تنبيهات الاستصحاب

تقييم المستخدم: 5 / 5

تفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجوم
 

تنبيهات الاستصحاب


التنبيه الأوّل: في استصحاب الكلّيّ:
المستصحب تارةً يكون جزئيّاً وأُخرى يكون كلّيّاً، والجزئيّ لا يفرّق في حجّيّته بين أن يكون حكماً تكليفيّاً كوجوب صلاة الجمعة إذا شكّ في بقائه في حال الحضور، أو وضعيّاً، كملكيّة مالٍ لزيد إذا شكّ في خروجه عن ملكه، أو موضوعاً، كحياة زيد إذا شكّ في بقائها.
وكذا الحال فيما لو كان المستصحب كلّيّاً، فإنّه لا يفرّق في حجّيّة استصحابه بين أن يكون حكماً كلّيّاً، كالطلب الراجح المشترك بين الوجوب والندب، أو موضوعاً كلّيّاً، كالحدث الجامع بين الأكبر والأصغر، فمثلاً: في قوله تعالى: ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾( )، دلّت الآية الشريفة على أنّ ثبوت الحكم، وهو حرمة مسّ كتابة القرآن للمحدث مطلقاً، سواء كان محدثاً بالأكبر أم الأصغر، فلو علم بالحدث وشكّ في ارتفاعه، كما لو توضّأ فقط، جرى استصحاب الكلّيّ.
ثمّ إنّ المستصحب قد يكون شخصاً معيّناً، فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه، كما لو كان زيد موجوداً، ثمّ غاب، وشككنا في وجوده، فلنا أن نستصحب بقاء وجوده.
وقد يكون المستصحب فرداً مردّداً، كما لو كان مردّداً بين الحدث الأكبر والأصغر، ولابدّ أن يكون المعلوم فيه عنواناً إجماليّاً، حيث كان مردّداً، فلا يكون معلوماً تفصيليّاً.
وقد يستشكل في جريان الاستصحاب في هذه الصورة، بأن يقال: إمّا هذا الكأس نجس أو ذلك، فلو غسل أحد الكأسين، أو انكبّ ماؤه، أو خرج عن محلّ الابتلاء، يقطع بعدم بقاء ذلك العنوان الإجماليّ، فما هو محتمل البقاء هو ذلك الفرض الواقعيّ المعلوم عند اﷲ عزّ وجلّ، وهو لم يكن معلوماً قبلاً، وما كان معلوماً كذلك فهو ذلك العنوان الإجماليّ، فهو غير محتمل البقاء، فلا يجري فيه الاستصحاب؛ لعدم تماميّة أركانه، أي: اليقين السابق والشكّ اللّاحق؛ فإنّ أمثال هذه العناوين لم تؤخذ موضوعاً للأثر في لسان الأدلّة، وما هو موضوع للأثر، وهو الفرد المعيّن، فليس ممّا علم سابقاً.
وأمّا إذا كان المستصحب كلّيّاً، فله أقسام:
القسم الأوّل: أن يكون الشكّ في بقاء الكلّيّ ناشئاً من الشكّ في بقاء الفرد الذي تحقّق الكلّيّ في ضمنه، كما إذا علم بوجوب صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ وشكّ في ارتفاعه زمان الغيبة.
ولا ينبغي الشكّ في أنّه في هذا القسم يصحّ استصحاب الكلّيّ، كما يصحّ استصحاب الفرد، بعدما كان الشكّ في بقاء الكلّيّ وهو الطلب الجامع بين وجوب الجمعة وغيرها ناشئاً من الشكّ في بقاء فرده المعلوم حدوثه.
ولكن قد يستشكل في جريان الاستصحاب في هذا القسم بأنّ الكلّيّ عين الفرد وجوداً، إذ الوجود غير متعدّد، وكذا موضوع الأثر، حتى يقال: بأنّ الاستصحاب يجري في الفرد تارةً وفي الكلّيّ أُخرى، بل يمكن أن يقال: إنّ الاستصحاب الجاري في الفرد سببيّ، وفي الكلّيّ مسبّبيّ، والأصل السببيّ حاكم على الأصل المسبّبيّ.
ولكن سيأتي الجواب عن هذا الإشكال في القسم الثاني.
القسم الثاني: أن يكون الشكّ في بقائه ناشئاً من تردّد الفرد الذي وجد الكلّيّ في ضمنه بين معلوم البقاء وبين ما هو مرتفع قطعاً، كما إذا علمنا بدخول حيوان وبعد ساعات شككنا في أنّه هل كان فيلاً أو بقّاً، فإن كان هو الفيل، فهو باقٍ، وإن كان بقّاً، فلا.
فصدور الحدث منه معلوم، غاية الأمر: أنّه مردّد بين الأصغر والأكبر، فإن كان هو الأصغر فقد ارتفع يقيناً، وإن كان هو الأكبر فهو باقٍ يقيناً، فيجوز ـ حينئذٍ ـ استصحاب بقاء الكلّيّ، كما بالنسبة إلى الآية المتقدّمة، أعني: قوله تعالى: ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾، فإنّ أركان الاستصحاب، من اليقين السابق والشكّ اللّاحق تامّة فيه؛ إذ الكلّيّ يوجد بوجود الفرد، فالحدث الجامع بين الأصغر والأكبر يوجد بوجود أيّ واحدٍ من الأكبر أو الأصغر، وحيث فرضنا أحدهما باقياً قطعاً، فالكلّيّ ـ لا محالة ـ يكون باقياً قطعاً.
وحيث إنّ من المحتمل أن يكون وجوده في ضمن الفرد الزائل، فيزول بزواله يقيناً، ومن المحتمل أن يكون في ضمن الفرد الباقي، فهو باقٍ يقيناً، فتكون النتيجة هي وجود الشكّ في بقائه، فتتمّ أركان الاستصحاب من اليقين السابق والشكّ اللّاحق، فيجري الاستصحاب بلا محذور.
وقد اعترض على هذا الاستصحاب بإشكالاتٍ:
الإشكال الأوّل: بعد أن عرفنا أنّ نسبة الكلّيّ الطبيعيّ إلى أفراده إمّا هي نسبة الآباء إلى الأبناء، وإمّا هي نسبة أبٍ واحد إلى أبنائه المتعدّدين، وعلى الاحتمال الثاني، وإن أُورد عليه بأنّه كيف يمكن أن يكون شيء واحد موجوداً بكلّه في فرد وهو عين ذلك الفرد، ثمّ في الوقت عينه يكون موجوداً في فردٍ آخر بمعنى: أنّه عين ذلك الفرد الآخر، إلّا أنّ هذا الإيراد غير متّجه؛ لأنّ وحدة الكلّيّ ليست من قبيل الوحدة بالشخص، بل هي إمّا وحدة بالنوع أو بالجنس.
وحيث كان الحقّ هو الأوّل، أعني: كون النسبة هي نسبة الآباء إلى الأبناء؛ لأنّ للكلّيّ وجوداتٍ متعدّدة بعدد وجودات أفراده، فيكون وجود طبيعيّ الحدث ـ مثلاً ـ في ضمن الحدث الأصغر غير وجوده في ضمن الأكبر، فلا يكون جريان الاستصحاب ممكناً؛ إذ لا علم بحدوث الجامع، بعد أن كان الترديد بين وجودين متباينين، وبعد أن كان كلّ واحدٍ من هذين الوجودين في حدّ نفسه مشكوك الحدوث.
ولكن فيه: ما أشرنا إليه قريباً، من أنّ الكلّيّ الطبيعيّ بالنسبة إلى أفراده واحد بالنوع أو بالجنس، فكلّ واحد من أنواعه أو أفراده أو أصنافه المختلفة، وإن كان له وجود يباين وجودات سائر الأنواع أو الأفراد أو الأصناف، إلّا أنّ بين تلك الوجودات المتعدّدة وحدةً سنخيّةً واقعيّة نوعيّة أو جنسيّة لا يضرّ معها التعدّد.
والإشكال الثاني: ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ الشكّ في بقاء الكلّيّ مسبّب عن الشكّ في حدوث الفرد الباقي، فيكون الأصل الجاري فيه سببيّاً وفي الفرد الباقي مسبّبيّاً، والأصل السببيّ حاكم على المسبّبيّ، فكما أنّه لو كان هناك ماءٌ مشكوك الكرّيّة مثلاً، وكانت يده مشكوكة الطهارة، مع كون حالتها السابقة هي النجاسة، فباستصحاب الكريّة نحكم بطهارة اليد، ولا تصل النوبة إلى استصحاب نجاسة اليد، فكذلك هنا، إذا ارتفع الشكّ في حدوث الفرد الباقي، فباستصحاب عدم حدوثه يعلم بعدم بقاء الكلّيّ تعبّداً، لما عرفناه من الحكومة.
ولكن فيه: أوّلاً: أنّ كون المقام من صغريات جريان أصلين أحدهما سببيّ والآخر مسبّبيّ غير تامّ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الكلّيّ ليس مسبّباً عن حدوث الفرد الباقي، بل الشكّ في بقاء الكلّيّ وارتفاعه مسبّب عن أنّ الفرد الحادث المعلوم حدوثه هل هو الفرد الزائل حتى يكون الكلّيّ معلوم الارتفاع، أو الفرد الباقي حتى يكون معلوم البقاء؟ فبما أنّ كلا الأمرين غير معلوم، فالبقاء والارتفاع في جانب الكلّيّ ـ أيضاً ـ غير معلومين، فيكون محتمل البقاء والارتفاع معاً، ولا أصل لتعيين أنّ الحادث المعلوم هو أيّ واحد منهما.
وثانياً: على الفرض التسليم، فالسببيّة والمسبّبيّة في المقام لا ضير فيهما؛ لأنّهما هنا عقليّان، وفي باب حكومة الأصل السببيّ على المسبّبيّ، يجب أن يكون المسبّب من الآثار الشرعيّة لنفس السبب.
وثالثاً: ثمّ إنّه لو فرض للفرد الزائل ـ أيضاً ـ أثر شرعيّ، ولو بعد تلفه وزواله كما هو المفروض، فمع ذلك، لا يرد عليه أنّه لا مجال لاستصحاب الفرد الزائل بعد زواله وخروجه عن محلّ الابتلاء.
وقد أجاب المحقّق النائيني عن هذا الإشكال أيضاً بما يرجع إلى دعوى تساقط الاُصول بالمعارضة قبل الخروج عن محلّ الابتلاء.
قال: <... فإنّه بمجرّد العلم بحدوث أحد الفردين، والشكّ فيما هو الحادث، تجري أصالة عدم حدوث كلٍّ منهما، وتسقط بالمعارضة؛ وخروج أحد الفردين عن مورد الابتلاء بعد ذلك لا يوجب رجوع الأصل في الفرد الباقي>( ).
وفيه: أوّلاً: أنّه إنّما يتمّ على القول بإمكان جريان الاُصول في أطراف العلم الإجماليّ.
وثانياً: إنّما يتمّ ـ أيضاً ـ لو كان حصول العلم الإجماليّ قبل الخروج عن محلّ الابتلاء، وأمّا لو حصل بعد الخروج، فلا علم إجماليّ في البين أصلاً حتى تتعارض الاُصول في أطرافه ونحكم بتساقطها.
والإشكال الثالث ـ على جريان الاستصحاب ـ: أنّ استصحاب بقاء الكلّيّ معارض باستصحاب عدمه في ضمن الفرد الكبير، فهذا الاستصحاب التعبّديّ لو ضمّ إلى إحراز عدمه الوجدانيّ في ضمن الفرد الصغير، يحصل إحراز عدمه مطلقاً؛ لأنّه لو كان في ضمنه، فهو يقيناً قد ارتفع، فيقطع معه بعدم بقاء الكلّيّ، فلا مجال لاستصحابه.
ويدفعه: أنّ أصالة عدمه في ضمن الفرد الكبير معارض بأصالة عدمه في ضمن الفرد الصغير في حال حدوث أحدهما والعلم به، فيتساقطان، فيبقى المجال لاستصحاب بقاء الكلّيّ.

الشبهة العبائيّة:
ثمّ إنّ ها هنا شبهة منقولة عن السيّد الصدر( ) تسمّى بالشبهة العبائيّة، وهي شبهة تستهدف جريان استصحاب الكلّيّ، وحاصل الشبهة: أنّه لو علم إجمالاً بنجاسة أحد جانبي عبائته من الأعلى أو الأسفل، فطهّر جانباً معيّناً، كجانب الأسفل ـ مثلاً ـ، فيصير بقاء النجاسة في العباءة مشكوكاً؛ لاحتمال أن تكون تلك النجاسة المعلومة بالعلم الإجماليّ في ذلك الطرف الذي طهّره، فأزالها وما بقيت.
فلو لاقى البدن الجانب الأعلى، فلا يمكن الحكم بنجاسته، لما هو معروف عندهم من أنّ ملاقاة أحد أطراف الشبهة المحصورة فقط لا يحكم بنجاسته. وبناءً على صحّة جريان الاستصحاب في هذا القسم من استصحاب الكلّيّ، يجري استصحاب نجاسة العباءة، ولازمه نجاسة ملاقي الجانبين المطهَّر ومشكوك النجاسة، دون ملاقي مشكوك النجاسة فقط.
ولازم ذلك: أنّ انضمام الظاهر إلى الجانب المشكوك طهارته، والذي لم يطهّره، يكون موجباً لنجاسة الملاقي، وهذا غريب، ومنشأ الغرابة فيه هو جريان الاستصحاب في هذا القسم من الكلّيّ.
وبعبارة أُخرى: فإنّ بدن المصلّي لو لاقى كلا الطرفين، لابدّ أن نقول بنجاسته، وأمّا لو لاقى أحد طرفي الشبهة فقط، فيكون محكوماً بالطهارة، وفيما نحن فيه، حيث فرضنا بدن المصلّي لم يلاقِ إلّا أحد الطرفين فقط، فلابدّ أن نقول بطهارته؛ لأنّ أحد الطرفين صار طاهراً بعد غسله، فملاقاته له لا تؤثّر، فملاقاته للطرف الآخر لا يمكن أن توجب الحكم بنجاسة الملاقي، وبطلان اللّازم يكشف عن بطلان الملزوم، وهو جريان استصحاب الكلّيّ من هذا القسم، فلابدّ من منع جريان هذا الاستصحاب.
وقد نسب إلى المحقّق النائيني في دفع هذه الشبهة وجهان، أحدهما في أجود التقريرات، والآخر في الفوائد:
أمّا الأوّل: فحاصله: أنّ إثبات النجاسة الملاقي تترتّب على أمرين: <أحدهما: إحراز الملاقاة، وثانيهما: إحراز نجاسة الملاقى (بالفتح)، ومن المعلوم، أنّ استصحاب النجاسة الكلّيّة المردّدة بين الطرف الأعلى والأسفل لا يثبت تحقّق ملاقاة النجاسة، الذي هو الموضوع لنجاسة الملاقي، والمفروض أنّ أحد طرفي العباء مقطوع الطهارة، والآخر مشكوك الطهارة والنجاسة، فلا يحكم بنجاسة ملاقيهما>( ).
وأمّا الثاني: فحاصله: أيضاً أنّ المثال أجنبيّ بالمرّة عن استصحاب الكلّيّ، فإنّ <محلّ الكلام في استصحاب الكلّيّ إنّما هو فيما إذا كان نفس المتيقّن السابق بهويّته وحقيقته مردّداً بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء، كالأمثلة المتقدّمة [من دوران أمر الحيوان ـ مثلاً ـ بين الفيل والبق]، وأمّا إذا كان الإجمال والترديد في محلّ المتيقّن وموضوعه، لا في نفسه وهويّته، فهذا لا يكون من استصحاب الكلّيّ، بل يكون كاستصحاب الفرد المردّد الذي قد تقدّم المنع عن جريان الاستصحاب فيه عند ارتفاع أحد فردي الترديد، فلو علم بوجود الحيوان الخاصّ في الدار، وتردّد بين أن يكون في الجانب الشرقيّ أو في الجانب الغربيّ، ثمّ انهدم الجانب الغربي، واحتمل أن يكون الحيوان تلف بانهدامه... فإنّ استصحاب بقاء المتيقّن لا يجري>( )، بل هذا ليس من دوران الكلّيّ بين فردين، وإنّما هو من الترديد في مكان فرد معيّن بين مكانين، وهذا الترديد في محلّه ومكانه هو الذي يوجب الشكّ في بقائه؛ لأنّ هذا الترديد بين مكانين أشبه باستصحاب الفرد المردّد عند ارتفاع أحد فردي الترديد، وقد ثبت في محلّه عدم جريان الاستصحاب في الفرد المردّد.
ولكن يمكن أن يقال: بأنّه ليس من قبيل الفرد المردّد أيضاً؛ لأنّه يكون من قبيل دوران وجود الكلّيّ بين فردين من أفراده، كدوران وجود الإنسان بين زيد وعمرو، فالمقام نظير دوران فرد معيّن من الكلّيّ بين حالتين، كالصحّة والمرض، أو بين مكانين، ككونه في الطرف الشرقيّ من الدار أو الطرف الغربيّ منها.
القسم الثالث: من أقسام الاستصحاب الكلّيّ، أن يكون منشأ الشكّ في بقاء الكلّيّ احتمال قيام فرد آخر من مصاديق الكلّيّ مقام الفرد الزائل، وهو على ثلاثة أقسام:
الأوّل: أن يكون وجود الفرد المشكوك الحدوث والذي يحتمل أن يقوم مقامه مقارناً له وموجوداً معه من أوّل الأمر.
الثاني: أن يكون حدوثه مقارناً لارتفاع وجود معلوم الحدوث وزمان انعدامه، كما إذا فرضنا وجود عمرو في حين ارتفاع وجود زيد، لا قبله.
الثالث: أن يكون مرتبة من مراتب الزائل، لا فرداً مبايناً معه، كاللّون القابض للبصر إذا وجد في ضمن السواد الشديد وزال قطعاً، وشكّ في أنّه هل زال بجميع مراتبه ولم يبقَ منها شيء، أم بقيت منها مرتبة ضعيفة، وهذا ـ أيضاً ـ يتصوّر على وجهين:
أوّلهما: أن يكون مرتبة مباينة لما ارتفع قطعاً عند العرف، وإن كانت ـ بالدقّة العقليّة ـ من مراتب الحقيقة الواحدة، كما إذا زال الاحمرار وبقي الاصفرار، فإنّهما يعدّان عند العرف متباينين.
والثاني: أن يعدّ عند العرف من مراتب وجود القسم الأوّل.
وفي الصورتين الأُوليين لا يجري الاستصحاب؛ لأنّه لابدّ في جريان الاستصحاب من وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة، وهنا ليس كذلك، بل المتيقّن غير المشكوك؛ لأنّ المتيقّن عبارة عن وجود الكلّيّ في ضمن فرد، والمشكوك عبارة عن وجوده في ضمن فرد آخر، بلا فرق بين أن يوجد مقارناً لوجود الفرد الذي وجد الكلّيّ في ضمنه، أو وجد في نفس زمان ارتفاعه؛ لاشتراكهما في أنّ المشكوك وجود الكلّيّ في ضمن فردٍ آخر غير الوجود المتيقّن في ضمنه الكلّيّ.
إن قلت: ما الفرق بين هاتين الصورتين من القسم الثالث من استصحاب الكلّيّ وبين القسم الثاني؟ حيث قلنا هناك إنّ الوحدة السنخيّة محفوظة، سواء كان الحادث هو الفرد الطويل أم كان هو الفرد القصير في القضيّة المتيقّنة، بمعنى: أنّ الحادث أيّ واحد منهما كان يكون الكلّيّ موجوداً فيه.
قلت: وحيث يحتمل أن يكون الحادث هو الفرد الطويل الباقي، فيحتمل أن يكون الكلّيّ، وهو عين ما تيقّنت به، موجوداً. نعم، يحتمل وجوداً آخر حدث للكلّيّ، ولكن مع ذلك، فاليقين بوجود الكلّيّ حاصل بالضرورة.
وأمّا في هاتين الصورتين، فإنّ المتيقّن هو الوجود المحدود بحدّ الزيديّة ـ مثلاً ـ، والمشكوك إنّما هو الوجود المحدود بحدّ العَمريّة ـ مثلاً ـ، وهما متباينان؛ لأنّ الكلّيّ إذا كان في ضمن فرد ثمّ ارتفع ذلك الفرد، وكان هناك فرد آخر من أفراد الكلّيّ وقد وجد معه أو مقارناً لارتفاعه، فإنّ وجود الكلّيّ في ضمن ذلك الفرد الأوّل المقارن معه وجوداً، أو حين ارتفاعه، لا يكون عين وجود الكلّيّ بوجوده الأوّليّ.
وأمّا القسم الثالث، ففي صورته الاُولى، وهي ما إذا كان محتمل البقاء مبايناً مع الزائل، فلا يجري الاستصحاب؛ لأنّ القضيّة المتيقّنة ليست عين المشكوكة؛ فإنّ العرف يراهما متباينين، وإن كانت الوحدة محرزة بحسب الدقّة العقليّة؛ لأنّ المناط في تشخيص الوحدة على العرف، لا العقل.
وفي صورته الثانية، أي: فيما لو كان العرف يعدّ تلك المرتبة واحدةً من مراتب وجود المستصحب، فلا مانع من جريان الاستصحاب ـ حينئذٍ ـ؛ لكفاية الوحدة العرفيّة.
تذييل وتعقيب:
لا يخفى: أنّ الحيوان تارةً يكون الشكّ فيه من جهة قابليّته للتذكية، وأُخرى لا يكون من جهة قابليّته لها.
وقد أورد الفاضل التوني( ) على المشهور في حكمهم بالحرمة والنجاسة في الحيوان المشكوك وقوع التذكية فيه من غير جهة الشكّ في قابليّته لها بأصالة عدم التذكية، بأنّه يمتنع جريان أصالة عدم التذكية، وذلك لوجهين:
الوجه الأوّل: أنّ موضوع هذين الحكمين، أعني: الحرمة والنجاسة، في لسان الأدلّة هي الميتة، وهي عبارة عن الموت حتف الأنف، فهي ضدّ التذكية. وإثبات أحد الضدّين باستصحاب عدم الضدّ الآخر يكون من الأصل المثبت.
وفيه: أنّ الميتة ليست عبارة عن الموت حتف الأنف، بل عبارة عن غير المذكّى، وإن أبيت إلّا عن كونها الموت حتف الأنف، فهي تشمل مطلق غير المذكّى حكماً، أي: ولو فرض أنّه لم يمت حتف أنفه، بل ذُبح على غير الوجه الشرعيّ، أي: فيكون حراماً ونجساً هو أيضاً، فاستصحاب عدم كونه من المذكّى يكفي لإثبات هذين الحكمين له، ولا نحتاج في ذلك إلى إثبات صدق عنوان الميتة عليه.
فقوله تبارك وتعالى: ﴿إِلاَّ مَا ذكَّــيْتُمْ﴾( )، يدلّ دلالة واضحة على أنّه لا حلّيّة إلّا في مورد المذكّى، فالحرمة ليست مرتّبة على أمر وجوديّ، وهو عنوان الميتة فقط، بل موضوعه مطلق غير المذكّى شرعاً، فلو حصل له العلم بأنّه قد ذبح على الوجه غير الشرعيّ، يحصل له العلم بالنجاسة والحرمة، مع أنّه لم يعلم بموته حتف أنفه.
ولكنّ الحقّ: أنّه لو حصل له العلم بكونه مذبوحاً على غير الوجه الشرعيّ، فغاية ما يحصل له العلم به ـ حينئذٍ ـ هو الحرمة فقط، لا الحرمة والنجاسة.
والوجه الثاني: أنّ موضوع الحكمين المذكورين، وإن كان عبارة عن عدم التذكية، لكنّ المراد منه هو عدم التذكية في حال زهوق الروح، وإلّا، يلزم أن يكون الحيوان المأكول في حال حياته نجساً لعدم كونه مذكّىً في تلك الحال قطعاً.
فإذا كان الأمر كذلك، فليس لما هو الموضوع للحكم حالة سابقة؛ لأنّ عدم التذكية المقيّد بكونه في حال زهوق الروح يستحيل أن يتحقّق حال حياته.
فإن قلت: يكفي عدم التذكية الجامع بين كونه حال الحياة وبين كونه حال زهوق الروح، فإنّ له فردين، فاستصحاب ذلك الجامع بواسطة احتمال وجود الفرد الآخر منه بعد انعدام الفرد الأوّل.
قلنا: في هذا الاستصحاب إشكال من وجهين، إذ:
أوّلاً: أنّ الأثر إنّما يكون للفرد المحتمل الوجود بعد انعدام الفرد الأوّل، وإلّا، فالجامع نفس لا أثر له، واستصحاب الجامع والكلّيّ لترتيب ما للفرد من أثر يكون من الاُصول المثبتة، فلو سلّمنا بصحّة جريانه، لو كان له أثر، ولكن يمتنع جريانه لما ذكرناه هنا.
وثانياً: هذا الاستصحاب من القسم الثالث من استصحاب الكلّيّ والذي قلنا بعدم صحّته وعدم جريانه.
وقد أجاب اُستاذنا المحقّق عن ذلك بأنّ <موضوع الحرمة والنجاسة، وإن كان هو عدم التذكية في حال زهوق الروح، فيكون الموضوع مركّباً من جزأين: أحدهما: عدم التذكية، والآخر: زهوق الروح، ولكن لا بنحوٍ يكون الأخير ـ أي: زهوق الروح ـ من نعوت الأوّل ـ أي: عدم التذكية ـ ومن حالاته ومشخّصاته حتى يكون لعدم التذكية فردان، ويكون أحدهما موضوعاً للأثر دون الفرد الآخر، كما قُرّر في الإشكال، بل هما مجتمعان موضوعان للأثر، بدون أن يكون لوصف الاجتماع ـ أيضاً ـ تأثير في الموضوعيّة، ومن البديهيّ: أنّ الموضوع المركّب يمكن إحراز أحد جزأيه بالأصل، والآخر بالوجدان، كما في محلّ الكلام>( ).
وقد ادّعى المحقّق النائيني في المقام أنّ الموضوع المركّب إذا كان من قبيل العرض والمحلّ، فالعرض بما هو نعت لمحلّه وبنحو مفاد كان الناقصة يكون دخيلاً في الموضوع، فاستصحاب الوجود المحموليّ لذلك العرض، أو عدمه المحموليّ، لا يثبت ما هو دخيل في الموضوع، إلّا على القول بصحّة الأصل المثبت، فكما أنّ استصحاب عدم القرشيّة ـ مثلاً ـ لا يُثبت الموضوع، فكذلك استصحاب عدم التذكية لا يُثبت صدق عنوان الميتة.
وفي ذلك يقول:
<أنّ الموضوع المركّب من عرضين لمحلٍّ واحد، أو من جوهرين، أو من جوهر وعرض لمحلٍّ آخر، كوجود زيد وقيام عمرو، لا يعتبر فيه أزيد من الاجتماع في الزمان، إلّا إذا استفيد من الدليل كون الإضافة الحاصلة من اجتماعهما لها دخل في الحكم، كعنوان الحاليّة والتقارن والسبق واللّحوق ونحو ذلك من الإضافات الحاصلة من وجود الشيئين في الزمان.
ولكنّ هذا يحتاج إلى قيام الدليل عليه، وإلّا، فالموضوع المركّب من جزأين لا رابط بينهما إلّا الوجود في الزمان لا يقتضي أزيد من اجتماعهما في الزمان، بخلاف ما إذا كان التركيب من العرض ومحلّه، كقيام زيد وقرشيّة المرأة ونحو ذلك من الموضوعات المركّبة من العرض ومحلّه، فإنّه لا يكفي فيه مجرّد اجتماع العرض والمحلّ في الزمان ما لم يَثبت قيام الوصف بالمحلّ>( ).

التنبيه الثاني: استصحاب الاُمور التدريجيّة غير القارّة:
هل يجوز جريان الاستصحاب في التدريجيّات مع أنّها غير قارّة بالذات؟ وقبل الخوض في تفاصيل المطلب، لابدّ أوّلاً من تعريف الاُمور التدريجيّة وبيان ما هو المقصود منها.
لا يخفى: أنّ الاُمور التدريجيّة هي ما لا تجتمع أجزاؤها بعضها مع البعض في الوجود زماناً، بل لا يكاد يوجد جزء منها إلّا بعد انعدام الجزء الذي قبله، كنفس الزمان، فإنّه إذا كان حصول ساعات الزمان على نحو التدريج، بحيث كان وجود كلّ ساعة من الزمان ـ وكذا كلّ مقطعٍ من مقاطع الزمان، سواء كان ساعةً أو يوماً أو شهراً أو عاماً أو غير ذلك ـ متوقّفاً على انعدام سابقتها، فكذلك ـ لا محالة ـ يكون الزمانيّ، كجريان الماء والتكلّم وأمثال ذلك، وتسمّى ﺑ (التدريجيّات) أو (الاُمور التدريجيّة)، وفي قبالها: ما يعرف ﺑ (الاُمور القارّة)، وهي التي تجتمع أجزاؤها بعضها مع بعض في الوجود زماناً.
وإن شئت قلت: إنّ التدريجيّات هي التي لا يكون لأجزائها تحقّق دفعيّ في آنٍ واحد، بل وجودها تدريجيّ الحصول، بحيث لا يوجد جزء منها إلّا بعد انعدام الجزء السابق عليه، من غير فرق بين أن تكون جوهراً، كزيد وعمرو وغيرهما من أفراد نوع الإنسان، أو عرضاً، كالعلم والعدالة والسواد والبياض ونحوها.
وحيث قد عرفنا أنّ التدريجيّات تشمل الزمان والزمانيّ، فلابدّ من البحث في جريان الاستصحاب في كلٍّ منهما أو عدم جريانه.
أمّا استصحاب نفس الزمان:
فقد يقال: بعدم جريانه؛ لأنّ الموضوع لا يكون واحداً في الحالتين، أعني: حالة اليقين وحالة الشكّ، بل هناك موضوعات متعدّدة بتعدّد أجزاء الزمان ومقاطعه، فلا يكون الشكّ شكّاً بالبقاء؛ لأنّ الجزء الأوّل قد انعدم قطعاً، ولا شكّ في بقائه حتى يجري فيه الاستصحاب، والجزء الثاني مشكوك الحدوث، والأصل عدمه، لما عرفناه من أنّ وجود كلّ جزء من أجزاء التدريجيّات يكون وجوداً مستقلّ.
ومعه: فلا سبيل إلى اتّحاد القضيتين المتيقّنة والمشكوكة؛ إذ لا حقيقة للموجود التدريجيّ إلّا أنّه عبارة عن وجودات وانعدامات متعدّدة ومتتالية، ويجب فيه أن يفرض عدم اجتماع أجزائه في الوجود، فذاته متقوّمة بالأخذ والترك، أي: بوجود جزء وانعدامه ثمّ وجود جزء آخر، وهكذا.. فاليقين قد تعلّق بجزء خاصّ، ولكنّه انعدم، والشكّ قد تعلّق بجزء آخر، فلا مجال لجريان الاستصحاب.
ولكنّ الحقّ: أنّه يمكن جريان الاستصحاب فيه؛ لأنّ الزمان عبارة عن العناوين التي هي أسماء لقطعات من الزمان، كاليوم واللّيل والاُسبوع والشهر والسنة، وأركان الاستصحاب، من اليقين بوجودها والشكّ في بقائها موجود عرفاً وحقيقةً.
وذلك لانطباق هذه العناوين على قطعة من الزمان توجد بوجود الجزء الأوّل منه حقيقةً وتنعدم بوجود جزء آخر؛ لأنّ معنى التدريجيّة في الوجود كما عرفنا، هي أن يكون الشيء ممّا يوجد شيئاً فشيئاً، ولا يمكن أن يوجد دفعةً واحدة، وإلّا ، لزم الخلف، بل التسلسل، وأن يكون قارّاً، لا غير قارّ، وبما أنّ العدم مقوّم له ـ حيث إنّه مركّب من الوجود والعدم ـ فلا يمكن أن يكون رافعاً له، فحينما يتحرّك شخص من داره إلى المسجد ـ مثلاً ـ، فإنّ نفس حركته متقوّمة بالوجود والعدم ـ وعدم الحركة كالتوقّف في الطريق مثلاً ـ، فيكون العدم دخيلاً في صميم الحركة، فلا يعقل أن يكون رافعاً لها.
والحاصل: أنّ الموضوع موجود حتى في الحقيقة وبحسب الدقّة العقليّة، فإذا كان هذا الموضوع ممّا يترتّب عليه الحكم الشرعيّ، وشككنا في بقائه، كاليوم من شهر رمضان، فيمكن استصحابه، لتكون النتيجة هي وجوب الإمساك.
وإلى هذا ذهب اُستاذنا المحقّق، ثمّ قال:
<وإن أبيتَ إلّا عن عدم صدق البقاء في الموجودات غير القارّة بالدقّة العقليّة، فمن الواضح المعلوم أنّ في نظر العرف وجود هذه القطعات بوجود أوّل جزء منها، وبعد ذلك يحكمون ببقائها إلى وجود آخر جزءٍ منها وانتهائها، وسيأتي أنّ وحدة القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة، التي لا بدّ منها في جريان الاستصحاب وفي صدق نقض اليقين بالشك، تكون بنظر العرف، لا بالدقّة العقليّة>( )، أي: فيكون جريان الاستصحاب في الاُمور غير القارّة كجريانه في الاُمور القارّة؛ وذلك لتماميّة أركانه.
وقد يستشكل فيه: بأنّ استصحاب النهار ـ مثلاً ـ لا يُثبت أكثر من وجود النهار، كما إذا فرضنا أنّ متعلّق الحكم قد أُخذ فيه الوقوع في النهار، كالإمساك في باب الصوم، فإنّه يعتبر فيه أن يكون في النهار، فمع الشكّ في بقاء النهار، لا يجدي استصحاب النهار في إثبات وقوع الإمساك في النهار، فلو فرض أنّ وجود النهار كان موضوعاً للحكم من دون أن يتقيّد به متعلّقه، كان استصحاب النهار ـ حينئذٍ ـ مجدياً في إثبات الحكم.
ولكنّ الحقّ: أنّه بعد إثبات وجود النهار بالاستصحاب يثبت عليه الحكم بوجوب الصوم، فيجب عليه الإمساك رجاءً، وإن لم يحرز كون الزمان نهاراً، فإن كان الزمان نهاراً، فهو قد امتثل، وإلّا، فلا يضرّه شيء، فلا يكون الاستصحاب عديم الفائدة.
وبعبارة أُخرى: فإنّه يكفي استصحاب وجود النهار في شغل الذمّة والعقاب المحتمل؛ لاحتمال وجود الحكم بعد احتمال وجود النهار.
أو يمكن أن يقال: بأنّ استصحاب نهاريّة النهار كما يمكن استصحاب بقاء النهار بفرض الوحدة العرفيّة بين الأجزاء المتدرّجة في الوجود، فكذلك يمكن استصحاب نهاريّة الموجود، فإنّها من الأوصاف التدريجيّة كذات الموصوف بها، وتكون حادثة بحدوث الآنات وباقيةً ببقائها، فإذا اتّصف بعض هذه الآنات بالنهاريّة ـ مثلاً ـ، وشكّ في اتّصاف الزمان الحاضر بها، يجري الاستصحاب لإثبات بقاء النهاريّة الثابتة في الزمان السابق لغرض وحدة الموصوف، فيكون الشكّ شكّاً في بقاء النهاريّة.
وهذا الوجه هو من إفادات المحقّق العراقيّ، حيث قال:
<إنّ ذوات الآنات المتعاقبة كما تكون تدريجيّةً، كذلك وصف الليليّة والنهاريّة الثابتة لها ـ أيضاً ـ تدريجيّة، تكون حادثة بحدوث الآنات وباقيةً ببقائها، فإذا اتّصف بعض هذه الآنات باللّيليّة أو النهاريّة، وشكّ في اتّصاف الزمان الحاضر باللّيليّة أو النهاريّة، فكما يجري الاستصحاب في نفس الزمان، ويدفع شبهة الحدوث فيما كان اسماً لمجموع ما بين الحدّين، كذلك يجري الاستصحاب في وصف اللّيليّة أو النهاريّة الثابتة للزمان...>، إلى آخر ما أفاده( ).
ولكن فيه: أنّ ما ذكره إنّما يتمّ لو كان وصف النهاريّة أمراً آخر وراء ذوات الآنات، وأمّا لو لم يكن كذلك، فلا معنى لجريان الاستصحاب.
هذا كلّه في استصحاب نفس الزمان.
والكلام الآن في الزمانيّات غير القارّة، كالحركة والتكلّم (إلّا أن يقال بأنّ التكلّم من الاُمور القارّة كما كشف عنه العلم الحديث من ثبوت الأصوات) ممّا كان من الحوادث التي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود، وفي الزمانيّات القارّة المقيّدة بالزمان، كالوقوف بالمشعر أو عرفات مقيّداً بكونه في زمان كذا، أي: من زوال يوم عرفة إلى الغروب في عرفات، وبين طلوع الفجر وطلوع الشمس من يوم العيد في المشعر ـ مثلاً ـ.
أمّا الزمانيّات غير القارّة، فحالها حال الزمان نفسه، والإشكال الذي كان وارداً هناك، من عدم إحراز الشكّ بالبقاء جارٍ هنا بعينه، والجواب هو الجواب. فيقال ـ مثلاً ـ: الحيض الذي أقلّه ثلاثة وأكثره عشرة أيّام، يوجد بوجود الجزء الأوّل، ويبقى بقاءً حقيقيّاً إلى آخر جزء منه، فيمكن فيه جريان الاستصحاب.
لا يقال: لا يمكن تصوّر البقاء الحقيقيّ هنا؛ لأنّه ما لم ينعدم جزء لا يوجد الجزء الآخر، وليس معنى بقاء الشيء إلّا وجود الشيء بتمامه وكماله في الآن الذي قبل ذلك الآن، ومثل هذا غير معقول في الاُمور غير القارّة.
فإنّه يقال: يكفي في ذلك البقاء العرفيّ، فإنّه هو المدار كما أسلفنا.
ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الشكّ في بقاء الاُمور التدريجيّة:
قد يكون من جهة الشكّ في وجود الرافع، كما إذا احتمل حدوث مانع ما من استمرار إلقاء خطابته بعدما أحرز قابليّة زمان الخطابة للاستمرار إلى زمان كذا، وشكّ قبل انتهاء الساعة في انقطاعها لمانع خارجيّ منعه من التكلّم والمقتضي عن دوام تأثيره فإنّه لا ينبغي الشكّ في جريان الاستصحاب في هذا القسم؛ لتماميّة أركانه.
وقد يكون من جهة الشكّ في استعداده للبقاء، وهو على قسمين: إذ قد يكون منشأ الشكّ الجهل بالكميّة والمقدار، وقد يكون منشؤه احتمال أن يكون مقدار زائد على المقدار المعلوم:
فالأوّل: كما إذا كان الشكّ في جريان الماء أو سيلان الدم من جهة الشكّ في بقاء شيء من الماء في المنبع أو الدم في الرحم غير ما قد سال وجرى من كلٍّ منهما، وكذا في مثال الخطابة إذا كان الشكّ من جهة الشكّ في أنّ الخطيب هل كان له استعداد التكلّم والقراءة ساعةً أو أقلّ، وكذا في سائر أمثلة الاُمور التدريجيّة.
والثاني: كما إذا كان شكّه في جريان الماء في المنبع من جهة احتمال أن يكون المقدار زائداً على المقدار المعلوم أوّلاً، واحتمل ورود مقدار آخر مقارناً لجريان هذا المقدار من المطر أو غيره فيه، وهذا ملحق بالشكّ في المقتضي؛ لأنّه ليس من قبيل الشكّ في المقتضي الاصطلاحيّ، وهو العلم بمقدار استعداد الماء للجريان في مدّة معيّنة، وكذلك فهو خارج عن الشكّ في الرافع.
وفي القسم الأوّل، لا يجري الاستصحاب؛ لأنّ الذي يجري فيه الاستصحاب إنّما هو الشكّ في البقاء، دون الشكّ في الحدوث، كما في المقام؛ لأنّ الشكّ هنا إنّما هو في جريان جزء آخر من الماء والدم والتكلّم غير ما وجد قبل ذلك وانعدم قطعاً، فالشكّ ـ حينئذٍ ـ تعلّق بالحدوث، لا بالبقاء، ومعلوم أنّ الشكّ المعتبر في الاستصحاب هو الشكّ في البقاء، دون الحدوث، فيشكل فيه جريان الاستصحاب.
وأمّا الثاني، فالاستصحاب فيه جارٍ، بعدما كان الجريان أمراً واحداً شخصيّاً، سواء كان عن المادّة المعلومة أوّلاً أم عن المادّة التي يحتمل زيادتها.
وبعبارة أُخرى: فإن قلنا بأنّ التكلّم أو السيلان يتبدّل من فرد إلى فرد، أو من شخص إلى شخص آخر، باختلاف الدواعي والأغراض، فهو يكون من القسم الأوّل من القسم الثالث من الاستصحاب، وأمّا لو فرض أنّ اختلاف الدواعي لا يضرّ أصلاً بالوحدة الشخصيّة، بمعنى: أنّ حدوث هذا الشخص بسبب داعٍ، وبقاءه بسببٍ آخر، فالعرف يرى بقاء ذلك الشخص، لا انعدامه وحدوث شخص آخر، وإن كان بالدقّة العقليّة كذلك، وحينئذٍ: فلا مانع من جريانه.
بل يمكن أن يقال ـ أيضاً ـ: هو من قبيل استصحاب الكلّيّ من القسم الثالث، وذلك بأن يكون ما هو مقطوع بارتفاعه مرتبة منه، مع احتمال بقاء مرتبة ضعيفة أو قويّة مقامه، ومع كون العرف يساعد على ذلك، حيث إنّه ـ كما تقدّم ـ يرى وحدة القضيّة المشكوكة والمتيقّنة، فلا يكون هناك مانع من جريان الاستصحاب.
وأمّا الاُمور القارّة المقيّدة بالزمان، كوجوب الجلوس في يوم الجمعة إلى الزوال، فنقول: تارةً: يكون الزمان ظرفاً للحكم، وأُخرى: يكون قيداً له.
أمّا في الصورة الاُولى، فلا يكون مانعاً من جريان استصحاب الوجوب فيما بعد الزوال؛ لأنّ الجلوس ـ الذي هو الموضوع ـ لم يكن مقيّداً بشيء، بل كان مرسلاً، وكان مقطوع الوجوب، وإذا شكّ بعد الزوال في بقاء الوجوب يجري الاستصحاب.
وأمّا لو كان الزمان قيداً للحكم أو الموضوع، فلا يجري؛ لأنّ الجلوس بعد الزوال موضوع آخر غير الجلوس قبل الزوال، فيما إذا كان الجلوس مقيّداً بالزمان، كما هو مفروض.
ثمّ إنّه قد حكى الشيخ الأعظم( ) عن الشيخ النراقي، القول بتعارض استصحاب الوجود مع استصحاب العدم الأزليّ في محلّ الكلام، أي: فيما إذا كان الحكم الشرعيّ مقيّداً بالزمان، كما إذا ورد الدليل على وجوب الجلوس من يوم الجمعة من شهر كذا ـ مثلاً ـ إلى الزوال، ثمّ حصل الشكّ في بقاء ذلك الوجوب بعد الزوال.
فقال: إنّ استصحاب وجوب الجلوس فيما بعد الزوال معارض باستصحاب عدم وجوبه أزلاً في تحقّق تلك القطعة، فيكون واجباً باعتبار استصحاب الوجوديّ، ولكنّه غير واجب باعتبار استصحاب العدميّ، وقد ذكر لذلك أمثلة:
منها: إذا حصل الشكّ في بقاء وجوب الإمساك في اليوم الذي وجب فيه الصيام؛ لعروض مرض.
ومنها: ما إذا شكّ بعد خروج المذيّ في بقاء الطهارة الحدثيّة.
ومنها: إذا شكّ في بقاء النجاسة الخبثيّة بعد الغسل مرّة واحدة.
فهو يقول في جميع هذه الموارد وأمثالها بتعارض استصحاب الوجوديّ مع استصحاب العدم الأزليّ.
ولكن قد تنظّر فيه المحقّق النائيني بأنّ <الظاهر عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ مطلقاً، وإن أُخذ الزمان قيداً للحكم أو الموضوع؛ لأنّ العدم الأزليّ هو العدم المطلق الذي يكون كلّ حادث مسبوقاً به، وانتقاض هذا العدم بالنسبة إلى كلّ حادث إنّما يكون بحدوث الحادث وشاغليّته لصفحة الوجود، فلو ارتفع الحادث بعد حدوثه وانعدم بعد وجوده، فهذا العدم غير العدم الأزليّ، بل هو عدم آخر بعد وجود الشيء...>( ).
وبعبارة أُخرى: فإنّ العدم الأزليّ والمطلق والذي هو نقيض وجود كلّ شيء ينقض بوجود ذلك الشيء؛ لأنّ وجود كلّ شيء رفعه، فبوجود كلّ شيء، الذي هو نقيض العدم المطلق، يرتفع ذلك العدم المطلق، الذي هو عبارة أُخرى عن العدم الأزليّ، وإلّا، يلزم اجتماع النقيضين، فإذا كان العدم الأزليّ مقطوع الارتفاع فكيف يستصحب؟!

التنبيه الثالث: في الاستصحاب التعليقيّ والتنجيزيّ:
ولابدّ قبل الشروع في بيان حكم هذا الاستصحاب صحّة أو عدماً من بيان اُمور:
الأمر الأوّل:
في أنّه ما هو الفرق بين الاستصحابين: التنجيزيّ والتعليقيّ.
أمّا الاستصحاب التنجيزيّ، فالمراد به الاستصحاب في مورد ما لو كان للأمر المشكوك بقاءً وجود فعليّ تنجيزيّ في السابق يشكّ في أنّه باقٍ أم أنّه قد زال، كالماء ـ مثلاً ـ إذا تغيّر بالنجاسة، وزال تغيّره من قبل نفسه، وشكّ في بقاء نجاسته بعد الزوال.
وأمّا الاستصحاب التعليقيّ، فهو ما لو كان للأمر المشكوك في بقائه وجود تقديريّ، وليس له وجوب فعليّ، كحرمة العنب على تقدير غليانه إذا شكّ فيها ـ أي: الحرمة ـ بعد تبدّله إلى زبيب.
وبعبارة أُخرى: فالاستصحاب التعليقيّ هو أن يتبدّل جزء من الموضوع بجزء آخر، فإنّ الحرمة في العصير العنبيّ موضوعها مركّب من العنب والغليان، المعبّر عنه بمثل قولك: العصير العنبيّ إذا غلى يحرم.
وأمّا لو فرض تغيّر جزء الموضوع، كما لو يبس العنب وأصبح زبيباً قبل الغليان، فهذا هو مورد الاستصحاب التعليقيّ، فهل يجري استصحاب بقاء النجاسة والحرمة للعنب على تقدير الغليان، ويترتّب عليه نجاسة الزبيب عند غليانه، إذا فُرض أنّ وصف الزبيبيّة والعنبيّة من حالات الموضوع لا أركانه.
والحاصل: أنّ الاستصحاب التعليقيّ هو استصحاب الحكم الثابت على الموضوع بشرط بعض ما يلحقه من التقادير، وبعد وجود المشروط وتبدّل بعض حالاته قبل وجود الشرط، كما مثّلنا باستصحاب بقاء الحرمة للعنب عند صيرورته زبيباً قبل فرض غليانه.
الأمر الثاني:
أنّه يشترط في الاستصحاب الوجوديّ أن يكون المستصحب شاغلاً لصفحة الوجود في أيّ وعاء كان، سواء كان وعاء العين والخارج أم وعاء الاعتبار، وأمّا التعبّد ببقاء شيء لا وجود له فغير معقول كما هو ظاهر. كما أنّه يعتبر في الاستصحاب ـ أيضاً ـ أن يكون المستصحب حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً ذا حكم شرعيّ؛ ضرورة أنّه لا معنى للتعبّد بالموضوعات التي لا يترتّب على بقائها أثر وحكم شرعيّ.
الأمر الثالث:
الأسماء والعناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام يُفهم من نفس الدليل أو من الخارج أنّها لها دخل في موضوع الحكم، وأنّها تمام الموضوع، بحيث يدور الحكم مدار بقائها، كما إذا ترتّب الحكم بالإباحة والطهارة على العلم بعنوان الحنطة، فإنّ هذا الحكم لا يبقى بتحوّل الحنطة إلى دقيق، ولو كانت حقيقتهما شيء واحد.
وبعبارة ثانية: فإنّ الحكم تارةً: يدور مدار الأسماء والعناوين، كما إذا استفدنا من نفس الدليل، أو من خارج، أنّ لها دخلاً في موضوع الحكم بحيث يكون الحكم دائراً مدار بقاء هذا العنوان، فحينئذٍ: يرتفع الحكم بارتفاعه، ولو مع بقاء الحقيقة، كما إذا فرضنا أنّ لبقاء عنوان الحنطة دخلاً في الحكم بالإباحة والطهارة، فيرتفع الحكم بهما إذا أصبحت الحنطة دقيقاً أو خبزاً.
وأُخرى: يستفاد من دليل الحكم أو من خارج عدم دخل الوصف العنوانيّ في موضوع الحكم، بل يكون الحكم مترتّباً على نفس الحقيقة والذات المحفوظة في جميع التغيّرات والتقلّبات والواردة على الحقيقة، والتي توجب تبدّل ما كان لها من العنوان والاسم إلى عنوان واسمٍ آخر مع انحفاظ الحقيقة وبقائها.
ففي هذه الصورة، يقال: بأنّ الحكم لا يدور مدار الاسم، بخلاف الصورة الاُولى، حيث كان الحكم فيها مترتّباً على العنوان فقط، فإذا زال العنوان، فلا يجوز ترتّب بقاء الحكم مع زوال الوصف العنوانيّ.
وأمّا في صورة كون الحكم وارداً ومترتّباً على الذات نفسها، فالموضوع باقٍ، ولو بعد زوال الوصف العنوانيّ، فيجب ترتّب بقاء الحكم، مهما كان الذي جرى من التغيّرات والتبدّلات.
هذا في صورة ما إذا علم بدخول الوصف العنوانيّ في الحكم أو بعدم دخوله.
وأمّا اذا جهل ذلك ولم يعلم من نفس الدليل أو من خارج بمدخليّة الوصف والعنوان في ترتّب الحكم عليه ولا بعدمه، بل يشكّ في ذلك، فهذا يتصوّر على وجهين:
الأوّل: أن تكون الحالات الواردة على الحقيقة متباينة بنظر العرف، بحيث تكون الذات الواجدة لعنوان خاصّ مباينةً للذات الفاقدة له، وكان الوصف العنوانيّ بنظر العرف مقوّماً للحقيقة والذات، فإذا ارتفع العنوان عن الذات فيكون موجباً ـ عندهم ـ لانعدام حقيقة هذه الذات، وحينئذٍ: فلابدّ من الاقتصار على نفس العنوان الذي أُخذ عنواناً للموضوع والذي جُعل الحكم دائراً مداره، ولا يجوز التعدّي عنه؛ لأنّ الذات الفاقدة للعنوان تكون مباينةً للواجدة، ولا تكون محلّاً للاستصحاب؛ لأنّه يلزم تسرية الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.
وأمّا إذا لم تكن المراتب المتبادلة في نظر العرف موجبة لتبدّل الحقيقة والذات عرفاً، بل كانت المراتب من الحالات التي لا يضرّ تبادلها في صدق بقاء الحقيقة، وكانت الذات باقيةً عرفاً، ففي مثل ذلك يجري استصحاب بقاء الحكم، ويثبت له البقاء في الحالات المتبادلة، ولا يضرّ في جريان الاستصحاب عدم وجود العنوان والاسم بعد بقاء الحقيقة، ولو كان قد أُخذ في ظاهر الدليل عنواناً للموضوع.
فإن قلت: إنّه مع صدق اسم المتيقّن لا نحتاج إلى الدليل وإلى الاستصحاب، بل يكفي في ثبوت الحكم للمشكوك نفس الدليل الذي رتّب الحكم فيه على المسمّى بالاسم.
قلنا: بل لا يكفي ذلك، بل نحتاج معه إلى التمسّك بالاستصحاب؛ إذ يمكن أن لا يكون لدليل الحكم إطلاق يعمّ صورة تبدّل الحالة التي لا تضرّ ببقاء الاسم والعنوان، فنحتاج لذلك في إثبات الحكم مع تبدّل بعض حالات الموضوع إلى الاستصحاب.
وبالجملة: فإنّ الثابت لدينا في المقام بناءً على ما ذكرناه أمران:
أوّلهما: ما يرتبط بمقام الجعل، وهو الحكم المنشأ على الموضوع الكلّيّ، فهذا لا يرتبط بوجود الموضوع في الخارج، بل هو ممّا لا شكّ في بقائه، فإنّه متحقّق ولو لم يكن هناك موضوع، وسواء وجد العنوان أم لم يوجد.
والثاني: ما هو راجع إلى مقام الفعليّة، وهو الحكم الفعليّ الذي يثبت عند وجود موضوعه بشرائطه. ومعلوم أنّ هذا الحكم لا يقين بحدوثه قبل أن يتعلّق بمتعلّقه فعلاً، فلا يكون قابلاً للاستصحاب قبل ذلك.
الأمر الرابع:
لا يخفى: أنّ المستصحب تارةً يكون حكماً شرعيّاً، وأُخرى يكون موضوعاً لحكم شرعيّ، فإن كان حكماً شرعيّاً، فهو تارةً يكون كلّيّاً وأُخرى جزئيّاً.
والفرق بين الحكم الكلّيّ والجزئيّ، هو أنّ الأوّل هو الحكم المنشأ الوارد على الموضوع المقدّر وجوده على نحو القضايا الحقيقيّة، كقضيّة <الخمر حرام> فإنّها بحيث إنّه حتى لو لم يوجد فرد للخمر في الخارج، فمع ذلك، يكون الخمر حراماً، وكوجوب الحجّ الذي تمّ إنشاؤه منذ الأزل على المستطيع.
وأمّا الثاني، وهو الحكم الجزئيّ، فهو الحكم الثابت على موضوعه عند تحقّق الموضوع خارجاً، والذي يوجب فعليّة الحكم، كما في وجوب الحجّ الذي لا يكون فعليّاً إلّا بوجود زيد المستطيع.
ثمّ إنّ الشكّ في بقاء الحكم الجزئيّ لا يتصوّر إلّا إذا عرض لموضوعه الخارجيّ ما يشكّ معه في بقاء الحكم، كما إذا زال التغيّر بنفسه فلا إشكال في صحّة استصحابه.
وأمّا الشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ، فهو يتصوّر على وجوه:
الوجه الأوّل: الشكّ في بقائه من جهة احتمال النسخ، أي: إزالة ما كان ثابتاً من الحكم بنصٍّ شرعيّ، كما إذا شكّ في نسخ الحكم الكلّيّ المجعول على موضوعه المقدّر وجوده، فيستصحب بقاء الحكم الكلّيّ المترتّب على موضوعه.
ونظير استصحاب بقاء الحكم عند النسخ: استصحاب الملكيّة في العقود العهديّة التعليقة، كعقد الجعالة والسبق والرماية؛ فإنّ المالك ينشأ ملكيّة العوض في هذه العقود على تقدير خاصّ، كردّ الضالّة في عقد الجعالة، وتحقّق السبق في عقد السبق، وإصابة الهدف في عقد الرماية، فإنّ الملكيّة المنشأة في هذه العقود تشبه الأحكام المجعولة على الموضوعات المقدّرة، كالوجوب للمستطيع.
فلو شككنا في أنّ عقد السبق والرماية هل هو من العقود اللّازمة التي لا تنفسخ بفسخ أحد المتعاقدين ـ والمراد من العقود اللّازمة ما هو من قبيل البيع، فإنّ المنشأ فيه الملكيّة المنجّزة دون التعليقيّة ـ أو من العقود الجائزة التي تنفسخ بذلك، فحيث إنّ الحكم هناك ينشأ من قبل العاقد على تقدير خاصّ، كما عرفنا، فيجري استصحاب بقاء الملكيّة المنشأة إذا فسخ أحد المتعاقدين في الأثناء قبل تحقّق السبق أو إصابة الرمي، تماماً كما يجري الاستصحاب لإثبات بقاء الملكيّة المنشأة في العقود التنجيزيّة عند الشكّ في لزومها وجوازها.
وقد ذهب الشيخ الأعظم( ) إلى المنع من جريان الاستصحاب في باب العقود التعليقيّة، مع أنّه قائل بجريان الاستصحاب التعليقيّ في مثل العنب والزبيب.
ولكنّ الحقّ: جريانه؛ لأنّ حال الملكيّة المنشأة فيها حال الأحكام المنشأة على موضوعاتها، فكما يصحّ استصحاب بقاء الحكم عند الشكّ في نسخه، ولو قبل فعليّته بوجود الموضوع خارجاً، فكذلك يصحّ استصحاب بقاء الملكيّة المعلّقة عند الشكّ في بقائها، ولو قبل فعليّتها، بفعليّة السبق وإصابة الرمي وتحقّقهما خارجاً.
والوجه الثاني: الشكّ في بقاء الحكم على موضوعه المقدّر وجوده عند فرض بعض حالات الموضوع، كما لو شكّ في بقاء النجاسة في الماء المتغيّر الذي زال تغيّره من قبل نفسه، ولا شكّ في جريان استصحاب بقاء الحكم في هذا الوجه أيضاً، بل هذا القسم من استصحاب الحكم الكلّيّ هو الذي تعمّ به البلوى.
والفرق بين هذا الوجه من استصحاب الكلّيّ وبين الوجه الأوّل معلوم، وهو أنّ الشكّ في الوجه الأوّل إنّما كان من جهة الشكّ في النسخ وعدمه، ولا يتوقّف حصول الشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ على فرض وجود الموضوع خارجاً وتبدّل بعض حالاته.
وأمّا في الوجه الثاني، فالشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ لا يمكن إلّا بعد فرض وجود الموضوع خارجاً وتبدّل بعض حالاته؛ لوضوح أنّه لولا فرض وجود الماء المتغيّر بالنجاسة والزائل عنه التغيير، فلا يعقل الشكّ في بقاء النجاسة، فلابدّ حينئذٍ ـ من فرض وجود الموضوع ليمكن حصول الشكّ في بقاء حكمه عند فرض تبدّل بعض حالاته.
ولكن الشكّ هنا لا يتوقّف على فعليّة وجود الموضوع خارجاً، فإنّ حصول الشكّ في بقاء الحكم الجزئيّ هو ما يتوقّف على فعليّة وجود الموضوع، وأمّا الشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ، فيكفي فيه فرض وجود الموضوع، فالوجهان الأوّل والثاني يشتركان من جهة أنّ المستصحب فيهما يكون حكماً كلياً. ويفارق الثاني الأوّل في أنّه متوقّف على حصول الشكّ فيه على فرض وجود الموضوع، بخلاف الأوّل.
والوجه الثالث ـ من الوجوه التي يمكن تصوّرها في الشكّ في بقاء الحكم الكلّيّ ـ: هو الشكّ في بقاء الحكم المترتّب على موضوع مركّب من جزأين عند فرض أحد جزأيه، وتبدّل بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر، كما إذا شكّ في بقاء الحرمة والنجاسة المترتّبة على العنب على تقدير الغليان عند فرض وجود العنب وتبدّله إلى الزبيب قبل غليانه. فيستصحب بقاء النجاسة والحرمة للعنب على تقدير الغليان، ويترتّب عليه نجاسة الزبيب عند غليانه إذا فرض أنّ وصف العنبيّة والزبيبيّة كان من جملة حالات الموضوع، لا من أركانه.
وهذا القسم من الاستصحاب هو الاستصحاب التعليقيّ المصطلح عليه، والمراد به أن يستصحب الحكم بعد وجود المشروط وتبدّل بعض حالاته قبل وجود الشرط، كاستصحاب بقاء الحرمة للعنب عند صيرورته زبيباً قبل فرض غليانه.
وقد وقع الكلام بينهم في جريان هذا الاستصحاب أو عدم جريانه، فهنا قولان:
وأقواهما: عدم الجريان؛ لأنّ الموضوع إذا أصبح مركّباً من جزأين، فالحكم لا يترتّب عليه إلّا بعد وجوده بكلا جزأيه، بل بجميع ما له من الأجزاء والشرائط؛ لأنّ نسبة الحكم إلى الموضوع هي بمثابة نسبة العلّة إلى المعلول، فكما أنّه لا معنى لتقدّم المعلول على علّته، فلا معنى ـ أيضاً ـ لتقدّم الحكم على موضوعه.
والموضوع للنجاسة أو الحرمة في مثال العصير العنبيّ إنّما كان مركّباً من جزأين، هما: العنب والغليان، بلا فرقٍ بين ما إذا أخذ الغليان وصفاً للعنب، كما إذا قلت: (العنب المغليّ يحرم)، أو شرطاً، كما لو قيل: (العنب إذا غلى يحرم)؛ لأنّ مردّ الشرط ومرجعه إلى الموضوع، وهذا كما أنّ الشرط في وجوب الحجّ، وهو الاستطاعة، يرجع ـ كما تقدّمت إليه الإشارة ـ إلى الموضوع، ليكون مفاد قولك: (حجّ إذا استطعت) ـ مثلاً ـ، أي: (أيّها المستطيع حجّ).
بل لنا أن نزيد على ذلك بالقول: بأنّ المنع عن جريان الاستصحاب التعليقيّ لا يتوقّف على رجوع الشرط إلى الموضوع، بل يكفي في هذا المنع أن يكون الشرط علّة لحدوث النجاسة والحرمة للعنب، فإنّه مع عدم الغليان لا نجاسة ولا الحرمة؛ لانتفاء المعلول بانتفاء علّته، كانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، غاية الأمر: أنّه في الموضوع يدور بقاء الحكم ـ أيضاً ـ مدار بقائه، وفي العلّة يمكن أن يكون لها دخل في الحدوث فقط، دون البقاء. فلا يجري الاستصحاب التعليقيّ.
نعم، الأثر المترتّب على أحد جزأي المركّب هو أنّه لو انضمّ إليه الجزء الآخر لترتّب عليه الأثر، وهذا المعنى عقليّ، كما أنّه مقطوع البقاء في كلّ مركّب وجد أحد جزأيه، فلا معنى لاستصحابه.
وبالجملة: فإذا شكّ في بقاء الحرمة والنجاسة الواردين على العنب المغليّ، فيمكن إجراء هذا الاستصحاب بوجهين:
الأوّل: فيما إذا شكّ في رفع الحرمة والنجاسة من جهة الشكّ في النسخ.
والثاني: الشكّ في بقائها عند تبدّل بعض حالات الموضوع بعد وجود العنب المغلي بكلا جزأيه، كما ذا شكّ في بقائهما عند ذهاب ثلثيه.
وفي هذين الوجهين، لا إشكال في جريان استصحاب بقائهما، ولكنّ هذا الاستصحاب ليس داخلاً في الاستصحاب التعليقيّ في نظر من يقول به، بمعنى: أنّه ليس هو مراد القائل بالاستصحاب التعليقيّ. ولكنّنا لا نتصوّر صحّة جريان الاستصحاب عند الشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة في غير هاتين الصورتين، فالقائل بالاستصحاب التعليقيّ إن كان قائلاً به بمعنىً لا يرجع إلى استصحاب عدم النسخ، ولا إلى استصحاب الحكم على تقدير وجود الموضوع بجميع ما له من الأجزاء والقيود وتبدّل بعض حالاته ممّا لا يرجع إلى معنىً محصّل.
وقد يقال: يمكن جريان الاستصحاب بوجه آخر لا يرجع إلى الوجهين الأوّلين، بتقريب: أنّنا نستصحب بقاء الحرمة والنجاسة التقديريّين؛ فإنّ العنب قبل غليانه، وإن لم يكن معروضاً للحرمة أو النجاسة الفعليّة حيث لم يتحقّق شرط موضوعها، إلّا أنّه كان معروضاً للحرمة والنجاسة التقديريّة؛ إذ يصدق على العنب متى ما وُجد أنّه حرام أو نجس عند الغليان.
وعلى تقديره، فتكون الحرمة والنجاسة التقديريّة ثابتتين عند صيرورة العنب زبيباً، ووجوده في الخارج على هذه الصفة، فيشكّ في بقاء النجاسة والحرمة التقديريّة بعدما كان عنوان العنبيّة والزبيبيّة من حالات الموضوع، لا من مقوّماته وأركانه، فعدم الغليان إنّما يمنع عن حصول الشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة الفعليّة واستصحابهما، لا عن الشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة التقديريّة واستصحابهما.
ولكنّ الحقّ: أنّ هذا الاستصحاب غير جارٍ في المقام، إذ لا معنى لاستصحاب الحرمة والنجاسة الفرضيّتين التقديريّتين؛ إذ ليست الحرمة والنجاسة الفرضيّة في العنب غير المغليّ إلّا عبارة عن أنّ العنب لو انضمّ إليه الغليان لترتّبت عليه النجاسة والحرمة، وهذه القضيّة التعليقيّة لا يمكن استصحابها؛ وذلك لأنّها، مضافاً إلى كونها من القضايا العقليّة؛ لأنّها ليست سوى لازمٍ يترتّب على جعل الحكم على موضوعه المركّب الذي وجد أحد جزأيه، فهي مقطوعة البقاء لا مشكوكته.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى القول بإمكان جريان هذا الأصل؛ حيث قال:
<وتوهّم أنّه لا وجود للمعلّق قبل وجود ما عُلِّق عليه، فاختلّ أحد ركنيه، فاسد؛ فإنّ المعلّق قبله إنّما لا يكون موجوداً فعلاً، لا أنّه لا يكون موجوداً أصلاً، ولو بنحو التعليق، كيف؟! والمفروض أنّه مورد فعلاً للخطاب بالتحريم ـ مثلاً ـ أو الإيجاب، فكان على يقينٍ منه قبل طروء الحالة، فيشكّ فيه بعده، ولا يعتبر في الاستصحاب إلّا الشكّ في بقاء شيءٍ كان على يقين من ثبوته، واختلاف نحو ثبوته لا يكاد يوجب تفاوتاً في ذلك.
وبالجملة: يكون الاستصحاب متمّماً لدلالة الدليل على الحكم فيما أُهمل أو أُجمل، كان الحكم مطلقاً أو معلّقاً، فببركته يعمّ الحكم للحالة الطارئة اللّاحقة كالحالة السابقة، فيحكم ـ مثلاً ـ بأنّ العصير الزبيبيّ يكون على ما كان عليه سابقاً في حال عنبيّته، من أحكامه المطلقة والمعلّقة لو شكّ فيها، فكما يحكم ببقاء ملكيّته، يحكم بحرمته على تقدير غليانه>( ).
وحاصله: أنّ للحكم المعلّق نحو وجود في مقابل العدم المطلق، ولا دليل على اعتبار أزيد من هذا الوجود للمستصحب في الاستصحاب الوجوديّ، فلو شكّ ـ مثلاً ـ في سقوط حدّ شرب الخمر بالتوبة قبل قيام البيّنة عليه، فلا مانع من استصحاب وجوب الحدّ المعلّق على عدم التوبة، فأيّ مانع من استصحاب هذا الحكم المعلّق إذا شكّ في بقائه ولم يكن الشكّ فيه لأجل الشكّ في النسخ، بل كان شكّاً ناشئاً من عروض حالة طارئة هي أوجبت الشكّ، كالتوبة في المثال، فالكلام كلّ الكلام، في أنّ التعليق في الأحكام لأجل منعه عن فعليّة وجود الحكم المعلّق، فهل يكون مانعاً من جريان الاستصحاب أم لا؟
ولكن قد عرفت أنّ للحكم المعلّق قبل حصول المعلّق عليه نحو وجود، ونحو وجوده هذا يوجب صحّة جريان الاستصحاب فيه لو شكّ في بقائه.
وخالفه المحقّق النائيني، فذهب إلى نفي جريان الاستصحاب في الحكم التعليقيّ، ومحصّل ما أفاده:
أنّ للحكم مقامين: مقام الجعل، وهو جعل الحكم الكلّيّ على الموضوع الكلّيّ، ومقام المجعول، وهو الحكم الفعليّ الحاصل بحصول موضوعه بأجزائه وقيوده. والشكّ في بقاء الحكم بلحاظ مقام الجعل والفعليّة في الحكم التعليقيّ غير متصوّر؛ لأنّ المفروض عدم كون الحكم فعليّاً؛ لعدم تحقّق كلا جزأي الموضوع، فليس ثمّة يقين بالحدوث، وليس للحكم التعليقيّ مقام آخر يتصوّر جريان الاستصحاب بلحاظه.
وبالجملة: فإنّ ما له ثبوت فعليّ، وهو الجعل، لا شكّ فيه، وما هو مورد الشكّ، وهو المجعول، فلا يقين بحدوثه( ).
والحقّ ما ذكره؛ لأنّ الكلام تارةً في مقام الجعل، وهو الحكم المنشأ على الموضوع الكلّيّ، فهذا لا يرتبط بفرض وجود الموضوع أصلاً، وهو ممّا لا شكّ في بقائه، وجد العنب أم لا، وأُخرى في مقام الفعليّة، وهو الحكم الفعليّ الذي ثبت عند وجود موضوعه بشرائطه، وهو ممّا لا يقين هناك بحدوثه قبل تعليق المعلّق، فلا يكون قابلاً للاستصحاب.
وقد وافق المحقّق العراقي ـ أيضاً ـ على إنكار جريان الاستصحاب المذكور، ولكنّه قرّبه بشكل آخر، ملخّصه:
أنّ حقيقة الحكم التكليفيّ ليست إلّا الإرادة والكراهة المبرزة والمظهرة، فهو ليس بأمر مجعول، كالأحكام الوضعيّة، وإنّما هو أمر واقعيّ تكوينيّ يترتّب عليه الأثر العقليّ والعقلائيّ عند إبرازه.
وهذا نصّ كلامه:
<حقيقة الأحكام التكليفيّة المستفادة من الخطابات الشرعيّة ليست إلّا الإرادة التشريعيّة المبرزة بأحد مظهراتها، من القول أو الفعل، وأنّ عنوان مثل البعث والتحريك والإيجاب والوجوب ونحوها من العناوين، اعتباريّات محضة منتزعة من مقام إبراز الإرادة، حيث إنّه بإبراز المولى إرادة شيء واشتياقه إليه بإخبارٍ أو إنشاء من قولٍ أو فعل، ينتزع العقل من إرادته المبرزة منه عنوان البعث والوجوب واللّزوم، كلّ باعتبارٍ خاصّ، لا أنّها هي الأحكام التكليفيّة المستفادة من الخطابات، ولذا ترى صحّة انتزاع تلك العناوين بمحض وصول إرادة المولى إلى مقام البروز بإنشائه أو إخباره، ولم يخطر ببال المولى التسبّب بإنشائه إلى تحقّق تلك العناوين.
وبذلك قلنا: إنّ الأحكام التكليفيّة بحقيقتها، التي هي الإرادة التشريعيّة المظهرة بأحد مظهراتها، أجنبيّة بجميع مباديها عن الجعليّات المتصوّرة في باب الأوضاع؛ لأنّ الحقائق الجعليّة عبارة عن اُمور اعتباريّة قوام تحقّقها في الوعاء المناسب لها بالإنشاء والقصد، بحيث كان الإنشاء والقصد من قبيل الجزء الأخير من العلّة التامّة لتحقّقها، نظير الملكيّة والزوجيّة ونحوهما؛ فإنّ روح الجعل فيها عبارة عن تكوين حقائقها بالإنشاء والقصد بحيث لولا قصد التسبّب بإنشائها إلى تحقّقها في الوعاء المناسب لها لما كان لها تحقّق أصلاً، فكان الجعل والإنشاء فيها واسطة بينها وبين إرادتها.
وهذا المعنى غير متصوّر في الأحكام التكليفيّة، لا بالنسبة إلى نفس الإرادة؛ لأنّها أمر واقعيّ تدور في تحقّقها مدار تحقّق مباديها، من العلم بالمصلحة والعزم والجزم، ولا بالنسبة إلى حيث إبرازها بإنشاء أو إخبار؛ لكونها من الاُمور المتأصّلة الخارجيّة، ومن مقولة الفعل، فلم يبق إلّا مرحلة البعث والتحريك والوجوب، وقد عرفت أنّ هذه اُمور اعتباريّة انتزاعيّة ينتزعها العقل من مجرّد إبراز الإرادة من المولى، فلا ترتبط بالحقائق الجعليّة>( ).
ولكنّ ما ذكره غير تامّ؛ لأنّ الحكم ليس هو مجرّد حصول الإرادة للمولى، بل المولى يقوم بجعل الحكم واعتباره، وبعد الجعل يصبح له وجود واقعيّ في ظرفه.
وأمّا المحقّق الأصفهانيّ، فقد اختار القول التفصيل في إجراء الاستصحاب في الحكم الإنشائيّ بين ما إذا كان الشرط، كالغليان، قيداً للموضوع، بحيث كان الموضوع هو العنب المغليّ، فلم يُلحظ في الموضوع إلّا تقدير واحد، وهو تقدير العنب المغليّ، وبين ما إذا كان شرطاً للحكم، لا من قيود الموضوع، بحيث كان الموضوع هو العنب.
فهنا تقديران: أحدهما: تقدير العنب، والثاني: تقدير الغليان. فعلى الأوّل: لا يجري الاستصحاب؛ لعدم ثبوت الحكم لذات العنب قبل الغليان؛ لأنّه مضاف إلى العنب المغليّ، والعنب ليس محكوماً بالحرمة الإنشائيّة ولا الفعليّة. وأمّا على التقدير الثاني، فيجري؛ لأنّ الحكم ثابت لذات العنب ومضاف إليه، وإن اُخذ الغليان شرطاً له، لكنّه مضاف إلى ذات العنب، لا إلى العنب المغليّ، فيقال ـ مثلاً ـ: يحرم العنب إذا وجد وإذا غلا، فقد جُعلت الحرمة مضافةً إلى ذاته، فمع وجوده تثبت له الحرمة، فيمكن استصحابها عند تبدّل الوصف ـ مثلاً ـ إلى الزبيبيّة.
قال:
<إن كان الوجوب الشرطيّ التعليقيّ ـ أو الحرمة كذلك ـ مرتّباً على الموضوع المتقيّد بما يسمّى شرطاً، كما إذا قلنا بأنّ مرجع قوله: (يحرم العصير العنبيّ إذا غلا) إلى حرمة العصير المغليّ، وأنّ تعليقها باعتبار ترتّبها على موضوع مقدّر الوجود، وأنّ فعليّتها بفعليّة موضوعها، فحينئذٍ: لا مجال لاستصحاب الحرمة المعلّقة، حيث لا شكّ في عدم ارتفاع الحرمة الكلّيّة عن موضوعها؛ إذ ليس الكلام في نسخها، بل الكلام في ارتفاع الحرمة الفعليّة بفعليّة موضوعها.
ومن الواضح: أنّه قبل تبدّل العنبيّة إلى الزبيبيّة، لم يكن الموضوع وهو العصير المغليّ فعليّاً لتكون له حرمة فعليّة فيستصحب، وبعد التبدّل وحصول الغليان، يشكّ في حرمته فعلاً...>
إلى أن قال:
<وإن كان الحكم التعليقيّ حكماً معلّقاً على الشرط حقيقةً، زيادةً على تعليقه على موضوعه المقدّر وجوده، فموضوع الحرمة هو العصير في حالة العنبيّة، والغليان شرط للحكم، لا جزء الموضوع، والحكم المشروط، وإن لم يكن فعليّاً قبل حصول شرطه، كما هو التحقيق، إلّا أنّ الشكّ ليس في بقاء الحكم الإنشائيّ الكلّيّ لموضوعه الكلّيّ، بل الحكم الإنشائيّ المنطبق على هذا الموضوع الجزئيّ، وإن كانت فعليّته منوطةً شرعاً بوجود شرط فعليّته>. انتهى موضع الحاجة( ).
وما أفاده ـ أيضاً ـ غير تامّ؛ لأنّ الحكم الإنشائيّ لم يرد على الفرد الخارجيّ، بل إنّما ورد على الطبيعة والكلّيّ، وهو لا يضاف إلى الفرد الخارجيّ إلّا باعتبار كونه مصداقاً من مصاديق الكلّيّ.
ولا يخفى: أنّ القضايا الخارجيّة لابدّ فيها من وجود موضوعها خارجاً، ولا فعليّة للحكم إذا كان مجعولاً على نهج القضايا الخارجيّة قبل وجود موضوعه خارجاً، وأمّا القضايا الحقيقيّة، فحيث إنّ الحكم فيها لا يرد إلّا على الموضوع المفروض الوجود، سواء كان موجوداً ومتحقّقاً بالفعل، أم كان سيوجد، وسواء قُدِّر له أن يوجد في الخارج أم لم يقدّر له ذلك أصلاً، وبما أنّ تمام الموضوع في هذه القضايا إنّما هو تقدير وجود الموضوع، بلا دخل في ذلك ـ أصلاً ـ لوجوده خارجاً وتحقّقه فعلاً، بل ما يتقوّم به فعليّة الحكم في القضايا الحقيقيّة ليس إلّا أن يفرض الوجود له، ولمّا كانت القضايا الشرعيّة ـ كما هو معروف ـ من سنخ القضايا الحقيقيّة، لا الخارجيّة، فتكون الحرمة للعصير العنبيّ ـ مثلاً ـ فعليّةً بمجرّد فرض الوجود له، ولا تتوقّف على وجوده خارجاً، فيكون المستصحب هو هذه الحرمة نفسها بعد فرض تبدّل حالةٍ من حالات الموضوع.
بل يمكن أن يقال: بأنّ الحكم الشرعيّ تابع للحكم العقليّ في مقام الإثبات، وأمّا في مقام الثبوت، فلا، وإنّما يحتمل أن يكون تابعاً لمناطه فقط.
بل يمكن أن يقال: إنه لا يكون تابعاً لمناطه ـ أيضاً ـ، بل حتى لو فرضا انتفاء مناط الحكم العقليّ عند انتفاء قيد من قيوده، ممّا هو دخيل في موضوع حكم العقل، فإنّ ما هو مناط حكم الشرع يحتمل أن يكون موجوداً، وليس من الضروريّ أن يكون مفقوداً بالتبع. ولا يخفى: أنّ هذا الاحتمال يكون ملازماً لاحتمال بقاء الحكم الشرعيّ، بعدما كان قاطعاً بحدوثه في الزمان المتقدّم، أي: قبل انتفاء هذا القيد، فيجري الاستصحاب حينئذٍ؛ لتماميّة أركانه.
اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّه بعد فقدان القيد يشكّ في أصل بقاء الموضوع، فلا يجري الاستصحاب؛ لأنّ الموضوع لابدّ أن يكون معلوماً في كلتا الحالتين.

التنبيه الرابع :في استصحاب أحكام الشرائع السابقة:
وأنّه هل يجري أم لا؟
وقد أُورد على جريانه ـ بعد الاعتراف بجريان استصحاب عدم النسخ في أحكام شريعتنا المقدّسة ـ باعتراضين:
الاعتراض الأوّل: دعوى اختلاف الموضوع، فإنّ من لا يُجري استصحاب عدم النسخ بالنسبة إلى أحكام الشرائع السابقة قد تصوّر أنّ الموضوع لم يكن موجوداً في كلتا الحالتين، نتيجةً لتخيّله بأنّ الأحكام الشرعيّة قد وردت على نحو القضايا الخارجيّة، فإنّ المكلّفين بأحكام كلّ شريعة إنّما هم من أدركوا تلك الشريعة.
ونحن نرى أنّ المدركين للشرائع السابقة قد انقرضوا وماتوا، فلا يعقل ـ والحال هذه ـ جريان الاستصحاب في حقّ من أدرك هذه الشريعة ولم يدرك الشرائع السابقة.
وقد أجاب الشيخ الأعظم عن هذا الاعتراض بأنّا نفرض كون الشخص مدركاً للشريعتين، فيجري في حقّه استصحاب عدم النسخ.
قال: <أنّا نفرض الشخص الواحد مُدركاً للشريعتين، فإذا حرم في حقّه شيء سابقاً، وشكّ في بقاء الحرمة في الشريعة اللّاحقة، فلا مانع عن الاستصحاب أصلاً؛ فإنّ الشريعة اللّاحقة لا تحدث عند انقراض أهل الشريعة الأُولى>( ).
ولكنّ هذا الجواب، كما لا يخفى، غير تامّ؛ لأنّه لا أثر له بالنسبة إلى من لم يدرك الشريعة السابقة.
فالصحيح في ردّ هذا الاعتراض أن يقال:
إنّه إنّما يتوجّه على تقدير جعل الأحكام على نهج القضايا الخارجيّة، بحيث يكون الحكم منصبّاً على الأفراد الموجودة في الخارج، فحينئذٍ: يرد الإشكال بالنسبة إلى أهل هذه الشريعة، حيث إنّهم لم يكونوا موجودين في ذلك الزمان. وأمّا لو كانت الأحكام مجعولةً على نهج القضايا الحقيقيّة، بحيث يكون الحكم وارداً على الطبيعة المقدّرة وجوداتها في الخارج على نحو السريان، فإنّه لا فرق ـ حينئذٍ ـ بين الموجودين في ذلك الزمان وبين الموجودين في شيءٍ من الأزمنة المتأخّرة.
الاعتراض الثاني: هو العلم بنسخ الشرائع السابقة، ومع هذا كيف يمكن جريان استصحاب بقاء الشرائع السابقة؟
ولكن يُجاب عن هذا: أنّه إن كان المستشكل يدّعي نسخ جميع الأحكام السابقة، فالعلم به ممنوع، وإن كان مراده العلم الإجماليّ بنسخ جملة من الأحكام دون جميع ما كان من الشرائع السابقة، فنقول: بانحلال هذا العلم الإجماليّ بواسطة الظفر بمقدار المعلوم بالإجمال من الأحكام المنسوخة التي يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها.
وردّه المحقّق النائيني بقوله:
<فيه: أنّ العلم الإجماليّ بنسخ جملة من الأحكام التي كانت في الشرائع السابقة ينحلّ بالظفر بمقدار من الأحكام المنسوخة التي يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها، فتكون الشبهة فيما عدا ذلك بدويّةً، ويجري فيها الأصل بلا مزاحم>( ).
وحاصله: أنّ صرف بقاء أحكام تلك الشرائع السابقة بواسطة الاستصحاب غير مفيد، بل تحتاج حجّيّتها إلى إمضاء من قبل الشارع. كما يرشد إلى ذلك قول النبيّ الأعظم في خطبة حجّة الوداع:
<ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد أمرتكم به، وما من شيء يقرّبكم من النّار ويباعدكم من الجنّة إلّا وقد نهيتكم عنه، حتى الخدش بالأظفار>( ).
فإنّه يظهر من هذه الخطبة الشريفة أنّه لم يهمل بيان شيءٍ من الأحكام الشرعيّة، بل بيّن حكم كلّ فعل، وحكم كلّ موضوع، وحينئذٍ: فبعد الفحص والتفتيش عن الأدلّة في مظانّها، يجد دليلاً على كلّ حكمٍ لأيّ فعل من الأفعال أو لكلّ موضوع ذي حكم، ويثبت بكلّ دليلٍ يجده على ذلك واحد من الأحكام الوضعيّة أو التكليفيّة.
ومعه: فلا حاجة له إلى الاستصحاب إن استطاع أن يجد دليلاً موافقاً له في مفاده ومضمونه، وإن لم يستطع أن يجد دليلاً، فلا يجب العمل به؛ لعدم إمضائه من قبل الشارع.
ولكنّ الحقّ: أنّه بعد أن عرفنا أنّ الأحكام واردة ومجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة، بمعنى: أنّ كلّ ما كان له دخل وجوداً أو عدماً في صيرورة الشيء ذا مصلحة، أو كان دخيلاً في وجود المصلحة بعد كونه ذا مصلحة، فإنّه يؤخذ في موضوع التكليف، بكلا معنييه، أعني: المكلّف ومتعلّق المتعلّق للتكليف، بل وكذلك في نفس متعلّق التكليف، والذي هو عبارة عن فعل المكلّف.
فالحكم الشرعيّ إنّما يرد على ما هو مجمع للقيود، وما توفّرت فيه كافّة العناوين التي ثبت لها دخل في الملاك والمصلحة، حتى لو فُرض أنّه كان لوجود المكلّف في زمان كذا، أو من اُمّة كذا، مدخليّة في الملاك والمصلحة، فإنّه يؤخذ قيداً للموضوع، فيكون من المستحيل ـ حينئذٍ ـ أن يوجد مثل مجمع القيود هذا ثمّ يتخلّف عنه الحكم الشرعيّ، ولا يكون ممضىً من قبل الشارع. وأمّا احتمال وجود النسخ، فيصار إلى دفعه ببركة الاستصحاب.
هذا من جهة.
ومن جهةٍ أُخرى، فإنّ دليل الاستصحاب الوارد في هذه الشريعة ـ هو نفسه ـ يكون دليلاً على الإمضاء بالنسبة إلى الأحكام السابقة الثابتة به؛ وذلك لأنّ الاستصحاب، سواء كان في الأحكام أم في الموضوعات، ما هو إلّا حكم ظاهريّ مجعول من قبل الشارع، شأنه في ذلك شأن سائر الأحكام الظاهريّة، فإبقاء الأحكام الموجودة في الشرائع السابقة عند احتمال نسخها ببركة الاستصحاب من مجعولات هذه الشريعة وأحكامها، فتكون ـ لا محالة ـ ممضاة من قبل الشارع.

الاستصحاب في نفس النبوّة:
وأمّا استصحاب النبوّة نفسها، فهل يجري أم لا؟
لا يخفى: أنّ الاستصحاب في الموضوع لابدّ أن يكون ذا أثر شرعيّ، فيتوقّف القول بجريان الاستصحاب في النبوّة على إحراز الأثر الشرعيّ. فنقول:
اعلم أنّ للنبوّة المستصحبة وجوهاً واحتمالات ثلاثة:
الاحتمال الأوّل:
أنّ يراد بالنبوّة تلك الصفة الكماليّة التكوينيّة التي محلّها النفس، وتكون موجبة للتمكّن من الاستيلاء على التصرّف في الأنفس والآفاق، والفوز بمنصب الرئاسة العامّة الإلهيّة، وهو منصب شامخ يكون موجباً لتلقّي المعارف الإلهيّة من المبدأ الأعلى بلا توسّط بشر.
ولا يخفى: أنّه إن أُريد هذا الاحتمال، فيجب القول بعدم جريان الاستصحاب، وذلك من ناحيتين:
الناحية الاُولى:
أنّ الاستصحاب إنّما يمكن جريانه ـ كما تقدّم ـ على تقدير وجود الشكّ في البقاء، وهو هنا مختلّ؛ فإنّ الشكّ في بقاء النبوّة بمعنى: تلك المرتبة القدسيّة لا يكون إلّا لواحدةٍ من جهات ثلاث: إمّا انحطاط نفسه القدسيّة، وإمّا لأجل الموت، وإمّا لأجل مجيء نبيّ آخر، والكلّ لا يكون مجوّزاً لجريان الاستصحاب.
أمّا الأوّل: وهو الانحطاط، فهو إنّما يتصوّر في الملكات الحاصلة للنفس بالكسب، بأن تتحلّى النفس وتتخلّق بفضائل الأخلاق بفعل المجاهدة والترويض لها، كملكة العدالة والجود والإيثار، فيحصل الضعف فيها، بل قد تزول بسبب تسويلات النفس الأمّارة بالسوء. ولكن بما أنّ لملكة النبوّة درجة التحقّق ووصولها من مرتبة القوّة والاستعداد إلى مرتبة الفعليّة المستلزمة لمقام الوحي، فلا محالة: لا يكون لانحطاطها معنى إلّا الانقلاب من الفعل إلى القوّة، وهو مستحيل عادة.
وأمّا الثاني: وهو أن تزول النبوّة بواسطة الموت، فلأنّ الموت لا يوجب زوال الملكات الراسخة المكتسبة، فضلاً عن هذه الملكة الشامخة، كيف؟! والدنيا دار ممرّ، والآخرة دار المقرّ، وهي مزرعة الآخرة، والانتقال من هذا العالم إنّما يكون انتقالاً من عالم أدنى إلى عالم أعلى، فكيف ـ والحال هذه ـ يعقل زوالها بالموت؟ وكيف يعقل أن تنقلب النفوس العالية وأن تتحوّل بالموت إلى نفوس سافلة، مع أنّ الموت لو لم يكن موجباً لقوّة المشاهدة، فهو على الأقلّ لا يكون سبباً لإضعافها.
وأمّا الثالث: وهو الشكّ في البقاء لمجيء نبيٍّ آخر لاحق للسابق، ولو فرض أنّه كان أكمل من سابقه، فإنّ زيادة كمال شخص لماذا يجب أن تكون سبباً لرفع وزوال كمال شخص آخر أو نقصه؟
والناحية الثانية:
أنّه على فرض التنزّل والقول بإمكان انحطاط النفس عن تلك المرتبة، فمع ذلك لا يمكن جريان الاستصحاب فيها، وذلك لعدم كونها من المجعولات الشرعيّة، كما هو واضح، كما أنّها ليست موضوعاً لأيّ حكم شرعيّ، ومعلوم أنّ الاستصحاب لا يجري حتى يكون المستصحب حكماً شرعيّاً، أو موضوعاً لحكم شرعيّ.
نعم، يمكن أن يكون هذا الاستصحاب مفيداً في مثل مسألة النذر، فيما لو نذر ﷲ تعالى شيئاً على تقدير بقاء هذه الصفة الكماليّة للنبيّ وعدم انحطاطها.
الاحتمال الثاني:
أن تكون النبوّة من المناصب المجعولة، كولاية الفقيه على الغُيَّب والقصَّر، وولاية الجدّ والأب على الصغير، وكالقضاوة والملكيّة ونحو ذلك من الأحكام الوضعيّة المجعولة.
والنبوّة بهذا المعنى ليست بمعنى كون نفسه المقدّسة محلّاً للمعارف، بل بمعنى أنّه مخبر ومبلّغ من قبله تعالى وسفير مبعوث منه إلى خلقه. فمنصب المخبريّة والسفارة ثابت له حقيقةً؛ لأنّ النبيّ هو الذي ينبئه اﷲ تعالى بمعارفه، وليس مجرّد أمر اعتباريّ.
ولو أبيت، بدعوى أنّ النبوّة ـ بهذا المعنى ـ تكون هي بنفسها مجعولاً شرعيّاً، وليست من الصفات التكوينيّة غير القابلة للاستصحاب، بل هي في حدّ ذاتها تكون قابلة للاستصحاب.
فنقول: مع ذلك، يشكل جريان الاستصحاب فيها ـ حينئذٍ ـ من جهة أُخرى، فإنّ لازم جريان استصحاب النبوّة ـ بعد فرض إمكانه ـ هو ترتّب آثار النبوّة، كوجوب الإطاعة على النبوّة الثابتة بالاستصحاب، كما كانت تترتّب على النبوّة الثابتة بالقطع.
ولكنّ إجراء هذا الاستصحاب يبقى بحاجة إلى دليل، وهو مفقود في المقام، بل هناك مانع من جريانه؛ وذلك لأنّ هذا الاستصحاب:
لو كان دليل حجّيّته هو الشريعة السابقة يلزم الدور؛ لأنّ جريانه فيها متوقّف على ثبوت حجّيّته من غير ناحية بقاء النبوّة؛ إذ لو كان منوطاً ببقائها لزم الدور؛ لأنّ بقاءها متوقّف على الاستصحاب، بحسب الفرض، فلو كان اعتبار الاستصحاب متوقّفاً على بقاء النبوّة، لزم الدور، وهو باطل ممتنع، فكذا يمتنع التمسّك بالاستصحاب لإثبات بقاء النبوّة.
وإن كان دليل حجيّته هو الشريعة اللّاحقة، لم يكن مجدياً في بقاء الشريعة السابقة؛ لأنّ اعتبار الاستصحاب من الشريعة اللّاحقة مستلزم لنسخ الشريعة السابقة، وعدم الشكّ في بقائها أصلاً حتى يجري فيه الاستصحاب.
وإن كان الدليل على حجّيّته هو بناء العقلاء، قلنا: لا يفيد الرجوع إليه إلّا بعد إمضاء الشارع له، فيعود الكلام ـ حينئذٍ ـ فإنّ الذي أمضاه هل هو الشرع السابق أم اللّاحق؟ فإن كان هو السابق لزم الدور، بنفس البيان المتقدّم، وإن كان هو اللّاحق، فذلك مساوق للنسخ وعدم الشكّ في البقاء، وهو خلف وموجب لعدم جريان الاستصحاب.
الاحتمال الثالث:
أن يراد بالنبوّة المستصحبة أحكام شريعةٍ ما يشكّ في كونها منسوخة بواسطة شريعة أُخرى.
وبناءً على هذا الاحتمال فإنّ الاستصحاب يمكن جريانه فيها بلا مانع، وهو راجع ـ حينئذٍ ـ إلى استصحاب عدم النسخ.
ثمّ هل يمكن ـ في المقام ـ إلزام الخصم بواسطة الاستصحاب أم لا؟
فإنّ استصحاب الشرائع السابقة قد يكون لأجل إثبات الدعوى وإقناع النفس وإثبات المعذوريّة في البقاء على الشريعة السابقة، وقد يكون لإلزام الخصم، ودعوة المسلم إلى اليهوديّة ـ مثلاً ـ.
وفي كلا القسمين، فلابدّ أن يتوفّر في الاستصحاب أركان ثلاثة، هي:
أ. اليقين السابق بالثبوت والشكّ اللّاحق بالبقاء.
ب. أن يكون المستصحب أثراً شرعيّ أو موضوعاً له أثر كذلك.
ج. الاعتقاد بحجّيّة الاستصحاب، وقيام الدليل على هذه الحجّيّة.
ومع فقدان هذه الاُمور، أو واحد منها فقط، لا يكون الاستصحاب حجّة، كما لا يخفى.
فلو أُريد بالنبوّة تلك الصفة الكماليّة القائمة بنفس النبيّ المقدّسة، التي من شؤونها تلقّي المعارف الإلهيّة والفيوضات الربانيّة، فإنّ اليقين ببقاء النبوّة موجود قطعاً، فلا يكون هناك شكّ في بقائه أيضاً؛ والشرط الثاني، وهو كون المستصحب أثراً شرعيّاً أو ذا أثر شرعيّ غير متحقّق أيضاً.
وأمّا لو اُريد من النبوّة الشريعة، فإنّه وإن كان وجودها متيقّناً، وبقاؤها مشكوكاً، إلّا إنّه ـ مع ذلك ـ فلا يمكن جريان الاستصحاب؛ لأنّ حجّيّة الاستصحاب في الشريعة السابقة دور، وفي الشريعة اللّاحقة موجبة لنسخ تلك الأحكام. ثمّ بما أنّ الكتابيّ شاكّ في بقاء شريعته، فهو ـ إذاً ـ شاكّ في حجّيّة الاستصحاب، فينتفي الشرط الثالث أيضاً.
ثمّ إنّ هذا الاستصحاب لا يفيد بالنسبة إلى المسلم أيضاً؛ لأنّ له يقيناً بحصول النسخ، فليس شاكّاً في البقاء، فانتفى أحد الأركان الثلاثة.
وبعبارة أُخرى: فإنّ جريان الاستصحاب متوقّف على الشكّ في البقاء، وهو ليس بحاصل عند المسلمين؛ إذ المفروض أنّهم يعتقدون بالارتفاع، حيث كانوا مسلمين.
وكذلك، فإنّ ثبوت نبوّة عيسى ـ مثلاً ـ إنّما ثبتت عندنا وعلمناها من إخبار نبيّنا، فلو استصحبنا النبوّة السابقة يلزم نفي نبوّة نبيّنا، ومعه: ينتفي اليقين بالنبوّة السابقة، فيلزم من وجود الاستصحاب عدمه، وهو محال.
وأيضاً، فحيث قد عرفنا النبوّة السابقة من طريق نبيّنا، بما أنّه نبيّ، فلم يبقَ لدينا شكّ في البقاء أصلاً لكي نستصحب.
وأيضاً، فإنّه لا معنى لاستصحاب النبوّة إلّا وجوب التديّن بما قد جاء به النبيّ السابق؛ إذ لا معنى ولا أثر للاستصحاب إلّا ذلك، وممّا جاء به النبيّ السابق هو التبشير بنبوّة نبيّنا، فنحن ـ إذاً ـ نعلم بثبوت أحكام شرعيّة في الشرائع السابقة، إلّا أنّها مغيّاة بمجيء نبيّنا محمّد ونبوّته الخاتمة.
ويمكن الجواب ـ أيضاً ـ بمضمون ما أجاب به الإمام الرضا للجاثليق، وحاصل الجواب: أنّا نؤمن بكلّ عيسى وموسى بشّرا بنبوّة محمّد، ولا نؤمن بكلّ عيسى وموسى لم يخبرا عن نبوّة نبيّنا( ).
وقد يورد على هذا الجواب في المقام: بأنّ موسى وعيسى ليس كلّيّاً يُعترف ببعض أفراده وتنكر أفراده الأُخرى، بل هو جزئيّ حقيقيّ وشخص معلوم نعترف بنبوّته.
ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّ الإيمان بموسى وعيسى الشخصين إنّما كان من جهة تبشيرهما بنبيّنا، ولا طريق إلى الاعتراف بنبوّتهما إلّا من جهة وجود هذه الخصوصيّة.
وبالجملة: فإنّه لم يحصل لأيٍّ من النصراني والمسلم شكّ في بقاء النبوّة لنبيّه حتى تصل النوبة إلى الاستصحاب. وعلى فرض حصول الشكّ لهما، أو لأحدهما، فلابدّ أن يصار إلى رفع هذا الشكّ عن طريق المجاهدة وتحصيل العلم والمعرفة، ولا يفيد إجراء الاستصحاب؛ لأنّه إنّما يوجب الظنّ، فإنّ معرفة الرسول أو الإمام بما أنّها من اُصول الدين، فلا يكتفى فيها بالظنّ، ولو كان من الظنون المعتبرة، بل يجب فيها تحصيل اليقين.
فإن قلت: فقد لا يحصل له اليقين ويعجز عن تحصيله، فماذا يصنع حينئذٍ؟
قلنا: الطريق إلى ذلك واضح، فمن أراد أن يسعى ويجاهد مجاهدة حقيقيّة، وألقى العصبيّة وتقليد الآباء جانباً، فإنّ اﷲ تعالى يهديه، كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾( ).

التنبيه الخامس :في عدم اعتبار الاُصول المثبتة:
لا يخفى: أنّ هناك فرقاً بين القطع والأمارات من جهة، وبين الأمارات والاُصول من جهة أُخرى، كما أنّ الاُصول ـ أيضاً ـ فيها ما هو تنزيليّ، وفيها ما ليس كذلك.
أمّا القطع فطريقيّته ذاتيّة، ولا يحتاج في حجّيّته إلى جعل من الشارع، بل لا يكون وضعها له ولا رفعها عنه بيد الشارع ـ بما هو شارع ـ أصلاً.
وأمّا الأمارات، فهي وإن كان تمتلك كاشفيّة وطريقيّة، غير أنّ حجّيّتها إنّما تكون بالجعل، ومعنى ثبوت الحجّيّة لها إنّما هو تتميم كاشفيّتها وطريقيّتها في عالم الاعتبار التشريعيّ، أي: أنّ الشارع يجعل ما لها من الكشف الناقص تكويناً كشفاً تاماً تشريعاً.
وقد يقال: كيف يمكن تصوّر ذلك؟ والحال أنّ وضع كشفها التكوينيّ ورفعها لا يكون بيد الشارع بما هو شارع، ولا يمكن للشارع أن يكمل النقص الذي في كاشفيّة الأمارة بجعل كشفاً تامّاً تكويناً؛ فإنّ هذا باطل يقيناً، كما لا يمكن القول بأنّ تتميمه لكاشفيّة الأمارة يكون تتميماً تشريعيّاً؛ إذ حينئذٍ يكون نصف كاشفيّتها تكوينيّاً ونصفها الآخر تشريعيّاً، وهو ـ مضافاً إلى عدم إمكانه ـ على خلاف الوجدان.
ولكن فيه: أنّ المراد من تتميم الكشف تشريعاً هو أنّ هذا الكشف الناقص التكوينيّ يصبح كشفاً تاماً في عالم الاعتبار التشريعيّ.
وأمّا الاُصول العمليّة، فالفرق بين الاُصول التنزيليّة وغيرها ـ بعد أن لم يكن لشيء من الاُصول العمليّة كاشفيّة مطلقاً ـ إنّما يكمن في أنّ معنى الإحراز في الاُصول التنزيليّة هو البناء العمليّ على أحد طرفي الشكّ على أساس أنّه هو الواقع، من دون أن يكون مثبتاً للواقع وكاشفاً عنه.
وأمّا الاُصول غير المحرزة، فهي حكم الشارع بالبناء العمليّ على أحد طرفي الشكّ، ولكن من دون اعتبار أنّ هذا العمل هو عمل الواقع، أو اعتبار اليقين والجري على طبقه، كي يكون العمل على طبق ذلك المحتمل من جهة بلوغه إلى مرتبة الإثبات؛ وذلك لأنّ جعل الحجّيّة والكاشفيّة لا معنى معقولاً له ـ كما عرفنا ـ سوى أنّ الشارع يعتبر هذا الكشف الناقص التكوينيّ كشفاً تامّاً تشريعيّاً، ولا كاشفيّة في الأصل أصلاً، لكي يتأتّى تتميمها من قبل الشارع.
فإذا اتّضح ما بيّنّاه من الفرق بين الأمارات والاُصول، فنقول:
الحقّ في المقام: هو القول بحجّيّة مثبتات الأمارات، دون الاُصول، ولو كانت من الاُصول التنزيليّة.
وقد أفاد صاحب الكفاية في وجه ذلك ما حاصله:
أنّ الأمارات كما تحكي عن مؤدّياتها، فهي كذلك تحكي عن لوازم هذه المؤدّيات، سواء كانت شرعيّة أم عقليّة، وأيضاً: فهي تحكي عن ملزومات المؤدّيات وملازماتها كذلك، شرعيّة كانت أم عقليّة؛ فإنّ مقتضى إطلاق دليل اعتبارها هو أنّها تكون حجّة في جميع هذه الحكايات. وأمّا الاُصول العمليّة، فحتى لو فرضنا أنّها تنزيليّة، إلّا أنّ مفادها ليس إلّا التعبّد بمؤدّياتها، من دون أن يكون فيها حكاية عن شيء أصلاً.
وفي بيان هذا المطلب يقول:
<ثمّ لا يخفى: وضوح الفرق بين الاستصحاب وسائر الاُصول التعبّديّة وبين الطرق والأمارات؛ فإنّ الطريق أو الأمارة حيث إنّه كما يحكي عن المؤدّى ويشير إليه، كذا يحكي عن أطرافه، من ملزومه ولوازمه وملازماته ويشير إليها، كان مقتضى إطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها، وقضيّته: حجّيّة المثبت منها، كما لا يخفى.
بخلاف مثل دليل الاستصحاب، فإنّه لا بدّ من الاقتصار ممّا فيه من الدلالة على التعبّد بثبوته، ولا دلالة له إلّا على التعبّد بثبوت المشكوك بلحاظ أثره، حسبما عرفت، فلا دلالة له على اعتبار المثبت منه، كسائر الاُصول التعبّديّة...>( ).
وخلاصة ما أفاده من الفرق بين الاُصول والأمارات: هو أنّه في باب الأمارات والحجج الشرعيّة، فبعد أن أصبحت الأمارة بمنزلة العلم، يكون هناك ملازمة بين إثباتها للشيء وبين إثباتها للوازمه وملزوماته وملازماته، بلا فرق بين أن تكون عقليّة أو عاديّة أو شرعيّة، وسواء كانت طرقاً إلى الأحكام الإلهيّة، كأخبار الآحاد، أم أمارات على الموضوعات، كما إذا قامت البيّنة على موضوع خارجيّ، كغروب الشمس. فللأمارات ـ إذاً ـ جهتان:
الأُولى: كشفها عن مدلولها؛ لأنّ شأن كلّ أمارة أن تكشف عن مؤدّاها، وهذا الكشف، وإن كان ناقصاً، ولكنّه قد أصبح تامّاً ببركة الجعل الشرعيّ، والكشف عن الشيء كشف عمّا يلازمه من الاُمور التي لا تنفكّ عنه، كالملزومات واللّوازم والملازمات، تبعاً لدلالته على معناه المطابقيّ.
والثانية: إطلاق دليل الحجّيّة الثابت بمقدّمات الحكمة، فيكون دالّاً على حجّيّة الطرق والأمارات في جميع ما لها من الدلالة المطابقيّة والتضمّنيّة والالتزاميّة، من دون تفاوت بينها.
وهذا بخلاف أدلّة الاستصحاب وغيره من الاُصول العمليّة؛ فإنّها لا دلالة لها بوجه على الملزوم، فضلاً عن اللّازم، حتى يدلّ دليل الاعتبار على حجّيّته، كدلالته على حجّيّة الملزوم؛ فدليل اعتبار الأصل لا يقتضي إلّا التعبّد بنفس المشكوك بترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على نفسه، دون تلك التي تترتّب على لوازمه وملزومه وملازماته.
فمثلاً: استصحاب بقاء حياة زيد لا يقتضي إلّا التعبّد بالآثار الشرعيّة الثابتة لحياته الواقعيّة، دون الآثار الشرعيّة التي تترتّب على لوازمها، كنبات اللّحية؛ إذ لم يدلّ على لوازم الحياة شيء حتى يتأتّى أن نقول بأنّ لدلالته هذه حجّيّة فيجب الأخذ بها.
وبالجملة: فالجهة الاُولى من الجهتين المذكورتين، وهي الكشف عن اللّوازم، موجودة في الطرق والأمارات، ولكنّها مفقودة في الاُصول، وهو ما أوجب القول بحجّيّة مثبتات الأمارات دون الاُصول. فما يترتّب على الأصل ـ إذاً ـ إنّما هو الأثر المترتّب على نفس المشكوك بلا واسطة.
واعترض عليه المحقّق النائيني بأنّ ما ذكره من حكاية الأمارات عن مؤدّياتها ولوازم مؤدّياتها وملزوماتها وملازماتها ممّا لا أساس له من الصحّة؛ لأنّ الحكاية عن شيء إنّما هي فرع الالتفات إلى ذلك الشيء وقصده، ولا شكّ في أنّ المخبر ـ غالباً ـ غافل عن لوازم ما أخبر به وعن ملزوماته وملازماته، ومع الغفلة عن ذلك، فكيف يمكن أن يدّعى أنّ البيّنة أو الخبر الموثوق الصدور ـ مثلاً ـ تحكي عن لوازم مؤدّياتها وملازماتها وملزوماتها؟!
ونصّ كلامه كالآتي:
<بيان ذلك: هو أنّ الأمارة إنّما تحكي عن نفس المؤدّى، ولا تحكي عن لوازم المؤدّى وملزوماته الشرعيّة بما لها من الوسائط العقليّة أو العاديّة؛ فإنّ البيّنة أو الخبر الواحد إنّما يقوم على حياة زيد أو موت عمرو، فهو إنّما يحكي عن نفس الحياة والموت، ولا يحكي عن نبات اللّحية وما يستتبعه من الآثار الشرعيّة أو العقليّة والعاديّة، بداهة أنّ المخبر بالحياة ربّما لا يلتفت إلى نبات اللّحية، فضلاً عمّا يستتبعه، والحكاية عن الشيء فرع الالتفات إليه، فليس الوجه في اعتبار مثبتات الأمارة كونها حاكيةً عن لوازم المؤدّى وملزوماته...>، انتهى موضع الحاجة( ).
ولكن فيه: أنّ الخبر له دلالات ثلاث: مطابقيّة والتزاميّة وتضمّنيّة، والخبر الثقة يحكي بالدلالة المطابقيّة عن نفس المؤدّى، وبالدلالة الالتزاميّة عن لوازمه العاديّة والعقليّة والشرعيّة، بل الأمر كذلك ـ أيضاً ـ بالنسبة إلى ملزوماته وملازماته، فإنّ الأخبار عن وجود العلّة إخبار عن وجود المعلول، وكذلك العكس، فالإخبار عن طلوع الشمس ـ مثلاً ـ إخبار عن وجود النهار، وكذلك العكس، كما أنّ الإخبار عن الشيء إخبار عن ملازماته، فلو أخبر عن طلوع الشمس ـ مثلاً ـ فقد أخبر عن إضاءتها للعالَم، الذي هو لازم طلوع الشمس.
وكذلك لو أخبر بوجود النهار، فإنّه إخبار بطلوع الشمس أيضاً، الذي هو ملزومه.
ولو أخبر باستقبال زيد ـ مثلاً ـ للقبلة في أواسط العراق، فهو إخبار عن أنّه قد استدبر الجدي هناك.
فلا ينبغي أن ينكر: بأنّ خبر الثقة كما أنّه يحكي عن مدلوله المطابقي، فكذلك هو يحكي ويخبر عن مدلوله الالتزاميّ، وهي لوازمه العقليّة والشرعيّة والعاديّة، وكما أنّ أدلّة حجّيّة الظواهر تكون شاملةً للمدلول المطابقيّ فكذلك هي تكون شاملة للمدلول الالتزاميّ أيضاً.
وخلاصة البحث: أنّ الفرق الصحيح بين الأمارات والاُصول هو ما ذكرناه من أنّ المجعول في باب الأمارات هو الطريقيّة بنحو الواسطة في الإثبات، ولو كان من جهة إمضاء ما عند العقلاء، حيث كانوا يبنون على طريقيّة الأمارة، فحكم الأمارات التي تثبت حجّيّتها من الشارع بتتميم الكشف هو حكم الأمارات العقلائيّة، فكما أنّ الأمارات العقلائيّة تثبت مؤدّياتها ولوازمها العقليّة والعاديّة لتلك المؤدّيات وملزوماتها وملازماتها، فكذلك الأمارات الشرعيّة، تثبت جميع ذلك؛ لأنّ إثبات العلّة ـ كما أشرنا ـ إثبات للمعلول، وإثبات اللّازم إثبات للملزوم، وكذا العكس.
وبالجملة: فإنّ حال الأمارات هو حال العلم الوجدانيّ، فكما أنّه إذا تعلّق بشيء فإنّه يُثبت ذلك الشيء نفسه، مع جميع لوازمه العقليّة والعاديّة والشرعيّة، فكذلك الطريق المجعول، فإنّه علم ـ أيضاً ـ، غاية الأمر: أنّه علم تعبّديّ.
ويتفرّع على ذلك: أنّ مثبتيّة العلم الوجداني ذاتيّة وليست قابلة للجعل، وأمّا مثبتيّة الأمارات الشرعيّة فليست كذلك، بل هي مجعولة شرعاً، إمّا إمضاءً، كما هو الغالب، وإمّا إحداثاً، كما ربما يتّفق.
ولا يخفى: أنّ هذا الفرق المذكور بين العلم الوجدانيّ وبين الأمارات، لا يشكّل مائزاً بينهما فيما هو محلّ البحث، وما نحن بصدده؛ لأنّه بعد الفراغ عن حجّيّة الأمارة وكونها كاشفاً وطريقاً ومثبتاً، وبعد أن أثبتت مؤدّاها وكشفته، فقهراً هي تكشف عن لوازمه وملزوماته وملازماته؛ لمكان الملازمة القائمة بين ثبوت الشيء وانكشافه وبين انكشاف لوازمه وملزوماته وملازماته.
وإن شئت فقل: إنّ حال الأمارات من هذه الجهة هو عينه حال العلم، ولو كان هناك من فرق بينهما، فإنّما هو من جهة أنّ الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات ذاتيّة في الأوّل، دون الثاني، بل هي فيه بجعل من الجاعل، ولكنّه بعد تحقّق هذا الجعل وتماميّته، يصبح كالعلم والقطع تماماً وبلا فرق.
ولك أن تقول: للحجّيّة قسمان:
أ. قسم تكوينيّ، لا يحتاج في إثباته إلى الجعل والاعتبار، بل يكون ثبوته ذاتيّاً، بل لا يمكن إثباته بالجعل والاعتبار؛ لأنّه بعد كونه ذاتيّاً، كان ثابتاً، فإرادة إثباته ببركة الجعل ما هو إلّا من باب تحصيل الحاصل.
ب. وقسم اعتباريّ، فيحتاج إلى الجعل والاعتبار، ممّن بيده الجعل والاعتبار، ولكنّه بعد الجعل يصبح مصداقاً حقيقيّاً واقعيّاً لما هو الحجّة في عالم الجعل والاعتبار، ويكون وعاؤه الواقع.
ولا يقال: أنّ الحجّيّة والكاشفيّة عن اللّوازم والملزومات والملازمات إنّما يكون في الانكشاف التكوينيّ، بمعنى: أنّ عدم احتمال الخلاف ملازم لانكشاف هذه الاُمور، وأمّا الكشف التعبّديّ، فالأمر فيه ليس على هذه الشاكلة؛ لأنّ باب احتمال الخلاف لا ينسدّ وجداناً، غاية الأمر: أنّه يجب عليه إلقاء احتمال الخلاف تعبّداً؛ لأنّ معنى الحجّيّة المجعولة والوسطيّة في الإثبات هو ادّعاء أنّه كذلك، وادّعاء ثبوت مؤدّياتها.
وإلّا، فإنّ إيجاد صفة تكوينيّة بالجعل الاعتباريّ غير معقول، فيكون حالها حال سائر التنزيلات، فلابدّ وأن يكون بلحاظ ترتيب آثار المنزّل عليه، وأن يكون له آثار شرعيّة حتى يكون أمر وضعها ورفعها بيد الشارع، حتى يصحّ أن يكون التنزيل بذلك اللّحاظ، فإذا كان لمؤدّى الأمارة شيء من الآثار شرعيّة، التي رفعها ووضعها بيد الشارع، فإذا كان لمؤدّى الأمارة أثر شرعيّ يترتّب على مؤدّاها، وإن كان غير محرز بصرف قيام الأمارة عليه، وهذا هو معنى التنزيل، فيكون حال الأمارة من هذه الجهة حال الاُصول؛ فإنّ دليل اعتبارها يدلّ على العمل على طبق مؤدّياتها، ولا تعرّض لها أصلاً إلى لوازمها وملازماتها وملزوماتها.
ومعنى التعبّد بالعمل على طبق مؤدّياتها: ترتيب الآثار العقليّة والعاديّة التي لها، أو الشرعيّة التي لا تكون بواسطة أثر عقليّ عليها، وأمّا الآثار العقليّة والعاديّة التي تكون لها بواسطة أحد هذين الأمرين، فلا، لأنّها خارجة عن دائرة التعبّد بها.
فإنّه يقال: ليس معنى حجّيّة الأمارة ثبوت مؤدّياتها حتى يرجع إلى تنزيل مؤدّاها منزلة الواقع، بل المقصود ـ ما عرفناه ـ: من أنّ لهذا المفهوم، أعني: مفهوم الحجّة، قسمين من المصداق:
قسم تكوينيّ لا يحتاج إلى اعتبار الحجّيّة، كالقطع، بل لا يمكن فيه جعل الحجّيّة واعتبارها، لمنع تحصيل الحاصل.
وقسم اعتباريّ، يحتاج إلى الجعل، واعتبار من بيده الاعتبار، فبعد جعل الحجّيّة يكون حاله حال التكوينيّ، ويصبح مصداقاً حقيقيّاً واقعيّاً للحجّة والطريق والمثبت.
وهذا له نظير، وهو مفهوم المال، فإنّ له مصداقين ـ أيضاً ـ: قسم يقال له: المال، بدون جعل الماليّة له. وقسم آخر لا يصدق عليه المال إلّا بعد صدور الاعتبار بماليّته، كالأوراق النقديّة، أي: بعد اعتبار الماليّة من قبل من بيده الاعتبار، يصبح مالاً.
وحجّيّة الأمارات من هذا القبيل، فبعد اعتبار الحجّيّة لها، يكون حالها في إثبات المتعلّق حال الحجّة التكوينيّة، وكذلك الحجّة عند العقلاء إذا اعتبروا حجّيّة شيء، يقولون بعد ورود الاعتبار على ذلك الشيء: قد ثبت ذلك الشيء، لا أنّهم يرتّبون آثار ذلك الأمر عليه تعبّداً وبادّعاء وجوده، بل يرون وجوده ثابتاً، كما إذا علموا أو قطعوا بوجوده أيضاً، تكون جميع آثاره وملازماته ولوازمه وملزوماته حجّة، كنفس المؤدّى.
وأمّا الشيخ الأنصاريّ فالظاهر من كلامه هو التفصيل بين ما إذا كانت الواسطة خفيّة أو جليّة، فحكم بحجّيّة مثبتات الأوّل دون الثاني، قال:
<نعم، هنا شيء، وهو أنّ بعض الموضوعات الخارجيّة المتوسّطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعيّ، من الوسائط الخفيّة، بحيث يُعَدّ في العرف الأحكام الشرعيّة المترتّبة عليها أحكاماً لنفس المستصحب، وهذا المعنى يختلف وضوحاً وخفاءً باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن أنظار العرف>( ).
ومحصّل ما أفاده: أنّ هناك فرقاً بين الواسطة الخفيّة والجليّة، فإنّ الواسطة إذا كانت في غاية الخفاء، بحيث يعدّ أثرها أثراً لنفس المستصحب عرفاً بلا واسطة، كاستصحاب رطوبة الثوب الذي ألقته الريح أو غيرها على أرض متنجّسة جافّة، فإنّ نجاسة الثوب ليست أثراً بلا واسطة لرطوبة الثوب الملاقي للأرض، بل هي أثر لسراية النجاسة من المتنجّس إلى ملاقيه بواسطة الرطوبة، والسراية واسطة عقليّة بين المستصحب، وهي الرطوبة، وبين النجاسة، التي هي أثر السراية، ولكنّه مع ذلك يترتّب نجاسته باستصحاب بقاء رطوبة الثوب الملاقي للأرض المتنجّسة، بدعوى خفاء الواسطة، وهي السراية، بحيث يرى العرف نجاسة الثوب من آثار ملاقاته مع الرطوبة للأرض، لا من آثار السراية، فإذا كانت النجاسة من آثار المستصحب عرفاً، فلا محالة يشملها دليل الاستصحاب؛ لأنّ نظر العرف هو المتّبع في مقام الاستظهار.
وردّه المحقّق النائيني بقوله:
<لا أثر لخفاء الواسطة، فضلاً عن جلائها، فإنّه: إن كان الأثر أثراً لذي الواسطة حقيقةً بحسب ما ارتكز عند العرف من مناسبة الحكم أو الموضوع ـ وإن احتمل ثبوتاً أن يكون للواسطة دخل في ترتّب الأثر على مؤدّى الأصل ـ فهذا لا يرجع إلى التفصيل في عدم اعتبار الأصل المثبت، فإنّه لم يتخلّل حقيقةً بين مؤدّى الأصل والأثر الشرعيّ واسطة عقليّة أو عاديّة، فلا وجه لاستثناء الواسطة الخفيّة من بين الوسائط والقول باعتبار الأصل المثبت فيها.
وإن كان الأثر أثراً للواسطة حقيقةً، والعرف يتسامح ويعدّه من آثار ذي الواسطة، فلا عبرة بالمسامحات العرفيّة في شيء من الموارد؛ فإنّ نظر العرف إنّما يكون متّبعاً في المفاهيم، لا في تطبيقها على المصاديق، فقد يتسامح العرف في تطبيق المفهوم على ما لا يكون له مصداقاً واقعاً، كما يشاهد أنّ العرف يتسامح ويطلق أسماء المقادير على ما ينقص عن المقدار أو يزيد يسيراً؛ فالمسامحات العرفيّة لا أثر، وتُضرب على الجدار بعد تبيّن المفهوم>( ).
وبالجملة: فإنّ الحكم الشرعيّ فيما نحن فيه:
إن كان مترتّباً على نفس الواسطة حقيقةً، وكانت هي الموضوع له واقعاً، فلا يمكن إثباته بالأصل الجاري في ذي الواسطة، وإن فرض أنّ العرف يتسامح ويرى الموضوع للحكم هو نفس مؤدّى الأصل نتيجةً لخفاء الواسطة وعدم الالتفات إليها.
وإن كان الحكم الشرعيّ مترتّباً في الواقع على ذي الواسطة، وكانت الواسطة العقليّة أو العاديّة علّة لثبوت الحكم لمؤدّى الأصل، فهذا لا يرجع إلى الأصل المثبت.

الموارد الّتي تمسّكوا فيها بالأصل المثبت:
ولا بأس في المقام بالإشارة إلى بعض الموارد التي تمسّكوا فيها بالأصل المثبت.
منها:
أنّه لو اتّفق الوارثان على إسلام أحدهما المعيّن في أوّل شعبان، والآخر في غرّة رمضان، واختلفا في زمان موت المورّث، فادّعى أحدهما موته في أثناء شعبان، وادّعى الآخر كونه في أثناء شهر رمضان، كان المال بينهما نصفين إذا كانا متساويين في الطبقة؛ لأصالة بقاء حياة المورّث إلى زمان إسلام الوارث الآخر.
ولا شكّ في أنّ هذا الاستصحاب من الأصل المثبت؛ لأنّ إسلام الوارث في حال حياة المورّث، والذي هو الموضوع لكونه وارثاً، من اللّوازم العقليّة لبقاء حياة المورّث إلى ذلك الزمان.
وأجاب عنه اُستاذنا المحقّق:
بأنّه <يمكن أن يقال: إنّ موضوع الإرث ليس كون إسلام الوارث في حال حياة المورّث، بحيث تكون الحياة ظرفاً للإسلام، بل موضوع كونه وارثاً: اجتماع إسلامه مع حياة المورّث في زمان واحد، بلا لحاظ إضافة الظرفيّة بينهما، فالموضوع مركّب، أُحرز أحد جزأيه بالوجدان، وهو إسلام الوارث، والآخر بالأصل، وهو حياته في ذلك الزمان>( ).
وهذا نظير ما قيل من كفاية اجتماع المرأة مع القرشيّة، وأحد جزأي هذا الموضوع محرز بالوجدان، والآخر بالأصل.
ولكن قد عرفت، أنّه لا يجري هذا الاستصحاب، بل لابدّ أنّ يثبت بالاستصحاب أنّ هذه المرأة قرشيّة، ولم تكن له حالة سابقة. وفيما نحن فيه، لابدّ من النظر إلى الأدلّة، فهل هي ناظرة إلى كون الوارث مسلماً في حال حياة المورّث بلحاظ عنوان الظرفيّة بينهما حتى يكون أصلاً مثبتاً، أم لا، بل يكفي اجتماعهما في زمان، ولو لم يكن على نحو الظرفيّة؟
والظاهر من الأدلّة هو الأوّل دون الثاني، فجوابه في غير محلّه، بل هذا الأصل من الأصل المثبت.
ومنها:
حكمهم بضمان من كان يده على مال الغير، وكان مسلّطاً عليه، مع الشكّ في كونه مأذوناً من قبله؛ لأصالة عدم كونه مأذوناً، مع أنّ كون اليد عاديةً، والذي هو موضوع الضمان، من اللّوازم العقليّة لعدم كونه مأذوناً من قبله.
وأجاب عنه اُستاذنا المحقّق ـ أيضاً ـ:
بأنّ <موضوع الضمان ليس هو عنوان كون اليد عادية، بل موضوعه كون اليد غير مأذونة، فالموضوع مركّب من جزأين: أحدهما أُحرز بالوجدان، وهو اليد على مال الغير، والثاني: عدم كونها مأذونةً، وهو أُحرز بالأصل>( ).
ومنها:
ما ذكره العلّامة في التحرير( ) فيما إذا اختلف الجاني ووليّ الميّت في سراية الجناية، فقال الوليّ: مات بالسراية، وقال الجاني: مات بسبب آخر، أو حصل الاختلاف بينهما، فقال الجاني: إنّ الجناية وقعت على الميّت بعد الموت، وقال الوليّ: بل وقعت قبل الموت، وإنّما كان الموت بسبب الجناية.
فقال العلّامة: في الضمان وعدمه وجهان: من أصالة عدم الضمان، ومن أصالة بقاء حياة المجنيّ عليه إلى زمان وقوع الجناية، فأجاز جريان الاستصحاب، مع أنّ وقوع الجناية على الحيّ، الذي هو موضوع الأثر، من اللّوازم العقليّة لبقاء الحياة.
ولكنّ الحقّ: عدم جريان هذا الأصل، حتى لو قلنا بمقالة شيخنا الأنصاريّ من جريان الاستصحاب مع كون الواسطة خفيّة؛ وذلك لعدم خفاء الواسطة هنا.
ومنها:
جريان استصحاب عدم وجود الحاجب عند الشكّ في وجوده في البشرة في محلّ الغسل أو الوضوء؛ لإثبات صحّة الوضوء أو الغسل، ولا شكّ في أنّ صحّتهما منوطة بوصول الماء إلى البشرة، وهذا من اللّوازم العاديّة للمستصحب؛ أي: عدم وجود الحاجب.
وهو من الأصل المثبت كما لا يخفى، فلا يجري، كما أنّ الواسطة غير خفيّة، فلا مجال لجريانه حتى على القول بمقالة الشيخ الأعظم المتقدّم من التفصيل بين الواسطة الخفيّة وغيرها.
نعم، يمكن أن يقال: بصحّة الوضوء أو الغسل بالبناء على عدم وجود الحاجب عند الشكّ في وجوده، لا من باب جريان الاستصحاب والأصل العمليّ، بل من جهة سيرة العقلاء وبنائهم على العدم، وعدم الفحص عن الحاجب عند الغسل أو الوضوء، فإنّ أصالة وجود عدم الحاجب هي كأصالة عدم القرينة وأصالة الظهور وغير ذلك من الأمارات العقلائيّة، وهي ـ أعني: الأمارات ـ حجّة، كما مرّ في محلّه.
ومنها:
استصحاب بقاء شهر رمضان أو عدم دخول شوّال يوم الشكّ لأجل ترتيب آثار أوّل يوم من شوّال على اليوم الذي بعده، مع أنّه من الأصل المثبت؛ لأنّ معنى كون الغد هو يوم الشكّ ويوم أوّل شوّال ويوم العيد من اللّوازم العقليّة لبقاء شهر رمضان يوم الشكّ، أو لعدم دخول شوّال في ذلك اليوم.
مع أنّ بناءهم على ترتيب آثار يوم العيد على غد يوم الشكّ، من صلاة العيد، وإعطاء الفطرة وغسل يوم العيد، وسائر أحكامه. بل هم يرتّبون آثار اليوم الثاني والثالث وهكذا... إلى آخر الشهر.
مع أنّ كلّ هذه العناوين مشكوكة؛ لأنّ الشكّ في أوّل الشهر مستلزم للشكّ في جميع هذه العناوين.

التنبيه السادس :الشكّ في التقدّم والتأخّر مع العلم بحصوله في زمان خاصّ:
لا يخفى: أنّ الشكّ تارةً يكون في أصل حدوث الحادث سواء كان موضوعاً أو حكماً، وأُخرى في تقدّمه وتأخّره مع العلم بحصوله في زمان خاصّ.
والأوّل لا إشكال في جريان استصحاب العدم فيه؛ لأنّ أركان الاستصحاب موجودة، وهي اليقين السابق والشكّ اللّاحق، وهكذا الحال فيما لو شكّ في أصل تحقّق حكم أو موضوع ذي الحكم، فإنّه بعد العلم بتحقّقه، فيكون وجوده محرزاً في السابق، فيستصحب وجوده إلى زمان العلم بارتفاعه.
وهو كما إذا شكّ في طهارة شيء بعد العلم بنجاسته، كما إذا كان الثوب نجساً في السابق، وشكّ في طهارته بدون العصر ـ مثلاً ـ، أو كما إذا شكّ في حصول الحلّيّة للذبيحة بتذكية الكتابيّ، فإنّ استصحاب عدم طهارة الثوب وعدم حلّيّة الذبيحة جارٍ بلا مانع.
وأمّا الشكّ في موضوع ذي حكم، كالشكّ في موت غائب ـ مثلاً ـ ، فإنّه لا إشكال في جريان استصحاب عدم تحقّقه، وترتيب آثار حياته من وجوب الإنفاق على زوجته وحرمة تقسيم أمواله، وغيرهما من أحكام الحياة.
وأمّا إذا كان الشكّ في كيفيّة حدوثه من التقدّم والتأخّر بعد العلم بأصل تحقّق، فهو يتصوّر بوجهين:
الأوّل: أن يلاحظ التقدّم والتأخّر بالنسبة إلى أجزاء الزمان، كما إذا قطع بوجود زيد يوم الجمعة ـ مثلاً ـ، وشكّ في أنّ مبدأ وجوده كان يوم الخميس أو الجمعة.
الثاني: أن يلاحظ بالإضافة إلى حادث زمانيّ آخر، كما إذا تعاقب حادثان، كالطهارة والحدث، وهذا ـ بدوره ـ له صورتان:
الأُولى: أن يكون الاستصحاب بلحاظ نفس أجزاء الزمان، كما مثّلنا.
والثانية: كما إذا علم بولادة زيد يوم الجمعة وشكّ في تقدّمها على وفاة عمرو أو تأخّرها عنها.
أمّا الأولى، فلا إشكال في جريان الاستصحاب في عدم تحقّق الحادث في الزمان الأوّل، كما إذا علم بموت زيد يوم الجمعة ولم يعلم بأنّ حدوث موته كان فيه أو في الخميس، فلا مانع من استصحاب عدم موته يوم الخميس وترتيب آثاره، كوجوب الإنفاق على زوجته، وحرمة تقسيم ماله بين ورّاثه وغير ذلك، عليه.
وأمّا آثار تأخّره عن يوم الخميس، فبما أنّها من الآثار العقليّة لعدم حدوثه في يوم الخميس، فلا يجري الاستصحاب لإثباتها؛ لأنّه بالنسبة إليها أصل مثبت، والاستصحاب ـ كما عرفنا ـ لا يثبت لوازمه العقليّة، فكذا لا يثبت الأثر الشرعيّ المترتّب على لوازمه العقليّة.
وكذا إذا علم بعدم إسلامه يوم الأربعاء، وشكّ في حدوثه يوم الخميس أو يوم الجمعة، فلا إشكال في استصحاب عدم إسلامه إلى زمان اليقين بوجوده، وهو يوم الجمعة، وترتيب آثار عدم حدوثه يوم الخميس؛ لاجتماع أركان الاستصحاب فيه.
وأمّا آثار لازم عدم حدوث الإسلام يوم الخميس، وهو حدوثه يوم الجمعة، أو تأخّر حدوثه عن يوم الخميس، فلا تترتّب على استصحاب عدم إسلامه إلى يوم الجمعة؛ لأنّ الحدوث أمر بسيط منتزع من الوجود المسبوق بالعدم، وهو لازم عقليّ للتعبّد بعدم إسلامه يوم الخميس. وقد عرفنا أنّ أدلّة الاستصحاب قاصرة عن إثبات لوازم المستصحب العاديّة والعقليّة وآثارها الشرعيّة.
وأمّا الثانية، وهي أن يكون استصحاب كلّ منهما بلحاظ زمان حدوث الآخر أو تأخّره عنه أو مقارنته له. فتارةً يكون الحادثان من المتضادّين اللّذين لا يمكن اجتماعهما في مورد واحد كالطهارة والحدث، وأُخرى لا يكونان كذلك، كإسلام الوارث مع موت المورّث، أو إسلام المتوارثين.
وهذا في صورة كون كليهما معلومي التاريخ يكون خارجاً عن مورد البحث؛ لأنّه لا معنى ـ حينئذٍ ـ لجريان الاستصحاب كما هو أوضح من أن يخفى. وإنّما الكلام فيما لو كان كلّ منهما بالنسبة إلى الآخر من مجهولي التاريخ، أو كان أحدهما فقط معلوم التاريخ.
والحاصل: أنّ مورد البحث فيما نحن فيه، إنّما هو فيما لو كان الشكّ في تقدّم الحادث وتأخّره، لا في أصل حدوثه، أي: أنّ التقدّم والتأخّر ملحوظان بالإضافة إلى حادث آخر علم بحدوثه، ولكن شكّ في تقدّمه على الحادث الأوّل، أو مقارنته له أو تأخّره عنه. فهذان الحادثان، تارةً يكون تاريخ كليهما مجهولاً، وأُخرى يكون تاريخ أحدهما معلوماً والآخر مجهولاً.
وقد ذهب بعضهم هنا إلى القول بجريان الاستصحاب في كلتا الصورتين، كما قيل بالعدم مطلقاً.
وأمّا المحقّق النائيني، فقد ذهب إلى التفصيل بين ما إذا كان كلاهما مجهولي التاريخ، فقال بجريانه فيهما، أو كان أحدهما معلوم التاريخ، فلا يجري فيه، وأمّا الآخر المجهول فيجري فيه.
قال في المقام ما لفظه:
<ففي جريان استصحاب عدم حدوث كلٍّ منهما بالإضافة إلى زمان حدوث الآخر مطلقاً، أو عدم جريانه مطلقاً، أو التفصيل بين ما إذا لم يعلم تاريخ حدوث أحدهما بالخصوص، وبين ما إذا علم ذلك، ففي الأوّل يجري استصحاب عدم حدوث كلٍّ منهما بالإضافة إلى زمان الآخر، وفي الثاني يجري الاستصحاب في خصوص مجهول التاريخ، ولا يجري في معلوم التاريخ، وجوه، أقواها التفصيل الأخير>( ).
وقبل الدخول في صميم البحث، لابدّ من بيان المحمولات الأربعة من الموجودات والأعدام، فنقول:
إنّ الأثر تارةً يترتّب على الوجود المحموليّ، وأُخرى على الوجود النعتيّ، وثالثة على العدم المحموليّ، ورابعة على العدم النعتيّ.
فالوجود المحموليّ هو نفس الوجود المحمول الأوّلي على الماهيّة، وهو مفاد كان التامّة، كقولك: كان زيد، أي: وجد.
وأمّا الوجود الربطيّ، أو النعتيّ، فهو مفاد كان الناقصة التي تدخل على المبتدأ والخبر فتكون موجبة للربط بينهما، كقولك: كان زيد قائماً، حيث إنّ القيام المحمول على زيد إنّما يكون بعد فرض وجوده، فيكون ـ لا محالة ـ أمراً زائداً على نفس وجوده، والذي حقّق هذا الربط ودلّ عليه إنّما هو (كان) الناقصة هذه.
وأمّا العدم المحموليّ، فهو ما يقابل الوجود المحموليّ، وهو مفاد ليس التامّة، كما في مثل قولك: زيد معدوم.
وكذلك العدم النعتيّ، فهو مقابل للوجود النعتيّ، وهو مفاد ليس الناقصة، كقولك: زيد ليس بقائم.
ولا يخفى: أنّ التعبير عن الوجود الربطيّ بأنّه وجود نعتيّ، وعن العدم الذي هو مفاد ليس الناقصة بأنّه عدم نعتيّ، لا يخلو من مسامحة؛ لأنّ الوجود النعتيّ إنّما هو وجود العرض الذي هو من قسم الموجود لنفسه في غيره بغيره( )، ولكنّ وجوده المحموليّ نعت للغير، وبما أنّ النسب والارتباطات تكون من المعاني الحرفيّة، ولا استقلال لها في الوجود، وبعد أن كانت الأفعال الناقصة تدلّ إمّا على إيجاد الربط وإمّا على سلبه، فالأحسن أن يعبّر عن مفاد كان الناقصة بالوجود الربطيّ، وعن مفاد ليس الناقصة بالعدم الربطيّ.
فإذا اتّضح ذلك نقول:
إذا كان الأثر الشرعيّ مترتّباً على وجود أحد الحادثين، بنحوٍ خاصّ من التقدّم أو التأخّر أو التقارن، دون الحادث الآخر، وذلك كتقدّم رجوع المرتهن عن الإذن على البيع، وتقدّم العيب على العقد، فإنّ رجوع المرتهن عن إذنه قبل البيع يوجب بطلان البيع، كما أنّ تقدّم العيب على العقد يوجب الخيار، ونحو ذلك من الأشباه والنظائر، فإنّ احد الحادثين، وهو رجوع المرتهن، وعيب المبيع، في هذين المثالين، لايترتّب عليه الأثر، إلّا على وجوده بنحو خاصّ، وهو تقدّمه على حادث آخر، وهو البيع؛ إذ لا أثر لرجوع المرتهن عن الإذن بعد البيع، وكذا لا أثر لحدوث العيب في المبيع بعد البيع.
وأمّا الثاني، وهو التأخّر، كما إذا لاقى الثوب المتنجّس الماء؛ فإنّ أثر هذه الملاقاة، وهو الطهارة، مترتّب على الملاقاة بنحو خاصّ، وهو تأخّرها عن كرّيّة الماء، فلا أثر للملاقاة قبل الكرّيّة، ولا مع التقارن، فإنّ المستفاد من مثل (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء)، مع ظهور رجوع الضمير فيه إلى الكرّ، أنّ الماء الذي فرضنا كونه كرّاً لا ينفعل بالملاقاة، فيعتبر في عدم تنجّسه بالملاقاة سبق الكرّيّة، فصورة التقارن ـ أيضاً ـ تكون داخلة في مفهوم الانفعال.
وأمّا الثالث: وهو التقارن، كمحاذاة الرجل والمرأة في الصلاة مع وحدة زمان شروعهما في الصلاة، فإنّ المانعيّة ـ على القول بها ـ مترتّبة على الحادثين، وهما: صلاتا الرجل والمرأة مع تقارنهما شروعاً وعدم وجود الحائل وعدم الفصل بينهما بعشرة أذرع.
وكتقارن عقدي الاُختين في زمان واحد لرجل، فإنّ البطلان مترتّب على تقارنهما؛ إذ مع اختلافهما زماناً نحكم بصحّة المتقدّم منهما وبطلان المتأخّر.
وكتقارن عقدي الاُم وبنتها لرجل، أو تقارن عقدي الفاطميّتين له ـ بناءً على حرمة الجمع بينهما وبطلان عقديهما ـ، فإنّ الأثر في هذه المسائل ونحوها مع تقارن الحادثين، وهما العقدان، هو البطلان، ففيما إذا كان الأثر مترتّباً على أحد الحادثين بنحو خاصّ، من التقدّم أو التأخّر أو التقارن، كتقدّم رجوع المرتهن عن الإذن في البيع أو تقدّم العيب على البيع، فإنّ له الأثر، وأمّا تأخّرهما، فلا أثر لهما كما ذكرنا، فيجري أصل عدم تقدّم الرجوع والعيب، ويكون الأثر هو صحّة البيع، ولا يجري الأصل في الحادث الآخر، أعني: أصل عدم تقدّم البيع على الرجوع أو العيب؛ لأنّه لا أثر له حتى يجري وينهض لمعارضة ذلك الاستصحاب الجاري في الموضوع ذي الأثر الشرعيّ، كما لو فرض أنّ أحد المتوارثين كان كافراً، فإنّ استصحاب عدم موت المسلم منهما إلى زمان موت الآخر الكافر جارٍ ويترتّب عليه الأثر، وهو ارث المسلم منه.
وأمّا استصحاب عدم موت الكافر إلى زمان موت المسلم، فلا يمكن جريانه؛ وذلك لعدم أثر له شرعاً، حتى في صورة العلم بتأخّر موته عن موت المسلم؛ لأنّ الكافر لا يرث من المسلم.
أمّا إذا كان هناك أثر لكلٍّ منهما، كما في مثال عقد الاُختين أو الفاطميّتين، مع كون الشكّ في تقدّمه أو تأخّره، أي: في تقدّم كلّ عقد أو تأخّره بالنسبة إلى العقد الآخر، فإنّ الاستصحاب في كليهما لا يجري ـ حينئذٍ ـ للعلم بكذب أحدهما فيتعارضان؛ لأنّ أركان الاستصحاب تكون متحقّقة في كلّ منهما، وبعد التعارض يتساقطان.
وكذا لو كان الأثر مترتّباً على وجود أحد الحادثين مع التأخّر، كما في مثل ملاقاة النجس للماء، فإنّ استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة جارٍ لإثبات الأثر، وهو طهارة الثوب المغسول. وأمّا استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة، فلا أثر له، وكذلك في صورة التقارن بين الكرّيّة والملاقاة، بأن وقعا في زمان واحد، فهو ـ أيضاً ـ بلا أثر، فلا يجري فيه الاستصحاب.
وقد يفرض إمكان جريان الاستصحاب فيه في حدّ نفسه، ولكنّه مع ذلك لا يجري من جهة أُخرى، فمثلاً: في صورة ما إذا كان الأثر ثابتاً لكلّ واحد من الحادثين، المتقدّم والمتأخّر، كما في مثال عقد الفاطميّتين، وإنّما لا يجري الاستصحاب هنا، لا من جهة تعارض الأصلين، بل من جهة عدم ثبوت حالة سابقة للمستصحب؛ لأنّ اتّصاف موت زيد بكونه مقدّماً على موت عمرو لم يكن له حالة سابقة، ولم يكن متيقّناً في السابق حتى يتعبّد ببقائه في ظرف الشكّ، حيث إنّه في حال حياة زيد لم يكن موت حتى يتّصف بالتقدّم على موت عمرو أو بالتأخّر عنه، وعدم اتّصاف الموت بالتقدّم حال الحياة إنّما هو من باب السالبة بانتفاء الموضوع.
وقد يقال: لنا أن نتمسّك هنا باستصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّ موت زيد حال الحياة كما لم يكن بنفسه، فكذلك هو لم يكن وصفه، أعني: تقدّمه على موت عمرو، وبعد حصول اليقين بموت زيد يشكّ في انتقاض عدم تقدّمه فيستصحب، كاستصحاب عدم قرشيّة المرأة بعد العلم بوجودها.
ولكن فيه: أنّ هناك فرقاً بين الاستصحابين، فإنّ الحكم في استصحاب عدم القرشيّة إنّما ورد على العدم، وأمّا في المقام، فالحكم إنّما ورد على اتّصاف موت زيد بعدم تقدّمه على موت عمرو، لا على عدم اتّصافه بالتقدّم، فاستصحاب عدم الأزليّ، على فرض حجّيّته، إنّما يثبت عدم الاتّصاف بالتقدّم، لا اتّصاف موت زيد بعدم تقدّمه على موت عمرو، إلّا بناءً على الأصل المثبت.
وأمّا الإشكال بأنّه لا يجري الاستصحاب في معلوم التاريخ؛ لأنّ زمانه يكون معلوماً، فموت المورث ـ مثلاً ـ كان معلوماً أنّه في غرّة شهر رمضان، فعدم الموت إلى ذلك الزمان معلوم، ومن ذلك الوقت يكون الوقت معلوماً، فمتى يكون الشكّ ـ أصلاً ـ حتى يستصحب.
فيمكن الجواب عنه: بأنّ ذلك إنّما يكون بالنسبة إلى نفس أجزاء الزمان، وأمّا بالنسبة إلى زمان حدوث الحادث الآخر، حيث إنّ ذلك الزمان يكون مجهولاً، فقهراً يحصل الشكّ والترديد في بقاء عدم معلوم التاريخ إلى زمان حدوث مجهول التاريخ وفي عدم بقاء عدمه إلى ذلك الزمان.

التنبيه السابع :في جريان استصحاب الصحّة:
فإذا احتمل وجود مانع، كالزيادة، أو قاطع للعمل المركّب بالنسبة إلى الأجزاء السابقة، فهل يجري ـ حينئذٍ ـ استصحاب الصحّة أم لا؟
وقد تقدّم الكلام في جريان هذا الاستصحاب عند الحديث عن أصالة الاشتغال، وذلك في باب الاستدلال على عدم بطلان العمل بواسطة الزيادة السهويّة بالاستصحاب.
وقد عرفنا فيما محلّه، أنّ هذا الاستصحاب إنّما يتصوّر بوجهين:
الأوّل: أنّ يكون المراد به استصحاب الصحّة التأهليّة التي كانت لهذه الأجزاء التي عمل بها قبل أن يأتي بهذه الزيادة، أي: أنّها تكون باقية على صلاحيّتها، بحيث لو انضمّ إليها سائر الأجزاء التي لم يأتِ بها، لكان العمل صحيحاً.
والثاني: أن يكون المراد به استصحاب الهيئة الاتّصاليّة التي كانت للعمل المركّب قبل وجود هذه الزيادة، أعني: الجزء الصوريّ للمركّب القائم بمادّته، أي: ذوات الأجزاء، وهذا الجزء الصوريّ، وهو الهيئة الاتّصاليّة، يستكشف من أدلّة القواطع.
وقد يراد بالصحّة ـ أيضاً ـ: الصحّة الفعليّة التي تكون قائمة بمجموع العمل، والتي هي عبارة عن تماميّة العمل بما له من الأجزاء والشرائط، وإعدام الموانع المعتبرة فيه عقلاً وشرعاً.
ولكنّ هذا المعنى لا يمكن أن نقول به؛ لأنّه لا يتحقّق إلّا بعد وجود المركّب على النحو الذي أمر به الشارع أو العقل بجميع أجزائه وشرائطه وإعدام موانعه.

التنبيه الثامن: الاستصحاب في الاُمور العقائديّة
فهل هو يجري فيها أم لا؟
وقبل الدخول في محلّ البحث، لابدّ من القول بأنّ الاستصحاب، كما استفدناه من أخبار الباب، هو عبارة عن حكم الشارع بالجري العمليّ على طبق الحالة السابقة عند الشكّ في بقائها مع اليقين بوجودها سابقاً، ولكنّه يحتاج إلى أثر عمليّ حتى يكون الحكم بالجري العمليّ بلحاظ ذلك الأثر، ولا يكفي فيه صرف مجعوليّة المستصحب شرعاً ما لم ينته إلى أثر عمليّ.
وهذا الأثر العمليّ لا يفرّق فيه بين أن يكون من أعمال الجوارح أو من أفعال الجوانح، أعني: الالتزامات والاعتقادات القلبيّة، فلو كان للمستصحب أثر عمليّ، وكان متيقّناً، ثمّ شكّ في بقائه، فيجري الاستصحاب؛ وذلك لتماميّة أركانه، ولا يضرّ كونه من الاُمور الاعتقاديّة والأفعال القلبيّة.
فمثلاً: إذا لم يكن لبقاء النبوّة والإمامة أثر عمليّ، لا يجري الاستصحاب فيهما، وإن كانا من جملة المجعولات الشرعيّة والمناصب الإلهيّة.
وأمّا إن كان لبقائهما أثر عمليّ شرعيّ، فيجري الاستصحاب فيهما، وإن كانا من الاُمور التكوينيّة، لا الشرعيّة.
وقد ذكر المحقّق الخراساني في الكفاية: أنّ الاُمور الاعتقاديّة:
تارةً: يكون المطلوب والمهمّ فيها شرعاً هو الانقياد وعقد القلب، وأمثال ذلك من الأعمال القلبيّة الاختياريّة.
وأُخرى: يكون المطلوب فيها هو تحصيل اليقين والعلم بها.
أمّا الأوّل: فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه، إلّا ما قد يتصوّر من أنّ الاستصحاب هو من الاُصول العمليّة، ولكنّ ذلك لا يصلح للمانعيّة منه؛ لأنّ التعبير بالأصل العمليّ ليس له في دليل الاستصحاب أو غيره عين ولا أثر كي يدّعى انصرافه إلى عمل الجوارح دون عمل الجوانح، وإنّما هو تعبير اصطلاحيّ عبّر به الاُصوليّون عمّا كان وظيفةً للشاكّ تعبّداً، لغرض جعل فرق بينه وبين الأمارات الحاكية عن الواقع، وبالتالي: فهو يعمّ عمل الجوانح والجوارح معاً.
وأمّا الثاني: فالاستصحاب في الحكم جارٍ فيه، فلو شكّ في بقاء وجوب اليقين بشيء بعد اليقين بالوجوب، يستصحب البقاء، ولا مانع منه، ويترتّب عليه لزوم تحصيل اليقين بذلك الشيء والعلم به، دون الموضوع؛ لأنّ المفروض كون المطلوب تحصيل اليقين به، والاستصحاب لا يجدي في ذلك؛ لعدم رفعه الشكّ إلّا تعبّداً، كما لا يخفى( ).
وملخّص ما أفاده: أنّ الاُمور الاعتقاديّة على قسمين:
الأوّل: أن يكون المطلوب فيها شرعاً مجرّد الالتزام بها وعقد القلب عليها، ولو لم يحصل اليقين بما لها من الخصوصيّات، كتفاصيل عالم البرزخ والبعث والجنّة والنار والميزان، فإنّ الواجب علينا إنّما هو الاعتقاد بها والتسليم والانقياد لها على ما هي عليه، بأن نعتقد بما هو الواقع، فيجري ـ حينئذٍ ـ الاستصحاب.
فمثلاً: إذا شككنا في بقاء سؤال منكر ونكير في بعض بقاع الأرض؛ لكرامتها بكرامة من دفن فيها، من نبيٍّ أو وصيّ، فإنّه يجري الاستصحاب في جميع ذلك ويترتّب عليه وجوب الاعتقاد بذلك كلّه، حيث لم يكن هنا فرق في الحكم الشرعيّ بين تعلّقه بعمل جارحيّ وعمل جانحيّ، بعد شمول دليل الاستصحاب لكليهما. هذا إذا كان الاستصحاب في الموضوع.
وأمّا إذا كان في الحكم، فكما إذا فرضنا أنّه حصل الشكّ في وجوب اعتقادنا بنبوّة الأنبياء السابقين، لاحتمال وجوبه على خصوص المسلمين في صدر الإسلام، مع القطع بوجوده سابقاً، فيجري الاستصحاب قطعاً.
والثاني: أن يكون موضوع وجوب الاعتقاد والتسليم الاُمور الاعتقاديّة بشرط اليقين بها، لا مطلقاً، كوجود الصانع وتوحيده والنبوّة والمعاد؛ فإنّ موضوع وجوب الالتزام والاعتقاد بها إنّما هو معرفتها واليقين بها، لا نفس وجودها واقعاً، وإن لم تتعلّق بها المعرفة، فلا يجري فيها الاستصحاب الموضوعيّ؛ لأنّها لم تكن بوجودها الواقعيّ موضوعاً لوجوب الاعتقاد والتسليم حتى تثبت بالاستصحاب، بل موضوعه هو المعرفة بها، وهي لا تثبت بالاستصحاب. وأمّا الاستصحاب الحكميّ، فلا مانع من جريانه.
وأمّا الشيخ الأنصاريّ فقد قسّم الاُمور الاعتقاديّة المطلوب فيها عمل الجوانح من الاعتقاد والانقياد والتسليم له وعقد القلب عليه إلى قسمين( ):
الأوّل: ما يجب فيه أوّلاً بحكم العقل تحصيل العلم واليقين به، ثمّ يجب بحكم العقل بعد العلم واليقين به الاعتقاد به والانقياد والتسليم له وعقد القلب عليه، كالتوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد.
وهذا القسم لا مجال لجريان الاستصحاب فيه موضوعاً، وذلك لأنّه ممّا يجب فيه من تحصيل القطع والمعرفة به، ومعلوم أنّ الاستصحاب ممّا لا يجدي في حصولهما.
والثاني: ما لا يجب فيه بحكم العقل ولا الشرع تحصيل اليقين به، ولكن إذا حصل العلم واليقين به بطبعه وجب فيه بحكم العقل والشرع جميعاً الاعتقاد به والانقياد والتسليم له، وذلك كما في تفاصيل البرزخ والقيامة وسؤال النكيرين والصراط والحساب والكتاب والميزان والحوض والجنّة والنار.
وهذا القسم ممّا يجري فيه الاستصحاب حكماً وموضوعاً.
وبناءً على ما تقدّم، يتّضح: أنّه لا يفيد تمسّك الكتابيّ بالاستصحاب لإثبات نبوّة عيسى، كما مرّ الكلام فيه مفصّلاً.
ثمّ إنّ المحقّق العراقيّ وجّه استصحاب متعلّق الاعتقاد مع الشكّ فيه، بقوله:
<وإن أمكن دفعه بأنّ ما لا يتمشّى مع الشكّ إنّما هو التسليم والانقياد الجزميّ، وأمّا التسليم والانقياد له بعنوان كونه نبيّاً أو إماماً ظاهراً بمقتضى الأمارة أو الأصل المنقّح، فلا بأس به>( ).
وحاصله: أنّ الانقياد والتسليم ههنا بالإمامة ـ مثلاً ـ الظاهريّة، أو النبوّة الظاهريّة؛ لأنّه بعد التعبّد بها، تَثبت ظاهراً، فيسلّم بها بهذا النحو، لا على طريق الجزم واليقين كي يورد عليه بتنافيه مع الشكّ في أصل الإمامة والنبوّة.
ولكنّه غير تامّ، لما مرّ من أنّ الرسالة والإمامة من الاُمور التكوينيّة، وليستا من الاُمور المجعولة، حتى يمكن جريان الاستصحاب.

التنبيه التاسع :الرجوع إلى عموم العامّ أو استصحاب حكم المخصّص:
إذا ورد عامّ أفراديّ، وكان يتضمّن ـ أيضاً ـ العموم الأزمانيّ، وخصّص بعض الأفراد، وشكّ في خروج ذلك البعض في جميع الأزمنة أو في بعض تلك الأزمنة، فهل يرجع في زمان الشكّ في الخروج إلى عموم العامّ، أم إلى استصحاب حكم المخصّص؟
فإنّ ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾( ) ـ مثلاً ـ له عموم أفراديّ؛ حيث كان (العقود) معرّفاً بالألف واللّام، وهو من صيغ العموم. كما له ـ أيضاً ـ عموم أزمانيّ، وإلّا، يلزم لغويّة هذا الحكم؛ لأنّ لزوم الوفاء بالعقد في زمان لا أثر له، فمعنى ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾: وجوب الوفاء بكلّ عقد في كلّ زمان.
فإذا جاء دليل خيار الغبن وأخرج المعاملة الغبنيّة ـ مثلاً ـ عن هذا العموم، وعلمنا بخروجها عن تحت هذا العامّ في آن أوّل الالتفات إلى الغبن، فهل المرجع هو عموم العامّ والحكم باللّزوم في سائر الأزمنة حتى يكون الخيار فوريّاً، أم هو استصحاب حكم المخصّص، حتى يكون الخيار على التراخي؟
وثمرة هذا البحث: هو مسألة فوريّة خيار الغبن، تمسّكاً بعموم ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، فإنّه يدلّ على وجوب الوفاء بالعقد الذي هو كناية عن اللّزوم في كلّ آنٍ وكلّ فرد، وقد خرج عن هذا العموم آن الالتفات إلى الغبن والتمكّن من الفسخ، فإذا لم يفسخ المغبون في آن الالتفات، وشكّ في بقاء الخيار فيما بعده من الآنات، يحكم بسقوطه؛ لعموم ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، كما أنّ من يقول بعدم فوريّة الخيار يتمسّك باستصحاب الحكم المخصّص، وجواز العقد الموجب لكون الخيار على التراخي.
والبحث في هذه المسألة: أنّه مع ورود المخصّص فإنّ التخصيص هل يسقط العامّ عن الحجّيّة رأساً بحيث يمنع عن أصالة العموم مطلقاً؟ أم لا يسقطه كذلك؟ أم يسقطه في الجملة؟
فيه أقوال:
منها: ما عن المحقّق الثاني من التمسّك بالعموم مطلقاً( ).
ومنها: ما عن السيّد بحر العلوم من استصحاب حكم المخصّص مطلقاً( ).
ومنها: التفصيل بين المخصّص اللّبّيّ واللّفظيّ بالتمسّك بالعامّ في الأوّل، وبالاستصحاب في الثاني، كما عن صاحب الرياض( ).
ومنها: القول بالتفصيل بين أن يكون الزمان مفرّداً للعامّ، وبين أن يكون ظرفاً لاستمرار حكمه، بالتشبّث بالعامّ في الأوّل، وبالاستصحاب في الثاني، كما اختاره الشيخ الأعظم.
قال: <الحقّ هو التفصيل في المقام، بأن يقال:
إن أُخذ فيه عموم الأزمان أفراديّاً، بأن أُخذ كلّ زمانٍ موضوعاً مستقلّاً لحكم مستقلّ، لينحلّ العموم إلى أحكامٍ متعدّدة بتعدّد الأزمان ... فحينئذٍ: يُعمل عند الشكّ بالعموم، ولا يجري الاستصحاب، بل لو لم يكن عموم وجب الرجوع إلى سائر الاُصول، لعدم قابليّة المورد للاستصحاب.
وإن أُخذ لبيان الاستمرار، كقوله: أكرم العلماء دائماً، ثمّ خرج فرد في زمان، وشكّ في حكم ذلك الفرد بعد ذلك الزمان، فالظاهر جريان الاستصحاب؛ إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم؛ لأنّ مورد التخصيص الأفراد دون الأزمنة، بخلاف القسم الأوّل، بل لو لم يكن هنا استصحاب لم يرجع إلى العموم، بل إلى الاُصول الأُخَر>( ).
وملخّصه: أنّه لابدّ من التفريق بين ما لوحظ الزمان في أفراد وحصص متعدّدة، بحيث يكون كلّ فرد من أفراد العامّ محكوماً بأحكام متعدّدة بتعدّد آنات الزمان وقطعه، وبين ما إذا لوحظ الزمان قطعة واحدة؛ لاستمرار الحكم، ولا عموم إلّا بلحاظ الأفراد دون الأزمان، فقال بجريان الاستصحاب في نفسه في الثاني، وعدم كونه مورداً لأصالة العموم، بخلاف الأوّل، فإنّه مورد لهذه الأصالة، ولا يجري فيه الاستصحاب.
وأقول:
لا يخفى: أنّه في عالم الثبوت إذا قلنا بكون العامّ بحسب عمومه الأزمانيّ ـ أيضاً ـ انحلاليّاً، مثل عمومه الأفراديّ، بمعنى: كون كلّ قطعة من الزمان القابل لوقوع متعلّق التكليف أو الوضع موضوعاً مستقلاً لحكم العامّ، بحيث لا يكون امتثال الحكم أو عصيانه في تلك القطعة بعينها مربوطاً بالامتثال والعصيان في سائر القطعات الأُخرى، بل يكون لكلّ قطعة امتثالها وعصيانها الخاصّ بها.
ففي هذه الصورة: خروج قطعة من الزمان عن تحت العموم الأزمانيّ غير مضرّ أبداً بوجود أصالة العموم بالنسبة إلى القطعات الأُخرى؛ إذ إنّ حال أصالة العموم ـ بناءً على هذا ـ بالنسبة إلى الأزمان هو حال أصالة العموم بالنسبة إلى الأفراد، فكما أنّ خروج فرد عن تحت العموم باعتبار حكمه لا يكون مضرّاً بشمول العامّ لسائر الأفراد المشكوكة، فكذلك الأمر ـ أيضاً ـ في العموم الأزمانيّ.
فخروج المعاملة الغبنيّة في آن الالتفات إلى الغبن عن عموم مثل ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، لا يضرّ بشمول العموم فيه لسائر الآنات والقطعات.
وأنت تعلم: بأنّه مع وجود أصالة العموم فلا يبقى مجال للاستصحاب، بل حتى لو فرض عدم جريان أصالة العموم ـ التي هي من الأمارات ـ ففي صورة ما لو كانت كلّ قطعة من الزمن وجوداً مستقلّاً، مع خروج قطعة من الزمن عن تحت العموم يقيناً، فأيضاً لا مجال لجريان استصحاب الحكم المخصّص بالنسبة إلى الأفراد المشكوكة من قطعات الزمان؛ لأنّه يكون من باب إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر، وليس من إبقاء ما كان، الذي هو مورد الاستصحاب.
وأمّا إذا لم يكن كذلك، بل كان مجموع القطعات موضوعاً واحد، فلا يبقى مجال للتمسّك بعموم العامّ؛ لأنّ الفرد الخارج يقيناً في بعض قطعات الزمان عن تحت العامّ قد خرج عن تحت حكم العامّ رأساً، وليس للعامّ بحسب الزمان أحكام متعدّدة حسب الفرض، بل هو حكم واحد فقط، وقد سقط عن هذا الفرد بواسطة التخصّص، وليس في البين من حكم آخر حتى يثبت بأصالة العموم لهذا الفرد، فإذا شككنا في حكم هذا الفرد بقاءً بعد خروجه عن تحت العامّ، فلا مجال ـ حينئذٍ ـ إلّا للرجوع إلى الاستصحاب.
هذا في مقام الثبوت.
وأمّا في مقام الإثبات، فلا فرق بين أن يكون العموم الأزمانيّ مأخوذاً على نحو العموم الأفراديّ عامّاً اُصوليّاً انحلاليّاً، بأن تكون كلّ قطعة من الزمان قد أُخذت موضوعاً مستقلّاً، وبين كونه من قبيل العامّ المجموعيّ.
ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكون شمول العامّ لجميع الأفراد بأحد ألفاظ العموم، أو بنحو العامّ الاُصوليّ بالإطلاق، فلا فرق في شمول العامّ بين أن يقول ـ مثلاً ـ (يجب الوفاء بكلّ عقد في كلّ زمان)، بأن يدلّ على انحلال هذا الحكم إلى أحكام متعدّدة حسب تعدّد أزمنة لفظ (كلّ) وأمثاله من ألفاظ العموم، أو يكون الدالّ على الانحلال هو الإطلاق، مثل إطلاق: ﴿أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، حيث إنّه يدلّ على وجوب الوفاء بكلّ عقد في كلّ زمان.
فالمناط ـ إذاً ـ هو انحلال الحكم باعتبار الأزمنة أيضاً إلى أحكام متعدّدة، مثل انحلاله باعتبار الأفراد، فكما أنّ مورد الانحلال بحسب الأفراد لو علم بخروج فرد عن تحت عموم الحكم، لا مجال لتوهّم جريان استصحاب حكم الفرد الخارج يقيناً بالنسبة إلى الفرد المشكوك، فكذلك في مورد الانحلال بحسب الزمان.
ومن هنا ظهر: أنّ هناك فرقاً بين كون العامّ نهياً، وبين كونه أمراً، ففي النهي بما أنّه بنفسه يكون ظاهراً في الانحلال بحسب الأفراد والأزمان، أي: الأفراد العرضيّة والطوليّة، فلو علمنا بخروج فرد في زمان عن تحت عموم النهي.
مثلاً: لو علمنا بجواز شرب الخمر لأجل كونه دواءً منحصراً، ثمّ شككنا في زمانٍ بعد ذلك الزمان، لا مجال لاستصحاب الجواز، بل لابدّ من الرجوع إلى عموم النهي؛ لأنّ خروج الفرد عن تحت العموم لا يوجب خروج سائر الأفراد.
وأمّا إذا كان أمراً، فلابدّ فيه من استفادة العموم من ألفاظ العموم أو أدواته أو من الإطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة. فإذا استفدنا العموم الاستغراقيّ بالنسبة إلى الأفراد والأزمان، سواء كان ذلك من ألفاظ العموم وصيغه، أو من أدواته، أو من الإطلاق الثابت بمقدّمات الحكمة، فإذا علمنا بخروج قطعة من الأزمنة عن تحت العموم، وشككنا بالنسبة إلى الأزمنة المتأخّرة، فلا يمكن التشبّث بالاستصحاب، لما ذكرناه، بل المرجع ـ حينئذٍ ـ أصالة العموم؛ إذ كما يمكن التمسّك بأصالة العموم بالنسبة إلى الأفراد المشكوكة في العموم الأفراديّ، فكذلك في الأزمانيّ أيضاً.
ثمّ هذا الذي ذكرناه في العامّ، من تقسيم العامّ إلى قسمين بالنسبة إلى العموم الأزمانيّ، يأتي بالنسبة إلى المخصّص أيضاً، فإنّ المخصّص بدوره:
تارةً: يكون الزمان المأخوذ فيه موضوعاً مستقلّاً، بحيث يكون الفرد الخارج في زمان عن تحت عموم العامّ يكون نفس ذلك الزمان موضوعاً مستقلّاً لحكم المخصّص، بمعنى: أنّه لو فرضنا ثبوت حكم المخصّص له في الزمان المتأخّر عن ذلك الزمان المتّصل به، فإنّه يكون حكماً آخر لموضوع آخر، وليس من قبيل إبقاء ما كان.
وأُخرى: لا يكون ذلك الزمان موضوعاً مستقلّاً، بل يكون حكم المخصّص من ناحية الزمان مهملاً، وله من هذه الجهة قدر متيقّن، وهو الزمان الذي نقطع بخروجه عن تحت العموم الأزمانيّ.
وحينئذٍ نقول: إن كان من قبيل الأوّل، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه، ولو فرض عدم جريان العموم، كما إذا لم يكن العامّ انحلاليّاً؛ لأنّه يكون ـ حينئذٍ ـ من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر، لا إبقاء لما كان.
وإن كان من قبيل الثاني، فإن كان العامّ انحلاليّاً، يجب الرجوع إلى العامّ، ويكون من قبيل الشكّ في أصل التخصيص، ومع وجود أصالة العموم، فلا يبقى مجال للاستصحاب.
والحاصل: أنّ صور المسألة أربع:
الصورة الأُولى: أن يكون العامّ انحلاليّاً، وكذلك الخاصّ، ويكون الزمان المأخوذ فيه موضوعاً مستقلّاً لحكم المخصّص. وفي هذه الصورة، لابدّ من الرجوع إلى العامّ في مورد الشكّ، وحينئذٍ: فليس له أن يطالب بالخيار في الزمان المتأخّر.
ولو فرض عدم إمكان الرجوع إلى العامّ لسبب من الأسباب، فلا مجال للرجوع إلى الاستصحاب، بل لابدّ من الرجوع إلى أصل آخر غيره، لما بيّنّاه.
الصورة الثانية: أن يكون العامّ انحلاليّاً ـ أيضاً ـ، ولكنّ الخاصّ لا يكون انحلاليّاً، ولا يكون الزمان المأخوذ فيه مستقلّاً، بل يكون مهملاً من هذه الناحية.
وفي هذه الصورة، لابدّ من الرجوع إلى العموم، ولا يمكن الرجوع إلى الخاصّ، بل لو فرض عدم التمكّن من الرجوع إلى العموم، فأيضاً لا يمكن استصحاب الخاصّ، لما عرفنا من أنّه من مصاديق إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.
الصورة الثالثة: أن لا يكون العامّ انحلاليّاً، والخاصّ يكون الزمان المأخوذ فيه مستقلّاً. ففي مورد الشكّ، لا يجوز الرجوع إلى العامّ، ولا إلى استصحاب حكم الخاصّ.
أمّا عدم جواز الرجوع إلى العامّ؛ فلعدم أصالة العموم، بل كان حكماً واحداً بالنسبة إلى كلّ فرد من أفراد العامّ في مجموع الأزمنة، وذهب ذلك الحكم عن هذا الفرد الذي خصّص، وليس هناك حكم آخر حتى يتمسّك بعمومه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون التخصيص من أوّل الأزمنة أو أوسطها.
وأمّا عدم جواز الرجوع إلى الاستصحاب؛ فلما تقدّم من أنّه إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر، وليس من إبقاء ما كان.
الصورة الرابعة: أن لا يكون العامّ انحلاليّاً، والخاصّ ـ أيضاً ـ لا يكون الزمان المأخوذ فيه موضوعاً مستقلاً، فالمرجع في هذه الصورة هو الاستصحاب، لما ذكرناه من أنّه لا مجال للرجوع إلى العموم، فتصل النوبة إلى الاستصحاب.

التنبيه العاشر: تعذّر بعض قيود المركّب:
إذا تعذّر إتيان بعض أجزاء المركّب أو شرائطه أو تعذّر ترك بعض موانعه، فتارةً يكون هناك دليل اجتهاديّ، من إطلاق دليل أو عموم قاعدة الميسور أو غير ذلك، وأُخرى لا يكون، وحينئذٍ: فهل يمكن التمسّك بالاستصحاب لإثبات وجوب الباقي غير المتعذّر أم لا؟
فمثلاً: في الآية الشريفة: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾( )، لو فرض أنّ لها إطلاقاً يشمل كلتا حالتي التمكّن من رمي الجمرة وعدم التمكّن منه، فإذا لم يتمكّن منه، وسقط الأمر عنه بواسطة عدم القدرة، فحينئذٍ: يتمسّك بإطلاق دليل وجوب الحجّ لإثبات وجوب الباقي، وعدم سقوطه بسقوط وجوب ذلك الجزء، أو ذلك الشرط المتعذّر.
وقد تقدّم نظائر لهذه الآية الشريفة المتقدّمة عند الكلام عن أدلّة قاعدة الميسور. فلا نعيد.
وإنّما الكلام هنا في أنّه لو لم يكن هناك دليل اجتهاديّ من إطلاق دليل أو عموم قاعدة أو غير ذلك، فهل يمكن جريان الاستصحاب ـ بتقريب أنّ الاستصحاب أصل عمليّ، فلا تصل النوبة إليه إلّا بعد فقدان العموم أو الإطلاق، وفقدان إطلاق دليل القيد؛ إذ مع وجود إطلاق في دليل المركّب، وكون دليل القيد مجملاً، فيكون بقاء الوجوب للبقيّة معلوماً بواسطة الإطلاق.
فلا يبقى مجال للاستصحاب؛ وذلك لحكومة إطلاق دليل المركّب، وكذا لو كان لدليل الجزء إطلاق فيسقط الوجوب سواء كان لدليل المركّب إطلاق ـ أم لا يمكن جريانه؟
وتقرير جريان الاستصحاب في المقام بأن يقال:
إنّ شخص الوجوب كان موجوداً، وشموله لتلك القطعة الباقية غير المتعذّرة، وهو الوجوب النفسيّ الضمنيّ المتعلّق بتلك القطعة الباقية في ضمن تعلّقه المجموع.
فإنّ منشأ اعتبار الوجوب هو الإرادة المنبسطة على جميع الأجزاء والشرائط وإعدام الموانع قبل طروّ التعذّر، وبعد طروّه يشكّ في أنّه هل ارتفعت جميع قطعات تلك الإرادة المنبسطة على مجموع أجزاء المركّب وشرائطها أم أنّ الذي ارتفع هو خصوص القطعة التي كانت متعلّقة بغير المتعذّر؟ فيجري استصحابه.
وقد يقال: بأنّ لازم ذلك أنّ المستصحب في ظرف اليقين به كان وجوبه من قبيل الوجوب النفسيّ الضمنيّ، ثمّ في ظرف الشكّ صار وجوبه نفسيّاً استقلاليّاً، وهذا المقدار من الاختلاف لايوجب اختلافاً في ذات المستصحب، بل إنّما يوجب التبدّل في حدّه، من الضمنيّة إلى الاستقلاليّة.
ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّ الاستقلاليّة والضمنيّة متغايران؛ لرجوعهما إلى البشرط شيء والبشرط لا، كما الركعتين في صلاة الحاضر والمسافر. فيكون إجراء الاستصحاب ـ والحال هذه ـ من إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر، وليس إبقاء لما كان كما كان.

التنبيه الحادي عشر :المراد من الشكّ في البقاء:
المراد من الشكّ في البقاء الذي أُخذ موضوعاً للاستصحاب هو عدم قيام علم أو علميّ على ارتفاع الحالة السابقة أو على بقائها.
والظاهر: أنّ الشكّ قد استعمل بمعناه المتبادر عند العرف، وهو الترديد واحتمال الخلاف، وحيث إنّ احتمال الخلاف تارةً يكون مساوياً لاحتمال الوفاق، وهو الشكّ بمعناه الأخصّ، وأُخرى يكون راجحاً أو مرجوحاً، ويسمّى الأوّل ـ عادةً ـ ظنّاً، والثاني وهماً، حيث كان كذلك، فيكون الشكّ بمعناه هنا شاملاً للظنّ ـ أيضاً ـ، إذ لم يكن له معنىً في المقام سوى عدم الجزم بالنسبة الحكميّة.
وعلى هذا الأساس: فالذي يضرّ بتحقّق الشكّ إنّما هو حصول العلم بالبقاء، أو بالارتفاع.
فكلّ من الصور الثلاث ـ أعني: الشكّ بمعناه الأخصّ، والظنّ، والوهم ـ لا يوجب خروج القضيّة التي تعلّق بها عن كونها مشكوكة، فتشملها أدلّة الاستصحاب، وتكون بذلك مجرىً له.
وأمّا الظنّ المعتبر، فإنّه بعد تتميم كشفه، يقوم مقام العلم، بل هو علم تعبّداً، كما تقدّم، ولذا سمّي ﺑ (العلميّ)، فإذا قام على البقاء أو على الارتفاع، فلا يبقى مجال للاستصحاب؛ لفرض ارتفاع موضوعه تعبّداً، وهذا هو المقصود من حكومة الأمارات على الاستصحاب.
وأمّا احتمال أن يكون المراد بالشكّ هو خصوص الشكّ المتساوي الطرفين ـ والذي هو الشكّ بالمعنى الأخصّ ـ حتى يكون إجراء الاستصحاب في مورد الظنّ بالخلاف، بل وحتى في مورد الظنّ بالوفاق، بحاجة إلى دليل.
فبعيد؛ لأنّ المتفاهم العرفيّ من مثل خطاب (لا تنقض اليقين بالشكّ)، هو عدم جواز نقض اليقين بشيء بصرف احتمال عدم بقائه، سواء كان احتمال العدم مساوياً لاحتمال البقاء، أم كان راجحاً أم مرجوحاً.
ويشهد لذلك قوله: <ولكن انقضه بيقين آخر>، فلابدّ أن يكون ما عدا العلم بارتفاع الحالة السابقة مشمولاً للشكّ، وإلّا ، يلزم إهمال حكم الظنّ بالخلاف.
قال الاُستاذ المحقّق في المقام:
<وظنّي: أنّ هذا المعنى الذي ذكروه للشكّ ـ وهو خصوص كون الاحتمالين متساويين ـ ليس معنىً لغويّاً أو عرفيّاً للشكّ، وإنّما هو اصطلاح علميّ لبيان استيفاء الحالات الأربع التي تحصل للنفس بالنسبة إلى كلّ قضيّة التفت الإنسان إليها، ولا يخلو من أحدها>( ).