الاستصحاب

تقييم المستخدم: 1 / 5

تفعيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل :في بيان الأقوال التي وردت في جريانه وحجّيّته:
لا يخفى: أنّ الأقوال في ذلك كثيرة. وعمدة ما تتركّز عليه هذه الأقوال أنّه بعد الفراغ عن جريان الاستصحاب، فلابدّ من البحث في أنّه هل يجري في الأحكام أم هو مختصّ بالموضوعات؟ ثمّ هل يجري في حالات الشكّ في المقتضي أيضاً أم أنّ جريانه مختصّ بالشكّ في الرافع؟
وبقيّة الأقوال لا فائدة في ذكرها.
ثمّ وقع الكلام في أنّه هل يكون من الاُصول العمليّة أو ليس من الاُصول والأمارات، بل عرش الاُصول وفرش الأمارات؟ وإذا كان من الاُصول، فهل هو أصل شرعيّ أم عقليّ، تنزيليّ أم غير تنزيليّ؟
وجوه بل أقوال.
وینبغي أن يعلم: أنّ مجرى الاستصحاب هو الشكّ في بقاء المتيقّن السابق، سواء كان حكماً شرعيّاً أو موضوعاً ذا حكم، فهو من الاُصول العلميّة المحرزة، ولذا كان يقوم مقام القطع دون سائر الاُصول العمليّة.

الأمر الثاني :في بيان المعنى الاصطلاحيّ للاستصحاب:
قال صاحب الكفاية في تعريفه: <ولا يخفى: أنّ عباراتهم في تعريفه، وإن كانت شتّى، إلّا أنّها تشير إلى مفهوم واحد، ومعنى فارد، وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شكّ في بقائه>( ).
وقال الاُستاذ المحقّق: <فهو عبارة عن حكم الشارع ببقاء المتيقّن السابق، حكماً كان أو موضوعاً ذا حكم، من حيث ترتيب الآثار الشرعيّة على أنّه متيقّن عند الشكّ في بقائه>( ).
ولا شكّ في أنّ المراد هو الإبقاء الواقعيّ، بل هو إبقاء ظاهريّ، وإنّما عدل صاحب الكفاية عن تعريفه بأنّه (إبقاء ما كان) وأخذ فيه بدلاً من ذلك (الحكم بالبقاء)؛ لأنّ مورد الاستصحاب حكم أو موضوع ذو حكم، ولو لم يكن هذا الحكم موجوداً وثابتاً واقعاً.

الأمر الثالث: هل الاستصحاب من المسائل الاُصوليّة أم لا؟
لا يخفى: أنّه من المسائل الاُصوليّة، لا من القواعد الفقهيّة، وإن كان يظهر من الشيخ الأعظم التوقّف في كونه مسألة اُصوليّة على تقدير استفادته من الأخبار.
قال: <وأمّا على القول بكونه من الاُصول العمليّة، ففي كونه من المسائل الاُصوليّة غموض؛ من حيث إنّ الاستصحاب ـ حينئذٍ ـ قاعدة مستفادة من السنّة...>( ).
وأمّا المحقّق النائيني فقد قال في المقام ما لفظه:
<والحقّ هو التفصيل بين الاستصحابات الجارية في الشبهات الحكميّة، والاستصحابات الجارية في الشبهات الموضوعيّة، ففي الأوّل: يكون الاستصحاب من المسائل الاُصوليّة، وفي الثاني: يكون من القواعد الفقهيّة>( ).
وحاصل ما أفاده في وجه هذا التفصيل:
أنّنا عرفنا في تعريف المسألة الاُصوليّة أنّها ما تقع كبرى في قياسات يستنتج منها الحكم الكلّيّ الشرعيّ، فالمسألة الاُصوليّة نتيجتها كلّيّة، ولا تتعلّق بعمل آحاد المكلّفين إلّا بعد التطبيق الخارجيّ.
وهذا بخلاف القاعدة الفقهيّة، فإنّها وإن كانت تقع كبرى لقياس الاستنباط، ولكنّ نتيجتها إنّما تكون حكماً جزئياً يتعلّق بعمل آحاد المكلّفين بلا واسطة، إذن، فإدخالها في المسألة الاُصوليّة إذا كانت الشبهة حكميّة دون أن يكون موضوعيّة يكون بلا مورد. ثمّ قال:
<إذا عرفت ذلك، فقد ظهر لك: أنّ البحث عن حجّيّة الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكميّة يكون بحثاً عن مسألة اُصوليّة؛ فإنّ النتيجة فيه حكم كلّيّ لا يتعلّق بعمل آحاد المكلّفين إلّا بعد تطبيقها على الأفعال أو الموضوعات الخارجيّة الجزئيّة، ولا عبرة بيقين المقلّد وشكّه في ذلك... إلى أن قال: وأمّا البحث عن حجّيّة الاستصحاب في الشبهات الموضوعيّة، فهو إنّما يكون بحثاً عن قاعدة فقهيّة؛ لأنّ النتيجة فيه حكم عمليّ له تعلّق بعمل الآحاد ابتداءً...>( ).

الأمر الرابع: يتقوّم الاستصحاب باليقين والشكّ:
الاستصحاب، سواء كان حكماً ببقاء الحكم الشرعيّ أم حكماً ببقاء موضوعٍ ذي حكم، يجب أن يكون مشتملاً على أمرين اثنين:
أوّلهما: اليقين مسبقاً بحدوث الشيء، وهو ما يمكن استفادته من نفس الشكّ في البقاء؛ لأنّ معنى كون الشكّ شكّاً في بقاء الحكم أو الموضوع يدلّ على مفروغيّة حدوثه في مرحلة مسبقة.
والثاني: الشكّ في البقاء، وهو مترتّب على اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع المشكوكة من ناحيتي الموضوع والمحمول؛ إذ مع عدم اتّحادهما، لا يكون من الشكّ في البقاء في شيء، بل إنّما يكون شكّاً في الحدوث؛ إذ لا معنى لبقاء الشيء إلّا استمرار وجوده السابق، ومن المعلوم أنّ هذا الاستمرار منوط باتّحاد اللّاحق في وجوده مع وجود السابق، وأن يكون عينه.
ولا يخفى: أنّ موضوع القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة، تارةً يكون أمراً وجوديّاً، وأُخرى أمراً عدميّاً.
ثمّ إنّ محمول القضيّة قد يكون من المحمولات الأوّليّة، وأُخرى من المحمولات المترتّبة، فالأوّل: كالوجود والعدم المحمولين على الماهيّات، والثاني: كالعدالة والشجاعة والفسق والجبن وغير ذلك.
وفي جميع هذه الصور، لا مانع من جريان الاستصحاب.
غاية الأمر: أنّه يعتبر في جريانه وحدة القضيّتين المشكوكة والمتيقّنة في الموضوع والمحمول، سواء كان المستصحب من الموضوعات الخارجيّة، كحياة زيد ورطوبة الثوب، أم كان من الأحكام الشرعيّة، كوجوب صلاة الجمعة ونجاسة الماء المتغيّر بأوصاف النجاسة.
ثمّ إنّ الموضوعات، تارةً تكون من الاُمور القارّة ـ وهي التي تكون أجزاؤها مجتمعةً في سلسلة الزمان ـ، سواء كانت من الجواهر، كالحيوان والنبات، أم من الأعراض، كالسواد والبياض والعلم والعدالة والفسق وغير ذلك من الاُمور الخارجيّة، فإذا أحرز حياة زيد أو عدالته ـ مثلاً ـ أمكن له إجراء استصحاب حياته أو عدالته لو حصل له الشكّ فيهما بعد ذلك.
وقد تكون من الاُمور غير القارّة، وهي الاُمور التدريجيّة، كالزمان نفسه، أو الزمانيّات، كالماء النابع من العين، أو الدم الخارج من عرق خاصّ.
وفي هذا القسم من الموضوعات قد يقال:
بعدم إمكان جريان الاستصحاب، لعدم إحراز بقاء الموضوع؛ لفرض تقوّم الاُمور التدريجيّة بالتصرّم والتجدّد، كما هو واضح.
ولكنّ الحقّ: جريان الاستصحاب فيها؛ لأنّها وإن لم تكن مجتمعة الأجزاء بحسب الوجود؛ لتصرّم أجزائها، وكون مجيء الجزء اللّاحق مترتّباً على تصرّم السابق.
إلّا أنّ وحدتها حقيقيّة لا تنثلم بذلك ما دامت الأجزاء متّصلة ولم يتخلّل العدم بينها، فلذا كان يجوز استصحاب اللّيل والنهار وجريان الماء من منبعه وما إلى ذلك.

الأمر الخامس :اشتراط الفعليّة في الشكّ واليقين:
يجب في الشكّ واليقين اللّذين هما مدار الاستصحاب ـ كما عرفنا ـ أن يكونا فعليّين لا تقديريّين؛ ذلك لأنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما إذا كان المكلّف فعلاً متيقّناً بحكم أو موضوع ذي حكم في الزمان السابق، وأيضاً: إذا كان شاكّاً فعلاً في بقائهما، لا أن يكون شاكّاً ومتيقّناً تقديراً، بحيث يكون غافلاً بالفعل، وليس له فعلاً: لا يقين بوجود شيءٍ سابقاً، ولا شكّ في بقاء ذلك الشيء لاحقاً، ولكن كان بحيث لو التفت وخرج عن حالة الغفلة هذه يحصل له الشكّ واليقين.
والدليل على لزوم اعتبار ذلك: أنّ كلّ عنوان يؤخذ موضوعاً لأيّ حكمٍ من الأحكام، ففعليّة ذلك الحكم تتوقّف على فعليّة ذلك الموضوع ـ أعني به: متعلّق المتعلّق ـ.
والاستصحاب، الذي هو عبارة عن فعليّة وجوب الإبقاء وحرمة النقض، بدوره يكون متوقّفاً على فعليّة الشكّ واليقين، فحيث لا يكونان فعليّين، فلا استصحاب يمكن جريانه في البين.
وتظهر الثمرة لذلك فيمن كان متيقّناً بالحدث ثمّ غفل عن ذلك وصلّى، ثمّ شكّ بعد الفراغ، بأنّه هل تطهّر للصلاة أم لا؟
فهنا تجري قاعدة الفراغ ليُحكم بصحّة صلاته؛ لأنّ الشكّ في الطهارة إنّما حصل بعد العمل، لا قبله، فهو ليس فعليّاً قبل العمل، كي يجري استصحاب الحدث فيؤمر بالطهارة ويُنهى عن الدخول في الصلاة.
وأمّا المتيقّن بالحدث إذا التفت إلى حاله في اللّاحق، وشكّ في بقاء الحدث وعدمه، جرى الاستصحاب في حقّه، ولكن في هذه الحالة، فلو غفل عن ذلك وصلّى، تكون صلاته باطلةً لا محالة لسبق الأمر بالطهارة، ولا تجري قاعدة الفراغ في حقّه؛ لأنّ مجرها هو الشكّ الحادث بعد الفراغ لا الشكّ الموجود من قبل العمل؛ لقصور دليلها لذلك، كما ذكر في محلّه.

الأمر السادس :في انقسامات الاستصحاب:
قال الاُستاذ المحقّق:
<انقسامات الاستصحاب باعتبار المستصحب، وباعتبار الدليل الذي يدلّ عليه، وباعتبار الشكّ المأخوذ فيه>( ).
أمّا انقسامه باعتبار المستصحب: فإنّ المستصحب قد يكون أمراً وجوديّاً، وقد يكون أمراً عدميّاً، وكلّ واحدٍ منهما: فهو إمّا حكم شرعيّ أو موضوع ذو حكم شرعيّ، وأيضاً: فما فيه المستصحب من الحكم الشرعيّ الوجوديّ والعدميّ، قد يكون حكماً كلّيّاً، وقد يكون حكماً جزئيّاً، وكل واحد من هذين: قد يكون حكماً تكليفيّاً، وقد يكون حكماً وضعيّاً.
وأمّا انقسامه بحسب دليله: فإنّ دليله ـ أعني: دليل المستصحب ـ قد يكون عقليّاً، وقد يكون شرعيّاً، والشرعيّ قد يكون لفظيّاً، كالكتاب والسنّة، وقد يكون لبّيّاً كالإجماع.
وأمّا انقسامه باعتبار الشكّ المأخوذ فيه: فإنّ الشكّ قد يكون شكّاً في المقتضي، بحيث يشكّ في أنّ المستصحب هل هو قابل للبقاء في حدّ نفسه من دون أن يكون هناك رافع في البين. وقد يكون شكّاً في الرافع، وذلك عندما يكون المستصحب قابلاً للبقاء في حدّ نفسه، لو لم يكن رافع في البين.
ثمّ إنّ الشكّ في الرافع قد يكون شكّاً في أصل وجود الرافع، كما أسلفنا، وقد يكون شكّاً في رافعيّة الموجود.
ثمّ إنّ الاستصحاب قد يكون تعليقيّاً وقد يكون تنجيزيّاً، وهو تارةً يتصوّر في الفروع، وأُخرى في الاُمور الاعتقاديّة، كما إذا فرض الشكّ في أنّ الاعتقاد بنبوّة الأنبياء السابقين هل هو واجب علينا أم لا؟ لاحتمال أن يكون مختصّاً بالمسلمين في صدر الإسلام.

التفصيل بين الأحكام الكلّيّة والأحكام الجزئيّة:
ثمّ إنّه قد يقال: بلزوم التفصيل بين الأحكام، والقول بجريان الاستصحاب في الأحكام الجزئيّة دون الكلّيّة؛ إذ لابدّ في جريان الاستصحاب ـ كما هو معلوم ـ من أن يكون الموضوع في القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة واحداً؛ ضرورة أنّ لولا هذا الاتّحاد بين موضوعي القضيّتين، فلا يكون عدم الجري العمليّ على طبق القضيّة المشكوكة نقضاً لليقين بالشكّ، بل هو ـ حينئذٍ ـ عبارة عن عدم الاعتناء بثبوت محمول لموضوع آخر للشكّ في ثبوته له، وليس من باب عدم الاعتناء ببقاء المحمول لموضوع القضيّة المتيقّنة بواسطة عروض الشكّ في بقائه كي يصدق عليه نقض اليقين بالشكّ.
وقد عرفت أنّ حقيقة الاستصحاب ليست إلّا عبارة عن حرمة نقض اليقين باعتبار الجري العمليّ، ووجوب إبقاء اليقين من حيث آثار المتيقّن، ولزوم الجري العمليّ على طبقه.
وهذا الشرط غير متوفّر في استصحاب الأحكام الكلّيّة، وذلك لأنّ الشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ لا يأتي ولا يتصوّر إلّا من جهة الشكّ في النسخ، إلّا أن يُفرض تغيّر في موضوعه، بوجود وصف لم يكن، أو بفقد قيد كان مأخوذاً في القضيّة المتيقّنة، أو غير ذلك.
فمثلاً: الماء المتغيّر أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة نجس يقيناً، ولا يحصل الشكّ في بقاء نجاسته إلّا بتغيّر في موضوع الحكم المجعول له، كما إذا زال التغيّر من قبل نفسه، لا بوصول المطهّر إليه، ومن المعلوم أنّ الماء الذي تغيّر بهذه النجاسة غير الماء غير المتغيّر بنجاسة أُخرى، فموضوع القضيّة المتيقّنة مغاير لموضوع القضيّة المشكوكة، وليس متّحداً معه، وفي هذا المثال، كان تغيّر الموضوع ـ كما رأينا ـ من جهة فقد القيد.
أمّا تغيّر الموضوع لفرض وجود وصف لم يكن في القضيّة المتيقّنة، ففي مثل العصير التمريّ أو الزبيبيّ إذا لم يَغْلِ يقيناً، فإنّه يكون طاهراً وشربه حلالاً، ولكن بعد وجود وصف الغليان قبل ذهاب الثلثين، إذا فُرض حصول الشكّ، فليس إلّا من جهة تغيّر الموضوع، فالحكم بعد نجاسة الماء بعد زوال تغيّره من قبل نفسه لا يكون نقضاً لنجاسة الماء الذي تغيّر شيء من أوصافه الثلاثة بالنجس؛ لاختلاف الموضوعين في القضيّتين.
وكذا الحال بالنسبة إلى الحكم بعدم الحليّة أو بعدم الطهارة للعصير التمريّ أو الزبيبيّ بعد الغليان، فإنّه ـ أيضاً ـ ليس نقضاً للحلّيّة أو الطهارة التي كانت لهما قبل الغليان، لعين تلك الجهة المشار إليها.
وكأنّ من أنكر صحّة جريان الاستصحاب في باب الأحكام الكلّيّة ـ كالاُستاذ الأعظم ـ لم ينكره إلّا لأجل ارتكاز هذه الشبهة في الأذهان.
قال: <التفصيل الثالث في حجّيّة الاستصحاب هو التفصيل بين الأحكام الكلّيّة الإلهيّة وغيرها من الأحكام الجزئيّة والموضوعات الخارجيّة ... إلى أن يقول: فيكون الاستصحاب قاعدة فقهيّة مجعولة في الشبهات الموضوعيّة، نظير قاعدتي الفراغ والتجاوز وغيرهما من القواعد الفقهيّة، وهذا هو الصحيح>( ).
ولكن قد أجاب عنها اُستاذنا المحقّق:
<بأنّ هذه الشبهة لا يمكن الجواب عنها لو قلنا بلزوم كون وحدة القضيّتين، التي هي ركن الاستصحاب بنظر العقل وبالدقّة؛ لما ذكر. وأمّا لو كانت الوحدة بنظر العرف، فيرجع ـ حينئذٍ ـ إلى العرف، وأنّ ما حصل به التغيّر في جانب موضوع القضيّة المتيقّنة هل هو من مقوّمات الموضوع عندهم أم لا، بل أمر خارج عن الموضوع، بحيث إنّ فقده لا يضرّ بصدق النقض عند عدم الاعتناء بحكمه بالشكّ فيه؟>( ).
ولك أن تقول: إنّه من الجائز أن يكون هذا القيد الذي صار سبباً للشكّ في بقاء الحكم بنظر العرف من قبيل الواسطة في الثبوت، لا الواسطة في العروض حتى يكون فقده سبباً لعدم بقاء الموضوع، فلا يصدق النقض على عدم الالتزام بحكمه في ظرف الشكّ.
ومنشأ الفهم العرفيّ أنّه من أيّ واحد من القسمين هو مناسبة الحكم والموضوع، فمثلاً: ما يفهمه العرف في نحو قولهم: (الماء الذي تغيّر أحد أوصافه الثلاثة بأوصاف النجاسة نجس) بمناسبة الحكم والموضوع، هو أنّ معروض النجاسة إنّما هو جسم الماء، وأنّ التغيّر بأحد الأوصاف يكون علّة للحكم بالنجاسة وواسطة في ثبوتها للماء، لا أنّه من قبيل الواسطة في العروض لكي يكون الماء بوصف كونه متغيّراً موضوعاً، حتى لا يبقى الموضوع بعد زوال التغيّر محفوظاً.
ولا فرق فيما ذكرنا في فهم العرف ونظره بمناسبة الحكم والموضوع بين أن يكون القيد المأخوذ في جانب الموضوع بصورة التوصيف، كقولك: (الماء المتغيّر) أو بصورة القضيّة الشرطيّة، والسرّ في ذلك: أنّ اختلاف العبارة لا يؤثّر في فهم العرف بمناسبات الحكم والموضوع.
اللّهمّ إلّا أن يقال: بأنّ العرف يفهم من القيد إذا كان مأخوذاً بنحو التوصيف أنّه واسطة في العروض، وإذا كان بنحو الشرط والقضيّة الشرطيّة أنّه واسطة في الثبوت.

التفصيل بين ما كان دليله العقل وما دليله النقل:
وفي المقام تفصيل آخر يرتبط بحجّيّة الاستصحاب، حاصله: أنّ الاستصحاب لا يجري إن كان مدركه دليل العقل، ويجري إن كان دليله الشرع والنقل، بدعوى: أنّ الحكم الشرعيّ الذي يستكشف من الحكم العقليّ وبقاعدة الملازمة، يكون تابعاً له في مقام الإثبات لا محالة، بمعنى: أنّه إذا كان حكم العقل معلوماً كان حكم الشرع معلوماً ـ أيضاً ـ، وإذا كان عدمه معلوماً كان عدم حكم الشرع كذلك؛ وذلك لأنّ العلم بوجود أحد المتلازمين هو بعينه علم بوجود الآخر.
وكذلك الحال في طرف العدم، أي: أنّ العلم بعدم أحد المتلازمين يكون بعينه علماً بعدم الآخر، بل وكذلك بالنسبة إلى الشكّ، فإنّ الشكّ في أحدهما ـ هو بدوره ـ يكون شكّاً في الآخر.
وحيث إنّه لا معنى للإجمال ولا الإهمال في حكم العقل؛ لأنّ العقل لا يحكم بحسن شيء أو قبحه إلّا بعد الالتفات إلى موضوع حكمه مع وجود جميع قيوده وخصوصيّاته التي لها دخل في حكمه، فكلّ قيد اعتبره العقل في موضوع حكمه يجب أن يكون دخيلاً في الموضوع.
وعلى هذا الأساس: فمع بقاء موضوع الحكم العقليّ بجميع قيوده وخصوصيّاته المأخوذة فيه، والتي اعتبرها العقل في ذلك الموضوع، فالحكم العقليّ باقٍ، بل ومقطوع البقاء، وكذلك يكون الحكم الشرعيّ، لما ذكرناه من الاستكشاف والتبعيّة. وأمّا إن فقد منه قيد أو خصوصيّة، فيكون الحكم العقليّ مقطوع الارتفاع، فكذلك يكون الحكم الشرعيّ؛ لمكان الملازمة.
وبالجملة: فالحكمان العقليّ والشرعيّ هما دائماً: إمّا مقطوعا البقاء، وإمّا مقطوعا الارتفاع، فلا شكّ في المقام ـ أصلاً ـ لكي يتأتّى فيه جريان الاستصحاب.
أقول: ويمكن الجواب عنه بمنع الملازمة بين أن يكون القيد مأخوذاً في موضوع حكم العقل، وبين أن يكون ممّا له دخالة في مناط الحكم، بحيث يؤدّي إلى أن ينتفي مناط ذلك الحكم العقليّ بانتفائه، بل إنّما يصبّ العقل حكمه بالحسن أو بالقبح على الموضوع الذي اجتمعت وتوفّرت فيه كافّة القيود، فيكون حكمه على هذا المجمع بالحسن أو بالقبح حكماً قطعيّاً، ولكن من دون أن يعني ذلك أنّ مدخليّة كلّ واحدٍ من هذه القيود في مناط ذلك الحكم.
وبالجملة: فلا سبيل للعقل إلّا أن يقطع بأنّ ما حكم به من حسن الشيء أو قبحه عند وجود جميع القيود ثابت، وأمّا لو فقد قيد من تلك القيود، فإنّه ولو لم يكن للعقل حكم بالحسن أو بالقبح حينئذٍ، ولكن عدم حكمه ـ والحال هذه ـ ليس من جهة أنّه قد قطع وحصل له العلم بعدم وجود المناط للحسن أو للقبح في فاقد القيد، بل من جهة عدم علمه بحصول المناط لهما، فيحتمل وجود هذا المناط، وإن لم يكن له حكم في مورد فاقد القيد فعلاً؛ لعدم إحرازه لتوفّر المناط وعلمه به.
والحكم الشرعيّ تابع لمناط حكم العقل وجوداً وعدماً، لا لنفس حكم العقل، فمع احتمال وجود المناط في ما هو فاقد للقيد، فيحتمل بقاء الحكم الشرعيّ ولو مع انتفاء حكم العقل، فيتمّ إثباته ـ أعني: الحكم الشرعيّ الذي لا يزال محتملاً ـ ببركة التمسّك بالاستصحاب.

الأمر السابع: في أدلّة حجّيّة الاستصحاب:

الدليل الأوّل: بناء العقلاء وسيرتهم:
والمراد ببناء العقلاء أحد معنيين:
الأوّل: عملهم بما هم متديّنون ومتشبّثون بالشريعة، كما في استقرار طريقتهم على بيع المعاطاة، ونحو ذلك، ولكنّ السيرة بهذا المعنى لا تكون حجّةً بمجرّدها كما لا يخفى، بل يحتاج اعتبارها إلى صدور الإمضاء من الشارع.
والثاني: استقرار العقلاء بما هم عقلاء على أمر شرعيّ، كبنائهم على اعتبار الخبر الموثوق الصدور.
وفي محلّ البحث، فلا شكّ في أنّ سيرة العقلاء، بلا فرق بين أن يكونوا من ذوي الأديان أو غيرهم، قائمة على العمل على طبق الحالة السابقة، فإنّ العقلاء في جميع أعمالهم وتحرّكاتهم، من التجارة أو زيارة الأصدقاء أو عيادة المرضى أو غير ذلك، بل هم في جميع حركاتهم الارتكازيّة، يرون أنّ عملهم دائماً يكون على طبق الحالة السابقة، ولا يعتنون بشكّهم في ارتفاعه، وشكّهم هذا لا يمنعهم عن العمل والجري على طبق الحالة السابقة، وبما أنّ الشارع لم يصدر منه ردع ونهي عن هذه السيرة، فيكون عدم ردّه له وردعه عنها كاشفاً عن إمضائه لها.
فإن قلت: لعلّ عملهم على طبق الحالة السابقة كان من جهة غفلتهم عن ارتفاعها، أو لأجل اطمئنانهم ببقائها، أو من جهة رجاء البقاء.
قلت: إنّ إنكار استقرار عملهم على ذلك في ظرف الشكّ الفعليّ، ولو في غير الحالات المشار إليه ليس إلّا ضرباً من المكابرة.
ويدفع الثاني: أنّ فرض اطمئنانهم ببقاء الحالة السابقة منافٍ لأصل الفرض، وهو استقرار عملهم على طبق الحالة السابقة في ظرف الشكّ ببقائها شكّاً فعليّاً، ومعلوم أنّ الشكّ الفعليّ والاطمئنان لا يجتمعان بحال.
ويدفع الثالث: أنّ الاستمرار على طبق الحالة السابقة في الاُمور المهمّة، وخصوصاً في الأعمال التي يكون فيها على تقدير عدم بقاء الحالة السابقة ضرر كثير لا يمكن أن يكون برجاء إصابة الواقع؛ لأنّ العمل برجاء الواقع إنّما يكون في الغالب في مورد لو صادف الواقع لكان فيه نفع، ولا يكون فيه ضرر، أو فقل: يكون فيه احتمال النفع دون احتمال الضرر المهمّ.
وقد أورد صاحب الكفاية على هذا الوجه بإيرادين، إذ قال:
<وفيه: أوّلاً: منع استقرار بنائهم على ذلك تعبّداً، بل إمّا رجاءً واحتياطاً، أو اطمئناناً بالبقاء، أو ظنّاً، ولو نوعاً، أو غفلةً كما هو الحال في سائر الحيوانات دائماً، وفي الإنسان أحياناً.
وثانياً: سلّمنا ذلك، لكنّه لم يُعلم انّ الشارع به راضٍ وهو عنده ماضٍ، ويكفي في الردع عن مثله ما دلّ من الكتاب والسنّة على النهي عن اتّباع غير العلم، وما دلّ على البراءة أو الاحتياط في الشبهات، فلا وجه لاتّباع هذا البناء فيما لا بدّ في اتّباعه من الدلالة على إمضائه>( ).
وحاصل إيراده الأوّل: أنّ المقصود من هذا الاستدلال هو إثبات بقائهم على الحالة السابقة على نحو التعبّد وكفاية نفس الوجود السابق بما هو متيقّن في ترتيب آثاره عليه في ظرف الشكّ، ولكنّه ممنوع؛ إذ لا معنى للتعبّد المحض في عمل العقلاء به ارتكازاً، بل لابدّ وأن يكون هناك منشأ عقلائيّ لذلك، وهو:
إمّا الاحتياط، كما لو فرض أنّ ابنه سافر إلى بلد، وكان والده هو المتكفّل بالإنفاق عليه، فإنّ الوالد ولو شكّ في حياة ابنه، يرسل الأموال إليه من باب الاحتياط، حذراً من وقوع ابنه في ضيق المعيشة على تقدير بقاء حياته.
وإمّا الاطمئنان بالبقاء أو الظنّ به، وذلك كالتاجر الذي يرسل البضائع إلى تاجر آخر ساكن في بلد آخر، فإنّه ولو لم يتفحّص عن بقائه في كلّ مرّة، ولكنّه مطمئنّ بحياته، ولذا يرسل إليه البضائع، ولكن لو حدث في تلك البلدة ما يوجب العلم بموت جماعة من زلزال أو وباء، واحتمل أنّ ذلك التاجر كان واحداً منهم، لم يرسل إليه الأموال الخطيرة قطعاً؛ لزوال اطمئنانه ـ بل ظنّه ـ بالبقاء.
وإمّا هو الغفلة عن شكّه الفعليّ في بقاء ما كان، كما إذا غيّر مسكنه وغفل عنه، فإنّه قد يسلك الطريق الذي يوصله إلى داره الاُولى، وهذا في الحيوانات أظهر؛ لأجل عادتها التي حصلت له من جهة تكرار الفعل السابق، ومع تبدّل عادتها لا ترجع إلى محلّها الأوّل، إلّا لأجل الغفلة.
وعليه: فليس الارتكازات لدى العقلاء العمل بالمتيقّن السابق تعبّداً في طرف الشكّ في بقائه كي يتّجه الاستدلال به على اعتبار الاستصحاب.
وحاصل الثاني: أنّ حجّيّة هذا البناء العقلائيّ تتوقّف ـ كبقية الموارد ـ على إمضاء الشارع، ولو بعدم الردع. ولكنّه محلّ منع؛ إذ لا دليل على الإمضاء، وإنّما الدليل قائم على الردع. وهذا الدليل هو:
أوّلاً: الآيات والروايات المانعة عن العمل بالظنّ وغير العلم، كما في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾( )، فإنّها شاملة للمقام يقيناً؛ إذ المفروض زوال اليقين بالحالة السابقة، وغاية ما يمكن دعواه: هو وجود الظنّ باستمرارها، وكلّ ما ليس بعلم فإنّه يكون موضوعاً للنهي عن اتّباعه، كما هو ظاهر.
ولكن قد أورد عليه اُستاذنا المحقّق بأنّ <هذا الكلام مناقض لما ذكره في باب الاستدلال على حجّيّة خبر الثقة بالسيرة في ردّ من قال بأنّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم رادعة، من أنّ رادعيّة الآيات دوريّ>( ).
وحاصله: أنّ رادعيّة الآيات عن السيرة القائمة على العمل بالاستصحاب متوقّفة على عمومها لها، وعمومها لها متوقّف على عدم تخصيصها ببناء العقلاء، وعدم التخصيص متوقّف على عدم حجّيّة بناء العقلاء؛ إذ لو كان حجّة لخصّص العموم، فإثبات عدم حجّيّة بنائهم على الاستصحاب بأصالة عموم الآيات متوقّف على عدم حجّيّة بنائهم، وهو الدور المحال.
وقد ذكر صاحب الكفاية هناك: أنّ الالتزام بتخصيص العموم بالسيرة ـ أيضاً ـ دوريٌّ؛ لأنّه يتوقّف على عدم الردع عنها، وهو يتوقّف على تخصيص السيرة للعموم. ولكنّه ذكر أنّ الدور وإن تحقّق من كلا الطرفين، ولكنّه يكفي في الإمضاء عدم ثبوت الردع، ولا يعتبر ثبوت عدمه( ).

الدليل الثاني: الإجماع:
ممّا ادّعي دلالته في المقام على حجّيّة الاستصحاب: الإجماع من الأصحاب، فإنّهم متّفقون قديماً وحديثاً على اعتباره.
قال العلّامة الحلّيّ في المبادئ:
<ولإجماع الفقهاء على أنّه متى حصل حكم، ثمّ وقع الشكّ في أنّه هل طرأ ما يزيله أم لا؟ وجب البقاء على ما كان أوّلاً، ولولا القول بالاستصحاب، لكان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن من غير مرجّح>( ).
وقال ـ أيضاً ـ في النهاية: <وأيضاً فالفقهاء بأسرهم، على كثرة اختلافهم، اتّفقوا على أنّا متى تيقّنّا حصول شيء وشككنا في حدوث المزيل، أخذنا بالمتيقّن، وهو عين الاستصحاب؛ لأنّهم رجّحوا بقاء الباقي على حدوث الحادث>( ).
ولكنّ الحقّ: أنّ أمثال هذه الإجماعات إنّما تكون حجّة فيما لو أدّت إلى حدس رأي الإمام ودخوله في المجمعين، ولكنّ حدس رأيه من اتّفاق الكلّ لا سبيل له في المقام، فإنّ الاتّفاق من الكلّ إنّما يكون موجباً له فيما إذا لم يكن مستند المتّفقين معلوماً، أي: فيما لم يكن هناك مستند يحتمل اعتمادهم عليه، فحينئذٍ: يحدس الإنسان أنّ اتّفاقهم، مع اختلاف سلائقهم وبلدانهم وأعصارهم وأمصارهم لابدّ وأن يكون لسبب متّفق معلوم عند الكلّ، وأنّه ليس إلّا رأي الإمام.
وأمّا لو كان لهم مستند معلوم، كما هو الحال في المقام، حيث تمسّك البعض لإثبات حجّيّة الاستصحاب ببناء العقلاء، وبعضهم بالظنون الاستحسانيّة، وبعضهم بالأخبار، وبواسطة اختلاف المدارك، أو اختلاف أفهامهم واستظهاراتهم، وقع الخلاف في اعتباره مطلقاً أو عدم اعتباره كذلك أو التفصيل في الحجّيّة بين بعض الاستصحابات وبعض آخر. هذا أوّلاً.
وثانياً: حصول الاتّفاق في الكلّ ممنوع، كيف لا؟! وشطر من الشيعة، وهم الأخباريّون، على القول بعدم حجّيّته.
نعم، لا بأس بادّعاء الشهرة المحصّلة.

الدليل الثالث: الأخبار:
وهي العمدة في الاستدلال.
من هذه الأخبار:
صحيحة زرارة، قال: <قُلْتُ له: الرجل ينام وهو على وضوء، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال: يا زرارة، قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن، فإذا نامت العين والأذن والقلب، وجب الوضوء، قلت: فإن حرّك إلى جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال: لا، حتى يستيقن أنّه قد نام، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن، وإلّا، فإنّه على يقين من وضوئه، ولا تنقض اليقين أبداً بالشكّ، وإنّما تنقضه بيقين آخر>( ).
والكلام في هذا الحديث تارةً من ناحية السند، وأُخرى من ناحية الدلالة:
أمّا سنداً، فهي مضمرة، ولكن في الحقيقة، فإنّ إضمارها لا يضرّ بصحّتها، فإنّها وإن نقلت مضمرةً في التهذيب( )، إلّا أنّها مسندة إلى مولانا أبي جعفر الباقر في جملة من كتب الفطاحل والأعلام من أصحابنا، كما نجد ذلك في القوانين( ) والفصول( ) والحدائق( ) والفوائد المدنيّة( ) للأمين الأسترابادي ومفاتيح الاُصول( ) والوافية( )، إلى غير ذلك من كتب الأصحاب.
ولا يخفى: أنّ إسنادهم إلى الإمام يكشف عن ظفرهم بالأصل المشتمل على الرواية المسندة.
ولكنّ الحقّ: أنّ نسبتهم الرواية المذكورة إلى الإمام لعلّها ناشئة ممّا يمكن أن يقال: من أنّ زرارة أجلّ شأناً عن أن يروي بعنوان الإضمار عن غير الإمام؛ لكونه من كبار أجلّاء أصحابه ومن عظماء الطائفة ووجوهها، فمن كان في مثل مقامه هذا، فلا يعقل أن يستفتي عن غير المعصوم. فإضماره هذا يكون ـ لا محالة ـ بمنزلة التصريح والإظهار.
وقد يقال: بأنّ ذكرها في كتب الحديث وإثبات الحسين بن سعيد وحمّاد وحريز لها في اُصولهم وكتبهم يكون شاهداً على أنّه حديث مرويّ عن المعصوم دون سواه.
ولكن فيه: أنّ مجرّد ذكر الرواية في كتب الحديث واُصوله لا يدلّ على صحّتها.
وقد يقال: بأنّ هذا الإضمار هو كغالب الإضمارات، إنّما نشأ من تقطيع المصنّفين للروايات، وذكرهم كلّ قطعة منها في الباب المناسب لها، وإلّا، فهي غير مضمرة بحسب الأصل.
لكنّ الحقّ: أنّ ما قيل من الغالبيّة لا ينكر، ولكن لا يعلم أنّ هذه الرواية منها.
وبالجملة: فالعمدة في تصحيح هذه الرواية والبناء عليها هو ما أشرنا إليه من أنّ زرارة أجلّ شأناً من أنّ يستفتي من غير المعصوم.
هذا تمام الكلام في الناحية السنديّة.
وأمّا دلالةً:
فلا يخفى: أنّ النوم في الحديث لا يمكن حمله على النوم الحقيقيّ؛ لأنّ النوم الحقيقيّ ناقض للطهارة قطعاً، ولكنّ الإمام في الرواية جعل الطهارة باقية، فلابدّ من حمله على أنّه شارف على النوم، لا على أنّه حصل له النوم فعلاً. والسائل حينما يسأل الإمام عن إيجاب الخفقة والخفقتين للوضوء، فهو سؤال عن شبهة حكميّة حاصلة لديه، وذلك لأحد احتمالين:
فإمّا لأنّه قد اشتبه عنده مفهوم النوم وتردّد بين الأقلّ والأكثر فلم يعرف أهو شامل للخفقة والخفقتين أم لا.
وإمّا لأنّه شكّ في أنّ الخفقة والخفقتين من النواقض المستقلّة، بمعنى: أنّه شكّ في أنّ الخفقة والخفقتين هل هما من مصاديق النوم، ومن جملة مراتبه التي يحصل بها عنوان النوم الناقض ـ هذا إن قبلنا بأنّ النوم حقيقة مشكّكة، وأنّ له مراتب متفاوتة ـ ولو لم يكن أعلى المراتب، وهو الغالب على القلب، الذي تكشف عنه غلبة النوم على حاسّة السمع.
فيكون المراد من سؤاله للإمام: أنّ النوم الناقض هل أحد مصاديقه الخفقة والخفقتان؟ أم أنّه منحصر بنوم القلب؟ فتكون الشبهة مفهوميّة وحكميّة.
وأمّا سؤاله الثاني، وهو قوله: <فإن حرّك إلى جنبه شيء>، فهو سؤال عن شبهة موضوعيّة، وهو أنّه قد يحصل الفتور للإنسان في الحاسّتين: السمع والبصر، فهل يكون هذا أمارةً على حصول النوم الناقض منه أم لا؟ فأجابه الإمام بالنفي؛ لأنّ عدم إحساسه بحركة شيء إلى جنبه ليس لازماً مساوياً للنوم، بل اليقظان أيضاً قد لا يلتفت ولا يشعر بشيءٍ حُرّك إلى جنبه بسبب انشغال باله، وكان الجواب منه: <لا حتى يستيقن أنّه قد نام>.
وقوله: <ولا تنقض اليقين أبداً بالشكّ، وإنّما ينقضه بيقين آخر>. يمثّل كبرىً كليّة تنحلّ إلى قضايا متعدّدة بحسب تعدّد أفراد اليقين، فتدلّ على حرمة نقض كلّ فرد من أفراد اليقين بالشكّ فيه.
وقوله: <فإنّه على يقين من وضوئه>، بمنزلة الصغرى، والجملة ظاهرة في أنّ اليقين يكون بالفعل، أي: في نفس زمان تحقّق الشكّ، غايته: أنّ اليقين تعلّق بالحدوث، والشكّ بالبقاء، فهو كان عند عروض الخفقة والخفقتين متيقّناً بتحقّق الوضوء في السابق، وبعروض الخفقة والخفقتين حصل له شكّ في انتقاضه.
نعم، لو كان المراد من قوله: <فإنّه على يقين من وضوئه> أنّه كان على يقين من وضوئه ولكن زال ذلك اليقين بالشكّ بطروء الشكّ الساري الموجب لانعدام اليقين بالحدوث، لأمكن أن تكون هذه العبارة المتقدّمة ناظرةً إلى الشكّ الساري وقاعدة اليقين.
ولكن قد عرفت أنّها ظاهرة في فعليّة اليقين بالحدوث، وظهورها هذا آبٍ عن إرادة قاعدة اليقين.
قد يقال: إنّ الحديث لكي يدلّ على حجّيّة الاستصحاب على نحو كلّيّ، فلابدّ أن يثبت به كبرى القياس على نحو العموم الاستغراقيّ، بحيث لو انضمّ إليها الصغرى لأنتج حكماً كلّيّاً إلهيّاً، ولكان قياساً بطريق الشكل الأوّل من القياس الاقتراني الحمليّ كبراه من المسلّمات المفروغ عنها، كقولك: (هذا ما أفتى به المفتي، وكلّ ما أفتى به المفتي يجب اتّباعه، فهذا يجب اتّباعه)، ولكنّ الحديث ليس كذلك، بل هو مخصوص بباب الوضوء، بل وارد في خصوص حدث النوم من بين نواقض الوضوء، ولو ألغينا خصوصيّة النوم ـ كما عليه الأخباريّون ـ بقرينة قوله: <فإنّه على يقين من وضوئه> لكان دليلاً على اعتبار الاستصحاب بالنسبة إلى الشكّ في أيّ ناقضٍ من النواقض، ولو لم يكن النوم، ولكنّه يبقى محصوراً في دائرة الوضوء ونواقضه، إذ يكون المراد ـ حينئذٍ ـ من <لا تنقض اليقين> هو اليقين بالوضوء خاصّةً.
وإنّما يدلّ الحديث على حجّيّة الاستصحاب مطلقاً بشرط، وهو أن لا يكون المراد من تلك الجملة هو خصوص اليقين بالوضوء، بل مطلق اليقين، وأن لا تكون (اللّام) في قوله: <اليقين> للعهد. أو فقل: إنّ دلالته على الكبرى الكلّيّة وشموله لكلّ حكمٍ أو موضوع ذي حكم لا يمكن إلّا بتجريد اليقين عن إضافته إلى الوضوء، حتى تكون اللّام ـ حينئذٍ ـ للجنس، ليكون المراد مطلق اليقين على نحو العموم الاستغراقيّ، غاية الأمر: أنّ أحد مصاديقه هو اليقين بالوضوء، وقد علّل الإمام حرمة نقض اليقين بالوضوء باندراجه تحت تلك الكبرى الكلّيّة المسلّمة.
والتحقيق: أنّ إضافة اليقين إلى الوضوء في الرواية إنّما كان لأجل أنّه مورد السؤال، ومعلوم أنّ المورد لا يخصّص الوارد، فما دام قوله: <لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ> مطلقاً، فيكون ظاهراً في أنّ الإمام كان بصدد بيان وإعطاء القاعدة الكلّيّة لليقين، وهي أنّه لا يجوز نقض اليقين بالشكّ، كائناً ما كان مورد هذا اليقين، في باب الوضوء كما في غيره، وإنّما ذكر اليقين الوضوء من باب أنّه مصداق لهذه الكبرى.
فالصحيح: أنّه لو كنّا نحن والفهم العرفيّ لهذه العبارة، لم يكن دخل لخصوص متعلّق اليقين المذكور في الرواية، وهو الوضوء، بل إضافته إلى الوضوء ـ كما عرفنا ـ ليس إلّا لكونه المسؤول عنه ومورد سؤال السائل، وإلّا، فظاهر الرواية يقتضي أنّ كلّ يقين مهما كان الشيء الذي يتعلّق به، فإنّه لا ينقض بالشكّ به.
والحاصل: أنّ قوله: <ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ> يكون من باب الكبرى، وأنّه لا دخل لجملة <فإنّه على يقين من وضوئه> في هذا القياس أصلاً، إلّا من باب ذكر أحد مصاديق تلك الكبرى وإحدى صغرياتها. فهو بصدد إعطاء قاعدة كلّيّة تكون الصغرى إحدى مصاديقها.
وممّا يدلّ على عدم اختصاص الرواية بباب الوضوء، وأنّ الإمام كان بصدد إعطاء القاعدة الكلّيّة التي تجري في جميع الموارد، سواء كان من المورد المذكور في الرواية أم لم يكن، هو: وقوع هذه الجملة في أبواب مختلفة من الفقه كبرىً لصغريات متعدّدة غير اليقين والشكّ المتعلّقين بالوضوء أيضاً، كما ورد في الطهارة والنجاسة وفي عدد الركعات، وفي موارد أُخرى ممّا يطول ذكره.
وبالجملة: فما أسهل وأوضح أن يقطع الإنسان بأنّ هذه الرواية غير مختصّة بباب الوضوء، وأنّها ناظرة إلى إعطاء قاعدة كلّيّة مرتكزة في أذهان العقلاء، غير مختصّة بباب الوضوء، وهي عدم نقض اليقين أبداً بالشكّ، أي: أنّه لا تُرفع اليد عن العمل على طبق الحالة السابقة ما لم يعلم بالخلاف أصلاً.
وإذا تمّ أنّ قوله <فإنّه على يقين من وضوئه> بمنزلة الصغرى، وأنّ قوله: <لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ> بمنزلة الكبرى، فتكون الرواية ـ حينئذٍ ـ دليلاً تامّاً على إمضاء الشارع لما استقرّ عليه بناء العقلاء، وتصحيحاً لما جرى عليه ديدنهم.
ولكن هناك فرق بين الصحيحة وبين بناء العقلاء؛ فإن العقلاء لا يعملون على طبق الحالة السابقة إلّا إذا أفادت الوثوق والاطمئنان ببقاء الحالة السابقة، وأمّا الصحيحة فهي بإطلاقها تنهى عن نقض اليقين بالشكّ مطلقاً، ولو لم يكن هناك وثوق واطمئنان بالبقاء، ما لم يكن هناك يقين آخر ينقضه.
فتكون الرواية ـ والحال هذه ـ إمضاءً لما عليه العقلاء، ويكون الغرض من التعليل إنّما هو التنبيه على صغريات المعلّل، كما لو قيل: (لا تشرب الخمر لأنّه مسكر)، فإنّ ثبوت الحرمة ـ حينئذٍ ـ إنّما هو لأجل انطباق عنوان المسكر المفروغ عن حرمته على السائل المسمّى خمراً.
وعليه: فإنّ جملة <لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ> إنّما هي اشارة إلى شيء مغروس في الذهن، ومرتكز عند العقلاء؛ لأنّ اليقين بما أنّه كاشف ذاتيّ عن الواقع، فلابدّ من سلوكه، وأمّا الشكّ، فبما أنّه محض التحيّر والتردّد لا ينبغي البناء عليه؛ لكونه محتمل الضرر، فيكون الإمام قد طبّق في هذا الحديث قاعدة عقلائيّة مسلّمة على الاستصحاب، وإن زال اليقين وتبدّل بالشكّ، فأمر بالأخذ باليقين وعدم الاعتناء بالشكّ.
أو فقل: بما أنّ اليقين والشكّ بمنزلة طريقين يكون أحدهما مأموناً من الضرر دون الآخر، فإذا دار الأمر بينهما فلا إشكال في أنّ المرتكز هو اختيار الطريق المأمون دون محتمل الضرر.
ثمّ بما أنّ اليقين قد تعلّق بالحدوث والشكّ بالبقاء، فلم يتعلّق اليقين بنفس ما تعلّق به الشكّ، حتى لا يجوز نقض اليقين بالشكّ، فلا يصدق نقض اليقين بالشكّ عرفاً، فتطبيق هذه الكبرى الكلّيّة المرتكزة في أذهان العقلاء على الاستصحاب في الرواية إنّما هو من باب التعبّد الشرعيّ.
وعلى كلّ حال: فإنّ استظهار العموم لجميع أفراد اليقين يبتني إمّا على أن تكون اللّام في قوله <لا ينقض اليقين بالشكّ> لاستغراق الجنس، كما هو ظاهر اللّام، أو بتجريد اليقين عن إضافته إلى الوضوء لو كانت للعهد.
ثمّ لا فرق فيما استظهرنا من هذه الجملة بين القول بأنّ جواب الشرط الذي يستفاد من قوله: <وإلّا>، وهو: وإن لم يستيقن أنّه قد نام، محذوف، وهو (لا يجب عليه شيء)، وقد قامت العلّة ـ وهي قوله: <وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه> ـ مقامه، أو كانت هذه العلّة نفسها هي الجواب.
ثمّ إنّ قوله: <لا ينقض اليقين> لو كان المراد منه هو خصوص اليقين بالوضوء، لكان تكراراً لقوله: <فإنّه على يقين من وضوئه>، وهو خلاف الظاهر.
وقد ذكر صاحب الكفاية أنّ قوله <فإنّه على يقين من وضوئه> لا ظهور له في تقيّد اليقين بالوضوء بحيث يكون الأوسط هو اليقين بالوضوء؛ لقوّة احتمال أن يكون قوله <من وضوئه> متعلّقاً بالظرف المقدّر، لا بلفظ اليقين، فكأنه قال: فإنّه من طرف وضوئه على يقين، فيكون الأوسط هو ذات اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء( ).
غاية الأمر: أنّه بناءً على الاحتمال الأوّل فيكون المجموع من الصغرى والكبرى مذكوراً. وأمّا إذا قلنا بأنّ جواب الشرط هو قوله <فإنّه على يقين من وضوئه>، فتكون الجملة الخبريّة واردة في مقام الإنشاء، ولكنّ النتيجة في كليهما واحدة ـ كما أشرنا ـ وهي استفادة القاعدة الكليّة.
ولكنّهم مع ذلك قالوا: بأنّ حذف الجواب وإقامة العلّة مقامه كثير، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾( )، فإنّ الجواب محذوف، أي ـ واﷲ العالم ـ: فاعلم أنّه غنيّ عن جهرك.
فإن قيل: ولكنّ الالتزام بحذف الجواب وقيام العلة مقامه خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلّا لدليل، فلابدّ من أن تكون جملة <فإنّه على يقين من وضوئه> هي جملة الجزاء، فمعناه أنّه يجب ترتّب آثار اليقين على الوضوء، ولازمه اختصاص حجّيّة الاستصحاب بباب الوضوء.
قلنا: حذف الجواب وإن كان على خلاف الأصل، ولكنّه أظهر في المقام لأمرين:
أوّلهما: ما عرفته من شيوع هذا النوع من الاستعمال في القضايا العرفيّة، كما في الآية المتقدّمة، ومثلها قوله تعالى: ﴿إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ﴾( )، وقوله: ﴿وَإِن يُكَذّبـُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ﴾( ).
والثاني: أنّ جملة <فإنّه على يقين من وضوئه> جملة خبريّة، وحملها على الإنشائيّة خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلّا بقرينة، وهي مفقودة في المقام.
ومن جملة الأخبار أيضاً:
مضمرة أُخرى لزرارة ـ والإضمار من مثله لا يضرّ كما ذكرنا ـ:
قال: <قلْتُ له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره، أو شيء من منيّ، فعلّمْتُ أثره إلى أن أُصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصلاة، ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيْتُ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال: تعيد الصلاة وتغسله. قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه، وعلمت أنّه قد أصابه، فطلبته، فلم أقدر عليه، فلما صلّيْت وجدته؟ قال: تغسله وتعيد. قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه، ولم أتيقّن ذلك، فنظرت فلم أرَ شيئاً، ثمّ صلّيت فيه، فرأيت فيه؟ قال: تغسله، ولا تعيد الصلاة. قلت: لِمَ ذلك؟ قال: لأنّك كُنْتَ على يقين من طهارتك، ثمّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً. قلت: فإنّي علمْت أنّه قد أصابه، ولم أدرِ أين هو، فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك. قلت: فهل عليّ إن شككْتُ في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: لا، ولكنّك إنّما تريد أن تُذهب الشكّ الذي وقع في نفسك. قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككْتَ في موضعٍ منه ثمّ رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعْتَ الصلاة وغسلْتَه، ثمّ بنيت على الصلاة؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء أُوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ>( ).
فقد ورد في هذه الرواية في موضعين منها دلالة على حجّيّة الاستصحاب، الجملة الاُولى: <فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً>، والثانية عينها، ولكن من دون كلمة <أبداً>.
فإنّ المفروض في السؤال هو الظنّ بالإصابة وعدم اليقين بها، فاليقين السابق على هذا الظنّ ـ وهو الظنّ بالإصابة ـ لا يجوز نقضه بهذا الظنّ، ولو فرض أنّ جريان الاستصحاب في شبهات الموضوعيّة في أمثال هذا المقام مستوجب للفحص، فقد حصل الفحص كما هو مذكور في الصحيحة.
كما أنّ الظاهر منها أنّ الإمام بصدد إفادة الكبرى الكليّة، وأنّه في الجواب عن السؤال الثالث، حيث قال: <لأنّك كنت على يقين...>، أتى في مقام تعليل الحكم بعدم وجوب إعادة الصلاة، بأمر ارتكازيّ، لا بأمر تعبّديّ حتى يختصّ اعتبار الاستصحاب بمورد الرواية.
وبما أنّ اللّام هنا وفي الجملة الثانية، هي كالنصّ في التعليل، يصير كالنصّ في تعليل الحكم بكبرى ارتكازيّة.
قد يقال: إنّ هذا ليس من نقض اليقين بالشكّ، بل هو من نقض اليقين باليقين؛ لقوله: <ثمّ صلّيت فيه فرأيت فيه>، فبعد رؤيته للنجاسة وتيقّنه بها، فيكون من نقض اليقين باليقين، فلا تنطبق الكبرى الكلّيّة التي ادّعينا أنّها ارتكازيّة على المورد، ومعه: فلا يكون المورد مشمولاً للاستصحاب، ولا لقاعدة اليقين.
ولكنّ الحقّ: دلالة الحديث على الاستصحاب؛ لأنّ من الممكن أنّ الذي رآه دم جديد ونجاسة حادثة، ولا تكون تلك المظنونة.
والشاهد على ذلك: أنّ السائل لم يقل <فرأيتها فيه> حتى يكون الضمير عائداً إلى تلك النجاسة المظنونة، بل لعلّه شيء أوقع عليه، كما احتمله الإمام في بعض الجمل الآتية.
ولا إشكال بعد ذلك فيما ورد من تعليل الإمام لعدم الإعادة بهذه الكبرى، فتكون هذه الكبرى دليلاً على اعتبار الاستصحاب؛ لظهورها في أنّ (اللّام) للجنس، وليست للعهد، كما ذكرناه تماماً في الصحيحة الأُولى، ويأتي هنا ـ أيضاً ـ أنّ المورد غير مخصّص للوارد، بل إنّما هو من باب ذكر بعض مصاديق هذه الكبرى.
وأمّا الجملة الثانية، وهي قوله: <فليس ينبغي أن ينقض اليقين بالشكّ>، بعد قوله <لعلّه شيء أُوقع عليك>، فدلالتها على الاستصحاب أظهر؛ فإنّه قد علّل الحكم بعدم الإعادة بإبراز احتمال حدوث النجاسة بعد الصلاة، ولتقوية هذا الاحتمال قيّد الحكم بعدم الإعادة.
ولكن قال اُستاذنا المحقّق: <كون المراد من قوله: (ثمّ صلّيت فيه فرأيت فيه أنّ النجاسة التي رآها بعد الصلاة) يمكن أن تكون نجاسة حادثة بعدها لا تلك النجاسة المظنونة قبل الصلاة، لا يخلو عن بعد، فالإشكال باقٍ على حاله، أي: تكون الإعادة من نقض اليقين باليقين>( ).
وقد أجيب عن هذا الإشكال بعدّة وجوه:
الوجه الأوّل: أنّ تعليل عدم الإعادة بالاستصحاب، وأنّ الإعادة تكون من نقض اليقين بالشكّ، إنّما هو من باب أنّ الأمر الظاهريّ يقتضي الأجزاء، فإذا قيل بوجوب الإعادة كان معناه عدم إجزاء الأمر الظاهريّ، وعدم الاعتناء بما هو وظيفته ظاهريّة، أعني بها: الاستصحاب، مع أنّه مجزٍ عن الإتيان بالأمر الواقعيّ ثانياً، فتكون الإعادة نقضاً لليقين بالشكّ، وهو نفس ما قد نهى الشارع عنه.
قال صاحب الكفاية: <ثمّ إنّه لا يكاد يصحّ التعليل لو قيل باقتضاء الأمر الظاهريّ للإجزاء، كما قيل؛ ضرورة أنّ العلّة عليه إنّما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهريّ حال الصلاة للإجزاء وعدم إعادتها، لا لزوم النقض من الإعادة، كما لا يخفى>( ).
وفيه:
أوّلاً: أنّ كون الأمر الظاهريّ مقتضياً للأجزاء غير تامّ، كما ذكر في محلّه، ولا يمكن أن يكون استدلال الإمام مبتنياً على أمر غير تامّ.
وثانياً: لو كان المناط هو عنوان إجزاء الأمر الظاهريّ، لكان لابدّ للإمام أن يعلّل عدم وجوب الإعادة بنفس هذه العنوان، وهو الإجزاء.
وثالثاً: أنّ التعليل ظاهر في أنّ المناط كلّ المناط في عدم وجوب الإعادة إنّما هو الاستصحاب، حيث لوحظ إجراء الاستصحاب بلحاظ مرحلة ما بعد العمل. نعم، لو كان إجراؤه ملحوظاً حال العمل، لكان محلّ لورود الإشكال.
ورابعاً: ما أفاده صاحب الكفاية من الفرق بين الطهارة الحدثيّة والخبثيّة، فيكفي في الخبثيّة الإحراز حال الالتفات، وبما أنّ الاستصحاب من الاُصول المحرزة، فالشرط حاصل؛ فلا تجب الإعادة.
قال: <ولا يكاد يمكن التفصّي عن هذا الإشكال إلّا بأن يقال: إنّ الشرط في الصلاة فعلاً حين الالتفات إلى الطهارة هو إحرازها، ولو بأصلٍ أو قاعدة، لا نفسها، فيكون قضيّة استصحاب الطهارة حال الصلاة عدم إعادتها ولو انكشف وقوعها في النجاسة بعدها، كما أنّ إعادتها بعد الكشف تكشف عن جواز النقض وعدم حجّيّة الاستصحاب حالها، كما لا يخفى>( ).
وحاصله: أو نقول بأنّ هناك فرقاً بين الطهارة الحدثيّة والطهارة الخبثيّة، فإنّ الطهارة الحدثيّة شرط واقعيّ للصلاة، ولذا لو علم بعد الصلاة أنّه قد صلّاها بدون الوضوء، تكون صلاته باطلة. وأمّا الطهارة الخبثيّة، فهي شرط علميّ للصلاة، فيكفي إحرازها ـ ولو بأصل معتبر ـ في صحّة الصلاة، وليست بشرط واقعيّ، كالطهارة الحدثيّة التي تدور صحّة الصلاة وفسادها مدارها وجوداً وعدماً.
وعليه: فالمكلّف حينما يأتي بالصلاة، إمّا أن يكون ملتفتاً إلى الطهارة الخبثيّة، وإمّا أن يكون غافلاً عنها، فإن كان غافلاً وصلّى، مع وجود النجاسة المغفول عنها في ثوبه، فصلاته صحيحة؛ لعدم كون هذه الطهارة معتبرة في حقّه حال الغفلة. وإن كان ملتفتاً إلى الطهارة الخبثيّة، فالشرط ـ حينئذٍ ـ هو إحراز الطهارة، وليس وجودها الواقعيّ.
فلو أحرز الملتفت الطهارة بعلمٍ أو علميٍّ أو بأصل عمليّ، ولو أصالة الطهارة، وصلّى، صحّت صلاته، وإن علم بعد ذلك وقوعها في النجس؛ إذ الشرط في الملتفت هو إحراز الطهارة، لا نفسها، والمفروض أن ذلك قد تحقّق له بالاستصحاب.
وبعد أن كان الشرط هو إحراز الطهارة، لا نفس الطهارة الواقعيّة، يحسن تعليل عدم وجوب الإعادة بكون الإعادة نقضاً لليقين بالشكّ؛ لأنّه حال الصلاة كان شاكّاً في بقاء الطهارة بعدما كان قبل الدخول متيقّناً بها، ثمّ ظنّ إصابة النجاسة، والظنّ ملحق بالشكّ حكماً؛ لعدم الدليل على حجّيّته واعتباره، بل جاء الدليل على عدم جواز العمل به، فهو شاكّ في بقاء الطهارة، والاستصحاب قد أوجب إحراز الطهارة في حال الصلاة، فتكون الإعادة منافيةً للاستصحاب المحرز للطهارة، وموجبةً لجعل هذا الإحراز الاستصحابيّ كالعدم، فبعد جريان الاستصحاب وإحراز الطهارة، تكون الصلاة واجدة للشرط، فتقع صحيحة.
ومن هذه الأخبار أيضاً:
موثّقة إسحاق بن عمّار قال: قال لي أبو الحسن الأوّل: <إذا شككت فابنِ على يقين، قال: قلت: هذا أصل؟ قال: نعم>( ).
قالوا: الظاهر أنّ هذه الرواية ليست واردة إلّا في مورد الشكّ في الركعات، حيث إنّ صاحب الوسائل ذكرها في ذلك الباب، فيكون مفادها أنّه: إذا شككت في عدد الركعات فابنِ على اليقين، أي: على الأقلّ من عدد الركعات؛ لأنّه المتيقّن، ومعه: فلا يمكن استفادة القاعدة الكلّيّة من هذه الموثّقة، ولا يكون لها دلالة على القاعدة الكلّيّة.
ولكنّ الحقّ: أنّه يمكن استفادة القاعدة الكلّيّة وجريان الاستصحاب في جميع الموارد منها؛ إذ بعد أن كانت الموثّقة مطلقة، فاختصاصها بمورد الشكّ في الركعات غير معلوم، ثمّ على تقدير التنزّل والتسليم بأنّ موردها خاصّ، فقد ذكرنا مراراً أنّه مع عدم كون الوارد في حدّ ذاته خاصّاً، فالمورد لا يصلح لتخصيصه، فيكون حال هذه الجملة حال قوله <لا تنقض اليقين أبداً بالشكّ>، ولا سيّما بعد أن كان كلامه هنا عقيب سؤال السائل: <هذا أصل؟>.
وقد يقال: يمكن أن يكون المراد باليقين فيها خصوص اليقين بالبراءة، أي: الإتيان بصلاة الاحتياط.
وفيه: أنّه على خلاف الظاهر جدّاً.
وأمّا احتمال أن يكون المراد باليقين فيها هو قاعدة اليقين، فهو ـ أيضاً ـ في غاية البعد؛ لأنّ الظاهر من قوله <فابنِ على اليقين>، أي: ابنِ على اليقين الموجود في ظرف البناء، لا اليقين الموجود سابقاً والذي كان ثمّ انعدم وتبدّل بالشكّ، المسمّى عندهم ﺑ <الشكّ الساري>، وبالتالي: فدلالة الموثّقة على الاستصحاب هو الأظهر، بعدما أقرّ الإمام نفسه هذا البناء على اليقين على أنّه أصل، بما يعني: أنّها قاعدة كلّيّة غير مربوطة ولا مختصّة بباب دون باب.
ومن هذه الأخبار أيضاً:
صحيحة أُخرى لزرارة، عن أحدهما في حديث قال: <إذا لم يَدْرِ في ثلاثٍ هو أو في أربع، وقد أحرز الثلاث، قام فأضاف إليها أُخرى، ولا شيء عليه، ولا ينقض اليقين بالشكّ، ولا يدخل الشكّ في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين، ويتمّ على اليقين فيبني عليه، ولا يعتدّ بالشكّ في حالٍ من الحالات>( ).
وهذا الخبر صحيح سنداً ولا غبار عليه ولذا عبّرنا عنه ﺑ (الصحيحة).
وأمّا من ناحية الدلالة، فالمصلّي كان متيقّناً بأنّه قد أتى بالثلاث، وإنّما شكّ في الرابعة، وقد كان قبل الشكّ متيقّناً بعدم إتيانه بالرابعة؛ لأنّه قبل الشروع في الصلاة، وبعد افتتاحها، لم يكن يقيناً آتياً بشيء من الركعات، ثمّ قطع بأنّ هذا العدم قد انتقض بإتيانه بالركعات الثلاث التي هي مُحرَزة بالنسبة إليه، ولم يحصل له شكّ إلّا في الإتيان بالركعة الرابعة، فيستصحب عدمه، فيكون قوله: <ولا ينقض اليقين بالشكّ> بمنزلة العلّة لهذا الحكم المذكور.
وأمّا جملة <قام فأضاف إليها أخرى>، فمفادها هو الالتزام بالاستصحاب، ولو لم يكن معناه أنّه عمل بالشكّ، ونقض اليقين بالشكّ.
ولكن قد يستشكل في دلالة هذه الرواية بما حاصله:
أنّ قوله: <قام فأضاف إليها أخرى>، يدلّ على أنّ يأتي بركعةٍ بعد الفراغ من دون أن يفصل بتشهد وتسليم، وهذا وإن كان يثبت الاستصحاب، ولكنّه ـ حينئذٍ ـ يكون على خلاف المذهب، إذ الالتزام بهذا المضمون يسبّب إيجاد قصور في مقتضي الاستصحاب، وعلى فرض ظهورها في ذلك، فيجب حملها على التقيّة.
وأمّا إذا حملنا هذه الجملة على أنّها تكون دالّة على الركعة المنفصلة، كما هو المذهب الحقّ، فلا يعود للخبر ـ حينئذٍ ـ دلالة على الاستصحاب، بل يكون معناه: إذا شككت بين الثلاث والأربع فابنِ على ما يحصل به اليقين ببراءة الذمّة، وليس إلّا البناء على الأكثر، فيكون معناها على خلاف مؤدّى الاستصحاب، وأمّا الإتيان بركعة منفصلة ـ عند ذاك ـ فإنّما هو لأجل تتميم الفريضة على فرض نقصانها واقعاً، أو تحسب نافلة على فرض تماميّتها كذلك.
والحاصل: أنّ هناك احتمالين، لابدّ من ترجيح أحدهما على الآخر، أمّا الأوّل، فحاصله: البناء على تماميّة دلالة الصحيحة على الاستصحاب، ولكنّ المانع موجود؛ وهو أنّه على خلاف المذهب. وأمّا الثاني: البناء على دلالة الرواية على لزوم الإتيان بركعتين منفصلتين، فتسلم الرواية ـ حينئذٍ ـ من مخالفة المذهب، ولكنّها تكون أجنبيّةً أصلاً عن إثبات اعتبار الاستصحاب؛ لأنّ معناها ـ على هذا الاحتمال ـ أنّه إذا شككت بين الثلاث والأربع فابن على ما يحصل به اليقين ببراءة الذمّة، والذي يتحقّق به اليقين عن فراغ الذمّة إنّما هو ـ كما عرفنا ـ أن يبني على الأكثر.
وإلى ذلك ذهب الشيخ الأنصاريّ حيث اعتبر أنّه لا معنى لأن يراد من قوله <ولا ينقض اليقين بالشكّ> كبرى الاستصحاب، بل لابدّ أن يراد به لزوم تحصيل اليقين بالبراءة بالكيفيّة المعهودة، كما تدلّ عليه بعض النصوص الأُخرى.
قال: <فالمراد ﺑ (اليقين) .... هو اليقين بالبراءة، فيكون المراد وجوب الاحتياط وتحصيل اليقين بالبراءة بالبناء على الأكثر وفعل صلاةٍ مستقلّة قابلةٍ لتدارك ما يُحتمل نقصه>( ).
وبالجملة: فإذا دار الأمر بين الاحتمالين، كان الترجيح لصالح الاحتمال الثاني، لوجوه:
الأوّل: ظهور <قام فأضاف> في إرادة الركعة المنفصلة؛ لوجود القرينة، وهي قوله في صدر الرواية: <يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب...>.
بل حينما يأمر بالإتيان بالركعة، فليس مراده إلّا الركعة المنفصلة، فقد يقال: بأنّ ذكر الفاتحة قرينة على إرادة ركعتين مفصولتين؛ إذ لو أُريد بيان أحد فردي التخيير من الفاتحة والتسبيحات الأربعة المخيّر بينهما المكلّف في الثالثة والرابعة من الرباعيّات، لكان من المناسب ـ حينئذٍ ـ ذكر عِدل الفاتحة أيضاً، وهو التسبيحات، فحيث لم يُذكر العدل، فلا يمكن إثبات التخيير في مورد البحث، فيكون إطلاق الأمر بقراءة الفاتحة منحصراً في الركعتين المفصولتين.
والثاني: أنّ الإتيان بركعة الاحتياط موصولة موافق لمذهب العامّة ومخالف لما عليه مذهب الإماميّة، وهو لزوم البناء على الأكثر، فيتعين ـ حينئذٍ ـ إرادة اليقين بالبراءة من البناء على اليقين وعدم نقضه بالشكّ؛ تحفّظاً على أصالة عدم التقيّة.
الثالث: أنّ حمل الرواية على اليقين ببراءة الذمّة موافق لمدلول كثير من الروايات الواردة في كيفيّة صلاة الاحتياط، كقوله: <إذا سهوْتَ فابنِ على الأكثر>( )، أو <إذا شككت فابنِ على اليقين>( )، أو <تأخذ بالجزم>( ) ونحوها؛ إذ كان المراد بالبناء على اليقين هو البناء على الأكثر.
الرابع: فهم الفقهاء اليقين بالبراءة، لا اليقين بعدم الإتيان بالرابعة.
الخامس: أنّه يلزم التفكيك بين المورد والقاعدة؛ لأنّ القاعدة تقتضي الإتيان بها موصولة، فلابدّ من الالتزام بأنّ أصل البناء على اليقين، الذي هو مقتضى الاستصحاب، حكم واقعيّ، لكنّ تطبيقها على المورد بالإتيان بالركعة موصولةً إنّما هو من باب التقيّة.
وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ النهي عن نقض اليقين بالشكّ لا يراد منه النهي عن نقض اليقين بعدم الإتيان بالرابعة، حتى يكون مؤدّاه هو الاستصحاب، بل المراد من النهي عن رفع اليد عن تحصيل اليقين بالفراغ، بأن يكتفي بعملٍ يشكّ معه في براءة الذمّة، وهذا منحصر في البناء على الأكثر والإتيان بركعة الاحتياط مفصولة؛ لأنّه في الواقع لو كان المأتيّ ثالثاً، لكانت هذه الركعة متمّماً له، ولا يضرّ زيادة التكبير والتشهد والتسليم في صحّة العمل، ولو كانت صلاته تامّة في الواقع، فتكون هذه الركعة نافلة.
وأمّا لو بنى على الأقلّ وأتى بركعة الاحتياط موصولةً، فلعلّه في الواقع قد صلّى أربعاً، فيكون ـ حينئذٍ ـ مجموع الركعات التي أتى بها خمساً، فلا يحصل اليقين بالفراغ، ضرورة أنّ الركعة المضافة تكون مانعاً من الصحّة، وإذا لم يأتِ بالركعة الأُخرى، مع بنائه على الأكثر، احتمل نقصان العبادة.
وعليه: فطريق اليقين بالفراغ منحصر في الطريق الذي علّمه الإمام في الروايات الأُخرى من البناء على الأكثر والإتيان بركعة الاحتياط مفصولةً.
وقد أُجيب عن هذا الإشكال بوجوه:
الوجه الأوّل: ما أفاده صاحب الكفاية وحاصله:
أنّ لزوم الإتيان بركعة منفصلة لا يتنافى مع تطبيق الاستصحاب في المقام، وإنّما يتنافى مع إطلاق دليله، فإنّ لزوم الوصل إنّما هو مقتضى إطلاق النقض، فلا مانع من الالتزام بجريان الاستصحاب وتقييد إطلاق دليله بما دلّ على لزوم فصل الركعة، وتقييد الأدلّة ليس بعزيز.
وإليك نصّ كلامه:
<ويمكن ذبّه بأنّ الاحتياط كذلك لا يأبى عن إرادة اليقين بعدم الركعة المشكوكة، بل كان أصل الإتيان بها باقتضائه، غاية الأمر: إتيانها مفصولةً ينافي إطلاق النقض، وقد قام الدليل على التقييد في الشكّ في الرابعة وغيره، وأنّ المشكوكة لا بدّ أن يُؤتى بها مفصولةً، فافهم>( ).
والوجه الثاني: القول بالتفكيك بين الكبرى والمورد، بأن يقال: إنّ النهي عن نقض اليقين بالشكّ هو من باب بيان الحكم الواقعيّ، وهو حجّيّة الاستصحاب، وأمّا تطبيقه على خصوص الشكّ في الركعات بالبناء على الأقلّ، فيكون من قبيل التقيّة.
وهذا ما قرّبه المحقّقان النائينيّ والعراقيّ، حيث قال الأوّل منهما: <فلأنّ حمل الرواية على التقيّة من حيث تطبيق المورد على الاستصحاب ليس بأبعد من حملها على الوظيفة في الشكّ في عدد الركعات، بل حملها على التقيّة أقرب؛ فإنّه ليس فيه تصرّف فيما يقتضيه ظاهر قوله: (لا تنقض اليقين بالشكّ)، بل التصرّف إنّما يكون من جهة التطبيق، فإنّ الإمام استشهد لحكم المورد بالاستصحاب حيث كان مذهب العامّة على الإتيان بالركعة المشكوكة متّصلةً ببقيّة الركعات عملاً بالاستصحاب، فالتقيّة إنّما تكون في الاستشهاد، لا في الاستصحاب>( ).
وقال الثاني: <لا ظهور في صدر الرواية في خلاف التقيّة بنحوٍ يمنع من حمل هذه الفقرة عليها، وإعمال التقيّة في إجراء القاعدة وتطبيقها على المورد، لا في نفسها، لا بعد فيه ..>( ).
وقد ورد هذا التفكيك في بعض الأخبار، كما عن مولانا الصادق في قوله لأبي العبّاس، بعدما سأله اللّعين عن الإفطار في اليوم الذي شهد بعض بأنّه يوم العيد: <ذلك إلى إمام المسلمين إن صام صمنا معه، وإن أفطر أفطرنا معه>( )، فإنّه طبّق كبرى <ما للإمام..> على إمام الضلالة العبّاسيّ، وإنّما قال ذلك مخافة ضرب عنقه، كما بيّنه بعد خروجه من مجلس اللّعين، ولكنّ نفس حجّيّة حكم الحاكم في الهلال لا تقيّة فيه، وإنّما تطبيقه على العبّاسيّ هو الذي كان فيه تقيّة.
ولذا استدلّ بهذه الرواية على نفوذ حكمه فيه. كما أنّه ورد تطبيق كبرى (رفع ما استكرهوا عليه)، الذي هو حكم واقعيّ، على الحلف بالطلاق والعتاق إكراهاً، مع أنّهما عندنا باطلان، ولو اختياراً، فإسناد بطلانهما حال الإكراه إلى حديث الرفع لم يكن إلّا تقيّةً.
ومن هذه الأخبار أيضاً:
ما في خصال الشيخ الصدوق عن أبي عبد اﷲ عن أمير المؤمنين: <من كان على يقين، فشكّ، فليمضِ على يقينه؛ فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين>( ).
وفي رواية أُخرى عنه: <من كان على يقين، فأصابه شكّ، فليمضِ على يقينه؛ فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ>( ).
وهاتان الروايتان ضعيفتان سنداً؛ لأنّ سند المفيد إلى أمير المؤمنين غير معلوم الصحّة، وكذا سند الصدوق إليه؛ لأنّ في الطريق قاسم بن يحيى، ومجرّد وجوده في كامل الزيارات لا يثبت وثاقته.
وأمّا من ناحية الدلالة، فهل تدلّ على الاستصحاب أو قاعدة اليقين أو تصلح للدلالة على كليهما؟
الظاهر منها ـ بدواً ـ أنّها تدلّ على قاعدة اليقين، ولكن مع ذلك، فهناك قرينة داخليّة في ذيل الرواية يمكن أن يفهم منها القاعدة الكلّيّة الارتكازيّة المسمّاة بالاستصحاب. فإنّ قوله <من كان على يقين فشكّ> أو <فأصابه شكّ> ظاهر في اختلاف حصول وصفي اليقين والشكّ؛ لأنّ الفاء عاطفة، فتكون ظاهرة في التعقيب، ومعلوم أنّ اختلاف زمان الوصفين مع كون المتعلّق فيهما واحداً يكون في قاعدة اليقين، دون الاستصحاب، ولذا يكون الشكّ في موردها سارياً إلى اليقين ومزيلاً له وموجباً لتبدّله بالشكّ، ولازم هذا: أنّ زمان المتيقّن والمشكوك واحد، وإنّما يكون الاختلاف في زمان حصول الوصفين، والشكّ في القاعدة يتعلّق بالحدوث، ولذلك سمّي بالشكّ الساري؛ لسرايته إلى حدوث اليقين.
وهذا بخلاف الاستصحاب؛ فإنّ الشكّ يرد فيه على شيء لم يرد فيه اليقين، فإنّ اليقين فيه يرد على الحدوث والشكّ على البقاء، فمتعلّق اليقين والشكّ مختلفان.
وبعبارة أُخرى: فإنّ موضوع الاستصحاب أن يتعلّق اليقين بحدوث شيء، ويتعلّق الشكّ ببقائه، والحدوث شيء والبقاء شيء آخر. وأمّا قاعدة اليقين فموضوعها أن يتعلّق اليقين بوجود شيءٍ في زمان، ويتعلّق الشكّ بوجود ذلك الشيء نفسه في نفس الزمان، كما إذا حصل اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة، ثمّ شكّ يوم الاثنين أنّه كان عادلاً يوم الجمعة أم لم يكن، وقد عرفنا أنّه يسمى ﺑ <الشكّ الساري>؛ لأنّ الشكّ يسري إلى نفس اليقين بحدوثه.
ولكن قد عرفنا فيما سبق: أنّ في ذيل الرواية قرينة على أنّ الاستصحاب كان هو المراد من صدر الرواية، دون قاعدة اليقين، وذلك قوله <فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين>، فإنّه يدلّ على تلك القضيّة الارتكازيّة التي أُريد بها الاستصحاب في غير واحدٍ من أخبار الباب، ومعه: فظاهر الصدر وإن كان يدلّ على قاعدة اليقين، ولكن لابدّ من رفع اليد عن هذا الظهور، مراعاةً لجانب هذه القرينة.
ومن هذه الأخبار:
خبر الصفّار عن علي بن محمّد القاساني: قال: <كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشكّ فيه من شهر رمضان، هل يصام أم لا؟ فكتب: اليقين لا يدخل فيه الشكّ، صم للرؤية وأفطر للرؤية>( ).
والكلام فيه ـ أيضاً ـ من جهتين، سنداً ودلالةً:
أمّا من جهة السند، فلأنّ القاساني لا توثيق له، بل حكي تضعيف الشيخ له، ولم يُعلم اتّحاده مع علي بن محمّد بن شيرة القاشاني الموثّق. ودعوى: أنّ ضعف السند منجبر بعمل المشهور غير ثابتة، إذ:
أوّلاً: لا نقول بجابريّة الشهرة.
وثانياً: على تسليم جابريّتها، فثمّة روايات كثيرة صحيحة أُخرى تدلّ على اعتبار الاستصحاب وحجّيّته، فلعلّ المشهور استندوا إلى تلكم الروايات.
وأمّا من جهة الدلالة، فإنّ قوله: <صم للرؤية> ناظر إلى حكم يوم الشكّ في أوّل شهر رمضان، وقوله: <أفطر للرؤية> ناظر إلى حكم الشكّ في أنّه يوم الثلاثين من رمضان أم عيد الفطر، وقوله: <اليقين لا يدخل فيه الشكّ>، أي: أنّ اليقين بشعبان الذي لا يجب فيه الصوم لا يدخله حكماً الشكّ بدخول رمضان حتى يخرج عن حكم شعبان الذي هو عدم الوجوب بصرف الشكّ في دخول رمضان، بل لابدّ من اليقين بدخول رمضان، وقد عبّر عن اليقين بدخول شهر رمضان بقوله: <صم للرؤية>.
ثمّ بيّن أنّ هذا الحكم غير مختصّ بأول شهر رمضان وباليقين بشعبان والشكّ بدخول رمضان، بل يشمل ـ أيضاً ـ الحكم الذي لآخر الشهر عند اليقين برمضان والشكّ في دخول شوّال، فكذلك لا يجوز الخروج عن حكم رمضان بمجرّد الشكّ في دخول شوّال، بل إنّما يرفع اليد عن حكم شهر رمضان والبناء على خروجه بالرؤية فقط، كما كان كذلك بالنسبة إلى شعبان، فإنّ رفع اليد عن حكمه لا يكون ـ أيضاً ـ إلّا برؤية الهلال.
قال الشيخ الأنصاريّ ـ معلّقاً على الاستدلال بهذه المكاتبة ـ: <والإنصاف أنّ هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب، إلّا أنّ سندها غير سليم>.
بتقريب: <أنّ تفريع تحديد كلٍّ من الصوم والإفطار ـ برؤية هلالَي رمضان وشوّال ـ على قوله (اليقين لا يدخله الشكّ)، لا يستقيم إلّا بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولاً بالشكّ، أي: مزاحماً به>( ).
وفي المقابل ذهب صاحب الكفاية إلى إنكار ظهورها في ذلك، فضلاً عن أن تكون أظهر الروايات دلالةً عليه، ببيان: أنّ جوابه عن يوم الشكّ الذي سُئل فيه عن وجوب الصوم، وكذلك جواز الإفطار أو وجوبه، حكم اليقين برمضان في الأوّل وحكم اليقين بشوّال في الثاني.
قال في الكفاية: <وربّما يقال: إنّ مراجعة الأخبار الواردة في يوم الشكّ يشرف القطع بأنّ المراد باليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان، وأنّه لابدّ في وجوب الصوم ووجوب الإفطار من اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه، وأين هذا من الاستصحاب>( ).
وكيف كان، فلابدّ من تحقيق حال هذه الرواية وأنّها تدلّ على الاستصحاب أم لا؟
ولا يخفى: أنّه لا ينبغي أن يتوهّم أحد أنّ اليقين هنا هو إمّا تمام الموضوع أو جزؤه، ولو على نحو الطريقيّة والمرآتيّة، بل اليقين مأخوذ بما هو مرآة وطريق إلى متعلّق الحكم وموضوعه، وحينئذٍ: فقوله: <اليقين لا يدخله الشكّ> مع ملاحظة اقترانه بذيل الرواية، وهو قوله: <صم للرؤية وأفطر للرؤية> يدلّ ـ في الجملة ـ على الاستصحاب، فإنّ اليقين بعدم دخول رمضان أو عدم دخول شوّال لا يدخله الشكّ في دخول رمضان في الأوّل أو الشكّ في دخول شوّأل في الثاني، بمعنى: أنّه يجب إبقاء اليقين بما هو مرآة حتى يعلم خلافه، فيكون ظاهراً في الاستصحاب.
ولكن يمكن أن يقال: بأنّ المراد من اليقين ليس هو اليقين بشعبان حتى يكون دالّاً على الاستصحاب ويكون المعنى: عدم جواز نقض اليقين بالشكّ، بل يمكن أن يكون المراد من <اليقين لا يدخله الشكّ> هو أنّه يعتبر اليقين في صوم شهر رمضان دخولاً وخروجاً، وبدواً وختاماً، ولا دلالة له على الاستصحاب أصلاً، فتذييل هذه الجملة بقوله: <صم للرؤية وأفطر للرؤية> قرينة على إرادة معنى: أنّ اليقين لا ينقض إلّا باليقين.
فتكون الجملة المذكورة أجنبيّةً عن الدلالة على حجّيّة الاستصحاب، بل الرواية دالّة على الحكم الواقعيّ لصوم شهر رمضان، ولا علاقة لها بالدلالة على الحكم الظاهريّ حتى يقال: بأنّها متكفّلة للدلالة على الاستصحاب.
ويدلّ على هذا المعنى روايات كثيرة:
منها: رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر قال: <إذا رأيتموا الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، وليس بالرأي ولا بالتظنّي، ولكن بالرؤية>( ).
ومنها: رواية محمّد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا في حديث قال: <صوموا للرؤية وأفطروا للرؤية>( ).
إلى غير ذلك من الأخبار.
وللمحقّق العراقي إشكال في جريان الاستصحاب هنا، وحاصله: عدم إمكان تطبيق الاستصحاب على المورد؛ لأنّ وجوب الصوم إذا كان مترتّباً على بقاء الشهر بمفاد كان التامّة، فلاستصحابه مجال، وإن كان مترتّباً كون هذا اليوم المعيّن من شهر رمضان بمفاد كان الناقصة، فلا مجال لاستصحاب بقاء الشهر؛ لأنّ إثبات الوجود النعتيّ باستصحاب الوجود المحمولي لا يتمّ إلّا على القول بالأصل المثبت.
والظاهر من قوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾( )، هو الثاني؛ لظهوره في اعتبار وقوع الصوم في الشهر. وإحراز رمضانيّة اليوم الذي يقع فيه الصوم لا يمكن أن يتمّ باستصحاب بقاء الشهر؛ لقصوره عن إثبات رمضانيّة هذا اليوم حتى يقع الصوم في شهر رمضان( ).
وقد وافقه عليه السيّد الحكيم في حقائق الاُصول. قال: <هذا مضافاً إلى أنّ جريان الاستصحاب في المقام موقوف على كون وجوب الصوم من آثار بقاء شهر رمضان وكون عدمه من آثار عدم دخوله، فإنّه ـ حينئذٍ ـ يترتّب وجوبه على استصحاب بقاء الشهر، وعدم وجوبه على أصالة عدم دخوله، أمّا لو كان وجوب الصوم من آثار كون الزمان المعيّن من رمضان بنحو مفاد كان الناقصة، فاستصحاب بقائه أو عدم دخوله لا يترتّب عليه تعيين حال زمان الشكّ من حيث كونه من رمضان أو من غيره؛ إذ لا يترتّب مفاد كان الناقصة على استصحاب مفاد كان التامّة إلّا على القول بالأصل المثبت ...>( ).
وردّه الاُستاذ المحقّق بأنّه <كلام عجيب؛ لأنّ عدم دخول رمضان أو بقاء شعبان يكفي لرفع وجوب الصوم>( ).
ولكن فيه: أنّه بالنسبة إلى ما ورد في آخر الرواية لا يفيد؛ لأنّ أصالة عدم دخول شوّال لا يثبت بقاء وجوب الصوم في ذلك اليوم المعيّن، إلّا بعد إثبات أنّه من رمضان، وكذلك أصالة بقاء شعبان لا يثبت عدم حدوث وجوب الصوم إلّا بعد إثبات أنّ ذلك اليوم من شهر رمضان، فيكون إشكال المحقّق العراقي وارداً إلى حدٍّ ما.
وممّا استدلّ به على الاستصحاب أيضاً:
روايات أُخرى، منها: <كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر>( )، وقوله: <كلّ شيء هو لك حلال حتى تعرف أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك>( ).
وفي هذه الروايات احتمالات عدّة:
الأوّل: الحكم الظاهريّ فقط، أي: قاعدة الحلّ وقاعدة الطهارة.
الثاني: الطهارة الواقعيّة، كما هو مسلك صاحب الحدائق من أنّ النجاسة حقيقة متقوّمة بالعلم( ).
الثالث: حملها على إفادة الاستصحاب، كما استظهره الشيخ من بعضها، حيث قال: <فالأولى حملها على إرادة الاستصحاب، والمعنى: أنّ الماء المعلوم طهارته بحسب أصل الخلقة طاهر حتى تعلم، أي: تستمرّ طهارته المفروضة إلى حين العلم بعروض القذارة له>( ).
الرابع: دلالته المغيّى على الحكم الواقعيّ والظاهريّ، وهو طهارة كلّ شيء وحلّيّته واقعاً وظاهراً، ودلالة الغاية على الاستصحاب.
الخامس: دلالتها على الحكم الظاهريّ مع الاستصحاب.
السادس: دلالتها على الحكم الواقعيّ والاستصحاب.
السابع: الحكم الواقعيّ والظاهريّ فقط دون الاستصحاب.
ولا يخفى: أنّه لا يمكن الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ؛ لأنّ الحكم الظاهريّ واقع في طول الحكم الواقعيّ، وموضوعه في طول موضوع الحكم الواقعيّ، فإنّ الحكم الظاهريّ لا يكون إلّا في ظرف الشكّ واستتار الحكم الواقعيّ والجهل به، فموضوعه هو المقيّد بكونه مجهول الحكم.
وعليه: فلا الحكم الواقعيّ ينزل إلى مرتبة الحكم الظاهريّ، ولا العكس، فالحكم الواقعيّ يشمل بإطلاقه لمرتبة الشكّ، كما أنّه لا إطلاق للحكم الظاهريّ يشمل به المرتبة السابقة على موضوعه، أي: الفعل والذات.
وبهذا يتّضح: أنّ ما ذكره صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل( ) من إمكان استفادة الثلاث ـ أعني: الحكم الواقعيّ والظاهريّ والاستصحاب ـ من هذه الأخبار، في غير محلّه؛ وذلك لما عرفت من عدم إمكان الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ بإنشاءٍ واحد.
ولعلّه لأجل هذا السبب عدل عن هذا الرأي في الكفاية فقال: <إنّ الغاية فيها إنّما هو لبيان استمرار ما حكم على الموضوع واقعاً من الطهارة والحلّيّة ظاهراً، ما لم يعلم بطروّ ضدّه أو نقيضه، لا لتحديد الموضوع كي يكون الحكم بهما قاعدة مضروبة للشكّ في طهارته أو حلّيّته>( ).
فيكون قد اعترف بذلك بأنّها لا تشمل إلّا الحكم الواقعيّ مع الاستصحاب، ببيان: أنّ مفادها في الصدر هو الحكم الواقعيّ، والغاية تدلّ على الاستصحاب واستمرار هذا الحكم استمراراً ظاهريّاً إلى زمان العلم بالخلاف، لا استمراراً واقعيّاً؛ لأنّ الحكم الواقعيّ لا يمكن أن يكون مغيّاً بالعلم بضدّه تابع لملاكه، والعلم بالخلاف لا يؤثّر فيها.
وقد يقال: بأنّه لا يمكن أن تدلّ الجملة على الحكم الواقعيّ والاستصحاب معاً، بعدما عرفته من أنّ جعل الحكم الاستصحابيّ مرتبته متأخّرة عن مرتبة جعل الحكم الواقعيّ، فلابدّ أوّلاً من جعل الحكم الواقعيّ، ثمّ بعد ذلك يصار إلى جعل الحكم باستمرار هذا الحكم الواقعيّ ظاهراً إلى زمان العلم بالخلاف أو بالضدّ.
والجواب: أنّ ذلك ممكن بطريقة تعدّد الدالّ والمدلول؛ لأنّ إثبات الطهارة واقعاً يستفاد من المغيّى، وهو <كلّ شيء طاهر>، فإنّه متكفل لحكم الأشياء واقعاً، وأمّا الغاية، وهي: <حتى تعلم>، فإنّها ظاهرة في الاستصحاب، فهما مستفادان من الرواية بتعدّد الدالّ والمدلول، فلا تكون الجملة دالّة بدلالة واحدة على الحكم الواقعيّ والاستصحاب حتى يقال بعدم الإمكان.
وعليه: فيمكن للرواية ـ إذاً ـ أن تكون دالّةً على الحكم الواقعيّ والاستصحاب معاً.
وبعد أن ذكرنا أنّه لا يمكن أن يكون الحكم الواقعيّ مغيّى بالعلم بخلافه، فيكون الإبقاء والاستمرار ظاهريّاً، فيكون النتيجة هو قاعدة الطهارة أو الحلّ.
وبهذا تمّ الكلام في الأخبار العامّة التي ذكروها في مقام الاستدلال على اعتبار الاستصحاب.
وهناك روايات أُخر تدلّ على اعتباره في موارد خاصّة:
كقوله في موثّقة ابن بكير: <إذا استيقنت أنّك أحدثت فتوضّأ، وإيّاك أن تحدث وضوءاً أبداً حتى تستيقن أنّك قد أحدثت>( ).
ودلالتها على الاستصحاب في المورد ظاهرة، ويفهم من قوله <إيّاك> عقيب الاستيقان بالوضوء لزوم الجري على طبق اليقين السابق بالطهارة، وعدم الاعتناء بالشكّ في انتقاضها ما لم يستيقن بالحدث.
ولكن لا يخفى: أنّها واردة في باب الوضوء، وغايته: إمكان تسريتها والتمسّك بها لإثبات الاستصحاب في الطهارات الثلاث. وأمّا إثبات قاعدةٍ كلّيّة بها، فلا. نعم، يمكن التعدّي بها إلى سائر الأبواب بضميمة عدم القول بالفصل.
وكذلك رواية عبد اﷲ بن سنان قال: <سأل أبي أبا عبد اﷲ وأنا حاضر: إنّي أعير الذمّيّ ثوبي، وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، فيردّه عليّ، فأغسله قبل أن اُصلّي فيه، فقال أبو عبد اﷲ: صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك، فإنّك أعرْته إيّاه وهو طاهر، ولم تستيقن أنّه نجّسه، فلا بأس أن تصلّي فيه حتى تستيقن أنّه نجّسه>( ).
ولا شكّ في ظهور هذه الرواية في الاستصحاب في نفس المورد، ولكن لا يمكن ـ أيضاً ـ استفادة الكبرى الكلّيّة منها؛ لأنّ ظاهرها أنّ الحكم بالطهارة مترتّب على كلٍّ من اليقين السابق والشكّ اللّاحق الفعليّ الحاصل بعد ردّ الثوب، ولو كان المقصود بيان قاعدة الطهارة لاقتصر في مقام الجواب بأن يقول ـ مثلاً ـ لأنّك شاكّ في نجاسته.
ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ جريان الاستصحاب يكفي فيه وجود اليقين السابق والشكّ اللّاحق، بلا فرق بين أن يكون المستصحب محرزاً باليقين الوجدانيّ أو التعبّديّ، كالأمارات، أو بالاُصول المحرزة، كالاستصحاب.
توضيحه: أنّ قوله: <لا تنقض اليقين بالشكّ> الذي ورد في الأخبار بهذا المضمون أو بما يقرب منه من المضامين اُخذ فيه اليقين بالشيء في الزمان السابق موضوعاً للحكم ببقائه في ظرف الشكّ بما هو طريق محرز لمتعلّقه، وقد ثبت في محلّه قيام الأمارات والاُصول العمليّة المحرزة مقام القطع الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقيّة.
فمعنى: <لا تنقض اليقين بالشكّ> هو حرمة نقض ما أُحرز ثبوته بالشكّ في بقائه، فلا فرق بين أن يحرز ثبوته بمحرز وجدانيٍّ، كالقطع، أو تعبّديٍّ، كالأمارات والاُصول المحرزة.
هذا كلّه لو لم نقل: بأنّ اليقين الذي اُخذ في موضوع الاستصحاب لم يؤخذ فيه من حيث إنّه صفة خاصّة كذائيّة، ولا من حيث كونه طريقاً ومرآةً لمتعلّقه، بل من حيث تنجيز متعلّقه. فحينئذٍ: فلا يكون هناك فرق بين الاُصول المحرزة وغيرها في قيامها مقام القطع الذي اُخذ في موضوع الاستصحاب لاشتراك الجميع في كونها تنجّز متعلّقاتها.
ولا يذهب عليك: أنّ أخذ اليقين في موضوع الحكم تارةً يكون على نحو الصفتيّة، وأُخرى على نحو الطريقيّة والكاشفيّة، كما هو كذلك في باب الاستصحاب، وحينئذٍ: فتكون أدلّة الأمارات حاكمة على الاستصحاب، ومعلوم أنّ الحكومة تارةً توجب الضييق وأُخرى توجب التوسعة، ولكنّها في المقام حكومة موسّعة.


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com