراز امتثاله، كما هو كذلك بناءً على السراية بمعنى الانبساط، وأمّا ما لا يكون مقدّمة علميّة له، كما هو كذلك بناءً على التعبّد، فلا يؤثّر فيه العلم الإجماليّ.
ومن هنا يتّضح ما ذكرناه سابقاً: من أنّه لو شرب أحد الكأسين المعلوم بخمريّة السائل في أحدهما، فلا يحدّ، وإن صادف ما شربه الخمر الواقعيّ، ولو كان أصل الشرب منهما غير جائز، سواء قلنا بالعلّيّة التامّة للتنجّز أو بالاقتضاء، كما أنّه لو قلنا بعدم الاقتضاء أيضاً؛ لأنّ موضوع الحدّ ليس هو الخمر الواقعيّ، وإنّما موضوعه ما ثبتت خمريّته عند الشارب بطريق معتبر من علمٍ أو علميّ.
نعم، لو شرب من جميع الأطراف، مع الالتفات، يحدّ.
ثمّ إنّه لا فرق في عدم جواز الاستفادة من المنافع، متّصلةً كانت أم منفصلة، لا فرق بين فرض وجود العين الأصليّة، التي هي طرف العلم الإجماليّ، وبين فرض تلفها، أو خروجها عن محلّ الابتلاء؛ لأنّ العلم الإجماليّ بعدما نجّز التكليف المعلوم بالإجمال، وسقطت الاُصول بالمعارضة بناءً على القول بالاقتضاء، أو لم تجرِ أصلاً بناءً على القول بالعلّيّة التامّة.
ولكن أورد عليه اُستاذنا المحقّق بما حاصله ـ بتوضيحٍ منّا ـ:
بأنّه بناءً على القول بالعلّيّة: فوجود العلم الإجماليّ المنجّز في زمان ما، لا يكفي للتنجّز إلى الأبد، بل لابدّ من وجوده في كلّ زمان يحتاج إلى وجود المنجّز في ذلك الزمان.
ولا يمكن ـ بحسب الفرض ـ أن نثبت ذلك إلّا من خلال العلم الإجماليّ المؤرّب، كما في باب التدريجيّات، بأن يكون هذا الطرف يجب الاجتناب عنه الآن، أو ذلك الآخر في الزمان المتأخّر، كما لو وقع منه معاملتان، إحداهما في أوّل الشهر، والأُخرى في آخره، ويعلم إجمالاً ببطلان إحدى المعاملتين. بل وكذلك على القول بالاقتضاء( ).
وقد يقال هنا: إنّ الاُصول قد سقطت بالمعارضة قبل تلف بعض الأطراف، أو قبل خروجها عن محلّ الابتلاء، ومع سقوطها بالمعارضة، فلا مجال لعودها بعد التلف أو بعد خروجه.
ولكنّ هذا ـ كما أفاد اُستاذنا المحقّق ـ كلام ظاهريّ لا أساس له من الصحّة( ).
ثمّ قال:
<كلّ ما ذكرنا كان مبنيّاً على العلم بأنّ وجوب الاجتناب عن الملاقي للنجس هل هو من جهة سراية النجاسة من الملاقى ـ بالفتح ـ إليه، أو من جهة حكم الشارع بنجاسته مستقلّاً من دون سراية النجاسة من الملاقى ـ بالفتح ـ إليه>( ).

الأمر السادس :العلم الإجماليّ في التدريجيّات:
قد ظهر ممّا ذكرنا: أنّه لا فرق في منجّزيّة العلم الإجماليّ للتكليف في جميع الأطراف بين أن تكون أطرافه دفعيّة الوجود، كما في نجاسة أحد الكأسين الموجودين، أو تدريجيّة الوجود، وكذلك لا يُفرّق في تدريجيّ الوجود بين أن يكون الزمان دخيلاً في الملاك، كالحيض في أوّل الشهر أو في آخره في مستدام الدم، أو لم يكن كذلك، كما لو علم إجمالاً بفساد إحدى المعاملتين؛ لأنّها ربويّة، إمّا معاملته التي أنجزها في أوّل الشهر، أو في آخر الشهر؛ فإنّه على جميع هذه التقادير، تثبت منجّزيّة العلم الإجماليّ لجميع الأطراف.
أمّا إذا لم يكن الزمان المتأخّر دخيلاً في الملاك، فإنّه يعلم الآن بوجود ملاك النهي والمفسدة، ومع القطع بوجود الملاك تتنجّز كافّة الأطراف ببركة العلم الإجماليّ.
وأمّا في هذه المعاملة التي تقع في أوّل الشهر أو في آخره، فإنّه، وإن لم يكن له علم بوجود النهي المتوجّه إليه الآن ـ بناءً على عدم تعيّنه وإنكاره الواجب المعلّق ـ فلأنّه يعلم الآن بفساد هذه المعاملة التي تصدر في آخر الشهر تدريجاً.
ومعه: يحكم العقل بوجوب الاجتناب عن تلك المعاملة التي لها مفسدة لازمة الترك، بلا فرق بين أن تنطبق على المعاملة الاُولى أو الثانية، فيجب الاجتناب عن جميع المحتملات حتى يحصل له اليقين بالاجتناب عن المعاملة المشتملة على تلك المفسدة اللّازمة الترك.
وأمّا ما يكون الزمان فيه دخيلاً في الملاك، فقد يقال:
بأنّه تجري في جميع أطرافه أصالة الحلّ أو البراءة؛ لأنّه لا تعارض بين الأصلين؛ إذ ليس هناك خطاب فعليّ معلوم، ولو إجمالاً، في البين في زمان جريان كلّ واحدٍ منهما؛ إذ في ظرف فعليّة كلّ طرف، فالطرف الآخر يكون خارجاً عن محلّ الابتلاء، ولكن بما أنّه يعلم أنّه بإجراء الأصل في جميع الأطراف يكون سبباً لوقوعه في المفسدة التي هي لازمة الترك، فالعقل يحكم بلزوم الاجتناب عن جميع الأطراف.
فلا فرق في نظر العقل بين أن يعلم ـ مثلاً ـ بأنّ وطء إحدى زوجاته الآن حرام ومبغوض للمولى للعلم إجمالاً بأنّ إحداهما الآن في زمان حيضها، وبين أن يعلم إجمالاً بأنّ وطء هذه الزوجة المعيّنة، إمّا مبغوض في أوّل الشهر ـ مثلاً ـ أو في آخره، مع أنّ الزمان المتأخّر دخيل في خطاب المتأخّر وملاكه قطعاً.
ومن الواضح: أنّه لا يمكن قياس المقام على الشبهة البدويّة التحريميّة التي يحصل فيها العلم بالمخالفة بعد الارتكاب؛ إذ هناك لا حكم للعقل بوجوب الاجتناب؛ لمكان الجهل وعدم وجود منجّزٍ في البين.
وأمّا فيما نحن فيه، فإنّ علم المكلّف بوجود المبغوضيّة في إحدى المعاملتين وترتّب المفسدة معلومة على الارتكاب، إمّا بهذا الفعل أو بالفعل في الزمان المتأخّر، يكون كافياً في البيان والتنجّز، ومعه: فلابدّ من ترك جميع الأطراف؛ لمنجّزيّة العلم الإجماليّ.
وأمّا الشيخ الأعظم فيظهر منه أنّه يجري البراءة أو الإباحة في هذا القسم، أعني: ما إذا كان الزمان المتأخّر دخيلاً في الخطاب المتأخّر، وبناءً على ذلك، فلا يكون هناك فرق بين جريان الأصل في بعض الأطراف، أعني: المخالفة الاحتماليّة، وبين إجرائه في جميع الأطراف، أعني: المخالفة القطعيّة، وذلك لوحدة المناط في كليهما.
فعلى هذا المبنى، وهو البناء على عدم منجّزيّة العلم الإجماليّ هنا وإمكان جريان الأصل النافي، فإذا علم إجمالاً بأنّ إحدى معاملاته التي ستصدر منه في هذا الشهر تكون ربويّةً، أمكن جريان أصالة الحلّ في الجميع، وكذلك، تجري أصالة البراءة عن المحرّمات على الحائض في جميع الأطراف أيضاً.
قال الشيخ الأعظم: <وحيث قلنا بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة التدريجيّة، فالظاهر جواز المخالفة القطعيّة؛ لأنّ المفروض عدم تنجّز التكليف الواقعيّ بالنسبة إليه، فالواجب الرجوع في كلّ مشتبهٍ إلى الأصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه إباحةً وتحريماً>( ).
هذا كلّه بالنسبة إلى الحكم التكليفيّ.
وأمّا من ناحية الحكم الوضعيّ، فالمعاملة تكون باطلة لجريان أصالة الفساد، وعدم حصول النقل والانتقال. ولا ملازمة بين الحلّيّة الظاهريّة وبين النقل والانتقال؛ لأنّ الأوّل ناتج عن جريان أصالة الحلّ، والثاني ناتج عن جريان أصلٍ آخر، وهو أصالة الفساد.
قال الشيخ الأعظم:
<فيرجع في المثال الأوّل إلى استصحاب الطهر إلى أن يبقى مقدار الحيض، فيرجع فيه إلى أصالة الإباحة؛ لعدم جريان استصحاب الطهر، وفي المثال الثاني إلى أصالة الإباحة والفساد، فيحكم في كلّ معاملةٍ يشكّ في كونها ربويّةً بعدم استحقاق العقاب على إيقاع عقدها وعدم ترتّب الأثر عليها؛ لأنّ فساد الربا ليس دائراً مدار الحكم التكليفيّ، ولذا يفسد في حقّ القاصر بالجهل والنسيان والصغر على وجهٍ>( ).
وقد استشكل المحقّق النائيني في جريان أصالة الصحّة الحاكمة على أصالة الفساد بما حاصله: أنّ جريان أصالة الصحّة منوط بوقوع المعاملة خارجاً، فلا تجري قبل وقوعها كما هو الشأن في المقام.
وإليك نصّ كلامه:
<وكذا لا يجوز الرجوع إلى أصالة الصحّة الجارية في العقود إجماعاً، الحاكمة على أصالة عدم النقل والانتقال؛ لأنّ مورد أصالة الصحّة هو العقد الواقع المشكوك في صحّته وفساده، لا العقد الذي لم يقع بعد كما في المقام؛ لأنّه قبل صدور المعاملة في أوّل النهار وآخره يُشكّ في صحّتها وفسادها، والمرجع في مثل ذلك ليس إلّا أصالة عدم النقل والانتقال>( ).
ولكن يجاب عنه: بأنّ هذا الإشكال في غير محلّه؛ لأنّ كلّ معاملة بعد أن أوقعها فيشكّ في ترتيب الأثر عليها، وما تقتضيه أصالة عدم النقل والانتقال هو عدم ترتيب الأثر عليها، غير أنّ مقتضى أصالة الصحّة ـ بعد كونها حاكمة على أصالة عدم النقل والانتقال ـ هو لزوم ترتيب الأثر عليها.
ولكنّ الحقّ: أنّه بعد العلم الإجماليّ بكون إحدى المعاملتين مخالفةً للواقع، فلا محالة: لا يجري شيء من الأصلين؛ إلّا لو قلنا بعدم جريان العلم الإجماليّ في التدريجيّات؛ فإنّه ـ حينئذٍ ـ تكون كافّة المعاملات الواقعة في تمام الشهر صحيحةً وحلالاً، ويكون اللّازم ترتيب الأثر على جميعها.

تنبيهان:
الأوّل:
الكلام في الاحتياط في الشبهات الموضوعيّة في الشرائط والموانع:
لا يخفى: أنّه بعدما قلنا بفعليّة العلم الإجماليّ ومنجّزيّته، فلا يفرّق بين أن يكون الاشتباه والترديد في نفس الماُمور به، كما إذا علم إجمالاً بوجوب الظهر أو الجمعة، أو في قيوده الوجوديّة، التي تسمّى ﺑ (الشرائط)، كالقبلة والساتر، أو العدميّة، المسمّاة ﺑ (الموانع)، كغير مأكول اللّحم. فمثلاً: لو تردّدت القبلة بين أطراف، أو تردّد السائر بين النجس والطاهر، أو مأكول اللّحم وغير المأكول، فيجب تكرار الصلاة إلى حين حصول الموافقة القطعيّة، بأن يكرّر الصلاة إلى الجوانب التي يحتمل أن تكون فيها القبلة، حتى يحصل له اليقين بوقوع صلاته إلى القبلة، أو يجب عليه التكرار إلى أن يحصل له اليقين بوقوع الصلاة في غير النجس، حيث إنّه لا فرق في لزوم الإتيان بما هو الواجب بين أن يكون وجوبه نفسيّاً أو غيريّاً، استقلاليّاً أو ضمنيّاً، فبعد وصول التكليف إليه، فلابدّ من الخروج عن عهدته، والإتيان بما أراده المولى، بجميع قيوده الوجوديّة والعدميّة، كلّ ذلك بحكم العقل.
ففي جميع الصور، يجب عليه الاحتياط والإتيان بالعمل مكرّراً حتى يحصل له الخروج عن عهدة التكليف، وحتى يقطع بحصول الامتثال، إلّا أن يكون عاجزاً عن ذلك، فيسقط عنه ـ حينئذٍ ـ نظراً إلى كونه مشروطاً بالقدرة.
فما نُسب إلى ابن إدريس من الصلاة عارياً عند اشتباه الساتر بالنجس، في غير محلّه.
وكذا ما نسب إلى المحقّق القمّيّ من الفرق بين ما إذا كان دليل القيد الوجوديّ أو العدميّ مثل الأوامر والنواهي الغيريّة، نحو: (لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه)، أو (صلّ مستقبلاً القبلة)، فكلّ من المانعيّة والشرطيّة تسقط عند الاشتباه، وبين أن يكون من قبيل نفي الطبيعة بوجوده أو بعدمه، مثل (لا صلاة إلّا بطهور)، ونحو ذلك، فقال بعدم السقوط عند الاشتباه.
فغير صحيح، كما عرفت وجهه.
نعم، لو فرض أنّ شرطيّة الشرط أو مانعيّة المانع كانت مشروطةً بالعلم التفصيليّ بهما، فيسقطان عند عدمه، وإن حصل العلم الإجماليّ بهما.
وإلّا، ففيما عدا ذلك، فالحقّ ـ كما بيّنّاه ـ أنّه بعد القول بمنجّزيّة العلم الإجماليّ على حدّ العلم التفصيليّ، فلا فرق بين جميع أقسام الواجب في وجوب الاحتياط.

الثاني:
في كيفيّة النيّة في العبادات في الشبهات البدويّة والمقرونة بالعلم الإجماليّ:
فرّق الشيخ الأنصاريّ بينهما، فقال:
<الثاني: أنّ النيّة في كلٍّ من الصلوات المتعدّدة، على الوجه المتقدّم في مسألة الظهر والجمعة، وحاصله:
أنّه ينوي في كلٍّ منهما فعلها احتياطاً؛ لإحراز الواجب الواقعيّ المردّد بينها وبين صاحبها تقرّباً إلى اﷲ، على أن يكون القرب علّةً للإحراز الذي جُعِل غايةً للفعل.
ويترتّب على هذا: أنّه لابدّ من أن يكون حين فعل أحدهما عازماً على فعل الآخر؛ إذ النيّة المذكورة لا تتحقّق بدون ذلك؛ فإنّ من قصد الاقتصار على أحد الفعلين ليس قاصداً لامتثال الواجب الواقعيّ على كلّ تقدير.
نعم، هو قاصد لامتثاله على تقدير مصادفة هذا المحتمل له، لا مطلقاً، وهذا غير كافٍ في العبادات المعلوم وقوع التعبّد بها>( ).
وحاصل ما أفاده: أنّ الشبهة إن كانت مقرونةً بالعلم الإجماليّ، فالإتيان بالعمل باحتمال الأمر به لا يكفي لوقوعه عبادة، بخلاف الشبهة البدويّة، فإنّه فيها يكفي الإتيان به بداعي احتمال أن يكون ماُموراً به.
وبناءً على ذلك، ففيما نحن فيه، وهو الشبهة المقرونة بالعلم الإجماليّ، فلو نوى الإتيان بأحد الأطراف المعلوم وجوبه إجمالاً، فلابدّ وأن يكون ناوياً الإتيان بالطرف الآخر أيضاً.
فلو أتى بأحد هذه الأطراف من دون أن يكون قاصداً للإتيان ببقيّة الأطراف، فضلاً عمّا لو قصد عدم الإتيان بها أصلاً، فلا يكون عمله صحيحاً، ولا يقع عبادة، حتى وإن فرض أنّه اكتشف بعد إتيانه بأحدها بأنّ ما أتى به كان هو الواجب واقعاً؛
إذ لابدّ له من قصد ذلك الأمر المعلوم في البين، والذي من المحتمل أن يكون متعلّقاً بهذا المحتمل الذي جاء به، ويحتمل أن يكون متعلّقاً بالطرف أو الأطراف الأُخرى.
ولازم هذا القصد ـ كما أشرنا ـ: أن يكون عازماً حال الإتيان بأحد الأطراف للإتيان بالبقية، وإلّا لم يصدق عليه أنّه كان قاصداً لذلك الأمر المعلوم في البين، بل إنّما أتى به باحتمال الأمر، وهو لا يفيد؛ إذ لابدّ أن يكون العمل منبعثاً عن ذلك الأمر المعلوم، لا عن احتمال أمرٍ غير معلوم، كما في الشبهات البدويّة.
ولكنّ الحقّ: أنّه لا يمكن له الانبعاث عن ذلك المعلوم بالنسبة إلى هذا المحتمل؛ لأنّه لم يعلم أنّه تعلّق بهذا المحتمل، بل ما هو المعلوم احتمال أن يكون هذا متعلّق ذلك الأمر، فلا يمكن أن يكون الداعي أمراً لم يتعلّق به. فيكون حاله من هذه الناحية حال الشبهة البدويّة.
نعم، بعد أن قلنا بمنجّزيّة العلم الإجماليّ على نحو العلّة التامّة، فتجب الموافقة القطعيّة، فلو لم يأتِ ببقيّة الأطراف، واتّفق أنّ الواجب كان فيها، كان في تركه للبقيّة عاصياً، وإلّا، كان متجرّياً، كما هو كذلك بالنسبة إلى مخالفة سائر الحجج غير المصادفة للواقع.
وبعبارة أُخرى: فإنّ الحكم الشرعيّ المستكشف من الحكم العقليّ وإن فرض تبعيّته للحكم العقليّ إثباتاً، ولكنّه ليس تابعاً له في مقام الثبوت.
نعم، يمكن أن يكون تابعاً لمناطه في عالم الثبوت، كما يمكن أن لا يكون تابعاً لذلك أيضاً، فحتى لو فرض انتفاء مناط الحكم العقليّ، فإنّ مناط الحكم الشرعيّ يمكن أن يكون موجوداً.
ولو فرض فقد قيد من القيود المأخوذة فيما هو الموضوع لحكم العقل، وحكمنا ـ لذلك ـ بانتفاء مناطه، فمجرّد مجيء الاحتمال يكون كافياً في جواز جريان الاستصحاب، بعد تماميّة موضوعه، وهو القطع بالحدوث في الزمان السابق، فيستصحب.

المبحث الثاني: الكلام في الأقلّ والأكثر:
وهما تارةً استقلاليّان، وأُخرى ارتباطيّان.
والشكّ في كلٍّ منهما تارةً يكون في الأسباب والمحصّلات، وأُخرى في الأجزاء، وثالثةً في الشرائط والموانع.
وفي الصورة الاُولى، تارةً تكون الأسباب عقليّة أو عاديّة وأُخرى تكون شرعيّة.
إذا عرفت ذلك، فلا شكّ في جريان البراءة مطلقاً في الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين، بلا فرق بين أن تكون الشبهة وجوبيّة أو تحريميّة، غاية الأمر: أنّه في الشبهة الوجوبيّة تجري البراءة عن الأكثر؛ لأنّ الشبهة بالنسبة إليه تكون بدويّةً، وأمّا في الشبهة التحريميّة فتجري البراءة عن الأقلّ؛ وذلك بسبب انحلال العلم الإجماليّ إلى علم تفصيليّ وشكٍّ بدويّ.
ولكنّ الحقّ: أنّ تسمية مثل هذا العلم بالعلم الإجماليّ لا تخلو من مسامحة؛ بل هو من أوّل الأمر، في الشبهة الوجوبيّة، عبارة عن علم تفصيليّ متعلّق بوجوب الأقلّ، وشكّ بدويٍّ في وجوب الأكثر. وأمّا في الشبهة التحريميّة فبالعكس من ذلك، أي: أنّه علم تفصيليّ بحرمة الأكثر وشكّ بدويّ في حرمة الأقلّ. ففي الشبهة الوجوبيّة، يكون الأقلّ هو القدر المتيقّن، فالشكّ في وجوب الأكثر يرجع إلى الشكّ البدويّ، وأمّا في الشبهة التحريميّة، فالأكثر هو القدر المتيقّن، والشكّ في الأقلّ بدويّ، وذلك كالغناء ـ مثلاً ـ فإنّ الأكثر، وهو ترجيع الصوت مع الطرب، قدر متيقّن؛ لكونه مقطوع الحرمة، وأمّا الأقلّ، وهو ترجيع الصوت بلا طرب، يكون مشكوكاً.

الفرق بين الاستقلاليّ والارتباطيّ:
والعمدة في الفرق بين الاستقلاليّ والارتباطيّ، هو أنّه في الارتباطيّ ليس هناك إلّا تكليف واحد يكون متعلّقاً بالأكثر، وأمّا الاستقلاليّ، ففيه تكاليف متعدّدة على تقدير وجوب الأكثر، إذ يوجد تكليف مستقلّ بوجوب مقدار الأقلّ من الدين، وتكليف مستقلّ آخر بأداء الزائد على فرض أنّ الأكثر هو الذي كان واجباً.
وإن شئت قلت: في الاستقلاليّ، لو كان الأكثر واجباً، فإنّ هذا التكليف ينحلّ إلى تكليفين اثنين: أحدهما متعلّق بالأقلّ، والآخر بالأكثر، وهو الزائد، ومن هنا يثبت لكلّ واحدٍ من هذين التكليفين امتثال يخصّه.
وبعبارة أُخرى: فإنّ الأقلّ في الاستقلاليّ مخالف للأكثر من ناحيتين: الأُولى: الغرض والملاك، والثانية: الأمر والتكليف؛ فإنّ الأغراض والملاكات فيه متعدّدة، كما أنّ الأوامر والخطابات كذلك أيضاً. وذلك كالدين المردّد بين الدرهم والدرهمين، فهنا أغراض وملاكات وموضوعات وأوامر وأحكام متعدّدة.
ومن هنا نرى: أنّ إطلاق الأقلّ والأكثر عليهما إنّما يكون من باب المسامحة والعناية، أي: باعتبار أنّ الدرهم الواحد أقلّ من الدرهمين، وأنّ الدرهمين كثير الدرهم، وإلّا، فقد عرفنا أنّ لكلّ واحدٍ من الدراهم تكليفاً على حدة، وبعثاً بحياله.
وأمّا الارتباطيّ، فالغرض فيه يكون قائماً بالأجزاء الواقعيّة، فإنّ الواجب لو كان هو الأكثر، كان الأقلّ خالياً من الملاك والغرض والبعث من رأس، فيكون وزانه من عالم التكوين وزان المعاجين، فكما أنّ الأثر المطلوب لا يترتّب على المركّب إلّا بجميع أجزائه، ولا تحصل الغاية إلّا باجتماع كافّة تلك الأجزاء، بلا زيادةٍ فيها ولا نقيصة، فكذلك في الاُمور العرفيّة والمركّبات الاعتباريّة أيضاً، كما لو أراد الملك تخويف الأعداء وإرعابهم، فقام باستعراض جنوده؛ فإنّ الإرعاب والتخويف إنّما يحصلان باستعراضه لصفوف من الجند، لا باستعراض واحدٍ منهم أو بعضٍ قليل.
وممّا ذكرناه تعرف: أنّ الملاك في الاستقلاليّة والارتباطيّة إنّما هو كثرة التكليف ووحدته، باعتبار وحدة الغرض.
ومن هنا ظهر: ضعف ما قد يقال من أنّ الملاك في الارتباطيّة والاستقلاليّة إنّما هو وحدة التكليف وكثرته، لا وحدة الغرض والملاك.
وجه الضعف: أنّ الغرض والملاك حيث إنّه متقدّم على التكليف، فوحدة التكليف وكثرته إنّما هي باعتبار الغرض الذي كان داعياً إلى التكليف، فلا معنى لجعل المتأخّر عن الملاك الواقعيّ ملاكاً لتمييزها.
اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّه لا سبيل لفهم وحدة الملاك والغرض إلّا بوحدة التكليف، فمن هنا يصحّ ما قالوه من أنّ الملاك لهما هو وحدة التكليف وكثرته.
والتحقيق أن يقال: إنّ الفرق بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين وغير الارتباطيّين، يكمن في أنّ المركّب الارتباطيّ يتألّف من أشياء يكون بين الأوامر المتعلّقة ملازمة من حيث الثبوت والسقوط، كتلازم الملاكات والأغراض الداعية إلى تلك الأوامر، التي هي في حقيقة الأمر أمر واحد يكون بما له من الوحدة منبسطاً على تلك الأشياء التي فرضنا المركّب مؤلّفاً منها.
وأمّا المركّب الاستقلاليّ فهو مركّب من أشياء يتعلّق بها عدد من الأوامر التي لا ملازمة بينهما من ناحيتي الثبوت والسقوط، بل يُفرض لكلٍّ منها إطاعة مستقلّة.
وعلى هذا الأساس: فالحكم والأمر في المركّب الارتباطيّ واحد، وأمّا في الاستقلاليّ فمتعدّد، فمثلاً: الأمر بالتكبيرة في الصلاة ـ التي هي من المركّبات الارتباطيّة ـ لا يسقط إلّا مع سقوط الأوامر المتعلّقة ببقيّة أجزائها، من الركوع والسجود والتسليم وغيرها، ولأجل هذا كان الشكّ فيه من صور الشكّ في المكلّف به، فلو تردّد أمر الصلاة ـ مثلاً ـ بين تسعة أجزاء أو عشرة؛ فإنّ مقتضى كونها مركبّاً ارتباطيّاً هو عدم سقوط أمر الصلاة فيما لو أتى بالتسعة فقط دون العاشر المشكوك في جزئيّته، وأمّا في الاستقلاليّين، فإنّ وجوب الأكثر غير مرتبط بوجوب الأقلّ، فلا يكون وجوده دخيلاً أصلاً في صحّة الأقلّ وسقوط أمره؛ إذ الأمر المتعلّق بالأقلّ، هو كالأمر المتعلّق بالأكثر، نفسيّ استقلاليّ، وبالتالي: فإنّ الغرض يترتّب عليه مطلقاً، سواء أتيت معه بالأكثر أم لا.
وذلك نظير الدين وقضاء الفوائت إذا تردّد الأمر فيهما بين الأقلّ والأكثر، فإنّ الإتيان بالأقلّ فيهما، يوجب سقوط الأمر بالأقلّ، ولو كان الأكثر واجباً في الواقع، حيث إنّ وجوبه كان استقلاليّاً.
فيتحصّل بذلك: أنّ الفرق بين الوجوب الاستقلاليّ والارتباطيّ هو تعدّد التكليف في الاستقلاليّين، المستلزم لتعدّد الإطاعة والعصيان فيه، ووحدة التكليف في الارتباطيّ، وعدم تعدّد الإطاعة والعصيان فيه.
وقد ظهر ممّا بيّنّاه: أنّه بناءً على انحلال العلم الإجماليّ إلى علم تفصيليّ بوجوب الأقلّ وشكّ بدويّ في وجوب الزائد عليه تكون المسألة مندرجة في باب الشكّ في التكليف.
وأمّا بناءً على عدم الانحلال، فهي تدخل في باب الشكّ في المكلّف به، الذي يجب معه الإتيان بالأكثر عقلاً، تماماً كما يحكم العقل بوجوب الاحتياط عند دوران الأمر بين المتباينين.
وينبغي أن يُعلم هنا: أنّ البحث في الأقلّ والأكثر لا يتأتّى إلّا بعد الفراغ عن جهتين:
الاُولى: الالتزام بالبراءة في الشبهة البدويّة.
والثانية: الالتزام بمنجّزيّة العلم الإجماليّ عند دوران الأمر بين المتباينين.
والسبب في ذلك: أنّ من يقول بالاحتياط في مورد الدوران بين الأقلّ والأكثر يدّعي عدم انحلال العلم الإجماليّ، وإلحاق الأقلّ والأكثر بالمتباينين، فإذا لم يثبت الاحتياط في المتباينين، فلا يثبت أيضاً فيما نحن فيه.
كما أنّ من يقول بالبراءة يدّعي انحلال العلم الإجماليّ، وأنّ الشبهة في وجوب الأكثر شبهة بدويّة، فإذا لم نكن في مرحلة مسبقة قد أثبتنا البراءة في الشبهات البدويّة، فلا مجال لتوهّمها في محلّ الكلام.
ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الجزء المشكوك دخله:
تارةً: يكون جزءاً خارجيّاً، أي: تكون زيادته في الأقلّ بحسب الوجود الخارجيّ، كالجزء الزائد في المعجون المحتمل دخله فيه، وهو ما له وجود على حدة محتمل أخذه في الماُمور به.
وأُخرى: يكون جزءاً تحليليّاً عقليّاً، وهو ما لا وجود له في الخارج على حدة، بل هو وسائر الأجزاء التي تكون كذلك موجودة بوجود واحد، وهذا كالفصول والأنواع.
وثالثةً: يكون جزءاً ذهنيّاً، وهو ما لا وجود له في الخارج أصلاً، وإنّما يكون وجوده باعتبار أنّ لمنشأ انتزاعه وجوداً، وذلك كالتقيّد للمقيّد، فإنّ الموجود في الخارج إنّما هو ذلك المقيّد.
ومنشأ انتزاعه تارةً يكون مبايناً في الوجود مع المقيّد، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، وأُخرى يكون من عوارضه وأحواله، كالسواد والبياض، والكفر والإيمان، فالمعتبر في الوجود الذهنيّ إنّما هو تقييده، لا نفسه، فالشكّ فيه شكّ في الشرطيّة نفسها، وقد يتصوّر بالنسبة إلى الماُمور به والمقيّد بتقيّده بعدم ذلك الشيء، كالتقييد بعدم المانع؛ لأنّ وجوده مخلّ بالماُمور به.
ولا يخفى: أنّ البحث في مسألة الأقلّ والأكثر إنّما يتصوّر فيما لو فرض الأقلّ مأخوذاً لا بشرط، حتى يكون محفوظاً في ضمن الأكثر، وأمّا لو كان مأخوذاً بشرط لا، فإنّ الأقلّ ـ حينئذٍ ـ لا يكون أقلّ الأكثر، بل يكونان متباينين، فتكون المسألة ـ حينئذٍ ـ من صغريات دوران الأمر بين المتباينين، لا بين الأقلّ والأكثر.
ثمّ إنّه قد عرفت أنّه في الاستقلاليّين يكون هناك تكليفان: تكليف بوجوب الأكثر، وتكليف آخر بوجوب الأقلّ يَثبت له على حدة وباستقلاله، أي: من دون أن يكون له علاقة بالتكليف الأوّل، لا ثبوتاً ولا سقوطاً. وأمّا في الارتباطيّ، فليس إلّا تكليف واحد؛ لأنّ الغرض، والحالة هذه، واحد.
ولكن بناءً على هذا، ففي المركّب الارتباطيّ، في الشبهة التحريميّة، لابدّ أن يكون القدر المتيقّن هو الأقلّ، وذلك لدوران الأمر بين أن يكون الأقلّ حراماً مستقلّاً لو كان هو الحرام واقعاً، وبين أن يكون حراماً ضمنيّاً لو كان الأكثر هو الحرام كذلك، فيكون وجوب الأكثر مشكوكاً على كلّ حال، فتجري البراءة فيه.
غير أنّهم لم يلتزموا بذلك في الشبهة التحريميّة، وإنّما قالوا به في الوجوبيّة، فإنّ المتيقّن في الواجبات هو الأقلّ، إذ هو الواجب، وتجري البراءة فيما سواه، الذي هو الأكثر، وأمّا في التحريميّة، فقد قالوا بعكس ذلك، وأنّ القدر المتيقّن هو الأكثر، ويمكن التمثيل له بمثالين: حرمة تصوير تمام الجسم من ذوات الأرواح، وحرمة حلق تمام اللّحية؛ فإنّه ـ مع كونه الأكثر ـ هو المتيقّن من حرمة التصوير وحرمة الحلق، وأمّا تصوير البعض من الجسم، وحلق البعض من اللّحية، فهو ليس إلّا مشكوكاً بالشكّ البدويّ، فتجري فيه البراءة بلا مانع.

الشكّ بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات:
وأمّا لو كان الشكّ شكّاً بين الأقلّ والأكثر في الأسباب والمحصّلات، فلا إشكال في عدم جريان فيه عن الأكثر مطلقاً، بلا فرق بين أن تكون هذه الأسباب عاديّة أو شرعيّة.
أمّا في الأسباب العقليّة والعاديّة:
فعدم جريانها ممّا لا إشكال فيه؛ لأنّ شمول مثل حديث الرفع الشكّ منوط بأمرين: أوّلهما: أن يكون المرفوع من المجعولات الشرعيّة، أو كان موضوعاً لأثر شرعيّ. والثاني: أن يكون في رفعه امتنان.
وفيما نحن فيه، فالسببيّة ـ أوّلاً ـ ليست من المجعولات الشرعيّة.
وثانياً: فهي، حتى على تقدير كونها من المجعولات المذكورة، لا امتنان في رفعها؛ وذلك لأنّ رفعها عن الأكثر لا يثبت سببيّة الأقلّ، فلا يكون لرفع السببيّة عن الأكثر معنى إلّا أنّ الحكم الشرعيّ باقٍ بلا سبب، وأين الامتنان في هذا؟!
وكذلك كان التكليف قطعيّاً، فمثلاً: يجب قطعاً عليه أن يذكّي هذا الحيوان، فإذا شكّ في سببيّة الأقلّ، واحتمل أن يكون الأكثر هو السبب ـ بعد فرض أنّ التذكية معنى بسيط وأمّا فري الأوداج وحصول بقيّة المقدّمات فهي أسباب عاديّة لها ـ فيشكّ في امتثال التكليف لو أتى بالأقلّ من الأسباب، فيكون مجرى لقاعدة الاشتغال؛ لأنّ الشكّ ـ حينئذٍ ـ يكون شكّاً في المحصّل، وليس شكّاً في أصل التكليف، فيكون الاكتفاء بالأقلّ موجباً للشكّ في الامتثال، والشكّ في الامتثال ـ كما هو معلوم ـ مجرىً لقاعدة الاشتغال، لا للبراءة، إلّا إذا ثبتت سببيّة الأقلّ، ولكن قد فرضنا بأنّه ليس من الموارد التي تنالها يد الجعل والتشريع، إذ هي إمّا عقليّة وإمّا عاديّة.
وأمّا الأسباب والمحصّلات الشرعيّة:
فهي على قسمين:
الأوّل: الاختراعيّة، كغسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين على الكيفيّة التي شرّعها الشارع وأقرّها بالنسبة إلى الطهارة الحدثيّة.
والثاني: الإمضائيّة، وذلك ﻛ (بعت) و(اشتريت) في العقود، أو (زوجتي طالق) في الإيقاعات.
وفي القسمين جميعاً، ليست السببيّة هي المجعول الشرعيّ، بل المجعول إنّما هو ثبوت التكليف أو الوضع عند وجود وتحقّق ما نسمّيه ﺑ (السبب)، فتكون السببيّة ممّا ينتزع بعد الجعل، وهكذا المسبّبيّة أيضاً، وأين هذا من كون أحدهما أو كليهما هو المجعول الشرعيّ؟
ومعه: فيكون حالهما ـ أعني: السببيّة والمسبّبيّة ـ حال الأسباب والمسبّبات العاديّة والعقليّة، فلا يمكن جريان البراءة.
قد يقال: يمكن أن تكون الجزئيّة مجعولة للسبب المجعول، فإذا شككنا حينئذٍ في جزئيّة شيءٍ أو شرطيّته أو مانعيّته لما هو السبب الشرعيّ، فلنا أن نتمسّك بحديث الرفع.
ولكن فيه:
أوّلاً: ما عرفته أنّ المجعول إنّما هو المنشأ الذي منه تنتزع السببيّة، لا نفسها.
ثانياً: على تقدير أن تكون هي المجعولة، فبعد جعلها لا يبقى مجال لجعل الجزئيّة؛ والسرّ في ذلك: أنّه بعد فرض تعلّق الجعل بالمركّب من عدّة أشياء مقيّداً بوجود شيءٍ قبله، أو بعده، أو معه، أو بعدم شيءٍ كذلك، فحينئذٍ: ينتزع منه ـ قهراً ـ الشرطيّة أو الجزئيّة أو المانعيّة، فلا نحتاج إلى جعل شيءٍ من هذه العناوين الثلاثة، بل لا يمكن ذلك إلّا بعد أن يتمّ رفع منشأ انتزاعها، وهذا كما أنّه في باب الأقلّ والأكثر في نفس متعلّقات التكاليف، يصار إلى رفع الجزئيّة المشكوكة هناك بنفس رفع التكليف عن الأكثر.

دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء:
أمّا دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء في متعلّق التكليف، وليس المقصود من الأقلّ والأكثر ها هنا إلّا الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، ومثال المقام: ما إذا شكّ في جزئيّة السورة ـ مثلاً ـ للصلاة، فهل تجري البراءة في الزائد على الأقلّ، وهي الأجزاء المشكوكة، أم لا، فيه خلاف.
والأقوال هنا ثلاثة:
الأوّل: ما اختاره الشيخ الأعظم، وهو القول بجريان البراءة مطلقاً، عقليّةً ونقليّة، قال: <فالمختار جريان أصل البراءة. لنا على ذلك: حكم العقل وما ورد من النقل>( ).
الثاني: ما هو منسوب إلى المحقّق السبزواري، وهو القول بعدم جريان شيء من البراءتين، وأنّ الحكم هو وجوب الاحتياط، وذلك لا يكون إلّا بالإتيان بالأكثر.
قال الشيخ الأعظم: <بل الإنصاف أنّه لم أعثر في كلمات من تقدّم على المحقّق السبزواري على من يلتزم بوجوب الاحتياط في الأجزاء والشرائط>( ).
الثالث: التفصيل بين البراءة الشرعيّة والعقليّة، والقول بجريان الأُولى دون الثانية، وهو مختار صاحب الكفاية( ).
وقد استدلّ على ذلك بوجهين:
الأوّل: منجّزيّة العلم الإجماليّ للتكليف.
والثاني: العلم بعدم تحقّق الغرض إلّا بالإتيان بالأكثر.
قال: <والحقّ أنّ العلم الإجماليّ بثبوت التكليف بينهما ـ أيضاً ـ يوجب الاحتياط عقلاً بإتيان الأكثر؛ لتنجّزه به حيث تعلّق بثبوته فعلاً ... إلى أن قال: مع أنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يُحرز إلّا بالأكثر...»( ).
وأمّا القول الأوّل، فيبتني على انحلال العلم الإجماليّ المذكور، بجريان البراءة عقلاً ونقلاً، وللشيخ طريقان إلى الانحلال:
الأوّل: أنّ يقال بوجوب الأقلّ تفصيلاً، إمّا نفسيّاً، لو كان واجباً بنفسه، أو غيريّاً، لو كان الواجب هو الأكثر.
والثاني: أنّ الأقلّ واجب بالوجوب النفسيّ، ولكنّ وجوبه النفسيّ هذا مردّد بين كونه استقلاليّاً أو ضمنيّاً.
وحاصل مراده: أنّ العلم الإجماليّ بالوجوب النفسيّ المردّد بين الأقلّ والأكثر لا يستلزم وجوب الاحتياط، بعدما كان هذا العلم منحلّاً بما عُلِم وجوبه تفصيلاً، وهو الأقلّ، ووجوبه التفصيليّ هذا إمّا بنحو الوجوب النفسيّ لو كان هو الماُمور به، أو الوجوب الغيريّ، لو كان الماُمور به هو الأكثر.
وبما أنّ العلم التفصيليّ بإلزام المولى به حاصل وموجود، فلا يضرّ كون وجهه معلوماً بالعلم الإجماليّ، وهو تردّده بين النفسيّ والغيريّ؛ لأنّ الذي هو معتبر في الانحلال إنّما هو العلم التفصيليّ بالإلزام، ولو كان مع إجمال وترديد من ناحية وجهه؛ فإنّ موضوع حكم العقل باشتغال الذمّة ليس إلّا العلم بذات الوجوب، وأمّا العلم بخصوصيّة هذا الوجوب، فليس شرطاً.
وعلى هذا الأساس: يكون التكليف بالنسبة إلى الأقلّ منجّزاً ويترتّب على تركه ومخالفته العقاب؛ إذ هو واجب على كلّ تقدير، أي: بلا فرقٍ بين كون الوجوب ثابتاً في الواقع للأكثر وبين عدم كونه كذلك، فيكون الأقلّ هو القدر المتيقّن، فبتركه يثبت استحقاق العقاب، حيث كان تركاً لما هو الواجب على كلّ تقدير.
وهذا بخلاف ما لو كان تركه من ناحية الأكثر، فإنّه لمّا لم يكن وجوب الأكثر منجّزاً، فلا يكون تركه له موجباً لاستحقاق العقاب والمؤاخذة، فيكون التكليف بالنسبة إليه من التكليف بلا بيان، فيندرج تحت موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهو معنى جريان البراءة العقليّة.
وأمّا نقلاً: فإنّ الأخبار الدالّة على البراءة، التامّة سنداً ودلالةً، كحديثي الرفع والحجب ونحوهما؛ إذ يصدق على وجوب الأكثر، وهو وجوب الجزء المشكوك، أنّه ممّا حجب علمه عن العباد، فيكون موضوعاً عنهم، ولا يعارضه أصالة البراءة عن وجوب الأقلّ؛ لأنّ الأقلّ متيقّن الوجوب، كما أسلفنا، غاية الأمر: أنّ وجوبه يكون مردّداً بين النفسيّ والغيريّ، فبعد أن كان المرفوع مجعولاً شرعيّاً وفي رفعه منّة، فيكون العلم الإجماليّ بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر مرتفعاً ببركة هذه الأخبار، بعد أن كانت حاكمةً عليه وموجبةً لانحلاله.
فإن قلت: بل لا تجري البراءة؛ لأنّ أدلّتها مختصّة بالوجوب النفسيّ المشكوك، دون الغيريّ، لأنّ منشأ حكم العقل باستحقاق العقاب إنّما هو مخالفة الأوّل، دون الثاني.
قلت: بل مخالفة الغيريّ ـ أيضاً ـ موجبة لاستحقاق العقاب، على الأقلّ، لجهة كونه منشأً لترك الواجب النفسيّ.
فتحصّل بذلك: أنّ مقتضي جريان البراءة الشرعيّة موجود، وهو شمول الأدلّة، وأنّ المرفوع مجعول شرعاً، وفي رفعه منّة، والمانع منه، وهو العلم الإجماليّ، مفقود؛ لفرض انحلاله، بالبيان المتقدّم.
وردّه صاحب الكفاية بقوله:
<وتوهّم انحلاله إلى العلم بوجوب الأقلّ تفصيلاً والشكّ في وجوب الأكثر بدواً ـ ضرورة لزوم الإتيان بالأقلّ لنفسه شرعاً، أو لغيره كذلك أو عقلاً، ومعه: لا يوجب تنجّزه لو كان متعلّقاً بالأكثر ـ فاسد قطعاً؛ لاستلزام الانحلال المحال، بداهة توقّف لزوم الأقلّ فعلاً، إمّا لنفسه أو لغيره، على تنجّز التكليف مطلقاً، ولو كان متعلّقاً بالأكثر، فلو كان لزومه كذلك مستلزماً لعدم تنجّزه إلّا إذا كان متعلّقاً بالأقلّ، كان خلفاً>( ).
وحاصل ما أفاده: أنّه خلف، فكما أنّه إذا قيل: يجب تقليد الأعلم، ثمّ قيل: تقليد غير الأعلم أيضاً جائز، كان على خلاف ما فُرِض أوّلاً، فكذلك ما نحن فيه؛ فإنّ ما يدّعى من انحلال العلم الإجماليّ هنا في غير محلّه؛ لأنّ هذا الانحلال إنّما يتصوّر لو قلنا بأنّ المقدّمة، وهو الأقلّ، كان واجباً على كلّ تقدير، أي: وإن كان الأكثر واجباً.
مع أنّه لو كان الأكثر واجباً، لم يكن وجوب الأقلّ منجّزاً قطعاً؛ لأنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذيها في التنجّز، والمفروض عدم تنجّز وجوب ذيها، وهو الأكثر؛ إذ التنجّز في الأقلّ إنّما يكون فيما إذا تعلّق الوجوب به، لا بالأكثر، مع أنّ المعتبر في الانحلال إنّما هو تنجّز الأقلّ على كلّ تقدير.
وبعبارة أُخرى: فإنّ تنجّز الأكثر لابدّ وأن يكون له دخل في الانحلال، وإلّا، لم يكن وجوب الأقلّ منجّزاً على كلٍّ من تقديري وجوبه: النفسيّ والغيريّ، مع أنّه لا يمكن أن يكون له دخل؛ لأنّ دخله مانع من الانحلال، وهذا من الخلف المحال.
ولكنّ الحقّ: أنّ التنجّز بالنسبة إلى الأقلّ لا توقّف له على التنجّز بالنسبة إلى الأكثر؛ إذ الانحلال وتنجّز التكليف بالنسبة إلى الأكثر متنافيان ولا يمكن اجتماعهما، ويكون خلفاً.
نعم، الانحلال مبنيّ على العلم بوجوب ذات الأقلّ على كلّ تقدير، أي: على تقدير وجوب الأقلّ في الواقع، بنحو الإطلاق، وعلى تقدير وجوبه في الواقع، فبنحو التقييد. فيكون ذات الأقلّ معلوم الوجوب، وإنّما كان الشكّ شكّاً في الإطلاق والتقييد.
وليس أخذ التنجيز على كلّ تقدير شرطاً للانحلال، حتى يقال: إنّ الوجوب المتعلّق بالأقلّ لا يصبح منجّزاً إلّا بتنجّز الأكثر، ومع تنجّزه، فلا يقع الانحلال.
وأمّا القول الثاني، وهو ما ذكره صاحب الحاشية بقوله:
<إذا تعلّق الأمر بطبيعة العبادة المفروضة فقد ارتفعت به البراءة السابقة وثبت اشتغال الذمّة بها قطعاً، إلّا أنّه يدور الأمر بين الاشتغال بالطبيعة المشتملة على الأقلّ أو المشتملة على الأكثر، وليست المشتملة على الأقلّ مندرجةً في الحاصلة بالأكثر، كما في مسألة الدين، فإنّ اشتغال الذمّة هناك بالأكثر قاضٍ باشتغالها بالأقلّ، لعدم ارتباطٍ هناك بين الأجزاء، بخلاف المقام؛ إذ المفروض ارتباط بعض الأجزاء بالبعض، وقضاء زوال كلّ جزءٍ منها بزوال الكلّ، وكونها في حكم العدم الصرف.
والقول بأنّ التكليف بالكلّ قاضٍ بالتكليف بالجزء قطعاً بخلاف العكس لا يُثمر في المقام؛ إذ القدر المعلوم من ذلك تعلّق التكليف التبعيّ بالجزء في ضمن الكلّ، إلّا أن يتعلّق به تكليف على الإطلاق، ولو انفصل عن بقيّة الأجزاء>( ).
وحاصله: أنّه بناءً على دوران الأمر بين الوجوب الاستقلاليّ أو الضمنيّ، فمآل الشكّ إلى الدوران بين المتباينين، وذلك لأنّ الأقلّ، على تقدير وجوبه الضمنيّ، يكون قد أُخذ بشرط شيء، وعلى تقدير وجوبه الاستقلاليّ، يكون مأخوذاً بشرط لا عن الزيادة، فيكون علمه الإجماليّ المردّد بين وجوب الأقلّ ووجوب الأكثر راجعاً إلى المتباينين، فلا يكون هناك علم تفصيليّ في البين حتى يتسبّب في الانحلال.
وقد أجاب عن هذا اُستاذنا المحقّق بأنّ الوجوب قد ورد على ذات المقدّمة، وإنّ <هذه الاعتبارات لا تغيّر الواقع عمّا هو عليه، والوجوب من الاعتبارات الشرعيّة التي تعرض على ما هو الموجود في الخارج، وإن كان بواسطة الصورة الذهنيّة، لكن لا بما هي هي، بل بما أنّها مرآة وحاكية عن الخارج وفانية فيه، فظرف العروض وإن كان هو الذهن، ولكنّ ظرف الاتّصاف هو الخارج>، أي: والأحكام سواء كانت وضعيّة أم تكليفيّة، فإنّها إنّما ترد على أفعال المكلّفين في الخارج؛ إذ هي التي تقع على صفة الوجوب أو الحرمة أو غيرهما من الأحكام الخمسة التكليفيّة، وكذا الحال في الأحكام الوضعيّة، فإنّ الذي يتّصف بالنجاسة إنّما هو الدم الخارجيّ، والذي يتّصف بالزوجيّة ليس إلّا الزوجة الخارجيّة، فالوجوب العارض للأقلّ في المفروض، وكذا الجزئيّة العارضة لأجزاء الأقلّ، إنّما يعرضان هذه الأجزاء الخارجيّة، التي نسمّيها بالأقلّ.
و<معلوم أنّ هذه الأجزاء لا تتفاوت بواسطة لحاظ هذه الاعتبارات، فلحاظ هذه الأجزاء: تارةً بنحو لا بشرط، باعتبار كونها واجباً نفسيّاً استقلاليّاً، وأُخرى بشرط شيء باعتبار كونها واجباً نفسيّاً ضمنيّاً>( ) لا يغيّر الواقع عمّا هو عليه، ولا يؤدّي إلى حدوث فرق فيما هو معروض الوجوب، أعني: الأجزاء الخارجيّة.
بل بما أنّ هذه اللّحاظين والاعتبارين يكونان في رتبة متأخّرة عن وجوب الأقلّ؛ إذ هما ليسا حاصلين إلّا من قِبَل الوجوب نفسه، فلا يمكن أخذهما في موضوعه؛ ضرورة أنّ كلّ ما كان حاصلاً من قبل الحكم ومتأخّراً عنه امتنع أخذه في متعلّق الحكم؛ لاستلزامه تقدّمهما على ذلك الحكم، وحيث كان المفروض تقدّمه عليهما، لزم تقدّم الشيء على نفسه، وهو محال.
وبالجملة: فما هو متّصف بالوجوب، استقلاليّاً كان أم ضمنيّاً، إنّما هو ذات الأقلّ، لا الأقلّ بوصف كونه مأخوذاً لا بشرط على أحد التقديرين، وبشرط شيء على التقدير الآخر.
وتحصّل بذلك: صحّة الانحلال للعلم الإجماليّ المذكور، ومعه: فتجري كلتا البراءتين العقليّة والشرعيّة.
وقد أورد المحقّق النائينيعلى هذا الانحلال بما لفظه:
<لا إشكال في أنّ العقل يستقلّ بعدم كفاية الامتثال الاحتماليّ للتكليف القطعيّ؛ ضرورة أنّ الامتثال الاحتماليّ إنّما يقتضيه التكليف الاحتماليّ، وأمّا التكليف القطعيّ، فهو يقتضي الامتثال القطعيّ؛ لأنّ العلم باشتغال الذمّة يستدعي العلم بالفراغ عقلاً، ولا يكفي احتمال الفراغ؛ فإنّه يتنجّز التكليف بالعلم به ولو إجمالاً، ويتمّ البيان الذي يستقلّ العقل بتوقّف صحّة العقاب عليه؛ فلو صادف التكليف في الطرف الآخر الغير المأتيّ به، لا يكون العقاب على تركه بلا بيان، بل العقل يستقلّ في استحقاق التارك للامتثال القطعيّ للعقاب على تقدير مخالفة التكليف.
ففيما نحن فيه، لا يجوز الاقتصار على الأقلّ عقلاً؛ لأنّه يشكّ في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين، ولا يحصل العلم بالامتثال إلّا بعد ضمّ الخصوصيّة الزائدة المشكوكة>( ).
وتوضيح ما رامه:
أنّ الانحلال لا يتحقّق إلّا في المورد الذي يكون الإتيان بالأقلّ فيه موجباً للفراغ اليقينيّ عن عهدته، بمعنى: أنّ الإتيان بالقدر المتيقّن وامتثاله يوجب امتثالاً قطعيّاً له مطلقاً، أي: سواء فرضنا الوجوب الثابت له وجوباً نفسيّاً أم ضمنيّاً.
وفيما نحن فيه، ليس الأمر كذلك؛ بل الإتيان بالأقلّ هنا لا يوجب الفراغ عن عهدته مطلقاً وعلى جميع التقادير، وبالتالي: فلا يتحقّق الامتثال قطعاً؛ وذلك لأنّه لو فرض كون الأقلّ واجباً نفسيّاً ضمنيّاً، فلا يحصل الفراغ من عهدته بمجرّد الإتيان به ـ أي: الأقلّ ـ من دون ضميمة سائر الأجزاء إليه في مقام الامتثال؛ إذ هو على هذا الفرض من الواجب الارتباطيّ، والواجب الارتباطيّ لا يحصل إلّا مع اقترانه بامتثال سائر الأجزاء مع كونه جامعاً للشرائط وفاقداً للموانع.
وحيث إنّه من المحتمل في المقام أن يكون الأكثر هو الواجب الواقعيّ الارتباطيّ، فلا يكون الإتيان بالأقلّ ـ على هذا التقدير ـ موجباً للفراغ حتى بالنسبة إلى الأقلّ؛ إذ كان من اللّازم ـ كما عرفنا ـ أن يكون امتثال كلّ جزء من الواجب الارتباطيّ في ضمن امتثال الكلّ، وأنّ إتيان بعض الأجزاء لا يصحّ إلّا أن يكون بنحو مرتبط بإتيانه ببقيّة الأجزاء.
وقد أوضحنا: أنّ من شروط الانحلال أن يكون الإتيان بما هو معلوم بالتفصيل موجباً للقطع بالفراغ من قبله، حتى يبقى الشكّ بالفراغ من ناحية الطرف الآخر، فبعد أن كان ثبوت ذلك الطرف الآخر مشكوكاً، وبعد فرض قيام العلم التفصيليّ في بعض الأطراف، وهو الأقلّ ـ مثلاً ـ وانحلال العلم الإجماليّ، يكون حال الطرف الآخر حال الشكّ البدويّ، بل هو هو، ليس غير، فيكون مجرى البراءة.
ومعه: فلا يبقى مجال أصلاً لورود قاعدة الاشتغال حتى يكون العقل حاكماً بلزوم الخروج عن العهدة؛ إذ لا عهدة بحكم الشارع بعد فرض جريان البراءة.
وبالجملة: فإنّ الواجب عقلاً هو الإتيان بالأكثر، وإلّا، لم يحصل قطع بالفراغ عن عهدة الأقلّ، والذي عُلم الاشتغال به بنحو العلم التفصيليّ، لا الإجماليّ، حتى يتسنّى لنا أن نقول بأنّه لا تأثير للعلم الإجماليّ بعد فرض الانحلال.
ولكن قد أجاب عنه اُستاذنا المحقّق، وإليك نصّ كلامه:
<وفيه: أنّ التكليف بوجوده الواقعيّ لا يوجب مخالفته استحقاق العقاب، بل مخالفته يوجب ذلك بعد تنجّزه بعلم أو علميّ، ووصوله إلى المكلّف، وحكم العقل بلزوم الفراغ اليقينيّ من باب الفرار من العقاب.
وفيما نحن فيه ـ أي: في كلّ مورد شككنا في جزئية شيء للواجب، ولم يكن بيان على جزئيّة ذلك المشكوك الجزئيّة ـ فإذا أتى بما قام عليه البيان وفي الواجب الارتباطيّ لا يعاقب من ناحية ترك ذلك المشكوك الجزئيّة؛ لعدم قيام البيان عن جزئيّته، فيكون العقاب بلا بيان، وهو قبيح، وهذه هي البراءة العقليّة. فالإتيان بالأقلّ موجب لرفع العقاب، ولو على تقدير كون الوجوب الواقعيّ هو الأكثر؛ لعدم تنجّز سائر الأجزاء. بل على هذا التقدير، المقدار المنجّز عليه هو مقدار الأقلّ، لا الزائد عليه.
نعم، لا يعلم بسقوط التكليف بإتيان بالأقلّ؛ لاحتمال أن يكون الواجب الواقعيّ هو الأكثر ولم يأتِ به، ولكنّ بقاءه لا أثر له؛ لعدم تنجّزه إلّا بمقدار الأقلّ>.
ثمّ قال في ذيل كلامه المتقدّم:
<والعجب من شيخنا الاُستاذ أنّه أجاب عن صاحب الكفاية بمثل هذا الجواب، ثمّ وقع هو فيه!>( ).
وهنا تقريب آخر للمحقّق النائيني في عدم الانحلال وعدم صحّة جريان البراءة العقليّة، وقد عبّر عنه بقوله:
<والعلم التفصيليّ بوجوب الأقلّ المردّد بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الإجماليّ بالتكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر، ومثل هذا العلم التفصيليّ لا يعقل أن يوجب الانحلال؛ لأنّه يلزم أن يكون العلم الإجماليّ موجباً لانحلال نفسه>( ).
وتفصيله بأن يقال: إنّ معنى وجوب الأقلّ هو أنّ معروض الوجوب هو هذه الأجزاء التي تسمّى بالأقلّ والمأخوذة لا بشرط عن الزيادة، ومعنى كون معروض الوجوب هو الأكثر، هو أنّ هذه الأجزاء التي تسمّى بالأقلّ، هي بعينها تكون معروضاً للوجوب الضمنيّ، ولكنّها ـ حينئذٍ ـ تكون مأخوذةً بشرط الزيادة.
وهذا يعني: أنّ الأمر ـ حينئذٍ ـ يدور بين أن يكون الأقلّ واجباً نفسيّاً استقلاليّاً لا بشرط عن الزيادة، أعني: الطبيعة المطلقة، وبين أن يكون واجباً ضمنيّاً، وهو الطبيعة المقيّدة بالزيادة، وهذا هو العلم الإجماليّ بأنّ الواجب إمّا هو الأقلّ لا بشرط عن الزيادة، أو بشرط شيء، ومعناه: أنّ ثمّة علماً إجماليّاً بوجوب الأقلّ، وهو مردّد بين كونه مطلقاً أو مقيّداً.
فإذا علم تفصيلاً بوجوب الأقلّ مطلقاً، فينحلّ ذلك العلم الإجماليّ؛ لأنّ القضيّة المنفصلة المانعة الخلوّ تنحلّ إلى قضيّة حمليّة بتّيّة وأُخرى مشكوكة، وهذا هو مناط الانحلال دائماً، وأمّا لو بقيت القضيّة المنفصلة على حالها، فلا يكون هناك انحلال في البين.
وليس المعلوم بالتفصيل فيما نحن فيه هو الأقلّ بما هو مأخوذ لا بشرط، ـ أعني: الماهيّة المهملة المطلقة ـ حتى تنحلّ القضيّة المنفصلة المانعة الخلوّ إلى قضيّةٍ حمليّةٍ بتّيّة، وهي العلم بوجوب الأقلّ بما هو مأخوذ لا بشرط، وإلى قضيّةٍ أُخرى مشكوكة، وهي وجوب الأكثر.
بل المعلوم بالتفصيل قضيّة موضوعها الماهيّة المهملة، أي: الجامع بين الماهيّة المطلقة، وهي الأقلّ لا بشرط، وبين الماهيّة المقيّدة، وهي الأقلّ بشرط شيء، أي: بشرط الانضمام إلى بقيّة الأجزاء. وهذا هو عين العلم الإجماليّ بوجوب الجامع، أي: الماهيّة المهملة؛ فإنّ مفاده هو العلم بوجوب الأقلّ لا بشرط، أي: الأقلّ، أو بشرط شيء، أي: الأكثر، فيكون الترديد ـ حينئذٍ ـ في أنّ المعلوم هل ينطبق على الأقلّ الذي هو مقابل للأكثر، أو على الأكثر نفسه؟
فمرجع العلم التفصيليّ في المقام إلى العلم الإجماليّ، بل هو عينه، فلو قلنا بكونه موجباً للانحلال، كان موجباً لانحلال نفسه، وهو محال؛ بداهة استحالة أن يكون الشيء علّةً لعدم نفسه.
ثمّ إنّه قد يستدلّ على عدم الانحلال وعدم جريان البراءة بالنسبة إلى الأكثر، بأنّا نقطع بوجود الملاك والمصلحة الملزمة القائمة بالأقلّ أو بالأكثر، فإذا لم يأتِ بالأكثر، يشكّ في حصول ذلك الملاك والمصلحة التي يجب استيفاؤها بحكم العقل، والعقل في مثل هذه الموارد يحكم بلزوم إتيان كلّ ما يعلم بأنّ إتيانه موجب لحصول الملاك والمصلحة وتحقّق غرض المولى، وإذا كان كذلك، كان الواجب على المكلّف أن يأتي بالماُمور به مع جميع ما يحتمل أن يكون دخيلاً فيه حتى يتأتّى له القطع بحصول الغرض والمصلحة بعد علمه تفصيلاً بوجوده.
وبناءً عليه: فلا يمكن قياس المقام بالشبهة البدويّة؛ إذ هناك، لم يتحقّق القطع بالملاك، بل إنّما المتحقّق صرف احتمال وجود الملاك من جهة احتمال الوجوب، بناءً على ما هو الحقّ من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها، وهذا بخلاف المقام؛ فإنّ وجود الملاك بعد البناء على التبعيّة يكون قطعيّاً لا محالة؛ وذلك لفرض حصول القطع بالحكم.
وبعبارة أُخرى: فإنّ علة الأمر حدوثاً وبقاءً هو الغرض، فسقوط الأمر متوقّف على سقوط الغرض، ومن المعلوم عدم حصول العلم بتحقّق الغرض إلّا بالإتيان بالأكثر.
وفي ذلك يقول صاحب الكفاية: <مع أنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يُحرز إلّا بالأكثر، بناءً على ما ذهب إليه المشهور من العدليّة من تبعيّة الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهيّ عنه، وكون الواجبات الشرعيّة ألطافاً في الواجبات العقليّة، وقد مرّ اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلاً في إطاعة الأمر وسقوطه، فلابدّ من إحرازه في إحرازها، كما لا يخفى>( ).
والتحقيق عدم ورود هذا الإشكال، إذ:
أوّلاً: من أين لنا الحصول على الملاك، والحال أنّنا لا نملك سبيلاً إلى العلم بوجوده إلّا بعد ورود الأمر نفسه؟
وثانياً: أنّ الملاك وإن كان في الواقع مردّداً بين الأقلّ والأكثر، ولكنّ العبد لا يكون مكلّفاً بإتيان شيءٍ إلّا ما قام على إتيانه البيان، وأمّا إذا لم يكن هناك دليل وبيان، فحتى لو كان دخيلاً في غرضه، فلا يجب على المكلّف الإتيان به؛ إذ يكون هو ـ أعني: المولى ـ هو الذي فوّت الغرض على نفسه، بتركه إيصال التكليف إليه.
نعم، لو حصل للمكلّف العلم بدخوله في غرض المولى، فذلك العلم، هو نفسه، يكون كافياً حينئذٍ، لصدق البيان عليه، وأمّا مجرّد احتمال دخوله في الغرض، كما هو الحال في محلّ الكلام، فلا يكون كافياً، فتبقى قاعدة قبح العقاب بلا بيان جاريةً، ويكون العقاب عليه قبيحاً، وإن كان في الواقع دخيلاً في غرض المولى.
كما أنّ احتمال الجزئيّة يكون مرفوعاً بالأصل، فمن أين ـ إذاً ـ يتّجه إليه الحكم بوجوب تحصيل الملاك بالإتيان بالأكثر، ولو كان الأكثر في الواقع واجباً؟!
وقد أجاب عن هذا المحقّق النائيني ـ في مبحث الصحيح والأعمّ( ) ـ بما حاصله: أنّنا نقول بالفرق بين أن يكون إتيان الماُمور به علّة تامّة لحصول الملاك أو يكون من قبيل المعدّ له، كغرس الشجر مثلاً لحصول الثمر، والزرع وحرث الأرض وإلقاء البذر فيها لصيرورته سنبلاً، ونحو ذلك. فإنّه:
إن كان من قبيل الثاني، لم يجب الإتيان بكلّ ما يحتمله؛ لأنّ فعل المكلّف من حيث هو لا يكون علّة تامّة لحصول الغرض والملاك، بل ولا الجزء الأخير لحصوله، فيكون حصول الغرض والملاك خارجاً عن تحت قدرته واختياره، وأمّا فعله فليس إلّا معدّاً لحصوله، ومع عدم تعلّق قدرته بحصول الغرض، فلا يمكن للتكليف أن يتعلّق به، ويقبح إلزام المكلّف بإيجاده، فلا يجب عليه أن يأتي إلّا بما قام عليه البيان من نفس الماُمور به.
وأمّا لو كان من قبيل القسم الأوّل، فإنّ الأمر كما يمكن تعلّقه بالعلّة، فكذلك يمكن تعلّقه بإيجاد الملاك وما هو الغرض؛ لأنّه مقدور له، ولو بالواسطة، بل لا فرق بينهما أصلاً، والأمر بأحدهما أمر بالآخر، ففي هذا القسم يجب تحصيل الغرض والملاك؛ لأنّه الواجب في الحقيقة.
وبما أنّ متعلّقات الأوامر الشرعيّة غالباً، بل جميعها، تكون من قبيل القسم الثاني، لا الأوّل، فلا يبقى مجال لأن يُتمسّك بلزوم الإتيان بالأكثر بحكم العقل بلزوم تحصيل الملاك.
ولكنّ الحقّ: أنّ كون متعلّقات الأوامر الشرعيّة من قبيل القسم الثاني (وهي المعدّات) أوّل الكلام؛ لأنّ معرفة كونها من قبيل العلل التامّة أو المعدّات لترتّب ملاكاتها الداعية لتشريع أحكامها إنّما هو من جهة الأدلّة المتكفّلة لبيان ترتّبها على تلك الأفعال، بل تكون من قبيل الغرض، فإنّ ظاهر تعلّق أمر المولى بشيء كونه وافياً بغرضه.
وقد أجاب الشيخ الأنصاريّ عن هذا الإشكال المتقدّم، بما لفظه:
<قلت: أوّلاً: مسألة البراءة والاحتياط غير مبنيّة على كون كلّ واجب فيه مصلحة وهو لطف في غيره، فنحن نتكلّم فيها على مذهب الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح، أو مذهب بعض العدليّة المكتفين بوجود المصلحة في الأمر وإن لم يكن في المأمور به.
وثانياً: إنّ نفس الفعل من حيث هو ليس لطفاً، ولذا لو أتى به لا على وجه الامتثال لم يصحّ، ولم يترتّب عليه لطف ولا أثر آخر من آثار العبادة الصحيحة، بل اللّطف إنّما هو في الإتيان به على وجه الامتثال، وحينئذٍ: فيحتمل أن يكون اللّطف منحصراً في امتثاله التفصيليّ مع معرفة وجه الفعل ليوقع الفعل على وجهه ... إلى أن يقول: وهذا متعذّر فيما نحن فيه؛ لأنّ الآتي بالأكثر لا يعلم أنّه الواجب أو الأقلّ المتحقّق في ضمنه...> انتهى موضع الحاجة من كلامه( ).
وحاصله: أنّه يرد على الإشكال المتقدّم اعتراضان:
أوّلهما: أنّ النزاع أعمّ من أن تكون الأوامر والنواهي تابعةً للمصالح والمفاسد أم لم تكن، كما هو المذهب المنسوب إلى الأشعريّ، وهو القول بعدم التبعيّة أصلاً، لا في الماُمور به والمنهيّ عنه ولا في كلٍّ من الأمر والنهي نفسه، أم كانت تابعةً لمصالح ومفاسد في الأمر والنهي أنفسهما، كما هو المذهب المنسوب إلى بعض العدليّة.
والثاني: عدم إمكان القطع بحصول الغرض، والغرض بعد تسليم كونه في فعل العبد، ففيما لا يمكن إحرازه، لا يكون مورداً لقاعدة الاشتغال، وفي مقامنا، هو من قبيل ما لا يمكن إحرازه؛ لأنّ حصول المصلحة في العبادات، ولو كان منوطاً بقصد الإطاعة، ولكنّه يحتمل عدم حصولها بمجرّد ذلك؛ لاحتمال دخل قصد وجه أجزاء العبادة في تحقّقها أيضاً.
ومن الواضح، أنّ هذا القصد متوقّف على معرفة وجه الأجزاء من الوجوب والندب، ومع الجهل به، لا يتمشّى قصد الوجه، فلا يحصل العلم بالغرض.
وإذا لم يعلم به، لم يجب عليه إحرازه، فمن ناحية الغرض ليس هناك دليل على الإتيان بالأكثر، يبقى إلّا الإتيان بالأقلّ؛ لأنّ البيان منحصر فيه، لأجل التخلّص عن تبعيّة التكليف المنجّز بالعلم الإجماليّ، فلو كان الأكثر في الواقع هو الواجب، فالمؤاخذة عليه بلا بيان ولا حجّة، فتكون قبيحةً بالوجدان.
ولكن يرد عليه:
أمّا على جوابه الأوّل: فبأنّ عدم ورود الإشكال المزبور بناءً على مذهب الأشعريّ لا يدفعه بناءً على ما هو الحقّ عندنا من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد.
وأمّا على جوابه الثاني: فبأنّ قصد الوجه والتمييز ليس معتبراً في مقام الامتثال أصلاً، ولو كان قصد الوجه ومعرفته معتبراً في مقام الامتثال، لكان لزاماً على الشارع المقدّس، ونظراً إلى كثرة ابتلاء عامّة المكلّفين به، التنبيه على لزومه، وحيث لم يرد منه ما يدلّ على ذلك، ولا أثر منه في الأخبار، ولم يكن ممّا يحكم العقل بلزومه ـ حتى يقال بأنّ الشارع قد أوكل مهمّة بيانه إلى العقل، ولأجل ذلك لم يتصدَّ هو لبيانه ولم يُشر إليه ـ يقطع المكلّف بأنّه لم يكن دخيلاً في غرض المولى، وإلّا، لبيّنه.

التمسّك بالاستصحاب لنفي وجوب الإتيان بالأكثر:
قد يتمسّك لإثبات عدم وجوب الإتيان بالأكثر وجواز الرجوع إلى البراءة باستصحاب العدم الأزليّ، بأن يقال: هذا الجزء المشكوك لم يكن ـ قطعاً ـ جزءاً من المركّب منذ أوّل الأمر، ولم تكن الجزئيّة ثابتة له في الأزل، فنشكّ في بقاء هذا العدم بعد الجعل، أي: بعد عدم وجوب الأكثر، أو عدم الجزئيّة، فيستصحب هذان العدمان في ظرف الشكّ في بقائهما، أو يستصحب العدم السابق على البلوغ، أو بلحاظ العدم في الموقّتات قبل دخول الوقت، أو بلحاظ العدم السابق على لحاظ الماُمور به قبل جعل الأحكام.
ولكن يضعّفه: أنّ صحّة جريان استصحاب العدم الأزليّ محلّ تأمّل.
وقد استشكل المحقّق النائيني في جريان الاستصحاب في جميع هذه الصور؛ قال:
<المستصحب تارةً يكون هو عدم وجوب الجزء أو الشرط المشكوك فيه، وأُخرى يكون هو عدم وجوب الأكثر المشتمل على المشكوك فيه، وعلى كلا التقديرين: المراد من العدم إمّا أن يكون هو العدم الأزليّ السابق على تشريع الأحكام، وإمّا أن يكون هو العدم السابق على حضور وقت العمل في الموقّتات، كقبل الزوال والمغرب والفجر بالنسبة إلى الصلوات اليوميّة، وإمّا أن يكون هو العدم السابق على البلوغ؛ وفي جميع هذه التقادير، لا يجري استصحاب العدم...> إلى آخر ما ذكره( ).
هذا مجمل كلامه وإليك التفصيل:
وحاصله: أنّنا نمنع من جريان الاستصحاب في جميع الصور المشار إليها، وذلك لأنّه:
في صورة كون المعلوم والمتيقّن هو العدم الأزليّ الذي يكون سابقاً على تشريع الأحكام، وكان المستصحب هو عدم وجوب الجزء أو الشرط المشكوك فيه، فحينئذٍ:
إن كان المراد من العدم هو العدم النعتيّ، أي: العدم الذي هو مفاد ليس الناقصة؛ أي: عدم جزئيّته أو شرطيّتة لما هو المجعول فيما بعد، بمعنى: أنّه في الأزل لم يكن هذا المشكوك جزءاً أو شرطاً للمجعول، فهو لم يكن مشكوك الجزئيّة أو الشرطيّة بعد الجعل جزءاً أو شرطاً للمركّب غير المجعول في الأزل.
وأنت خبير، بأنّ عدم الجزئيّة هذا، أعني: العدم النعتيّ قبل جعل المركّب، ليس له حالة سابقة، ولا معنى له؛ لأنّه مثل الوجوب المقابل له إنّما يكون نعتاً ووصفاً المركّب، فلا يعقل كونه قبل وجود موضوعه وتحقّقه، فلا يكون للعدم بهذا المعنى ـ كما ذكرنا ـ حالة سابقة؛ إذ هو لم يكن متيقّناً في السابق لكي يستصحب؛ فإنّه في ظرف تعلّق الجعل والتشريع واللّحاظ بأجزاء المركّب إمّا أن يكون قد شملته عناية الجعل أو لا، وليس تعلّق الجعل به متأخّراً رتبةً أو زماناً عن تعلّق الجعل بالمركّب ليحكم ببقائه وعدم انتقاضه.
وإن شئت فقل: إن كان المراد بهذا العدم العدم الذي هو ثابت قبل جعل المركّب، فهذا ليس له من حالةٍ سابقة لكي تستصحب، وإن كان المراد به ما هو ثابت بعد الجعل، فهذا مشكوك بحسب الفرض، ولا يقين به أصلاً.
وبعبارة أُخرى: فإنّه لو اُريد من العدم النعتيّ المذكور عدم تعلّق الجعل واللّحاظ بالمشكوك فيه في ظرف تشريع المركّب ولحاظ أجزائه، بحيث كان هذا العدم من الأوصاف والنعوت التي تلحق بلحاظ المركّب وأجزائه، فإنّه قبل هذا الظرف، لا معنى لكونه متيقّناً، كما لا يخفى، وأمّا في هذا الظرف فلحاظ جزئيّته إنّما يكون مشكوكاً، كما هو المفروض.
وإن كان المراد من العدم الذي يكون سابقاً على الجعل العدم المحموليّ، أي: عدم وجود الجعل واللّحاظ المتعلّق بهذا المشكوك فيه، فهو على الرغم من كونه متيقّناً؛ لأنّ أصل الجعل واللّحاظ من الاُمور المسبوقة بالعدم، ولكنّ هذا الاستصحاب بهذه الصورة لا ينهض لإثبات عدم جزئيّة المشكوك، ولا عدم شرطيّته، للمركّب المجعول، لكونه بالنسبة إليه من الأصل المثبت، فلا يجري إلّا على القول بجريان الأصل المثبت.
هذا كلّه إذا اُريد من العدم العدم الأزليّ.
وأمّا لو كان المراد منه العدم الذي يسبق دخول الوقت في الموقّتات، فلمّا كان الوجوب مشروطاً بدخول الوقت، فقبل دخوله، لا ثبوت للوجوب، إذا كان هذا الوجوب من قبيل الوجوب المشروط، فيستصحب ذلك العدم الذي كان متيقّناً قبل دخول الوقت.
وهنا ـ أيضاً ـ:
فتارةً يراد استصحاب عدمه النعتيّ، أي عدم وجوب الجزء المشكوك فيه، أو الشرط كذلك، فيأتي فيه ـ حينئذٍ ـ نفس الإشكال المتقدّم في استصحاب العدم الأزليّ للجزء، وهو أنّه ليس ثمّة من حالةٍ سابقة متيقّنة له؛ إذ النعت لا يمكن بدون وجود المنعوت، فلا يمكن فرضه قبل الوقت؛ لأنّه يلزم منه وجود الوصف قبل وجود الموصوف.
وأُخرى يراد استصحاب عدمه المحموليّ، أي: عدم وجود الجزء الذي يشكّ فيه قبل الوقت بما أنّه جزء أو بما أنّه واجب، ولا شكّ في تيقّن هذا العدم قبل الوقت، لعدم وجود المركّب وسائر الأجزاء المتيقّنة ـ أيضاً ـ قبل الوقت، فضلاً عن الجزء المشكوك فيه، وعليه: فأركان الاستصحاب فيه، من اليقين السابق والشكّ اللّاحق، فيه تامّة ومحرزة.
ولكن قد أورد على هذا المحقّق النائيني بأنّه لا أثر لهذا الاستصحاب إلّا كون معروض الوجوب هو خصوص أجزاء الأقلّ ـ أي: الأقلّ لا بشرط ـ فيكون من قبيل الأصل المثبت.
قال: <... إلّا أنّ بقاء العدم المحموليّ إلى حين الزوال لا ينفع إلّا إذا اُريد من ذلك انبساط الوجوب على خصوص أجزاء الأقلّ، وذلك يكون من الأصل المثبت>( ).
وأجاب عنه اُستاذنا المحقّق بأنّ «أثر هذا الاستصحاب ليس إثبات الوجوب لأجزاء الأقلّ؛ لأنّ وجوبها متيقّن، فلا معنى لإثبات ما هو حاصل بالوجدان بالتعبّد واعتبار كونها لا بشرط. قلنا: إنّه خارج عن معروض الوجوب، بل أثره، أي: هذا الاستصحاب، هو رفع الوجوب أو الجزئيّة، مثل حديث الرفع.
والفرق بينهما في المقام ليس إلّا انّه أصل تنزيليّ، ومفاد حديث الرفع ـ أي: البراءة ـ أصل غير تنزيليّ، فبضميمة هذا الاستصحاب إلى الوجدان يثبت أنّه يجب عليه إتيان أجزاء الأقلّ دون الجزء المشكوك، وهو المطلوب في المقام>( ).
ثمّ إنّه قد يكون المستصحب عبارة عن عدم وجوب الأكثر المشتمل على الجزء المشكوك فيه قبل الوقت، ولا شكّ في أنّ أركان الاستصحاب، من اليقين السابق والشكّ اللّاحق، تكون تامّةً في هذه الصورة.
ولكنّ الحقّ: أنّه لا يجري؛ لكونه مثبتاً؛ إذ لا أثر له؛ لأنّ الواجب إنّما هو الأقلّ باستقلاله، لا في ضمن الأكثر، ومعلوم أنّ إثبات ذلك بالاستصحاب المذكور لا يكون إلّا على القول بجريان الأصل المثبت.
إثبات الاشتغال باستصحاب القدر المشترك من الوجوب:
قد يقال بإمكان التمسّك لإثبات جريان أصالة الاشتغال في المقام باستصحاب القدر المشترك من الوجوب؛ بدعوى: أنّ الواجب ـ بعد فعل الأقلّ ـ يكون مردّداً بين ما هو مقطوع بارتفاعه وبين ما هو مقطوع ببقائه، فيستصحب ذلك المجعول الشرعيّ، وهو من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّيّ، نظير استصحاب الحيوان المردّد بين البقّ والفيل؛ لأنّ أركان الاستصحاب جميعها تامّة فيه، فبعد إتيانه بالأقلّ يشكّ في إتيان التكليف المقطوع سابقاً المردّد بين الأقلّ والأكثر، والأصل يقتضي بقاء التكليف.
وقد يورد علىه: بأنّ هذا الاستصحاب لا ينهض لإثبات الوجوب للأكثر إلّا على القول بالأصل المثبت؛ لأنّ لازم بقاء أصل التكليف المردّد بعد الإتيان بالأقلّ هو تعلّق الوجوب بإتيان الأكثر.
ويمكن الجواب عن هذا الإيراد: بأنّ الثابت بالاستصحاب هو نفس الحكم الذي هو مجعول الشارع، وهو الوجوب المعلوم بالإجمال، فيحكم ببقائه تعبّداً ببركة الاستصحاب.
وأمّا إثبات الحكم وجوب الإتيان بالأكثر فهو لم يكن بواسطة الاستصحاب حتى يقال بأنّه بالنسبة إليه أصل مثبت، بل إنّما هو بحكم العقل، من باب حكمه بوجوب الإطاعة لكلّ حكم إلزاميّ، واقعيّاً كان أو ظاهريّاً.
وعليه: فالذي يترتّب على الاستصحاب هو نفس الحكم الظاهريّ ببقاء الوجوب المعلوم بالإجمال، من دون أن يثبت كون الواجب هو الأكثر خاصّةً، بل وجوب الإتيان بالأكثر إنّما يحصل بحكم العقل، ومن باب لزوم تحصيل العلم بالفراغ عما اشتغلت به الذمّة قطعاً، فنفس الشكّ في الامتثال بعد الإتيان بالأقلّ يكون كافياً في وجوب الإتيان بالأكثر، ولا نحتاج معه إلى التمسّك بالاستصحاب.
وقد ذهب المحقّق العراقي إلى الانحلال في حكم الشرع أيضاً، بل ادّعى أنّه ليس لدينا علم إجماليّ في الحقيقة، إلّا وهماً، وإنّما الموجود ليس إلّا العلم التفصيليّ بوجوب الأقلّ، والشكّ بدويّاً في وجوب الأكثر.
قال ـ بعد بيانٍ مطوّل ـ:
<ومن ذلك، لا مجال لتشكيل العلم الإجماليّ في المقام بالنسبة إلى نفس الواجب وذات التكليف مع قطع النظر عن حدّ الأقلّيّة والأكثريّة؛ إذ لا يكون الأمر المردّد في المقام من باب مجمع الوجودين، كما في المتباينين، حتى يجيء فيه المناط المقرّر في العلم الإجماليّ من صحّة تشكيل قضيّتين منفصلتين حقيقيّتين في الطرفين، وإنّما يكون ذلك من باب مجمع الحدّين، حيث كان العلم الإجماليّ بين حدّي الوجوب الطارئ بالعرض على معروضه، وإلّا، فبالنسبة إلى ذات الوجوب وحيث وجوده الذي هو مصبّ حكم العقل بوجوب الإطاعة، لا يكون إلّا علم تفصيليّ بمرتبةٍ من التكليف بالنسبة إلى الأقلّ، وشكٍّ بدويٍّ بمرتبةٍ أُخرى منه متعلّقةٍ بالزائد، كما هو ظاهر>( ).
ومحصّل كلامه: أنّ الاختلاف بين الأقلّ والأكثر لم يكن ناشئاً من اختلاف الوجوب المتعلّق بالأقلّ مع الوجوب المتعلّق بالأكثر، بل الوجوب المتعلّق بالأقلّ لم يختلف سنخاً ووجوداً، سواء سرى الوجوب إلى الأكثر أم لم يَسْرِ، بل الاختلاف ـ في الحقيقة ـ إنّما يكون من جهة اختلاف حدّ التكليف من حيث وقوفه على الأقلّ أو سرايته إلى الجزء الزائد، ومرجع الضمنيّة والاستقلاليّة إلى ذلك.
وهذا له نظير، وهو الخطّ القصير والطويل، فإنّه لو رسم شخص الخطّ القصير، ثمّ أضاف إليه ما يوجب طوله؛ فإنّ واقع الخطّ القصير لم يختلف في كلتا الحالتين، وإنّما كان الاختلاف ناشئاً من جهة الحدّ الخاصّ وثبوت الزيادة، وهي لا توجب أيّ تغيّر في واقع الخط القصير عمّا كان عليه قبل الزيادة.
وإذا اتّضح ذلك، فعند الشكّ بين الأقلّ والأكثر يكون مرجع الشكّ إلى الشكّ في ثبوت الزيادة على المقدار الأقلّ وعدمه ليس غير، وأمّا وجوب الأقلّ فهو معلوم بالتفصيل، سواء أكانت الزيادة أم لم تكن، إذ المفروض أنّ حقيقته ووجوده واحد، وأنّه لم يطرأ عليه أيّ اختلاف على كلا التقديرين، ومعه: فلا يكون لدينا شكّ أصلاً في وجوب الأقلّ، وإنّما الشكّ شكّ في ثبوت الوجوب للجزء الزائد المشكوك، وعليه: فليس لدينا إلّا علم تفصيليّ وشكّ بدويّ، وهو معنى الانحلال.
وقد استشكل فيه بعض المحقّقين بأنّه يستفاد من كلامه دعوى عدم اختلاف سنخ الوجوب الضمنيّ والاستقلاليّ، وهو ما لا يمكن المساعدة عليه( ).
ولكن فيه: أنّ هذه الدعوى تامّة ولا غبار عليها، فإنّ الوجوب الضمنيّ ـ أيضاً ـ وجوب استقلاليّ، إذ هو كقطعة من خيمة واقعة على رأس شخص، فإنّها في عين أنّها تكون في ضمن الكلّ تكون قطعةً مستقلّة ومغايرة للقطعة التي وقعت على رأس شخصٍ آخر.
وناقش الشيخ الأعظم دعوى جريان استصحاب الاشتغال بوجه آخر، قال:
<وممّا ذكرنا يظهر حكومة هذه الأخبار ـ يعني: أخبار البراءة ـ على استصحاب الاشتغال على تقدير القول بالأصل المثبت ـ أيضاً ـ كما أشرنا إليه سابقاً ـ لأنّه إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الأكثر الذي حجب العلم بوجوبه، كان المستصحب، وهو الاشتغال المعلوم سابقاً، غير متيقّن بالنسبة إلى الأقلّ، وقد ارتفع بإتيانه، واحتمال بقاء الاشتغال ـ حينئذٍ ـ من جهة الأكثر منفيّ بحكم هذه الأخبار>( ).
وأورد عليه صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل بما لفظه:
<لا يخفى: أنّ استصحاب الاشتغال على تقدير صحّته حسب ما عرفت، كما هو وارد على حكم العقل بالبراءة، لو سُلّم على ما بيّنّاه، فكذلك هو وارد على هذه الأخبار، فإنّ الأكثر ـ حيث يتعيّن به الخروج عن عهدة التكليف الثابت بالاستصحاب على تقدير الإتيان بالأقلّ، فوجوب الإتيان به عقلاً تفريغاً للذمّة وخروجاً عن العهدة ـ معلوم، فكيف يكون داخلاً فيما حجب؟!
هذا لو لم نقل بالأصل المثبت. وأمّا على القول به، فالأكثر معلوم الوجوب شرعاً، فليس ممّا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على تركه، لأجل حجب العلم بوجوبه، وهذا أوضح من أنّ يحتاج إلى مزيد بيان>( ).
والتحقيق أن يقال: إنّه ليس بأصل مثبت في المقام؛ لأنّ الأصل يثبت عدم فراغ الذمّة، والعقل يحكم بوجوب الإتيان بالأكثر.
ثمّ لو قلنا بأنّ مثبتات الاُصول حجّة كمثبتات الأمارات، فإنّ الاستصحاب ـ حينئذٍ ـ يكون وارداً على البراءة النقليّة والعقليّة، وبخاصّةٍ بعدما بنينا على أنّه ليس من الاُصول ولا من الأمارات، بل هو بتعبيرنا: بمثابة عرشٍ للاُصول وفرش للأمارات، وما هو مسلّم إنّما هو أنّ مثبتات الاُصول ليست بحجّة، وحيث إنّ الاستصحاب ــ عندنا ـ لا يعدّ من الاُصول، فلنا أن نثبت وجوب الأكثر بالتعبّد الاستصحابيّ.
وبالجملة: فإنّه لو كان مفاد مثل حديثي الرفع والحجب هو نفي المؤاخذة عن الشيء المجهول، وقلنا بأنّ مثبتات الاُصول حجّة، أو قلنا بأنّه هنا ليس بأصل مثبت، فمن يدّعي ورود الاستصحاب على البراءة، نقليّة كانت أو عقليّة، أو يدّعي أنّه حاكم عليهما، فدعواه هذه تامّة وفي محلّها؛ إذ ـ حينئذٍ ـ يحرز وجوب الأكثر بواسطة التعبّد الاستصحابيّ؛ وذلك لأنّ ما فرض من البيان الذي أُخذ عدمه موضوعاً لقاعدة القبح، إنّما يراد به ما هو أعمّ من البيان الظاهريّ والواقعيّ، ولمّا كان الاستصحاب محرزاً للواقع عملاً، فيكون لازمه حكم العقل بأنّ ذمّته مشغولة بالأكثر؛ لقيام الحجّة والبيان العمليّ عليه.
ومعه: فلا يبقى مجال للقول بنفي المؤاخذة عنه بمثل حديث الرفع؛ لأنّ الشكّ ـ كما عرفنا ـ قد زال تعبّداً ببركة الاستصحاب؛ فإنّ حديث الرفع، بناءً على اقتضائه لنفي المؤاخذة، يكون مساوقاً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولكن بعد جريان الاستصحاب أو غيره من الأدلّة الشرعيّة التي تنهض لأن تكون بياناً، يكون الحديث بما له من المفاد المساوق للقاعدة بحسب الفرض، موروداً للاستصحاب أو لتلك الأدلّة، ومعه: فإذا أتيت بالأقلّ ـ حينئذٍ ـ لا يحصل التأمين، ولا يتيقّن بفراغ الذمّة، لفرض قيام أصلٍ يثبت التكليف في طرف الأكثر، وهذا معنى أنّ الاستصحاب يكون مقدّماً.
وأمّا لو فرضنا أنّ المرفوع كان هو الحكم الواقعيّ ظاهراً، فالظاهر ـ حينئذٍ ـ حكومة الاستصحاب أو وروده ـ أيضاً ـ على حديث الرفع؛ لأنّ الأكثر قد أُحرز الوجوب له ببركة الأصل، فلم يبقَ فيه شكّ حتى يتحقّق موضوع البراءة العقليّة.
وقد يقال: لا مجال هنا لجريان استصحاب بقاء الجامع؛ لأنّ الشكّ في بقائه مسبّب عن الشكّ في وجوب الأكثر واقعاً، فيكون استصحاب عدم وجوب الأكثر حاكماً عليه؛ لفرض تقدّمه عليه، من باب حكومة الأصل السببيّ على المسبّبيّ.
إلّا أنّ هذا غير صحيح؛ لوضوح أنّ من شروط تقدّم الأصل السببيّ على المسبّبيّ، أن يكون التسبّب شرعيّاً، كما يفرض ـ مثلاً ـ بالنسبة إلى طهارة الثوب الذي جرى غسله بماء مشكوك في طهارته، ولكن كان محكوماً بالطهارة، إمّا لاستصحاب الطهارة أو قاعدتها، فإنّه مع ذلك، لا يبقى مجال لاستصحاب بقاء النجاسة في ذلك الثوب؛ ومن الواضح أنّ هذا الشرط مفقود هنا؛ حيث كان تسبّب بقاء الكلّيّ عن بقاء الفرد عقليّاً، وليس من آثاره التعبّديّة. وعليه: فضابط باب الحكومة ليس بموجود هنا.
ومن هنا، كان عجيباً في المقام، أن يُدّعى اعتبار هذا الشرط في صدق الحكومة، ومع ذلك، أن يُصار إلى القول بإجراء استصحاب عدم الأكثر والقول بحكومته على استصحاب بقاء الجامع، تعميماً لقاعدة حكومة الأصل السببيّ على المسبّبيّ.
وأمّا لو قلنا بأنّ المرفوع هو الحكم الواقعيّ، وقلنا بعدم اعتبار مثبتات الاُصول، فيكون حديث الرفع حاكماً على الاستصحاب؛ لأنّ المنفيّ ـ حينئذٍـ هو وجوب الأكثر المشكوك فيه، والاستصحاب قاصر عن أن يُثبت هذه الخصوصيّة.
ولكنّه مخدوش بما ذكرناه آنفاً من أنّ الاستصحاب يُثبت بقاء الجامع، والعقل يحكم بوجوب إتيان الأكثر.
ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ التعبير بالورود ـ هنا ـ لا يصحّ إلّا إذا كان بنحو المسامحة؛ لأنّ الشكّ لم يزل، بل هو باقٍ فعلاً، حتى بعد فرض جريان الاستصحاب، وإنّما عمد الشارع إلى إلغائه عن الاعتبار تعبّداً، ببركة جريان حديث الرفع، وإلّا، فإنّ الشكّ الذي هو موضوع للأصل العمليّ لا يزال باقياً وجداناً ولم يرتفع.
وقد ظهر من جميع ما ذكرناه: أنّ الأدلّة التي ذكروها على الانحلال غير تامّة، فإثباته بها مشكل.
نعم، لا مانع من القول بما ذهب إليه الشيخ وهو الالتزام بالتبعّض في التنجيز، فإنّ الأقلّ يكون معلوم التنجّز، والأكثر من جهة الزائد مشكوك، فتجري أصالة البراءة عقلاً؛ لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وشرعاً؛ تحكيماً لأدلّة البراءة الشرعيّة.
ولنا أن نتمّم ذلك بإنكار العلم الإجماليّ رأساً، وأنّه ليس في البين سوى العلم التفصيليّ والشكّ البدويّ، كما نقلناه آنفاً عن المحقّق العراقي، وحينئذٍ: فلا يتمّ ما ادّعي من لزوم الاحتياط لأجل العلم الإجماليّ، إذ قد قلنا بعدمه أصلاً.

في الأجزاء التحليليّة والذهنيّة:
لو دار الواجب بين الأقلّ والأكثر في المركّبات التحليليّة فهل ينحلّ العلم الإجماليّ بجريان البراءة أم لا؟
قد يقال: بجريان البراءة العقليّة والنقليّة فيه بنفس البيان المتقدّم في الأجزاء الخارجيّة، بتقريب: أنّ المشروط ـ كما في مثل الصلاة عن طهارة ـ يكون متقوّماً بأمرين:
أحدهما: الذات المؤلّفة من أجزاء، أوّلها التكبير، وآخرها التسليم.
والثاني: التقيّد بالطهارة، وهو ـ أي: هذا التقيّد ـ جزء ذهنيّ.
وهذا كالمركّب من الأجزاء الخارجيّة، غاية ما هنالك: أنّ أجزاء المشروط والمقيّد بعضها ذهنيّ، وبعضها الآخر خارجيّ، ولكنّ أجزاء المركّب كلّها تكون موجودة في الخارج.
وبناءً عليه: فإنّ الأقلّ هنا، وهو الذات، معلوم الوجوب تفصيلاً، إمّا بنحو الوجوب النفسيّ، إذا كان هو بنفسه متعلّق الأمر، وإمّا بنحو الوجوب الغيريّ، لو كان متعلّقه هو المشروط، وإنّ ذات الصلاة ـ حينئذٍ ـ تكون مقدّمة لتحقّق الصلاة المشروطة، وبهذا فقط تتّجه دعوى كون وجوبها غيريّاً ومقدّميّاً، فإذا قيل: (صلِّ متطهراً)، كان هذا منحلّاً إلى وجوب ذات الصلاة، ووجوبها مع التقيّد بالطهارة، وأمّا الصلاة نفسها، فهي تكون مقدّمة لتحقّق العنوان المطلوب، والذي هو: الصلاة عن طهارة. وهذا يعني: أنّ نفس الصلاة تتّصف ـ هي أيضاً ـ بالوجوب الغيريّ، كما يتّصف به الجزء التحليليّ منها، والذي هو التقيّد.
ففيما نحن فيه، يكون وجوب نفس الصلاة وذاتها معلوماً بنحو التفصيل، إمّا بالوجوب النفسيّ أو بالوجوب الغيريّ، وأمّا مع التقيّد فمشكوك، فيجري فيه البراءة العقليّة حيث لم يقم بيان عليه، وكذا يجري مفاد (رفع ما لا يعلمون)، وذلك لما في اعتباره من الكلفة الزائدة.
هذا حاصل كلام الشيخ الأعظم، حيث قال ـ ما نصّه ـ:
<وأمّا القسم الثاني، وهو الشكّ في كون الشيء قيداً للمأمور به، فقد عرفت أنّه على قسمين؛ لأنّ القيد قد يكون منشؤه فعلاً خارجيّاً مغايراً للمقيّد في الوجود الخارجيّ، كالطهارة الناشئة من الوضوء، وقد يكون قيداً متّحداً معه في الوجود الخارجيّ. أمّا الأوّل: فالكلام فيه هو الكلام فيما تقدّم، فلا نطيل بالإعادة>، ومراده من (فيما تقدّم): الشكّ في الجزء الخارجيّ( ).
ولكن قد استشكل عليه المحقّق الخراساني في حاشيته على الرسائل بقوله:
<لكن يمكن أن يقال ههنا ـ مضافاً إلى ما عرفت فيما علّقناه هناك ـ: إنّ الخروج عن عهدة التكليف بالأقلّ على نحو اليقين ههنا يتوقّف على إتيان الأكثر، حيث لا يحصل القطع بالخروج عن عهدته إلّا بإتيان ما يسقط معه وجوبه على كلّ تقدير، وليس هذا إلّا شأن الأكثر؛ فإنّ وجوب الأقلّ وإن كان يسقط بإتيانه إذا كان نفسيّاً، لكنّه لا يسقط به إذا كان غيريّاً؛ فإنّ المأمور به على ذلك ليس هو مطلق وجوده، بل هو وجود خاصّ منه، وهذا بخلاف التكليف بالأقلّ هناك، وإنّ وجوبه يسقط بإتيانه، نفسيّاً كان أو غيريّاً، فإنّ المأمور به بالأمر الغيريّ في الجزء هو مطلق الوجود منه، لا خصوص ما يُؤتى به في ضمن تمام الأجزاء>( ).
وقال في الكفاية ـ أيضاً ـ:
<ظهر ممّا مرّ: حال دوران الأمر بين المشروط بشيءٍ ومطلقه، وبين الخاصّ كالإنسان وعامّه كالحيوان، وأنّه لا مجال ها هنا للبراءة عقلاً، بل كان الأمر فيهما أظهر، فإنّ الانحلال المتوهّم في الأقلّ والأكثر لا يكاد يُتَوَهَّم ها هنا؛ بداهة أنّ الأجزاء التحليليّة لا يكاد يتّصف باللّزوم من باب المقدّمة عقلاً، فالصلاة ـ مثلاً ـ في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصّة موجودة بعين وجودها، وفي ضمن صلاةٍ أُخرى فاقدةٍ لشرطها وخصوصيّتها تكون مباينة للمأمور بها، كما لا يخفى>( ).
وحاصله: أنّ الصحيح هو المنع من الانحلال وعدم إمكان قياس ما نحن فيه على الأجزاء الخارجيّة، فإنّ الأجزاء الخارجيّة لمّا كان لأجزائها في الخارج وجودات مستقلّة كان من الممكن أن تتّصف بالوجوب مطلقاً، نفسيّاً وغيريّاً، فيكون هذا العلم التفصيليّ بوجوبها كذلك، هو بعينه، موجباً لانحلال العلم الإجماليّ بوجوب الأقلّ أو الأكثر، لفرض أنّه حصل له العلم تفصيلاً بوجوب الأقلّ، والشكّ بدواً في وجوب الأكثر، وهذا على خلاف الأجزاء التحليليّة التي لا سبيل إلى تمييزها إلّا بالعقل، حيث لم يكن لها ميز بحسب الخارج أصلاً.
وعلى هذا الأساس، يكون الواجد للأجزاء التحليليّة والفاقد لها من قبيل المتباينين، لا من قبيل الأقلّ والأكثر.
وبعبارة أُخرى: فإنّ الأجزاء الخارجيّة حيث كان لذواتها وجودات مستقلّة في الخارج، فهي تكون قابلةً للاتّصاف بالوجوب مطلقاً، نفسيّاً أو غيريّاً، فحينئذٍ: يحصل علم تفصيليّ بوجوب الأقلّ، وهذا العلم التفصيليّ موجب لانحلال العلم الإجماليّ، كأن يقال ـ بعد فرض استقلالها ـ: إنّ هذه واجبة قطعاً، فيكون الزائد مشكوكاً فيه، فتجري البراءة في موردها بلا إشكال.
وهذا بخلاف الأجزاء التحليليّة، وهي ما لا يتسنّى تمييزها إلّا بواسطة العقل، فدعوى الانحلال فيها، بزعم أنّ ذات المقيّد، كالرقبة، أو العامّ، كالصلاة، لا يتّصف شيء منهما بالوجوب حتى يقال: إنّ وجوب ذاتهما معلوم تفصيلاً إمّا نفسيّاً أو غيريّاً؛ لأنّ المقدّمة المتّصفة بالوجوب الغيريّ إنّما هي المقدّمة التي تقع في سلسلة العلل لوجود ذي المقدّمة، ولذا كانت تتّصف بالوجوب الغيريّ.
ولكنّ هذا المعنى لا يأتي هنا؛ لأنّ ذات المقيّد ليس مقدّمة للمقيّد ولا يقع في سلسلة علله، بل هي مباينة للذات بدون القيد، وهكذا الحال في ذات العامّ المتخصّص بالخصوصيّة الكذائيّة؛ لأنّ الرقبة ـ مثلاً ـ بدون الإيمان مباينة للرقبة مع قيد الإيمان، وليست ذات الرقبة مقدّمة لوجود الرقبة المؤمنة ولا واقعة في سلسلة علله حتى يقال بأنّ المتيقّن هو وجوب ذات الرقبة، وأمّا وجوب تقيّدها بالإيمان فمشكوك فيه، فيُصار إلى نفيه بالبراءة، بل الرقبة المتخصّصة بالإيمان مغايرة في الوجود للرقبة الكافرة.
وأيضاً: فإنّ متعلّق الوجوب هو الوجود الخارجيّ الذي يمكن أن يشار إليه بالبنان، كما في المركّب الخارجيّ، فإنّه حيث كان في الخارج ذا أجزاء متعدّدة، فيتعلّق به الوجوب.
وأمّا الجزء التحليليّ، فإنّه ليس له وجود مستقلّ في الخارج حتى يصحّ أن يتعلّق به الوجوب، فإنّ ذات الرقبة، أو ذات الصلاة، لا وجود لهما في الخارج حتى يصحّ أن يتعلّق بهما الوجوب ويقال بوجوبهما وجوباً تفصيلاً، إمّا نفسيّاً أو غيريّاً، وبالتالي: حتى ينحلّ العلم الإجماليّ.
وهكذا يقال ـ أيضاً ـ بالنسبة إلى المركّب من الجنس والفصل؛ فإنّ الحيوان الواقع جنساً ليس مقدّمة للإنسان، ولا هو واقع في سلسلة علله؛ لعدم إمكان وجود الجنس بدون فصل من الفصول؛ إذ إنّ ما لا فصل له لا جنس له، كما قرّروه.
ومعه: فلا يصحّ أن يقال: بأنّه حينما يرد أمر بالإطعام، فوجوب إطعام الحيوان معلوم تفصيلاً، ويشكّ في اعتبار خصوصيّة الإنسانيّة فيه، فيجري الأصل، بل إنّ وجود الجنس مع كلّ فصلٍ يكون مغايراً لوجوده مع فصلٍ آخر، فيكون الجنس مع كلّ فصلٍ من فصوله في الخارج من المتباينين، ويخرج عن باب الأقلّ والأكثر، والمرجع فيهما ـ أعني: المتباينين ـ إلى قاعدة الاشتغال.
ولكنّ اُستاذنا المحقّق فصّل في المقام بين أن تكون الخصوصيّة من مقوّمات المعنى المتخصّص بها عقلاً، كالفصل بالنسبة إلى الجنس، وبين أن تكون من مقوّماته في نظر العرف، كقيد <الروميّة> بالنسبة إلى الجارية في مثل قولك: (اشترِ لي جارية روميّة)، فإنّها بنظر العرف مقوّمة لها، ولذا يجعلون منها نوعاً آخر في قبال الجارية الحبشيّة ـ مثلاً ـ وإن لم تكن من مقوّماتها ومنوّعاتها عقلاً، كما هو أوضح من أن يخفى.
ففي الصورة الاُولى: بما <أنّ المعنى الجنسيّ لا يمكن أن يوجد في الخارج بدون الفصل، بل وجوده دائماً لابدّ وأن يكون في ضمن أحد الفصول، ففي مثل ذلك: لو وقع متعلّقاً أو موضوعاً للتكليف، لابدّ وأن يكون في ضمن أحد أنواعه.
فلو قال: (جئني بحيوان) أو (أطعم حيواناً)، حيث إنّ التكليف بلحاظ الوجود الخارجيّ، وليس للجنس وحده وجود خارجيّ، ولا يمكن أن يكون، فلابدّ وأن يكون متعلّقاً للتكليف مقروناً بأحد الفصول. والنتيجة: أنّه إذا قال (أطعم حيواناً) يكون واجباً تخييريّاً بالنسبة إلى الفصول. والمقصود أنّ الجنس وحده ليس متعلّقاً للتكليف، ولا يمكن أن يكون حتى يكون هو القدر المتيقّن، بل في المطلق مثل (أطعم حيواناً) يكون معروض الوجوب هو الحيوان مع أحد الفصول تخييريّاً، وفي المركّب الأكثر، أي: الخاصّ، كالإنسان ـ مثلاً ـ، يكون معروض الوجوب المعنى الجنسيّ مع فصل معيّن، فيكون من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير، لا بين الأقلّ أو الأكثر.
وقد تقدّم أنّ في باب دوران الأمر بين هذا القسم من التعيين والتخيير، مقتضى القاعدة هو التعيين، لا البراءة عن الخصوصيّة>.
وأمّا في الصورة الثانية، وهو ما إذا كانت من مقوّمات المعنى بنظر العرف، وإن لم يكن مقوّماته عقلاً، كما مثّلنا لنا ﺑ (الروميّة) بالنسبة إلى الجارية، أو كما لو أراد الحنطة الكرديّة فباعه العراقيّة، ﻓ <الضابط فيه: أنّه إذا باع العبد الحبشيّ بعنوان الروميّ، تكون المعاملة من قبيل تخلّف العنوان وباطلاً، لا من قبيل تخلّف الوصف وموجباً للخيار فقط، كما إذا قال: (بعتك هذا العبد الكاتب) ولم يكن كاتباً>( ).
وقد ألحق المحقّق النائيني( ) هذا القسم بالقسم الأوّل، ذاهباً إلى أنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير، وذلك لجهة أنّ العناوين كانت أنواعاً وحقائق مختلفة بنظر العرف، وإن لم تكن كذلك بنظر العقل، فقوله: (اشترِ جاريةً روميّة) تعيين لهذا النوع، فإذا قال: (اشترِ جاريةً) وتردّد أمره بين خصوص الروميّة أو غيرها، فبما أنّ الجارية لا توجد إلّا في ضمن الروميّة أو الحبشيّة أو غيرهما، فلا محالة: يكون الأمر دائراً بين التعيين والتخيير، وليس هناك من معلوم تفصيليٍّ في البين حتى يتأتّى جريان البراءة في الخصوصيّة الزائدة.
وردّه اُستاذنا المحقّق بما حاصله: أنّ العبرة إنّما هي بنظر العقل، ولا عبرة بنظر العرف، والمعلوم تفصيلاً موجود بنظر العقل، وهو القدر المتيقّن، فيكون الانحلال عقليّاً( ).
ولكنّ الحقّ: عدم إمكان القول بالانحلال ها هنا؛ لأنّ طبيعة الجارية وذاتها ليست مقدّمة للجارية الروميّة حتى يقال: هي إمّا واجبة لنفسها أو لغيرها، فلا وجود لما هو معلوم بالتفصيل، فلا انحلال. فتأمّل جيّداً.

حكم الجزء أو الشرط المتروك نسياناً:
والبحث في هذه المسألة عن أنّ الأصل في الأجزاء هل هو الركنيّة، بمعنى: أنّ الأصل بطلان العمل بزيادتها أو نقيصتها سهواً أو نسياناً، أم لا؟
وهذا التفسير لمعنى الركنيّة هو على خلاف ما نُمِي إلى بعضهم من تخصيص الركنيّة ببطلان ما يكون مركّباً من تلك الأجزاء ومن غيرها بنقيصتها سهواً وعمداً، دون زيادتها كذلك.
وأمّا النقصان العمديّ، فلا يخفى: أنّه موجب للبطلان على الإطلاق، أي: بلا فرقٍ بين أن يكون ركناً وبين أن لا يكون كذلك، وإلّا، لزم الخلف المحال؛ إذ ما فرضناه جزءاً ـ حينئذٍ ـ لا يكون جزءاً، وهو خلف، إلّا أن يكون من أوّل الأمر، قد فُرض مستحبّاً، وليس من أجزاء الواجب نفسه، وأنت خبير بأنّه فرض آخر لا علاقة له بمحلّ البحث.
ولا يخفى: أنّه بناءً على القول الأوّل، فالفرق بين الجزء الركنيّ وغير الركنيّ يكون في كلتا الناحيتين: الزيادة والنقيصة.
وأمّا بناءً على القول الثاني فالفرق بينهما، إنّما هو من جهة النقيصة فحسب، وذلك لأنّه على هذا القول يكون بين الجزء الركنيّ والجزء غير الركنيّ أمر مشترك وهو عدم البطلان بالزيادة.
وأمّا الزيادة العمديّة في غير الركن، فهي لا تكون مقتضيةً للبطلان إلّا إذا كان هذا الجزء مأخوذاً في الواجب على سبيل البشرط لا، وإلّا، لم يكن هناك من وجهٍ للبطلان بها، وإن كان الجزء على فرض أخذه كذلك، أي: بشرط لا عن الزيادة، تؤدّي زيادته إلى البطلان، لا لكونها زيادةً، بل لصدق عنوان النقيصة عليها، كما يتّضح بأدنى تأمّل، وقد عرفنا أنّ النقصان العمديّ موجب للبطلان مطلقاً، ركناً كان الجزء أم غير ركن.
وقبل الدخول في البحث يجدر الالتفات إلى أنّ عنوان <الركن> وإطلاقه على الجزء الذي يوجب تركه عمداً أو سهواً للبطلان إنّما هو اصطلاح فقهيّ أتى به الفقهاء، وليس من المعاني التي اخترع الشارع المقدّس لها لفظاً.
وقد ذكر الشيخ الأعظم( ) أنّ عنوان الركن لم يرد في النصوص لكي يقع البحث في تشخيص مفهومه العرفيّ، وإنّما هو اصطلاح فقهيّ يعبّر به عن بعض الأجزاء التي يختلّ العمل بتركها سهواً ـ كما هو تعريف بعض الفقهاء للركن ـ أو التي يختلّ العمل بتركها سهواً وزيادتها عمداً وسهواً ـ كما عليه آخرون ـ.
وما هو مهمّ فيما نحن فيه هو أنّ مجرّد ترك جزء من المركّب الواجب سهواً، هل يوجب بطلان العمل، كائناً ما كان هذا الجزء، بمعنى: أنّ الأصل ركنيّته؟ أم لا؟ بل يحتاج الحكم ببطلان العمل إلى دليلٍ خاصّ على ذلك، بمعنى: أنّ كلّ جزءٍ ورد الدليل على أنّ تركه سهواً ـ أو زيادته كذلك بالإضافة إلى نقيصته ـ ممّا يوجب البطلان، نسمّيه بالركن، أو فقل: أنّ النسيان هل يوجب ارتفاع الجزئيّة أو الشرطيّة أم لا، فيما لا يكون لدليليهما إطلاق يشمل حال النسيان أيضاً؟
والكلام يقع في مقامين:
الأوّل: هل ترك الجزء سهواً مبطل للعمل مطلقاً، أيّ جزءٍ كان، ركنيّاً أم غيره، أو لا، بل يحتاج إثبات البطلان إلى دليل خاصّ؟
والثاني: أنّ زيادة الجزء مطلقاً، أيّ جزءٍ كان، هل هي موجبة للبطلان، سواء كانت عن عمد أو سهو، أم لا؟

المقام الأوّل: في ترك الجزء سهواً:
ولابدّ من توزيع البحث على جهات:
الجهة الأُولى: أنّ توجيه خطاب إلى الناسي بما عدا الجزء المنسيّ، هل هو ممكن في مقام الثبوت أم لا؟ كأن يقال له ـ مثلاً ـ: أيّها الناسي للسورة، يجب عليك إتيان الصلاة بجميع أجزائها ما عدا السورة، أو ما عدا الجزء الذي أنت ناسٍ له.
والجهة الثانية: لو كان توجيه الخطاب إلى الناسي بالنحو المتقدّم ممكناً، ففي مقام الإثبات، هل هناك دليل من أمارة أو أصل يثبت به ذلك أم لا؟
والجهة الثالثة: أنّه لو فرضنا عدم إمكان توجيه الخطاب إليه ثبوتاً، أو قلنا بإمكانه في عالم الثبوت، ولكن لم نعثر على دليل عليه في عالم الإثبات، فهل هناك دليل، من أصل أو أمارة، يثبت كفاية الإتيان بما عدا الجزء المنسيّ عن الماُمور به الواقعيّ أم لا؟
فهذه جهات ثلاث يجب تنقيحها.
أمّا الجهة الأُولى:
فقد استشكل في إمكان ذلك ثبوتاً؛ بدعوى أنّ الخطاب لابدّ وأن يكون قابلاً للتحريك والداعويّة نحو العمل بمضمونه، وفيما نحن فيه، ليس ذلك ممكناً؛ لأنّ الخطاب إلى النّاسي أو الغافل أو الساهي وأمثال هؤلاء، أعني: العناوين التي تنطبق على غير الملتفت إلى جزئيّة هذا الجزء، لا يخلو: فإمّا أن يكون ملتفتاً إلى هذا العنوان وإمّا أن لا يكون كذلك. وعلى الثاني: لا يمكن للخطاب المفروض أن يكون داعياً ومحرّكاً، فيكون لغواً، وهو محال. وأمّا على الأوّل، وهو تقدير الالتفات، فيخرج بالالتفات عن عنوان أنّه ناسٍ، ولا يكون مصداقاً لذلك العنوان، ولك أن تقول: إنّه يلزم من كونه داخلاً في عنوان الناسي عدم دخوله فيه.
وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ معنى خطاب الناسي بما عدا الجزء المنسيّ أنّ الواجب بتمام أجزائه وشرائطه يكون واجباً على الذاكر فقط، وأمّا الناسي فالواجب عليه ـ حينئذٍ ـ ما عدا الجزء أو الشرط المنسيّ منه، وتوجيه الخطاب إليه مخرج له عن عنوان الناسي.
وهذا الإشكال للشيخ الأعظم، فإنّه ذهب إلى استحالة تعلّق التكليف بالناسي بعنوانه، والوجه فيه:
أنّ التكليف لا يمكن أن يكون باعثاً ومحرّكاً للعبد نحو العمل إلّا مع الالتفات إليه وإلى موضوعه، فالتكليف بالحجّ المأخوذ في موضوعه الاستطاعة لا يصلح أن يكون محرّكاً إلّا مع الالتفات إلى الاستطاعة، ومن الواضح: أنّ الناسي لا يمكن أن يلتفت إلى موضوع التكليف، وهو كونه ناسياً، مع فرض بقاء النسيان له، بل إنّه بمجرّد الالتفات إليه يزول النسيان عنه، فالتكليف المأخوذ في موضوعه الناسي غير صالح للمحرّكيّة في أيّ حالٍ من الأحوال، أمّا في صورة الغفلة عن النسيان، فواضح؛ لعدم التمكّن من توجيه الخطاب إليه، وأمّا في صورة التفاته، فلفرض زوال النسيان وما يستتبعه ذلك من تغيّر الموضوع.
قال في الفرائد:
<قُلْتُ: إن اُريد بعدم جزئيّة ما ثبت جزئيّته في الجملة في حقّ الناسي إيجاب العبادة الخالية عن ذلك الجزء عليه، فهو غير قابلٍ لتوجيه الخطاب إليه بالنسبة إلى المغفول عنه إيجاباً وإسقاطاً»( ).
وقد أُجيب عن هذا الإشكال بأجوبةٍ عدّة:
منها:
ما أفاده صاحب الكفاية بقوله: <كما إذا وجّه الخطاب على نحوٍ يعمّ الذاكر والناسي بالخالي عمّا شكّ في دخله مطلقاً، وقد دلّ دليل آخر على دخله في حقّ الذاكر>( ).
وحاصله: أنّه يمكن للمولى توجيه الخطاب إليه على نحو يعمّ الذاكر والناسي، كعنوان المكلّف ـ مثلاً ـ مع بقائه على ما هو عليه من عدم الالتفات إلى كونه ناسياً، ويكلّفه بما عدا الجزء المنسيّ، ثمّ يكلّف الملتفت بالمنسيّ، فكما أنّ الذاكر الآتي بجميع الأجزاء آتٍ بوظيفته، فكذلك الناسي الآتي بالناقص يكون ـ أيضاً ـ آتياً بما هي وظيفته، من دون أن يتوجّه الخطاب إليه بعنوان الناسي حتى يلزم محذور الانقلاب المشار إليه.
وردّه اُستاذنا المحقّق: بأنّه <صرف فرض لا واقع له، مع اختلاف النسيان بحسب اختلاف الأشخاص من حيث أسباب النسيان، وأيضاً: من ناحية كثرة الأجزاء وقلّتها، التي صارت منسيّة، واختلاف الأجزاء التي يتعلّق بها النسيان بحسب اختلاف الأشخاص واختلافهم بحسب الحالات، ففرض عنوانٍ ملازم للنسيان لجميع الأشخاص، بحيث يكون جامعاً لجميع هذه التشتّتات، وإن لم يكن ممتنعاً عقلاً، ولكن ممتنع عادةً>( ).
ومنها:
ما أفاده صاحب الكفاية ـ أيضاً ـ وهو إمكان توجيه الخطاب إلى عامّة المكلّفين، الناسي منهم والذاكر، ولكن بالنسبة إلى الأجزاء التي تكون جزئيّتها مطلقة، وليست بمخصوصة بحال الذكر، وما يُنتجه مثل هذا الخطاب هو أنّ المكلّف لو ترك شيئاً من هذه الأجزاء كان عمله باطلاً، ويتوجّب عليه الإعادة، ولو كان تركه من ناحية النسيان.
وأمّا بالنسبة إلى سائر الأجزاء، وهي الأجزاء المخصوصة التي ليست جزئيّتها مطلقة، يوجّه المولى خطابه إلى خصوص الذاكرين، وتكون النتيجة: أنّ الناسي لجزء أو لأجزاء لا يكون مكلّفاً بما نسيه من الأجزاء، حيث لم تكن جزئيّتها مطلقة بحسب الفرض.
نعم، لو كانت جزئيّتها مطلقة، لكان مكلّفاً بها، ولكن لا بعنوانه كونه ناسياً حتى يلزم المحال، بل بالعنوان العامّ الذي يكون شاملاً لجميع المكلّفين، فيحصل المقصود بدون لزوم أيّ محالٍ في البين.
وإن شئتَ فقل: لا مانع من أن يكون الملتفت مكلّفاً بتمام الماُمور به، والناسي مكلّفاً بما عدا المنسيّ، لكن لا بعنوان الناسي حتى يلزم انقلابه إلى الذاكر بمجرّد توجيه الخطاب إليه، بل بعنوانٍ آخر يكون عامّاً وملازماً لجميع أفراده، كالبلغميّ أو قليل الحافظة أو كثير النوم وما إلى ذلك، أو بعنوانٍ آخر يكون خاصّاً، كالعناوين التي تختصّ بأفراد الناسي، كقولك: يا زيد، أو يا بكر، أو يا بشر.
وعبارة صاحب الكفاية كالتالي: <أو وجّه إلى الناسي خطاب يخصّه بوجوب الخالي بعنوانٍ آخر عامٍّ أو خاصّ، لا بعنوان الناسي كي يلزم استحالة إيجاب ذلك عليه بهذا العنوان؛ لخروجه عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة>( ).
وقد علّق الاُستاذ المحقّق على هذا الوجه بأنّه: <لا يرد عليه إشكال، ولا شكّ في إمكانه في عالم الثبوت، ولكن يحتاج في عالم الإثبات إلى دليل يدلّ على مثل هذا الجعل والخطاب>( ).
ومنها:
وجه آخر ذكره صاحب الكفاية نفسه، ولكن في حاشيته على الرسائل، وإليك نصّ كلامه:
<هذا، مع أنّه لا يلزم خطاب في هذا الحال أصلاً، ويكفي مجرّد محبوبيّة الخالي عن المغفول عنه في الحال، كمحبوبيّة المشتمل عليه في حال الالتفات إليه؛ فإنّ فائدة الخطاب ليس إلّا البعث والتحريك، وهو حاصل من نفس الخطاب بالمركّب، حيث إنّ الغافل يعتقد شموله، فافهم>( ).
وحاصله: أن يكلّف الملتفت بالتمام، ولا يُكلَّف الناسي بشيء، ولكن يصحّ فعله الناقص؛ لاشتماله على المصلحة، ويكفي في بعثه إلى الإتيان بالناقص هو اعتقاده بأنّ أمر الملتفت إليه متوجّهاً إليه، فيأتي بالناقص بداعي موافقة أمر الملتفت بالتمام.
ومنها:
ما اختاره اُستاذنا المحقّق، وهو <أنّ الخطاب المتوجّه إلى عامّة المكلّفين هو الأمر بالجامع بين الأفراد الصحيحة التي تختلف من حيث الأجزاء والشرائط، قلّةً وكثرةً وكيفيّةً بحسب حالات المكلّفين، علماً وجهلاً، ذكراً ونسياناً، وكذلك بحسب سائر الحالات والطوارئ.
فالصلاة ـ مثلاً ـ في حقّ الناسي لبعض الأجزاء والذاكر لها، وإن كانت تختلف بالنسبة إلى المصداق، ولكن لا اختلاف بينهما من حيث ذلك الجامع؛ لأنّه كما أنّ ما أتى به الذاكر من الصلاة الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط مصداق للصحيح، كذلك الذي يأتي به الناسي لبعض الأجزاء الفاقد لذلك البعض المنسيّ، مصداق للصلاة الصحيحة.
فالجامع في كليهما موجود بدون أيّ اختلاف بينهما، وإلّا ، ليس بجامع، فكلّ واحد منهما ـ أي: الذاكر والناسي ـ أتى بما هو المأمور به ـ أي: الجامع ـ وهو الصلاة الصحيحة.
نعم، كلّ واحد منهما يرى نفسه ذاكراً، ويرى صلاته جامعة لجميع الأجزاء والشرائط، غاية الأمر: أنّ الناسي يكون مخطئاً في هذه العقيدة، أي: في كونه ذاكراً، ولديه جهل مركّب؛ إذ يتصوّر أنّه ذاكر، وأنّه قد أتى بما هو وظيفة الذاكر، وهذا الخطأ منه لا يضرّ بصحّة عمله وامتثاله للأمر المتوجّه إليه؛ لأنّه أتى بما هو وظيفته واقعاً بقصد القربة، وإنّما حصل له الخطأ والاشتباه في أمر آخر، وهو أنّه ذاكر، وأنّ ما أتى به هو وظيفة الذاكر.
نعم، لابدّ أنّ يثبت من الخارج أنّ وظيفة الناسي ليست هي الإتيان بتمام الأجزاء في غير الأركان، بل خصوص ما يتذكره منها>( ).
ولكنّ هذا الوجه ـ كما اعترف به الاُستاذ نفسه ـ لا يتمّ إلّا إذا قلنا بأنّ هناك بين أفراد الصحيحة جامعاً عنوانيّاً يكون هو المراد في الخطابات العامّة، وإنّما وقع الاختلاف من ناحيتي الكمّ والكيف في الأفراد، بما يرجع إلى الخصوصيّات الفرديّة التي تنشأ عن اختلافٍ في حالات المكلّفين أو سائر الجهات الزمانيّة والمكانيّة، أو غير ذلك.
وبهذا يتمّ الكلام في الجهة الأُولى.
وأمّا الجهة الثانية:
وهو بعد فرض إمكان توجيه الخطاب إلى الناسي بما عدا الجزء المنسيّ بأحد الوجوه التي ذكرناها، أو غيرها، في مرحلة الثبوت، فهل هناك دليل يمكن الحصول عليه في عالم الإثبات من أصلٍ أو أمارةٍ على وقوع ذلك، أم لا يوجد مثل هذا الدليل؟!
وهنا: تارةً نتكلّم في وجود الدليل الاجتهاديّ والطرق والأمارات. وأُخرى: في قيام الأصل العمليّ والدليل الفقاهتيّ.
وإحراز وجود الأوّل يتوقّف على النظر في مفاد كلّ من دليلي المركّب والجزء، فإنّه إمّا أن يكون هناك إطلاق في أحدهما، أو في كليهما، وأمّا أن لا يكون هناك إطلاق في شيء منهما.
أمّا إذا كان هناك إطلاق في دليل المركّب كما في دليل الجزء، فإنّه يظهر من إطلاق دليل المركّب أنّ المصلحة موجودة فيه في جميع الحالات، وأنّها لا تسقط بنسيان جزء أو شرط من المركّب.
وأمّا الإطلاق الذي في دليل الجزء أو الشرط، فهو يقتضي كونهما دخيلين في الماُمور به، ولازمه: سقوط التكليف عن المركّب بسقوط التكليف عن الجزء؛ لنسيانه، أو لأيّة جهةٍ أُخرى من موجبات سقوط التكليف عنه؛ لأنّه ليس هناك إلّا تكليف واحد يكون متعلّقاً بالمجموع، وحيث سقط عن الجزء، فلم يبقَ شيء لكي يتعلّق بما عدا الجزء الذي سقط التكليف عنه بأحد موجبات السقوط، والمركّب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه، وحينئذٍ: فلابدّ في إيجاب الإتيان بالباقي من فرض ثبوت تكليفٍ جديد آخر.
وبالجملة: فإطلاق دليل الجزء يوجب سقوط الأمر عن المركّب، وإن كان للأمر بالمركّب إطلاق، وذلك لحكومة إطلاق دليل الجزء على الإطلاق في دليل المركّب، فلا تكليف هنا بما عدا الجزء المنسيّ؛ لأنّ الأصل اللّفظيّ بإطلاقه يقتضي الركنيّة، وأنّه بعد النسيان يختلّ الماُمور به.
وأمّا إذا لم يكن لدليل الجزء إطلاق فهذا له صورتان: أُولاهما: أن يكون لدليل المركّب إطلاق، والثانية: أن لا يكون لدليله إطلاق.
فإذا كان لدليله إطلاق، فقد يقال: بأنّه يؤخذ بإطلاقه، ويقال بأنّ الناسي وإن سقط بالنسبة إليه التكليف بالجزء المنسيّ، ولكنّه يكون مكلّفاً بما عداه؛ لأنّ دليل المركّب مطلق بحسب الفرض.
ولكن قد يستشكل فيه: بأنّ معنى إطلاق المركّب الماُمور به يقتضي أنّ كلّ واحدٍ من الأجزاء يكون جزءاً مطلقاً، حتى في حال نسيانه، إذ ليس المركّب إلّا الأجزاء بشرط الانضمام، فمعنى إطلاقه: هو إطلاق كلّ واحدٍ من الوجوبات الضمنيّة للأجزاء المستفادة من الأمر النفسيّ بالكلّ، وهذا يستلزم انتفاء المركّب بانتفاء جزئه المنسيّ، فكيف يصحّ أن يدّعى أنّ إطلاق المركّب يقتضي الإتيان به بلا فرق بين نسيان جزئه وعدمه، مع أنّه مع نسيانه ينتفي الكلّ المؤلّف من أجزاء يفترض بها أن تكون مرتبطة، وهذا كلّه إنّما هو لأجل انبساط الأمر بالمركّب على كلّ واحد من أجزائه.
ولكنّ الحقّ: أنّ إطلاق دليل الماُمور به ناظر إلى الأجزاء بشرط الانضمام، وهو ليس أمراً آخر سوى الكلّ، فالإطلاق يتعلّق به، لا بكلّ واحد من الأجزاء بخصوصه حتى يرد الإشكال وتثبت المعارضة.
وأمّا لو لم ينعقد إطلاق في شيءٍ من الدليلين، فحينئذٍ: تصل النوبة إلى الأدلّة الثانويّة، وسيأتي الكلام فيها.
هذا كلّه بحسب مقام الثبوت.
وأمّا بحسب مقام الإثبات بالنسبة إلى الإطلاق في دليل أصل المركّب، فالظاهر أنّه لا إطلاق لأدلّته؛ لأنّه وارد ـ غالباً ـ في مقام التشريع، وليست في مقام بيان ماهيّة العبادة أو المعاملة من حيث ما لها من الأجزاء والشرائط.
وأمّا أدلّة الأجزاء والشرائط، فهي إن كانت من قبيل الأدلّة اللبّيّة، لم يكن له ـ هي أيضاً ـ إطلاق، بل لها قدر متيقّن لابدّ من الأخذ به، اللّهمّ إلّا أن يرد الإجماع على كونها دخيلةً مطلقاً في الماُمور به، وقلنا بحجّيّة مثل هذا الإجماع وأنّه ناهض لإثبات الإطلاق.
وأمّا لو كان دليلاً لفظيّاً، فالظاهر هو ثبوت الإطلاق بالنسبة إلى كلتا حالتي الذكر والنسيان؛ لأنّ الظاهر من دليل الجزئيّة هو أنّ المركّب متقوّم بذلك الجزء، وبخاصّة إذا كان لسان دليلها نفي المركّب بنفيه، كقوله: <لا صلاة إلّا بطهور>( )، و<لا ذكاة إلّا بالحديدة>( ).
وهل دليل الجزء ينعقد له إطلاق مطلقاً، سواء كان بلسان التكليف، مثل (اركع في الصلاة) أم الوضع، كما في (لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب)، أو لا يكون لها إطلاق على الإطلاق، أم لابدّ من التفصيل بين أن يكون دليل الجزء من قبيل انعدام المركّب ونفيه بانعدام الجزء، فيقال بإطلاقه وشموله لحالة النسيان، وبين أن يكون بلسان الأمر به في المركّب أو معه أو قبله، فقال بعدم الإطلاق من جهة أنّ منشأ انتزاع الجزئيّة أو الشرطيّة ذلك الأمر، فتابع سعةً وضيقاً لمنشأ انتزاعه.
ولا إشكال في سقوط الأمر بالنسبة إلى نفس ذلك الجزء المنسيّ حال نسيانه؛ لأنّه تكليف بالمحال، وإنّما الكلام في إمكانه بالنسبة إلى وجوب الإتيان ببقيّة الأجزاء.
أمّا بالنسبة إلى نفس الجزء ـ حال نسيانه ـ فعدم إمكانه في غاية الوضوح؛ لأنّه بسقوط الأمر من جهة النسيان عن الجزء المنسيّ لا يبقى منشأ لانتزاع جزئيّته، فتكون جزئيّته، والحال هذه، مختصّة بحال الذكر.
ويحكى عن المحقّق البهبهاني أنّه فصّل فقال بانعقاد الإطلاق في الوضع دون ما إذا كان بلسان الأمر، وذلك لأنّه لو كان بلسان الوضع فظهوره في انتفاء المركّب والماهيّة بانتفائه، بلا فرق بين أن يكون جزءاً أو شرطاً؛ لأنّه يدلّ على دخل الجزء أو الشرط في الماُمور به وحقيقة المركّب مطلقاً، فيشمل جميع حالات المكلّف، من حال الذكر والنسيان وغيرهما.
وأمّا إذا كان بلسان التكليف فيمكن أن يقال باختصاص الجزئيّة والشرطيّة المنتزعتين منه بحال الالتفات؛ لأنّ منشأ انتزاعهما، وهو الطلب، مقيّد بالقدرة، وهي مفقودة حال النسيان، فلا يكون هناك بعث بالنسبة إلى الناسي؛ لأنّ الأوامر الانتزاعيّة تكون تابعة لمناشئ انتزاعها سعةً وضيقاً. بخلاف ما إذا كان الدليل بلسان الوضع؛ إذ ليس هناك طلب في البين ـ حينئذٍ ـ حتى يتقيّد عقلاً بمن له القدرة، وهو الملتفت، بل إنّما هو بيان لأمرٍ واقعيّ، وهو كونه دخيلاً في ماهيّة المركّب وحقيقته.
وقد يستشكل فيه: بأنّ الفرق المزبور يتوقّف على إفادة دليل الجزئيّة ـ فيما إذا كان بلسان الأمر ـ هو ما إذا كان الجزء واجباً نفسيّاً، حتى يتقيّد بحال الالتفات، حيث يمتنع انبعاث غير الملتفت، ولأنّ مطالبة الناسي، كالعاجز، قبيحة. لوضوح أنّ الأوامر والنواهي المتعلّقة بأجزاء المركّبات أو الشرائط أو الموانع ليس فيها طلب مولوي؛ لظهورها في الإرشاد إلى دخل المتعلّق في ماهيّة المركّب الماُمور به، جزءاً كان أو شرطاً أو مانعاً، والأمر والنهي وإن كانا ظاهرين بدواً في المولويّة، ولكنّ ظهورهما الأوّليّ هذا ينقلب إلى ظهور ثانويّ، وهو الإرشاد إلى الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة، فلو كان الأمر بالركوع ونحوه من الأجزاء والشرائط والموانع نفسيّاً للزم تعدّد العقاب، ولا يلتزم أحد به.
ولكن بناءً على هذا يلزم أن تكون الجزئيّة مختصّة بحال الالتفات؛ لأنّ الناسي والغافل يستحيل توجيه الخطاب إليهما، فالأمر الوارد على الجزء بعد انبساط أمر المركّب، بما أنّه مقيّد بالقدرة، فما ينتزع منه ـ أيضاً ـ لابدّ وأن يكون كذلك، فلا يمكن التمسّك بإطلاق الجزء.
ولكنّ الحقّ: هو لزوم التفصيل بين ما يدلّ على جزئيّة شيء للماُمور به بما هو ماُمور به، فبما أنّه مدلول الجزئيّة المنتزعة من الأمر النفسيّ الضمنيّ، وهو المأخوذ من الأمر بالمركّب، فلا محالة يتقيّد بالالتفات.
وأمّا ما يدلّ على الجزئيّة للمركّب، كمثل (اركع في الصلاة)، فهو إرشاد محض إلى ما هو الجزء للمركّب والوافي بغرضه وملاكه، فهذا إنّما يدلّ على الجزئيّة المطلقة بعد عدم تفاوت الأحوال فيما يكون جزءاً لما تقوم به المصلحة الداعية إلى الأمر، وبناءً عليه: فيمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات الجزئيّة في حالة النسيان وغيرها، والإطلاق يقتضي عدم الاجتزاء بما عدا المنسيّ.
وقد ذهب المحقّق العراقي في المقام إلى دعوى أنّه يمكن التمسّك بالإطلاق بعدما فرض أنّ الأوامر المتعلّقة بهذه الأجزاء من الأوامر النفسيّة، فإنّ كلّ أمرٍ من هذه الأوامر يشكّل قطعةً من ذلك الأمر الواحد الذي ينبسط على جميع أجزاء المركّب.
ومع ذلك، فلا مانع ـ أيضاً ـ من التمسّك بإطلاق دليل الجزء؛ لأنّ الأمر له ظهور إطلاقيّ من حيث الحكم التكليفيّ؛ لشموله لحال النسيان، وله أيضاً ظهور من حيث الحكم الوضعيّ، أي: جزئيّة ما تعلّق به الأمر للمركّب في حال النسيان.
وبما أنّ المقيّد ليس إلّا حكم العقل بقبح توجيه الخطاب إلى الناسي، وتكليفه بالنسبة إلى الجزء المنسيّ، وهذا الحكم العقليّ بقبح مطالبة الناسي ليس في الارتكاز والوضوح كقبح مطالبة العاجز ومؤاخذته حتى يكون كالقرينة المحتفّة بالكلام المتّصلة به، وحتى يدّعى كونه مانعاً من انعقاد الظهور الإطلاقيّ، بل هو كالقرينة المنفصلة المانعة عن حجّيّة الظهور بعد انعقاده، لا عن أصله، فغايته: أنّ هذا الحكم العقليّ يمنع عن حجّيّة الظهور الإطلاقيّ بالنسبة إلى الحكم التكليفيّ، أي: وجوب التشهّد أو الركوع ـ مثلاً ـ على الناسي لجزئيّتهما.
وأمّا بالنسبة إلى الحكم الوضعيّ، أي: جزئيّتهما في حالة النسيان، فلا، فحينئذٍ: يؤخذ بالظهور الإطلاقيّ بالنسبة إلى الحكم الوضعيّ، ويقال بالجزئيّة حتى في صورة النسيان.
وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ الساقط عن الاعتبار إنّما هو حجّيّة ظهور دليل الجزء في ناحية التكليف، لا حجّيّة ظهوره في الحكم الوضعيّ مطلقاً الشامل لحال النسيان، فلا مقيّد لها، ولا قرينة على خلافها، فيؤخذ بظهورها.
هذا كلامه موضَّحاً ومبيّناً. ونكتفي بنقل ما يلي من نصّ كلامه:
<نقول: إنّ المنع المزبور عن عموم الجزئيّة لحال النسيان إنّما يتّجه إذا كان الحكم العقليّ بقبح تكليف الناسي والغافل في الارتكاز بمثابةٍ يكون كالقرينة المحتفّة بالكلام، بحيث يمنع عن انعقاد ظهوره في الإطلاق، وهو في محلّ المنع، فإنّ الظاهر هو عدم كونه من العقليّات الضروريّة المرتكزة في أذهان العرف والعقلاء، وأنّه من العقليّات غير الارتكازيّة التي لا ينتقل الذهن إليها إلّا بعد الالتفات والتأمّل في المبادئ التي أوجبت حكم العقل، فيدخل ـ حينئذٍ ـ في القرائن المنفصلة المانعة عن مجرّد حجّيّة ظهور الكلام، لا عن أصل ظهوره. وعليه: يمكن أن يقال: إنّ غاية ما يقتضيه الحكم العقليّ المزبور إنّما هو المنع عن حجّيّة ظهور تلك الأوامر في الإطلاق بالنسبة إلى الحكم التكليفيّ، وأمّا بالنسبة إلى ظهورها في الحكم الوضعيّ، وهو الجزئيّة، وإطلاقها لحال النسيان، فحيث لا قرينة على الخلاف من هذه الجهة، يؤخذ بظهورها في ذلك...>( ).
هذا من ناحية الأدلّة والأمارات، وأمّا من ناحية الاُصول العمليّة:
ثمّ إنّه لو فرض أنّ مقتضى إطلاق أدلّة الأجزاء والشرائط، وإن كان هو ثبوت الجزئيّة أو الشرطيّة مطلقاً، ولو في حال النسيان، إلّا أنّ مقتضى الدليل الثانويّ، وهو مثل قوله في حديث الرفع (رفع النسيان) هو رفع الجزئيّة في حالة النسيان، لحكومتها على الأدلّة الأوّليّة للأجزاء والشرائط بالنسبة إلى الفقرات الخمس ـ والتي هي الخطأ، والنسيان، وما أُكرهوا عليه، وما اضطرّوا إليه، وما لا يطيقون ـ فمعنى رفع النسيان هو رفع الجزئيّة في حال النسيان.
فحديث الرفع ـ إذاً ـ بعد حكومته على الأدلّة الأوّليّة يشير الى تخصّص الجزئيّة بحال الذكر، فيوجب تقييد إطلاق الجزئيّة.
وبالجملة: فمقتضى مثل حديث (لا تعاد) وحديث الرفع هو صحّة الصلاة الناقصة، وأنّها تكون مجزئةً للناسي عن الإتيان بالتامّ، ومعه: فلا تصل النوبة أصلاً إلى جريان البراءة الشرعيّة؛ وذلك لوجود الدليل الحاكم.
وقد استشكل فيه الاُستاذ المحقّق ﺑ <أنّ الرفع وإن تعلّق ظاهراً بنفس النسيان، ولكنّه لا يمكن الأخذ به؛ لأنّه خلاف الامتنان؛ لأنّ معنى رفع النسيان كون الفعل الصادر نسياناً كالفعل الصادر عمداً، فيكون الإفطار الصادر نسياناً ـ مثلاً ـ كالصادر عمداً، موجباً للقضاء والكفّارة، أو شرب الخمر نسياناً ـ مثلاً ـ موجباً للحدّ ـ مثلاً ـ>( ).
أي: وهذا على خلاف الامتنان الذي استظهرنا أنّ الحديث وارد في مقامه، وهو ممّا لا شكّ فيه ولا شبهة تعتريه، ومعه: فلابدّ من أن يكون المقصود من رفع النسيان هو رفع المنسيّ، وذلك بأن يجعل المصدر (النسيان) بمعنى الفعل المبني للمفعول (نُسي).
فيكون المرفوع هو الفعل الذي قد صدر عن نسيان، مثلاً: لو شرب الخمر نسياناً، يجعل هذا الشرب كالعدم من ناحية من له من الأثر الشرعيّ، فيسقط عنه الحدّ وغيره من الآثار الشرعيّة التي تترتّب شرعاً على الشرب العمديّ.
وبناءً على هذا: فيكون مقتضى إجراء حديث الرفع في هذا المقام أنّ الصلاة التي صدرت منه نسياناً لنسيان جزءٍ من أجزائها أو شرط تُجعل كالعدم، فيجب عليه أن يصلّي ثانياً، ولكنّ هذا ـ كما هو واضح ـ على خلاف الامتنان جدّاً.
ثمّ قال:
<إن قلت: إنّ المنسيّ ليس هو المركّب الفاقد للجزء المنسيّ؛ لأنّه صدر عن عمد والتفاتٍ إليه، غاية الأمر: باعتقاد أنّه تمام المركّب، واشتبه في ذلك، بل المنسيّ هو الجزء الذي نسيه ولم يأتِ به، فعدم إتيانه به لنسيان جزئيّته، وإلّا، لو كان ذاكراً لجزئيّته لكان يأتي به، فلابدّ وأن يكون المرفوع هي الجزئيّة في ذلك الحال، لا الفعل الفاقد للجزء كي يكون خلاف الامتنان>.
وأجاب عنه: بأنّه حتى لو سلّمنا بأنّ المنسيّ كان هو الجزئيّ، وليس ذات الجزء، فنسيان الجزئيّة في بعض الوقت في الواجبات الموقّتة، وفي زمنٍ من الأزمنة في غير الموقّتات، وكونها تسقط بواسطة النسيان في ذلك الوقت أو الزمان، كلّ ذلك، لا يوجب سقوطها في تمام الوقت، أو في تمام العمر، بعد ارتفاع الغفلة وحصول الذكر( ).
وأمّا الجهة الثالثة:
في أنّه هل هناك دليل على أنّ المأتي به الفاقد للجزء نسياناً الواجد لبقيّة الأجزاء، يكون مجزياً عن الماُمور به واقعاً أم لا، بعد أن كان مقتضى القاعدة الأوّليّة هو الحكم بعدم الإجزاء؛ لأنّ ما هو الواجب إنّما هو إتيان الماُمور به، وهو المركّب من عشرة أجزاء ـ مثلاً ـ وأمّا المركّب من التسعة، فبما أنّه غير الماُمور به، فلا يكون ماُموراً به، لا ظاهراً ولا واقعاً، فتكون كفايته عن الماُمور به الواقعيّ بحاجةٍ إلى دليل يدلّ عليه، ومن دون الدليل المذكور، فلابدّ من الإعادة في الوقت لو حصل الذكر فيه، والقضاء خارجه. وبالنسبة إلى غير الصلاة، فليس فيها ظاهراً ما يدلّ على الإجزاء.
نعم، بالنسبة إلى خصوص الصلاة ورد ما يدلّ على ذلك، وهو القاعدة المعروفة ﺑ (قاعدة لا تعاد) المستفادة من قوله: <لا تعاد الصلاة إلّا من خمس: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود>( ).


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com