قاعدة الميسور

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

قاعدة الميسور


وقد يستدلّ لوجوب ما عدا الجزء أو الشرط المتعذّر بالاستصحاب، وسيأتي الكلام فيه في محلّه. وبقاعدة الميسور، والكلام الآن فيها.
والكلام في هذه القاعدة:
أوّلاً: في مدركها:
قد يستدلّ لها بقوله تعالى: ﴿وَ للهِ عَلَى الـنَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾( )، لو فرض أنّ للآية إطلاقاً تشمل به ـ في محلّ الكلام ـ كلتا الحالتين، أعني: التمكّن وعدم التمكّن من الجزء (كرمي الجمرة مثلاً)، بحيث لو لم يتمكّن منه سقط وجوبه بسبب عدم القدرة وكان عليه أن يأتي بالباقي تمسّكاً بإطلاق دليل وجوب الحج.
ولكنّ التمسّك بإطلاق دليل المركّب يتوقّف على اُمورٍ ثلاثة:
أوّلها: عدم ثبوت إطلاق لدليل ذلك الجزء أو الشرط المتعذّر، وإلّا، فلا يبقى مجال للتمسّك بإطلاق دليل المركّب، وذلك بعد أن كان إطلاق دليل الجزء حاكماً على إطلاق دليل المركّب.
والثاني: أن تكون مقدّمات الإطلاق في دليل المركّب موجودة، كأن يكون المولى في مقام البيان ـ مثلاً ـ.
والثالث: أن لا يكون اللّفظ الموضوع لذلك المركّب موضوعاً للصحيح على فرض كونه من العبادات، فإنّه لو كان كذلك، لم يكن من الممكن التمسّك بإطلاقه في رفع جزئيّة مشكوك الجزئيّة أو شرطيّته كذلك.
وقد يستدلّ للقاعدة ـ أيضاً ـ بالروايات:
ومنها: النبويّ الشريف، وهو أنّه خطب رسول اﷲ فقال: <إنّ اﷲ كتب عليكم الحجّ، فقام عكاشة، أو سراقة بن مالك، فقال: في كلّ عامٍ يا رسول اﷲ؟ فأعرض عنه، حتى أعاد مرّتين أو ثلاثاً، فقال: ويحك، وما يؤمنك أن أقول نعم، واﷲ لو قلت نعم لوجب، ولو وجب ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، وإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه>( ).
ومنها: ما روي عن أمير المؤمنين أنّه قال: <الميسور لا يسقط بالمعسور>( ).
ومنها: ما روي عنه ـ أيضاً ـ: <ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه>( ).
ويظهر من كلام الشيخ دلالتها على المدعى، وقد بنى ذلك على ظهور لفظ <من> في التبعيض( ).
وقد أوضحه المحقّق الأصفهانيّ بقوله:
<لا يخفى عليك أنّ كلمة (من) إمّا تبعيضيّة أو بمعنى الباء، ولفظ (بشيء) إمّا أنّ يراد به المركّب أو العامّ أو الكلّيّ، وكلمة (ما) في قوله: (ما استطعتم) إمّا أن يراد منها الموصولة أو المصدريّة الزمانيّة>( ).
ومن الواضح: أنّها إنّما تفيد المدعى لو اُريد من الشيء المركّب، وكانت (من) تبعيضيّة، فإنّها تكون ظاهرة في أنّه إذا تعلّق الأمر بمركّب ذي أجزاء فأتوا بعضه الذي تستطيعونه.
وأمّا لو اُريد من (من) معنى الباء، فتكون ـ حينئذٍ ـ ظاهرةً في إرادة أنّه إذا تعلّق الأمر بشيء فأتوا به مدّة استطاعتكم، ومن الواضح أنّه ـ على هذا الاحتمال ـ يكون أجنبيّاً عمّا نحن فيه. كما أنّه إذا كان المراد من (من) معنى البيان، كانت ظاهرةً في أنّه إذا تعلّق الأمر بكلّيٍّ فأتوا من أفراده ما استطعتم، وذلك ـ أيضاً ـ أجنبيّ عن المدّعى.
وقد أفاد في تقريب كلام الشيخ: <أنّه لا معنى لكون (من) بيانيّةً؛ لأنّ مدخولها الضمير، ولا يمكن أن يكون بياناً ﻟ (شيء)، كيف؟ وهو مبهم>.
وأمّا كونها بمعنى الباء، فالذي يوهمه إنّما هو عدم تعدّي لفظ (الإتيان) بنفسه، وإنّما هو يتعدّى بالباء؛ إذ يقال: أتيت به، بمعنى: أوجدته، ولكنّ الأمر ليس كذلك، بل الإتيان يتعدّى بنفسه تارةً، كما في قوله تعالى: ﴿وَاللاَّتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾( )، وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَأتــُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً﴾( )، ويتعدّى بالباء أُخرى، كما في قوله تعالى: ﴿يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّـنَةٍ﴾( )، وعليه: فلا يتعيّن أن تكون في الرواية بمعنى الباء.
وأمّا لفظ (الشيء) فلا يراد به العامّ الاستغراقيّ؛ لأنّه يعبّر به عن الواحد ولا يعبّر عن المتعدّد، وإنّما يعبّر عنه ﺑ (أشياء)، فلو أراد العامّ لناسب أنّ يعبّر ﺑ (أشياء).
كما أنّ إرادة الطبيعة والكلّيّ في (منه) ممكنة في حدّ نفسه، إلّا أنّ إرادة الكلّيّ في المقام ممتنعة، إلّا أنّه لا يناسب التبعيض، إذ الفرد مصداق للكلّيّ لا بعضه، فيتعيّن أن يراد به المركّب ذو الأجزاء، فتكون دالّةً على المدّعى.
وقد استشكل في الاستدلال بهذه الرواية صاحب الكفاية، وتبعه عليه جماعة، منهم اُستاذنا المحقّق.
قال في الكفاية: <إلّا أنّ كونه بحسب الأجزاء غير واضح؛ لاحتمال أن يكون بلحاظ الأفراد>( ).
وحاصله: أنّه إنّما يمكن أنّ يستدلّ بالرواية لو كان المراد من الشيء هو الكلّ والمركّب ذو الأجزاء، وأمّا لو كان المراد منه الكلّيّ والطبيعة المنطبقة على الأفراد والمصاديق المتعدّدة من دون ملاحظة الخصوصيّات المشخّصة لها فيكون المعنى هكذا: إذا أمرتكم بطبيعة كلّيّة ذات أفراد ومصاديق متعدّدة فأتوا بعض تلك الأفراد والمصاديق التي تحت استطاعتكم وقدرتكم، فيكون الحديث الشريف أجنبيّاً عمّا نحن بصدده؛ لأنّ سؤال ذلك الصحابيّ كان عن لزوم تكرار الطبيعة وإيجادها في كلّ عام أو الاكتفاء بصرف الوجود منها، والمتعيّن هو هذا الاحتمال، وإلّا، يلزم عدم انطباقه على المورد، وهو في غاية الركاكة.
إن قلت: يمكن أن يكون المراد من الشيء كلا الأمرين، أي: الكلّ والكلّيّ، ومعناه ـ حينئذٍ ـ هكذا: إذا أمرتكم بشيء ذي أجزاء أو ذي أفراد فأتوا من تلك الأجزاء أو الأفراد بقدر استطاعتكم.
قلت: قد أجاب عن هذا الإشكال المحقّق النائيني بقوله:
<فاسد؛ إذ لا جامع بينهما؛ فإنّ لحاظ الأفراد يباين لحاظ الأجزاء، ولا يصحّ استعمال كلمة (من) في الأعمّ من الأجزاء والأفراد، وإن صحّ استعمال (الشيء) في الأعمّ في الكلّ والكلّيّ>( ).
وقد يقال أيضاً: بأنّ تصوّر الجامع بلحاظ تبعّض حصص الطبيعيّ في أفراده، فإذا اُريد من الشيء الأعمّ من الكلّ والكلّيّ، فلا بأس بإرادة التبعيض من الكلّيّ بلحاظ حصصه الموجود في ضمن أفراده، والتبعيض من الكلّ من الأجزاء المندرجة في ضمنه؛ وتطبيق العامّ على مورد خاصّ ـ أيضاً ـ لا يوجب تخصيص العامّ به.
وقد ذهب الاُستاذ المحقّق إلى إمكان تصوير الجامع ولحاظه، إذ الشيء من المفاهيم العامّة، وهو مصدر مبنيّ للمفعول، وبمعنى المشيء وجوده، ويكون مساوقاً للوجود، ولمفهوم الموجود في الممكنات.
ثمّ قال: <فبناءً على هذا: المركّب من الأجزاء الذي شُيِّئ وجوده شيء، وكذلك الكلّيّ والطبيعة التي شُيِّئ وجودها شيء، فوجود الجامع بين الكلّ والكلّيّ من أوضح الواضحات>( ).
ولكنّك خبير: بأنّ هذا هو عين ما ذكره المحقّق النائيني من أنّ استعمال الشيء في الأعمّ من المركّب والكلّيّ ممكن. وإنّما كان إشكال المحقّق النائيني في استعمال كلمة (من) في الأعمّ من الأجزاء والأفراد، وهو استعمال في المتباينين.
وأمّا ما ذكره الاُستاذ المحقّقفهو إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ (من) ليس له معنى مستقلّ، بل هو بمعنى الربط، ولذا قال الاُستاذ نفسه:
<فكلمة (من) استعملت في الربط الكذائيّ بين الإتيان والشيء، وإذا كان المراد من (الشيء) باعتبار كونه مصداقاً للجامع بين الكلّ والكلّيّ هو الكلّ، فيكون مصداق تلك النسبة هي الربط التبعيضيّة في الأجزاء، وإذا كان المراد بذلك الاعتبار هو الكلّيّ، فيكون المصداق هو الربط المذكور في المصاديق والأفراد، وإن كان المراد هو الجامع، فيشمل كلا الأمرين كما فيما نحن فيه>( ).
ولكنّ ما ذكره إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ (من) بما أنّها من الحروف إنّما يكون بمعنى الربط. وأمّا إذا قلنا بأنّ الحروف لها معنى، فتكون بمعنى البعض، واستعمال (من) وإرادة البعض من الأجزاء، والبعض من الأفراد، يكون من الاستعمال في معنيين مع تباين اللّحاظين، أعني: لحاظ الأفراد، ولحاظ الأجزاء، وهو غير ممكن.
وقال اُستاذنا المحقّق: <هذا مع أنّه لو قلنا بمقالة صاحب الكفاية في المعاني الحرفيّة ـ من أنّ الموضوع له في الحروف والأسماء واحد كلّ لمرادفه فيكون في المقام كلمة (من) بمعنى البعض، الذي هو مفهوم اسميّ أيضاً ـ لا يرد شيء على ما استظهرنا من الحديث من أنّ مفاده اعتبار هذه القاعدة. وذلك من جهة أنّ لفظ (البعض) ـ أيضاً ـ مفهومه مشترك بين بعض الأجزاء، وبعض الأفراد، فلو كانت ألفاظ الحديث هكذا: إذا أمرتكم بمركّب ذي أجزاء، أو بطبيعةٍ ذات أفراد، فأتوا بعضهما الذي تحت استطاعتكم وقدرتكم، والمفروض أنّ ذلك المركّب المأمور به ليس تمام أجزائه تحت قدرة المكلّف واستطاعته ولا تمامها خارج عن تحت قدرته، بل يقدر على إتيان البعض دون البعض الآخر، وكذلك في الطبيعة المأمور بها قادر على إتيان بعض الأفراد دون بعضها، فهل يشكّ أحد في أنّ المراد به إتيان الأجزاء المقدورة من ذلك المركّب والأفراد المقدورة من تلك الطبيعة؟>( ).
ولكنّ ما ذكره ـ أيضاً ـ غير تامّ؛ لأنّه وإن فرض أنّ لفظ (البعض) كان مشتركاً بين الأجزاء والأفراد، غير أنّ هذا لا يرفع غائلة المحذور؛ لأنّ الكلام إنّما هو فيما إذا كان لفظ (الشيء) بمعنى الجامع ولفظ (من) للتبعيض، فكيف تستعمل كلمة (من) باستعمالٍ واحد في شيئين متباينين ومتنافيين من حيث اللّحاظ؟ فالفهم العرفيّ يقتضي أنّ المراد من (الشيء) إنّما هو الكلّ خاصّةً، بقرينة لفظ (من) الظاهر في التبعيض.
وأمّا قوله: <الميسور لا يسقط بالمعسور>، فدلالته على المطلوب واضحة، وهو أنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، أي: أنّ الميسور من كلّ ما أمر به الشارع لا يسقط بمعسوره، فإذا فرض أن كان بعض أجزاء ذلك الشيء معسوراً، فحينئذٍ: يسقط التكليف عنه لأجل تعسّره أو تعذّره، ولكنّ هذا لا يستوجب سقوط الباقي الميسور من ذلك العمل، وبما أنّ الرواية مطلقة، فهي تشمل المستحبّات أيضاً، فإذا كان هناك عمل مستحبّ بعض أجزائه غير ميسورة، كان مطلوباً ـ أيضاً ـ الإتيان بالباقي ما دام ميسوراً.
وقد ذكر الاُستاذ المحقّق أنّه <يمكن أن يكون المراد من قوله: (الميسور لا يسقط بالمعسور) أعمّ من الأجزاء والأفراد، فباعتبار كونه الميسور من المركّب يكون الأجزاء غير المتعذّرة أو غير المتعسّرة ميسورة، وباعتبار إضافته إلى الطبيعة الكلّيّة، يكون ميسورها هو الأفراد غير المتعذّرة، فيشمل كلا الأمرين، ولا وجه لتخصيصه بأحدهما>( ).
ولكنّه غير تامّ؛ بل الحقّ ما ذكره المحقّق النائيني بقوله: <فظهوره فيما نحن فيه ممّا لا يكاد يخفى؛ إذ ليس فيه ما يوجب حمله على الميسور من الأفراد، بل الظاهر أنّ ميسور كلّ شيء لا يسقط بمعسوره>( ).
وذلك لأنّه لو قلنا بأنّ المراد منه هو ـ كما ذكره الاُستاذ المحقّق ـ الأعمّ من الأجزاء والأفراد، لاستلزم أن يكون لفظ واحد مستعملاً باستعمال واحد في معنيين متباينين، وهو محال.
ثمّ إنّه لو بنينا على أنّه شامل للوجوب والاستحباب، فلا يرد عليه ما قد يقال: من أنّ المنفيّ إن كان هو اللّزوم فلا تشمل الرواية المستحبّات؛ لأنّ الأجزاء الميسورة من المستحبّات لا لزوم فيها، وإن كان المنفيّ هو مطلق الرجحان والمطلوبيّة، فحينئذٍ: لا يثبت بها سوى أنّ الإتيان بالميسور، حتى في الواجبات يكون راجحاً ومطلوباً فحسب، ولا مجال للالتزام به، كما لا يخفى.
وجه عدم الورود: أنّه يمكن أن يقال: بأنّ المنفي هو سقوط موضوعيّة الميسور لما كان له من الحكم أوّلاً، أعني: قبل حدوث التعذّر، وظاهر: أنّه لا فرق في هذا بين أن يكون الحكم وجوبياً أو استحبابيّاً.
ولكن لا يخفى: بأنّ هذا الكلام إنّما يتمّ فيما لو قلنا بأنّ الموضوعيّة للحكم الشرعيّ بما أنّها من الأحكام الوضعيّة فتكون قابلة للجعل التشريعيّ.
وقد يستشكل في المقام: بأنّ هذه الرواية أجنبيّة عن حكم المركّب الذي يتعذّر بعض أجزائه؛ لأنّ الحكم الثابت للأجزاء إنّما هو الحكم الضمنيّ، وهو قد ارتفع قطعاً، والوجوب يرتفع عن الكلّ بعد تعذّر بعض أجزائه، ومعه: فلا يبقى ـ حينئذٍ ـ للباقي وجوب ضمنيّ قهراً، فإن فرضنا بأنّ هناك وجوباً، فإنّما يكون وجوباً استقلاليّاً نفسيّاً جديداً، وهو ـ كما لا يخفى ـ لا يعدّ بقاءً للأمر الأوّل بل إنّما يكون حكماً ووجوباً جديداً.
ولكن قد أجاب عنه اُستاذنا المحقّقبأنّه <على تقدير وجوب الباقي بعد تعذّر بعض الأجزاء، فليس هذا وجوباً آخر، بل هو عين وجوب السابق. وأمّا كونه ضمنيّاً في السابق، واستقلاليّاً بعد حدوث تعذّر بعض الأجزاء، لا يوجب تغيّراً في وجوب الباقي. والضمنيّة والاستقلاليّة مفهومان ينتزعان عن وجوب ما عدا الباقي وعدم وجوبه>( ).
وبعبارة أُخرى: فهما ليسا بمتباينين، والوجوب والأمر السابق حينما ورد على الأجزاء يتقطع إلى قطع، وكلّ قطعة منه تكون واردة على جزءٍ من الأجزاء، فالوجوب السابق على كلّ جزء يكون ضمنيّاً واستقلاليّاً، أمّا ضمنيّته، فلأنّه في ضمن الكلّ، وأمّا استقلاليّته، فلأنّ القطعة من هذا الأمر الذي ورد على هذا الجزء ليست هي القطعة الواردة على بقيّة الأجزاء، بل كلّ جزء له قطعة خاصّة، وهذا نظير خيمة تظلّل رؤوس جماعة، فإنّها في عين أنّها خيمة واحدة، إلّا أنّ كلّ قطعة منها تظلّل رأس شخص، ليس القطعة نفسها التي تظلّل رؤوس الآخرين.
وأمّا الأمر الاستقلاليّ، فوجوبه عين الأمر الأوّل، وهو نفس القطعة التي كانت مجموعها في ضمن الأمر الأوّل، وقد أصبح هذا استقلاليّاً بعد تعذّر الجزء، وليس بأمر جديد.
وهل تدلّ الرواية على صدق الميسور على الباقي من الأجزاء بعد تعذّر الجزء، أم أنّها مختصّة بالميسور من العامّ بعد عدم التمكّن من بعض أفراده؟
قال صاحب الكفاية <ومن ذلك ظهر الإشكال في دلالة الثاني أيضاً، حيث لم يظهر في عدم سقوط الميسور من الأجزاء بمعسورها؛ لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العامّ بالمعسور منها>( ).
وأمّا اُستاذنا المحقّق فرأى أنّ <الإنصاف أنّ لفظ (الميسور) وإن كان مطلقاً من هذه الجهة؛ لأنّ كلّ واحد منهما يصدق عليه الميسور، ولكنّ إرادة الميسور من الأجزاء منه بعيد جدّاً؛ لأنّ الميسور من الأجزاء يصدق على جزء واحد من المركّب الذي يكون أجزاؤه عشرين ـ مثلاً ـ وتعذّر تسعة عشر منها، وبقي واحد منها تحت التمكن، فيقال: وجوب هذا الواحد لا يسقط بتعذّر باقي الأجزاء، فهذا في غاية البعد من ظاهر هذا الكلام>( ).
ولكنّ الحقّ: أنّنا إذا قلنا بأنّ القاعدة تشمل الأجزاء، فلا فرق بين أن يكون الميسور قليلاً أو كثيراً، فإنّه ولو لم يكن ميسوراً بالفعل، ولكن يكفي في صدقه عليه أن يتوفّر فيه المقتضي التقديريّ.
وأمّا قوله: <ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه> فدلالته على القاعدة واضحة، إذ هو بمعنى: أنّ الشيء الذي لا يمكن الإتيان بجميعه، فلا يجوز أن يترك جميعه، بل يجب الإتيان بالمقدار الممكن منه، بعدما أمكنه الإتيان بالباقي بعد تعذّر البعض حيث كانت تحت قدرته.
وهل المراد من لفظ (ما) فيها هو الكلّ أو الكلّيّ أو كلاهما؟
قد يقال: بأنّ المراد به خصوص الكلّيّ باعتبار أفراده المتعدّدة، ويكون المعنى: أنّ من لا يمكنه تدارك جميع أفراده التي أُمر بها، فلا يجوز له أن يترك الجميع، بل لابدّ له من الإتيان بالمقدار المقدور له.
ولكنّه غير تامّ؛ بل لها إطلاق تشمل به الكلّ والكلّيّ معاً.
وهل الحكم فيها يشمل الجاهل على الإطلاق أم ثمّة تفصيل؟
لا يخفى: أنّ الجهل تارةً يكون جهلاً بالحكم وأُخرى هو جهل بالموضوع. والجهل بالحكم: تارةً يكون عن قصور، وأُخرى عن تقصير. وكلّ منهما: تارةً يكون مسبوقاً بالعلم ثمّ نسي وجهل الحكم، وأُخرى يُفرض من أوّل الأمر جاهلاً بالحكم. ثمّ الجهل: تارةً يكون بسيطاً، وأُخرى يكون مركّباً.
ومعنى الجهل البسيط ظاهر، وهو أن يكون جاهلاً ولكنّه ملتفت إلى جهله، والمركّب خلافه.
قد يقال: إنّ الجاهل بالجهل البسيط بحكم العامد، بلا فرق بين أن يكون جهله جهلاً بالحكم أو بالموضوع، لأنّه نوع عمد، فكيف يتصوّر أن يكون الإنسان بصدد امتثال أمر المولى وهو شاكّ في حصول أجزاء الماُمور به مع كونه لا يعتني بشكّه، ولا يأتي بما يحتمل كونه من الأجزاء والشرائط، بل يُشكل تمشّي قصد القربة منه في كثيرٍ من الأحيان، فلو قلنا بشمول القاعدة له، فمعناه: أنّه يجوز ترك الفحص عن تحصيل العلم بالأجزاء والشرائط للماُمور به، من دون أن يتأتّى منه قصد القربة ـ حينئذٍ ـ وهو واضح البطلان.
وأمّا إذا كان جاهلاً بالجهل المركّب، بأن اعتقد عدم الجزئيّة، وكان في الواقع جزءاً، فإنّه يتمشّى منه قصد القربة، فلا يبعد أن يشمله إطلاق الدليل؛ لعدم المانع، وعدم وجود ما يصرفه ـ أعني: الدليل ـ عن هذا المورد.
وفي المسألة أقوال:
فالمحكيّ عن المشهور عدم شمول الصحيحة للعامد الجاهل مطلقاً، سواء كان عن قصور أم عن تقصير، كان مسبوقاً بالعلم أم لم يكن، والمراد بكونه مسبوقاً بالعلم أن يكون المنشأ في جهله هو النسيان، وفي قباله أن لا يكون مسبوقاً بالعلم، وذلك بأن يكون من أوّل الأمر جاهلاً، أو فقل: بأن يكون جهله بدويّاً.
وأمّا الشيخ الأعظم الأنصاريّ فقد فرّق بين أن يكون الجهل جهلاً عن قصور، فقال بالشمول، أو عن تقصير فقال بعدم الشمول( ).
ويمكن الاستدلال لما عليه المشهور من أنّ الصحيحة لا تشمل الجاهل بالحكم مطلقاً، سواء كان قصور أو تقصير ـ والفرق بينهما، كما هو معلوم، أنّ الجهل عن قصور لا يستحقّ عليه العقاب، دون الجهل عن تقصير، فإنّه يستحقّ عليه العقاب ـ وسواء كان الجهل بالحكم مسبوقاً بالعلم به أم لم يكن؛ بما حاصله:
أنّ ظاهر الحديث هو نفي الإعادة في مورد لولا هذا الحديث لكان المكلّف ماُموراً بالإعادة، فيكون عقد المستثنى منه في هذا الحديث مفاده: أنّ عدم الإعادة يكون مختصّاً بمورد السهو والنسيان والاضطرار للموضوع، حيث إنّ الأمر يسقط بواسطة هذه الاُمور، والعامد بإخلاله بالحكم، لجهله به، قصوراً أو تقصيراً أو نسياناً، فالأمر الأوّل لم يسقط عنه؛ إذ بعد القول باشتراك التكاليف بين العالم الجاهل، كما عليه الإجماع، فالأمر الأوّل باقٍ بحاله، فلا معنى لمجيء خطاب جديد يأتي من المولى بقوله: (أعد)، بل المحرّك له نحو الإتيان بالماُمور به هو الأمر الباقي الى زمان ارتفاع الجهل بكلا قسميه، فإذا كان معنى الحديث ـ كما ذكرنا ـ هو نفي الإعادة عن مورد لولا هذا الحديث لكان مخاطباً بالإعادة، فلا يشمل مورد العمد إلى الإخلال مطلقاً، سواء كان عالماً به، أو جاهلاً قصوراً أو تقصيراً، أو ناسياً له؛ لعدم الأمر بالإعادة في شيءٍ من هذه الموارد لولا هذا الحديث، بل كان وجوب الإتيان بالتامّ بعد رفع الجهل بنفس الأمر الأوّل؛ لبقائه وعدم سقوطه بواسطة الجهل، ولو كان عن قصور.
ولذا قال المحقّق النائيني في كتاب الصلاة بعدم شمول هذا الحديث للعامد الجاهل مطلقاً( ).
ولكن من الواضح: أنّ مفهوم الإعادة هو عبارة عن إيجاد الشيء بعد إيجاده ثانياً أو ثالثاً، في مقابل إيجادة أوّلاً من غير سبق إيجادٍ له، غاية ما هنالك: أنّه يراد من الإعادة إيجاد الثاني مثل الأوّل بالدقّة، وأمّا إيجاد نفسه وعين الوجود الأوّل بالدقّة، فهو محال، كما قُـرِّر في المعقول؛ لأنّه من إعادة المعدوم بعينه، أي: بأن يكون المأتيّ به الثاني على طبق الأوّل تامّ الأجزاء والشرائط.
وقد يكون المراد هو الإعادة العرفيّة التي قد يكون الوجود الأوّل فيها مشتملاً على زيادات، وقد يكون العكس. وقد يكون المراد بها هو الإعادة الادّعائيّة، بحيث كلّ ما يترتّب على الأوّل من الآثار يترتّب على الثاني أيضاً، إذا كان الإخلال من جهة الجهل بالحكم ونسيانه، فبمقتضى الأدلّة الأوّليّة، لو لم يكن هذا الحديث، وبعد الالتفات إلى أنّ أخلّ بإتيانها كما هي، بترك جزء أو شرط أو ارتكاب مانعٍ، يَثبت لزوم إعادة الصلاة والإتيان بها تامّة الأجزاء والشرائط مجدّداً، وتصدق الإعادة على هذا الوجود التامّ لفرض الإتيان به بعد الوجود الأوّل الذي كان قد أتى به.
ولكنّ هذا الحديث ينفي إعادته ثانياً تامّاً، ويقول بكفاية ذلك الناقص الذي كان قد أتى به أوّلاً.
وعليه: فلا قصور في شمول الحديث لموارد الجهل والنسيان للحكم، من جهة صدق الإعادة على الإتيان به ثانياً تامّ الأجزاء والشرائط.
وخلاصة البحث: أنّه لولا هذا الحديث الذي مفاده ينفي وجوب الإعادة والحكم بكفاية هذا الناقص المأتيّ به ـ لو لم يكن الجزء المنسيّ أو المجهول من الأركان ـ لكان لابدّ من الإعادة.
والشاهد على صحّة ما ذكرناه ورود لفظ (يعيد) في جملةٍ من الأخبار مع عدم سقوط الأمر الأوّل:
منها: ما ورد فيمن أجهر في موضع الإخفات متعمّداً، أو بالعكس، أنّه <نقض صلاته وعليه الإعادة>( ).
ومنها: قوله فيمن صلّى أربعاً في السفر: <إن كانت قرئت عليه آية التقصير وفسّرت له، فصلّى أربعاً، أعاد ...> الخبر( ).
والحاصل: أنّ الإشكال إنّما يأتي بالنسبة إلى شمول الحديث للجاهل بالحكم، قصوراً أو تقصيراً أو نسياناً، لا من جهة صدق الإعادة.
وقد تحصّل بما قدّمناه: أنّه لا مانع من أن يكون الجزء جزءاً في حال العمد، دون الجهل والنسيان، سواء كان قاصراً أم مقصّراً، غاية الأمر: أنّ المقصّر يكون آثماً، ولا تقبل الصلاة منه؛ لأنّه بحكم العامد، ولما أشرنا إليه آنفاً من أنّه كيف يتصوّر كون العبد بصدد امتثال أمر مولاه وهو شاكّ حصول الماُمور به بأجزاء وشرائط خاصّة، وهو لا يعتني بهذا الشكّ وبما لا يعلمه من الأجزاء والشرائط؟ بل قد عرفنا أنّ يشكل تأتّي قصد القربة منه في كثيرٍ من الأحيان.
هذا من جهة الدلالة.
وأمّا من جهة السند، فالحديث صحيح، فقد رواه الصدوق في الخصال عن أبيه، عن سعد بن عبد اﷲ القمّي عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز بن عبد اﷲ السجستاني، عن زرارة، عن أبي جعفر( ).
ورواه أيضاً في الفقيه بإسناده إلى زرارة عنه( ).
ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ القاعدة تشمل الأجزاء والشرائط جميعاً، بعد وضوح أنّ بعض الشروط تكون أركاناً للمركّب، كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة، بل هو جزء إن أخذنا المركّب بمعناه الاسم المصدريّ، وإن كان بعض الشروط لا يمكن عدّه ركناً له، كما قد يقال في الاستقبال بالنسبة إلى الصلاة، وعليه: فالتفصيل والقول بدخول الأجزاء في القاعدة مطلقاً، دون الشروط، ممّا لا وجه له أصلاً.
هذا، ونكتفي بهذا المقدار من الحديث حول هذه القاعدة، ومن شاء التفصيل أكثر فليراجع كتاب القواعد الفقهيّة لاُستاذنا المحقّق، فإنّه قد استوفى هناك ذكر مواردها وتطبيقاتها.

وأمّا الاستدلال بالاستصحاب:
فقد ذكر في تقريبه في المقام وجوه:
الوجه الأوّل: أن يقال باستصحاب كلّيّ الوجوب الثابت سابقاً للأجزاء المقدورة، فإنّ الباقي كان معلوم الوجوب، حيث تعلّق الوجوب الغيريّ به، وهو وإن كان قد زال بزوال الكلّ، ولكن يحتمل تعلّق الوجوب النفسيّ به، فيكون سبباً للشكّ في بقاء الوجوب الجامع، فيستصحب.
وإن شئتَ قُلْتَ: يدور الأمر بين الوجوب الغيريّ الذي كان يتعلّق بما عدا القيد المتعذّر، قبل تعذّر القيد، وبين الوجوب النفسيّ الذي المحتمل المتعلّق بما عدا القيد بعد تعذّره، وحيث إنّه من المحتمل الوجوب النفسيّ المستقلّ لما عدا ذلك القيد المتعذّر بعد تعذّره، فيكون بقاء ذلك الجامع مشكوكاً بعد تيقّن وجوده، فنستصحبه، ونحكم بوجوب الإتيان بالباقي بعد تعذّر القيد.
وقد يورد على هذا التقريب للاستصحاب بإشكالات:
الأوّل: أنّ لازمه: إثبات الوجوب الغيريّ للمقدّمات الداخلية، إلّا أنّ وجوبها من قبيل الوجوب الاستقلاليّ الضمنيّ، لا الغيريّ، ولا الاستقلاليّ المحض.
والثاني: أنّ هذا الاستصحاب لا يجري إلّا فيما لو قلنا بجريان استصحاب الكلّيّ من القسم الثالث، أي فيما إذا شكّ في حدوث فرد آخر بعد العلم بزوال الفرد الأوّل، فهنا، وجود الجامع في ضمن الوجوب الغيريّ ـ لو سلّمنا أنّ المقدّمات الداخلية لها وجوب غيريّ ـ مقطوع الارتفاع، وفي ضمن الوجوب النفسيّ المحتمل مشكوك الحدوث، فليس هناك وجود واحد متيقّن الحدوث ويكون هو مشكوك البقاء حتى يمكن الاستصحاب.
والثالث: أنّه ـ على فرض جريان هذا الاستصحاب ـ فلا يمكن أن نثبت به الوجوب النفسيّ المستقلّ لما عدا القيد؛ لأنّه بالنسبة إليه من الأصل المثبت.
الوجه الثاني: ما أفاده الشيخ الأعظم بقوله:
<استصحاب وجوب الباقي إذا كان المكلّف مسبوقاً بالقدرة، بناءً على أنّ المستصحب هو مطلق الوجوب، بمعنى: لزوم الفعل من غير التفات إلى كونه لنفسه أو لغيره، أو الوجوب النفسيّ المتعلّق بالموضوع الأعمّ من الجامع لجميع الأجزاء والفاقد لبعضها، بدعوى: صدق الموضوع عرفاً على هذا المعنى الأعمّ الموجود في اللّاحق، ولو مسامحةً؛ فإنّ أهل العرف يطلقون على من عجز عن السورة بعد قدرته عليها: أنّ الصلاة كانت واجبةً عليه حال القدرة على السورة، ولا يعلم بقاء وجوبها بعد العجز عنها>( ).
وحاصله: أن يقال باستصحاب نفس الوجوب النفسيّ الثابت سابقاً، والذي كان متعلّقاً بالمركّب قبل حدوث تعذّر القيد، بدعوى: المسامحة عرفاً في موضوعه؛ إذ العرف يرى أنّ الباقي والمركّب التامّ شيء واحد، ولذلك فهو يرى أنّ عدم ثبوت الحكم للباقي ارتفاع للحكم السابق، كما أنّ ثبوته بقاء له، فيقال ـ حينئذٍ ـ: هذا ـ ويشار إلى الباقي ـ كان واجباً، والآن هو كذلك، ونظيره: استصحاب كرّيّة الماء الذي كان كرّاً وأُريق منه بعضه فشكّ في كرّيّته.
ولكن أورد عليه المحقّق الأصفهانيّ بقوله:
<والجواب أنّه إنّما يصحّ إذا كان المتعذّر بحيث لا يمنع عن دعوى الاتّحاد بين المركّب والباقي، فلا مجال للاستصحاب على الإطلاق، بل في مثله، كما أنّ استصحاب كرّيّة الماء كذلك، فإنّه يصحّ إذا كان الموجود من الماء متّحداً مع الماء السابق عرفاً بلحاظ كون المأخوذ منه قليلاً يتسامح فيه عرفاً>( ).
وحاصله: أنّه مبنيّ على المسامحة في الموضوع مع كون الباقي ممّا يتسامح فيه عرفاً، كما إذا كان المتعذّر جزءاً واحداً ـ مثلاً ـ لا ما إذا تعذّرت كمّيّة من الأجزاء معتدّ بها؛ لعدم صدق الوحدة عرفاً بين الباقي والمركّب حينئذٍ.
وقال اُستاذنا المحقّق:
<هذا الوجه من تقرير الاستصحاب لا يفي إلّا بالموارد التي يكون موضوع القضيّتين ـ المتيقّنة والمشكوكة ـ واحداً بنظر العرف، وأمّا فيما لا يكون كذلك، كما هو الأكثر في أبواب العبادات، فإنّ حكم العرف بوحدة الحجّ المتعذّر فيه الوقوف في الموقفين ـ العرفات والمشعر ـ الوقوف الاضطراريّ والاختياريّ ـ مع الحجّ المتمكّن فيه الوقوفان، أو حكمه بوحدة صلاة فاقد الطهورين مع واجدهما، أو أحدهما، لا أثر له بعد العلم بأنّ الشارع يراهما متباينين حقيقةً, بل الوحدة العرفيّة ليست إلّا بحسب الشكل فقط>( ).
وملخّص ما أفاده: أنّ العرف ليس له طريق إلى تميّز الأركان من غيرها، فليس له أن يحكم بوحدة المركّب التامّ الأجزاء والشرائط مع المركّب الناقص، بعدما كان الركن لا يعرف إلّا بتصريح من الشارع، ففي باب الاستصحاب، وإن كان المدار في وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة على نظر العرف، ولكن هذا إنّما هو فيما إذا كان للعرف طريق إلى تشخيصه، ولم يكن المركّب من الاُمور الشرعيّة، بل إذا كان من الاُمور العرفيّة.
بل يمكن أن يقال: بأنّ العرف إنّما يتسامح فيما إذا كان الاختلاف في موضوعات الأحكام، حيث يرى الربط بين الحكم والموضوع بحسب مرتكزاته، فقد يرى في بعض الموارد، كالعالم، بالنسبة إلى قوله ـ مثلاً ـ: أكرم العالم، أنّ الموضوع إنّما هو ذات العالم، وأنّ العلم حيثيّة تعليليّة، فإذا زال العلم، فالموضوع لا يزال باقياً في نظره، فإذا شكّ في وجوب إكرام العالم الذي زال علمه، فيجري الاستصحاب. ولكنّ العرف في مثل وجوب تقليد العالم يرى أنّ الحكم لم يرد على الذات، بل الموضوع إنّما هو العالم بما هو عالم؛ لأنّ وجوب تقليده إنّما كان من جهة علمه، وليس لنفس ذاته، فمع زوال علمه، يزول الموضوع، فحينئذٍ: لا يجوز إجراء الاستصحاب بدعوى الشكّ في بقاء وجوب تقليده بعد زوال علمه.
وأمّا إذا كان الشكّ في متعلّقات الأحكام، فلا يتأتّى إعمال مثل هذه المسامحة العرفيّة، حيث إنّ العرف لا يتمكّن من التشخيص، فلا يتّبع نظره، فإذا جعل الشارع الوجوب لمركّبٍ ذي أجزاء عشرة، فإنّ المركّب ذا الأجزاء التسعة فقط يكون مبايناً له لا محالة، حتى بالنظرة العرفيّة، وليس متّحداً معه. فالتسامح العرفيّ إنّما يأتي إذا كان الشكّ متعلّقاً بالربط الحاصل بين الموضوع والحكم، لا فيما إذا كان بين الحكم ومتعلّقه.
الوجه الثالث: أنّ الباقي بعد تعذّر بعض الأجزاء كان واجباً نفسيّاً في ضمن المجموع المركّب منه وممّا تعذّر، والجامع بين هذا الوجوب النفسيّ الضمنيّ والوجوب النفسيّ المستقلّ المتعلّق بالمجموع كان موجوداً قطعاً، فبعد انتفاء أحد فرديه، وهو الوجوب النفسيّ الذي فرضنا تعلّقه بالمجموع، يحتمل بقاؤه في ضمن الفرد الآخر، وهو الوجوب المتعلّق بما عدا المتعذّر، والوجوب الباقي وإن كان ضمنيّاً، ولكنّه يصبح استقلاليّاً، ولا محذور فيه؛ إذ الاستقلاليّة من المفاهيم الانتزاعيّة التي تنتزع من أمر وجوديّ، هو وجوب الباقي، وآخر عدميّ، وهو عدم وجوب الجزء المتعذّر.
قال المحقّق الأصفهاني:
<استصحاب الوجوب النفسيّ الشخصيّ مع قطع النظر عن متعلّقه، نظير استصحاب وجود الكرّ>( )، أي: نظير استصحاب وجود الكرّ في إثبات كرّيّة الموجود، فيقال: إنّ الوجوب النفسيّ للصلاة كان ثابتاً، والآن يشكّ في بقائه فيحكم به بمقتضى الاستصحاب.
وبعبارة أُخرى: فإنّ المستصحب هو وجوب الصلاة بنحو مفاد كان التامّة، لا الناقصة.
وفيه: أوّلاً: أنّه من الأصل المثبت.
وثانياً: أنّه ـ أيضاً ـ يكون من استصحاب الكلّيّ من القسم الثالث، مثلاً ـ في استصحاب وجوب الصلاة ـ: إن كان المستصحب هو الوجوب المتعلّق بالكلّ، فهو قد ارتفع يقيناً، ولا معنى لاستصحابه، واحتمال بقائه من جهة حدوث فرد آخر، وهو الوجوب النفسيّ الاستقلاليّ في الباقي، ويكون من مصاديق ذلك الجامع، فهو عين القسم الثالث من استصحاب الكلّيّ، نظير استصحاب وجود الحيوان المردّد بين البقّ والفيل، وهو لا يجري، كما ذكر في محلّه.
الوجه الرابع: أنّ الأجزاء الباقية حيث كانت متعلّقة للوجوب النفسيّ المنبسط على الكلّ، فتكون متيقّنة الوجوب سابقاً، لكنّ وجوبها وجوب ضمنيّ، لا استقلاليّ؛ لأنّ الوجوب الاستقلاليّ إنّما يكون متعلّقاً بالكلّ، وبملاحظة المسامحة في الوجوب الضمنيّ والاستقلاليّ، فإنّ العرف يرى وحدتهما؛ لأنّه يرى الاستقلاليّة والضمنيّة من الحالات الطارئة، فيمكن أن يستصحب الوجوب النفسيّ الذي تعلّق بالأجزاء بعدما كان متيقّن الحدوث وقد حصل الشكّ في بقائه.
وأمّا الجزم بارتفاع صفة الضمنيّة من جهة ارتفاع الأمر بالكلّ، فهو لا يضرّ إطلاقاً بعد دعوى المسامحة المتقدّمة.
وبعبارة أُخرى: فبعد أن تعلّق الأمر بالمركّب، فكلّ جزء من أجزاء ذلك المركّب يكون واقعاً تحت قطعة من الأمر.
وحيث إنّ المقدّمات الداخليّة ـ كما عرفنا ـ ليست واجبةً بالوجوب الغيريّ، بل وجوبها نفسيّ ضمنيّ، قلنا بالانحلال في باب العلم الإجماليّ بالنسبة إلى الأقلّ والأكثر، فإنّ الأقلّ معلوم يقيناً، ويبقى الزائد مشكوكاً، فتجري البراءة بالنسبة إليه.
وأمّا كون وجوب الأقلّ مردّداً بين الضمنيّة والاستقلاليّة فهو لا يضرّ في المقام؛ لأنّ هاتين الصفتين، كما أشرنا أيضاً، من الحالات الطارئة؛ لأنّ الاستقلاليّة مفهوم ينتزع عن وجوبه وعدم وجوب غيره، وأمّا الضمنيّة فعلى العكس منها.
ولا فرق في كونه واجباً ومتعلّقاً للإرادة بين أن يكون معه غيره، حتى يصبح وجوبه ضمنيّاً، وبين أن لا يكون معه غيره، حتى يكون استقلاليّاً. فما عدا الجزء المتعذّر كان واجباً يقيناً قبل التعذّر، ويشكّ في بقائه بعده؛ لأنّه يحتمل ارتفاع خصوص تلك القطعة التي كانت متعلّقة بالجزء المتعذّر فقط، ويشكّ في بقاء سائر القطع بالنسبة إلى بقيّة الأجزاء، فيستصحب؛ لتماميّة أركان الاستصحاب.
والذي نراه: أنّ هذا الوجه تامّ وغير قابل للمناقشة.
ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ التمسّك بالاستصحاب هنا إنّما يصحّ إذا لم يكن هناك دليل لفظيّ كقاعدة الميسور المتقدّمة، أو الإجماع الذي سنأتي على ذكره.
وأمّا إذا كان هناك دليل معتبر أو إجماع، فلا تصل النوبة إلى الاستصحاب؛ لأنّ رتبته متأخّرة عن الأمارات، فهو ـ كما أسلفنا ـ فرش الأمارات وعرش الاُصول.
وهذا لا إشكال فيه.
وإنّما الإشكال فيما إذا كان لدليل الجزئيّة إطلاق يقتضي ثبوت الجزئيّة في حالتي التعذّر وعدمه، نظير قوله: <لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب>.
ومنشأ الإشكال هنا:
أنّ دليل الجزئيّة مطلق، فيقتضي سقوط الأمر عند التعذّر، وأنّ المركّب يسقط بسقوط جزئه، وأمّا مقتضى مثل قاعدة الميسور هو ثبوت الأمر بالباقي عند التعذّر، فدليل الجزئيّة ينافي مدلول القاعدة. فيقع التعارض بينهما، وعندئذٍ: فلا يمكن جريان القاعدة.

التمسّك بالإجماع:
ثمّ إنّه قد يستدلّ في المقام بالإجماع على أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب لا يسقط بمجرّد تعذّر أو تعسّر بعض أجزائه، بل يكون ما عدا ذلك الجزء المتعذّر أو المتعسّر باقياً على وجوبه ومطلوبيّته.
ولكن يرد عليه:
أوّلاً: أنّه إجماع منقول.
وثانياً: أنّ الإجماع وإن أمكن تحصيله في بعض الموارد، كمثل الصلاة والحجّ في غير الأجزاء الركنيّة لهما، إلّا أنّه لم يرد كقاعدة عامّة حتى يمكن التمسّك به في جميع الموارد، بل حتى في الموارد التي يمكن إحرازه فيها، لا مجال ـ أيضاً ـ للتمسّك به؛ لأنّ إجماعهم هذا يمكن أن يكون مستنداً إلى الروايات الواردة والأدلّة التي تمّ التمسّك بها في المقام، فيكون إجماعاً مدركيّاً، أو على الأقلّ: محتمل المدركيّة أو مظنونها.
مسألة:
إذا دار الأمر بين كون شيء شرطاً أو مانعاً فهل يدخل في مسألة الأقلّ والأكثر أم لا؟
الحقّ: أنّه لا يندرج في مسألة الأقلّ والأكثر، بل يرجع الشكّ هنا إلى الشكّ في أنّ الماُمور به هو هو (بشرط شيء) أو (بشرط لا)، والشكّ في باب الأقلّ والأكثر يرجع إلى كونه (لا بشرط) أو (بشرط شيء)، فتوهّم اندراج المسألة في الأقلّ والأكثر ضعيف.
وأضعف منه: إدخال المسألة في باب دوران الأمر بين المحذورين، بدعوى: أنّه لا يمكن هنا الموافقة القطعيّة؛ لأنّها تستلزم المخالفة القطعيّة، فلابدّ من التخيير، كما هو الشأن في دوران الأمر بين المحذورين.
وجه الضعف: أنّ التخيير عند دوران الأمر بين المحذورين إنّما هو لأجل عدم التمكّن من الموافقة القطعيّة، وأمّا فيما نحن فيه، فيمكن الموافقة القطعيّة ولو بالاحتياط وتكرار العبادة.


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com