خاتمة

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

خاتمة


فيها اُمور:

الأمر الأوّل :الكلام في وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة:
لا يخفى: أنّه بناءً على ما عرفناه من أنّ حقيقة الاستصحاب هي الحكم ببقاء ما كان تعبّداً في ظرف الشكّ في بقائه وجداناً، وهذا يعني: أنّه لابدّ في تحقّق موضوع الاستصحاب، وفي ثبوت المجرى له، من أن يكون هناك قضيّتان: إحداهما: قضيّة متيقّنة، والأُخرى: مشكوكة.
كما أنّه لابدّ من اتّحاد القضيّتين موضوعاً ومحمولاً، وإلّا، فمع اختلافهما من ناحية الموضوع أو المحمول أو كليهما، فلا يجري الاستصحاب.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى أنّ المعتبر في بقاء الموضوع هو بقاء الموضوع بمعنى اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع القضيّة المشكوكة، بمعنى: أنّ ما كان متعلّق اليقين سابقاً، فلابدّ وأن يكون هو متعلّق الشكّ أيضاً، فإذا كان المتيقّن هو قيام زيد، فلابدّ أن يكون هو المشكوك، لا قيام عمرو. وأمّا بقاؤه في الخارج فغير معتبر في الاستصحاب، وإنّما هو معتبر في مقام ترتّب الأثر إذا كان الوجود الخارجيّ دخيلاً فيه.
وهاك نصّ كلامه:
<لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع، بمعنى: اتّحاد القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة موضوعاً، كاتّحادهما حكماً؛ ضرورة أنّه بدونه لا يكون الشكّ في البقاء، بل في الحدوث، ولا رفع اليد عن اليقين في محلّ الشكّ نقض اليقين بالشكّ، فاعتبار البقاء بهذا المعنى لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان>.
إلى أن يقول:
<وأمّا بمعنى إحراز وجود الموضوع خارجاً، فلا يعتبر قطعاً في جريانه؛ لتحقّق أركانه بدونه. نعم، ربّما يكون ممّا لا بدّ منه في ترتيب بعض الآثار، ففي استصحاب عدالة زيد، لا يحتاج إلى إحراز حياته لجواز تقليده، وإن كان محتاجاً إليه في جواز الاقتداء به أو وجوب إكرامه أو الإنفاق عليه>( ).
وبالجملة: فيجب أن تتّحد القضيّتان المتيقّنة والمشكوكة موضوعاً، كاتّحادهما حكماً، أي: محمولاً، فإذا فُرض أنّ موضوع القضيّة المتيقّنة ـ مثلاً ـ هو زيد، ومحمولها هو القيام، فيجب أن يكون الموضوع في القضيّة المشكوكة هو ـ أيضاً ـ زيد، ويجب أن يكون محمولها هو القيام، بأن يستصحب عند الشكّ قيام زيد نفسه، لا قيام عمرو، ليختلف الموضوع، ولا عدالة زيد، ليختلف المحمول، فلو لم يكن موضوع القضيّتين متحداً كاتّحادهما محمولاً، فالشكّ ـ حينئذٍ ـ لم يكن في شكّاً في بقاء الأمر الأوّل، بل يصبح شكّاً في حدوث أمر آخر.
وأيضاً: فلو لم يكن موضوع القضيّتين واحداً، كما كان محمولاً واحداً ـ أيضاً ـ، لم يكن رفع اليد عن اليقين في محلّ الشكّ نقضاً لليقين بالشكّ، بل هو لا يكون نقضاً أصلاً، فلو تيقّن في السابق بعدالة زيد، ثمّ شكّ فعلاً بعدالة عمرو، لم يكن هذا الشكّ ـ كما هو واضح ـ شكّاً في بقاء ما كان، ولا رفعاً لليد عن اليقين بعدالة زيد، ولا نقضاً لليقين بالشكّ، وهذا واضح.
وقد ذكر الشيخ الأعظم دليلاً على اعتبار بقاء الموضوع، وهو: أنّه لو لم يعلم تحقّق الموضوع فعلاً في ظرف الشكّ، <فإذا أُريد بقاء المستصحب العارض له المتقوّم به، فإمّا أن يبقى في غير محلّ وموضوع، وهو محال، وإمّا أن يبقى في موضوع غير الموضوع السابق، ومن المعلوم: أنّ هذا ليس إبقاءً لنفس ذلك العارض، وإنّما هو حكم بحدوث عارضٍ مثله في موضوع جديد، فيخرج عن الاستصحاب، بل حدوثه للموضوع الجديد كان مسبوقاً بالعدم، فهو المستصحب دون وجوده>( ).
وحاصله: أنّه لو لم يعلم تحقّق الموضوع فعلاً في ظرف الشكّ، وأُريد إبقاء المستصحب العارض له المتقوّم به، فإمّا أن يبقى في غير محلّ وموضوع، وهو محال، وإمّا أن يبقى في موضوع غير الموضوع السابق، وهو كذلك، إمّا لاستحالة انتقال من موضوع إلى موضوع آخر؛ للزوم الطفرة، وهي المستلزمة لكون العرض بلا معروض، ولو آناً ما، في حال الانتقال والتحوّل. وإمّا لأنّ المتيقّن سابقاً هو وجوده في الموضوع السابق والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد ليس نقضاً لليقين السابق.
واعترض عليه صاحب الكفاية بما حاصله: أنّ انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر، بل وهكذا بقاؤه في غير محلّ وموضوع، وإن كان محالاً حقيقةً، ولكنّه ممّا لا يستحيل التعبّد به والالتزام بآثاره شرعاً.
قال:
<والاستدلال عليه باستحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر؛ لتقوّمه بالموضوع وتشخّصه به، غريب؛ بداهة أنّ استحالته حقيقةً غير مستلزم لاستحالته تعبّداً والالتزام بآثاره شرعاً>( ).
ثمّ بعد الفراغ عن أنّه يعتبر بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب لا محالة، فهل اللّازم هو بقاء الموضوع العقليّ الدقّيّ، أم الموضوع المأخوذ في لسان الدليل، أم الموضوع الذي يحدّده النظر العرفيّ؟
فنقول: بعد أن عرفنا لزوم بقاء الموضوع في جميع حالات جريان الاستصحاب، فليس المراد به بقاء الموضوع الدقّيّ العقليّ؛ لأنّه بعد رجوع القيود إلى الموضوع ـ كما ذكرنا آنفاً في مثل آية وجوب الحجّ، من أنّ مردّها بعد ملاحظة القيود فيها إلى معنى قولك: أيّها المستطيع حجّ ـ فلا مجال للاستصحاب في الأحكام الشرعيّة، في كلّ مقام شكّ في بقاء الحكم فيه؛ لأنّ الشكّ فيه لا يكون إلّا من جهة أنّ القيد الذي زال هل هو دخيل في ترتّب الحكم أم ليس بدخيل؟ فلو علم بعدم دخله فيه، فلا يحصل له الشكّ، كما هو واضح، بل يكون لديه علم ببقاء الحكم، ولو علم بدخله فيه، فكذلك، فإنّه يكون لديه علم بارتفاع الحكم.
وعليه: فبناءً على اعتبار بقاء الموضوع الدقّيّ العقليّ، لا يجري الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة، بل يختصّ جريانه بالموضوعات، دون الأحكام.
وأمّا إذا كان اللّازم هو بقاء الموضوع الذي يفهم من لسان الدليل، فقد فرّق الشيخ الأعظم بين ما كان الوصف مأخوذاً فيه بنحو الشرط، كقوله: (الماء يتنجّس إذا تغيّر)، والموضوع فيه هو نفس الماء، فإذا زال التغيّر استصحب النجاسة، وبين ما كان مأخوذاً فيه بنحو الوصف للموضوع، كقوله: (الماء المتغيّر نجس)، فحينئذٍ: إذا زال التغيّر، لم تستصحب النجاسة( ).
وأمّا إذا كان لزوم بقاء ما هو الموضوع بنظر العرف، فإنّ المعيار ـ حينئذٍ ـ في جريان الاستصحاب إنّما هو ما يفهمه العرف موضوعاً ومعروضاً للمستصحب، بحسب ما هو مرتكز في أذهانهم وبحسب ما يشخّصونه من مناسبات الحكم والموضوع، ولو في بعض الأمثلة، بعد فرض زوال العناوين المحتمل كونها مأخوذة في لسان الدليل؛ لكون العرف بحسب مرتكزاته يرى عدم تبدّل الموضوع بعد زوال بعض صفاته.
فمثلاً: في الدليل الدالّ على حلّيّة الحنطة، يرى العرف أنّ الحنطة ـ بحسب هذا الدليل ـ هي معروض الحلّيّة، ولكنّه في الوقت عينه، يرى بحسب مرتكزاته أنّ عروض الحليّة ليس من مختصّات الحنطة، بل يعمّها ويعمّ الدقيق أيضاً.
وبعبارة أُخرى: فإنّه ـ حينئذٍ ـ إذا شكّ في بقاء الحكم من جهة بقاء ما هو الموضوع عرفاً، كعنوان القائم وأمثاله من العناوين المشيرة إلى ما هو الموضوع واقعاً، وأنّه من الحالات المتبادلة له، لا الاُمور المقوّمة للموضوع حقيقةً، فإذا ورد الدليل ـ مثلاً ـ بأنّ العصير العنبيّ إذا غلى يحرم، فلو جفّ العنب وأصبح زبيباً، فيجري الاستصحاب عندئذٍ، بعدما كان المدار على ما هو الموضوع في نظر العرف.
ولا شكّ في أنّ ما هو مرتكز في أذهانهم في مثل المثال، هو ما يعمّ الزبيب ـ أيضاً ـ، وهم يشخّصون أنّ عنوان العنب المأخوذ في لسان الدليل هو من العناوين المشيرة والحالات المتبادلة، نظير عنوان القائم أو القاعد أو غير ذلك.
نعم، يمكن أن يقال: بأنّ العرف ـ أيضاً ـ قد يرون العنوان من العناوين المشيرة والحالات المتبادلة، ولكنّهم في بعض الأحيان قد يرون العنوان من القيود المقوّمة للموضوع.
فالأوّل: كما مثّلنا. والعنوان المشير عند زواله، فإنّ الحكم لا يزال على حاله، وهو لم يزل، وإذا شكّ في بقائه ـ أعني: الحكم ـ استصحب.
وأمّا الثاني، فكما إذا قيل: لا ترفع صوتك عند النائم، وبما أنّ هذا العنوان يكون من العناوين المقوّمة، فإذا زال، فقد زال الحكم من أصله، وإذا شكّ فلا يكون هناك مجال لاستصحابه.
فإذا عرفت هذا، فاعلم:
أنّ النقض وعدمه يختلفان بحسب الموارد، فإذا لم تتّحد القضيّتان المتيقّنة والمشكوكة موضوعاً كاتّحادهما محمولاً، فلم يكن رفع اليد عن اليقين في ظرف الشكّ نقضاً لليقين بالشكّ، فإنّ النقض إنّما يصدق فيما إذا كان الموضوع باقياً، فإذا زال عنوان من العناوين المأخوذة في لسان الدليل، وكان العرف يراه من العناوين المشيرة والحالات المتبادلة وليس من القيود المقوّمة، فرفع اليد ـ حينئذٍ ـ عن اليقين في ظرف الشكّ، لا يكون نقضاً، لا بحسب الموضوع العقليّ، ولا بحسب ما هو الموضوع في لسان الدليل؛ لعدم بقائهما، وإن كان يعدّ نقضاً بحسب الموضوع العرفيّ؛ لبقائه وعدم ارتفاعه.
فإذا زالت خصوصيّة من خصوصيّات الموضوع، ممّا يحتمل دخلها في الحكم، ولم تكن مأخوذة في لسان الدليل، ولا من القيود المقوّمة للموضوع في نظر العرف، فرفع اليد ـ حينئذٍ ـ عن اليقين في ظرف الشكّ، لا يكون نقضاً بحسب الموضوع العقليّ الدقّيّ؛ لعدم بقائه، ولكنّه يكون نقضاً بحسب الموضوع المأخوذ في لسان الدليل والموضوع العرفيّ؛ لبقائهما وعدم ارتفاعهما.
وأمّا إذا زال عنوان من العناوين المأخوذة في لسان الدليل، ممّا يراه العرف ـ أيضاً ـ موضوعاً، لا ممّا يراه من العناوين المشيرة والحالات المتبادلة، فرفع اليد ـ حينئذٍ ـ عن اليقين في ظرف الشكّ نقض بحسب الموضوع العقليّ الدقّي، وبحسب الموضوع المأخوذ في لسان الدليل، وأيضاً بحسب الموضوع العرفيّ.
وقد يقال ـ بل قد قيل ـ: بأنّه ما المراد من جعل النظر العرفيّ في مقابل النظر بحسب الدليل؟ فإنّه إن أُريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه في مقام تعيّن مفهوم اللّفظ، فهذا يرجع إلى تحكيم الدليل، وليس قسماً آخر. وإن أُريد منه الرجوع إليه في مقام التطبيق وصدق المفهوم على مصاديقه، فلا عبرة بالعرف في هذا المقام كي يحتمل أنّه المحكم والمرجع في تعيّن الموضوع؟
وفي تقريب هذا الإشكال يقول المحقّق العراقي:
<إن أُريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه في معرفة معنى موضوع الدليل وتشخيص مفهومه، فهو صحيح، إلّا أنّه لا يختصّ بباب الاستصحاب؛ لعموم مرجعيّة نظر العرف في تشخيص مفاهيم الألفاظ وتحديد مداليلها في القضايا الشرعيّة وغيرها، فلا معنى لجعل الموضوع العرفيّ مقابلاً لموضوع الدليليّ في خصوص باب الاستصحاب، لرجوع موضوع الدليليّ ـ حينئذٍ ـ إلى الموضوع العرفيّ.
وإن أُريد من الرجوع إلى العرف الرجوع إليه فيما يتسامح فيه العرف ويراه من مصاديق موضوع الدليل في مقام التطبيق مع عدم كونه بالنظر الدقّيّ من مصاديقه ... فقد عرفت أنّه لا عبرة بالمسامحات العرفيّة في باب التطبيقات بعد تشخيص المفاهيم>( ).
ولكن لا يخفى: أنّ للعرف نظرين:
نظراً من جهة أنّه من أهل المحاورة في مقام التفاهم.
ونظراً آخر من جهة ما يرتكز في ذهنه من مناسبات الأحكام وموضوعاتها، وإنّما يتّحد الموضوع بالنظر العرفيّ مع الموضوع بحسب الدليل، إذا كان المراد بنظر العرف هو النظر الأوّل، وأمّا إذا كان المراد به الثاني، فحينئذٍ: يكون الموضوع في نظر العرف مغايراً له بحسب الدليل.
ثمّ إنّه قد يبيّن إشكال آخر على المقابلة المذكورة، ذكره المحقّق الأصفهانيّ في حاشيته على الكفاية، وحاصله:
أنّ لموضوع الحكم مرحلتين: مرحلة الواقع واللّبّ، ومرحلة الإنشاء والدلالة، فهو باعتبار الأُولى عقليّ دقّيّ، وباعتبار الثانية موضوع دليلي، ولا يكون الطلب متعلّقاً بشيء في غير هاتين المرحلتين.
ونظر العرف في الموضوع إنّما هو طريق محض إلى ما هو الموضوع عند الشارع ـ لعدم كون الموضوعيّة من الاُمور الاعتباريّة المتقوّمة بالاعتبار كي يصحّ للعرف اعتبارها حقيقةً ـ، وبعد فرض كون الموضوع لا ثبوت له إلّا في مرحلة اللّبّ واللّفظ، فنظر العرف في كون هذا الشيء موضوعاً للحكم مرجعه إلى المسامحة في الموضوع في قبال العقل والنقل، ولا يصحّ أخذه مقابلاً؛ لأنّ المسامحة في الموضوع تقتضي المسامحة في الحكم ـ بمقتضى التضايف ـ فلا يقين بثبوت الحكم لهذا الموضوع شرعاً كي يحرم نقضه ورفع اليد عنه.
وإليك نصّ ما أفاده:
<وعليه: فيشكل الأمر في الموضوع العرفيّ المسامحيّ، بتقريب: أن موضوعيّة شيءٍ لحكم لها مرحلتان: الأُولى: مرحلة اللّبّ والواقع وفي مقام الثبوت. الثانية: مرحلة الإنشاء والدلالة ومقام الإثبات. فالموضوع باعتبار الأُولى موضوع حقيقيّ عقليّ، وباعتبار الثانية موضوع دليليّ، ولا يكون الشيء معروضاً للطلب في غير هاتين المرحلتين يوصف بالموضوعيّة، فكون الشيء موضوعاً لحكم الشارع ليس إلّا باعتبار تعلّق طلبه به لبّاً أو لفظاً.
وليست الموضوعيّة متقوّمة باعتبار المعتبر حتى يتصوّر اعتبارها من العرف حقيقةً، بل لا بدّ من كون نظر العرف طريقاً محضاً إلى ما هو الموضوع عند الشارع، والمفروض أنّ ذا الطريق لا ثبوت له على التحقيق، إلّا في مرحلة اللّبّ أو اللّفظ، فلا يعقل أن يشكّل نظر العرف المسامحيّ موضوعاً له حكم، بل مرجعه إلى المسامحة في الموضوع مع فرض كون العقل والنقل على خلافه. وحيث إنّ الموضوع مسامحيّ، فمقتضى التضايف كون الحكم كذلك، فثبوت الحكم له ـ أيضاً ـ مسامحيّ، فلا يقين بثبوت الحكم من الشارع لهذا الموضوع حتى يكون إبقاؤه واجباً ونقضه محرّماً>( ).
ويجاب عنه: بأنّ الحكم عبارة عن أمر اعتباريّ، فهو متقوّم بالاعتبار، ولكنّه في عالم الاعتبار وبعد اعتبار المعتبر يكون واقعيّاً.
وللموضوع في مقام ترتّب الحكم واقع متحقّق، فالبحث في حقيقة الأمر في أنّ تعيين الموضوع في واقعه هل يكون بنظر العرف وفهمه من الدليل، أو بنظر العقل، أو بنظر العرف بحسب مرتكزاته.
وكيف كان، فإنّ المشهور بين المحقّقين هو الرجوع إلى العرف في مقام تعيين الموضوع.
وقد أثبت المحقّق الأصفهانيّ ذلك بما توضيحه:
أنّه كما أنّ حجّيّة الظواهر عند الشارع تستفاد من كونه كأحد أهل العرف في مقام المحاورة والتفهيم، فكذلك إن كان للظاهر مصاديق حقيقيّة، وكان بعضها مصداقاً له بنظر العرف، وكانت بنظر العرف ـ أيضاً ـ متعلّقة لإرادته الجدّيّة، كما لو كان مُلقي الكلام أحد أهل العرف، ما لم ينصب قرينة على تعيين مراده الجدّيّ من المصاديق؛ لأنّه إذا لم يكن له اصطلاح خاصّ به، فلابدّ أن يكون قد أراد ما هو عند العرف مصداق حقيقيّ، مع عدم نصب قرينة على العدم.
وعليه: ففيما نحن فيه، يكون مراد الشارع الجدّيّ ـ حيث لم ينصب قرينة على تعيينه ـ من مصاديق النقض: مصاديقه العرفيّة الحقيقيّة، ومرجع صدق النقض حقيقة عرفاً إلى تعيينه الموضوع، فإنّه بعدما يرى أنّ الموضوع هو كذا يرى أنّ رفع اليد عن الحالة السابقة نقض حقيقة، فإذا اعتبر نظره في صدق النقض يكشف عن ذلك عن اعتبار نظره في التعيين( ).
ولكنّ الحقّ: أنّ تعيين موضوع الحكم بنظر العرف إنّما يكون إذا وصل إلى مرتبة القطع بأنّه مراد الشارع، فحينئذٍ: يكون موجباً للتصرّف في حجّيّة لسان الدليل.
ومن المعلوم، أنّ الظاهر إنّما يكون حجّة إذا لم يكن هناك قطع بخلافه، أو كان نظره بمنزلة القرينة الحاليّة، فهو يكون سبباً للتصرّف في ظهور الدليل. وكلامنا هنا إنّما هو في تقديم نظر العرف، ولو لم يصل إلى مرتبة القطع، أو كان لسان الدليل باقياً على حجّيّته وظهوره، فإذا كان ظنّيّاً، فلا دليل على حجّيّة هذا الظنّ، لا شرعاً ولا عقلاً.
ومعه: فلا يمكن التمسّك بالإطلاق والرجوع إلى العرف في مصداق النقض؛ إذ لا دليل على اعتبار العقلاء للنظر العرفيّ في المصداق المبتني على الظنّ في تعيين الموضوع.
ولكنّ المحقّق العراقي أفاد في المقام ما حاصله:
أنّه لا إشكال في احتياج إعمال الاستصحاب إلى نحو من المسامحة في إرجاع القضيّة المشكوكة إلى القضيّة المتيقّنة، لأنّ الإرجاع الحقيقيّ مستلزم لتعلّق الشكّ بما تعلّق به اليقين، وهو مفاد قاعدة اليقين لا الاستصحاب.
ثمّ إنّ استفادة البقاء والاتّحاد:
تارةً: تكون من جهة انتزاعهما عن اعتبار وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة، وكون متعلّق الشكّ هو اليقين بالشيء، فإنّه يقتضي نحواً من الاتّحاد بين القضيّتين.
وأُخرى: يكون من جهة إطلاق النقض في المقام المقابل للبقاء الصادق حقيقةً على مجرّد اتّحادهما بأحد الأنظار.
فعلى الأوّل: يكون الخلاف في أنّ المسامحة المحتاج إليها هل هي بمقدار إلغاء خصوصيّة الزمان مع التحفّظ على باقي الخصوصيّات بالدقّة، أو أنّها ملحوظة من سائر الجهات؟
فعلى الوجه الأوّل، لابدّ من جعل مركز البحث في اختلاف الانظار هو موضوع الحكم الذي به قوام البقاء والاتّحاد؛ لأنّ كبرى (لا تنقض اليقين) ـ المستفاد منها اعتبار الاتّحاد والبقاء ـ هي من المفاهيم المحرزة، ولا خلاف فيها، ولابدّ من تطبيق عنوانهما على المورد بالدقّة العقليّة، لا بالمسامحة العرفيّة، والتطبيق الحقيقيّ يختلف باختلاف الأنظار في الموضوع للحكم، فلابدّ من تعيين النظر المحكّم لإحراز تحقّق الاتّحاد والبقاء.
وعلى الوجه الثاني: ـ وهو ما لوحظت المسامحة من سائر الجهات ـ فيكون محلّ الخلاف ومركزه هو نفس البقاء والإبقاء التعبّديّ، لا في كبرى المستصحب.
وقد اختار الوجه الثاني، وأنّ المسامحة ملحوظة في الجهات الأُخرى غير خصوصيّة الزمان.
وعلى الثاني: ـ أعني إذا كانت استفادة البقاء على حرمة النقض ـ فإن قيل: بأنّ النقض حقيقةً يصدق بمجرّد وحدة القضيّتين بأحد الأنظار، فلا شبهة في شموله لجميع الأنظار، وأمّا إن قيل: بأنّ النقض الحقيقيّ لا يصدق إلّا مع وحدة القضيّتين دقّةً، فلا يشمل النقض الادّعائيّ المسامحيّ، بل شموله له يحتاج إلى دليل خاصّ؛ لعدم جامع بين النقض الحقيقيّ والادّعائيّ، إلّا أن يتمسّك بالإطلاق المقاميّ الذي مقتضاه شمول النقض لما كان نقضاً بنظر العرف؛ لأنّ القضيّة مسوقة على طبق الأنظار العرفيّة ويكون مقدّماً على الإطلاق اللّفظيّ الدالّ على اعتبار النقض الحقيقيّ.
هذا ما ذكره المحقّق العراقي بتلخيص وتصرّف منّا( ).
ولكن لا يخفى: أنّ النقض هنا غير قابل لحمله على المعنى الحقيقيّ؛ لأنّه معناه الحقيقيّ يقتضي أن يكون الشكّ قد تعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين، وهذا هو مفاد قاعدة اليقين، لا الاستصحاب؛ لأنّ الشكّ في الاستصحاب إنّما يتعلّق ببقاء ما تيقّن به، وأمّا في قاعدة اليقين فهو يتعلّق بأصل ما تيقّن به، فإذا شكّ بعدالة زيد في يوم الجمعة ـ مثلاً ـ، ثمّ شكّ في بقاء عدالته يوم السبت، كان هذا هو مجرى الاستصحاب، وأمّا إذا شكّ بعدالة زيد يوم الجمعة، ثمّ حصل له الشكّ في يوم السبت في أصل ثبوت عدالته في يوم الجمعة، بأن زال ما كان مدركاً لاعتقاده ومنشأً لعلمه، فهذا هو مجرى قاعدة اليقين المعروف بالشكّ الساري.
وبعبارة أُخرى: فإنّ هناك اختلافاً بين الشكّ واليقين؛ لأنّ أحدهما متعلّق بالحدوث، والآخر بالبقاء، فلابدّ أن يحمل على المعنى المسامحيّ للنقض، بعد عدم إمكان حمله على المعنى الحقيقيّ، فيتمسّك بدليل الاستصحاب في كلّ مورد يصدق فيه النقض ولو مسامحةً.
وهناك فرق آخر بين القاعدة والاستصحاب ـ غير تعلّق الشكّ بأصل ما تيقّن في الأوّل وبالبقاء في الثاني ـ، وهو جواز اجتماع اليقين والشكّ في الاستصحاب في زمانٍ واحد، بخلاف قاعدة اليقين، فإنّه لا يجوز. ففي الاستصحاب، يمكن أن يقطع فعلاً بعدالة زيد في يوم الجمعة ويشكّ ـ أيضاً ـ فعلاً في بقاء عدالته في هذا اليوم، وذلك غير ممكن بالنسبة إلى قاعدة اليقين أصلاً؛ فلا يجوز أن يقطع فعلاً بعدالته في يوم الجمعة ويشكّ فعلاً في أصل عدالته فى يوم الجمعة، كما هو ظاهر.
وبالجملة: فلابدّ في الاستصحاب من أن يكون اليقين والشكّ طوليّين لا عرضيّين واقعين في زمان واحد.

الأمر الثاني :هل تشمل أخبار الاستصحاب قاعدة اليقين أم لا؟
قد يتوهّم أنّ المدرك في قاعدة اليقين هو نفس أدلّة الاستصحاب، وأنّ أدلّة الاستصحاب تشملها، بتقريب: أنّ مدلول هذه الأخبار ممّا لا يختصّ بالشكّ في البقاء فقط، بل الشكّ بعد اليقين ملغىً مطلقاً، سواء كان متعلّقاً بنفس ما تيقّنه، أم لا، أم تعلّق ببقائه.
قال الشيخ الأعظم:
<وأوّل من صرّح بذلك الفاضل السبزواري في الذخيرة، في مسألة من شكّ في بعض أفعال الوضوء، حيث قال: والتحقيق: أنّه إن فرغ من الوضوء متيقّناً للإكمال، ثمّ عرض له الشكّ، فالظاهر: عدم وجوب إعادة شيء؛ لصحيحة زرارة: (ولا تنقض اليقين أبداً بالشك)>.
ثمّ قال:
<ولعلّه تفطّن له من كلام الحلّيّ في السرائر، حيث استدلّ على المسألة المذكورة بأنّه لا يخرج عن حال الطهارة إلّا على يقين من إكمالها وليس ينقض الشكّ اليقين>.
ثمّ قال:
<لكنّ هذا التعبير من الحلّيّ لا يلزم أن يكون استفاده من أخبار عدم نقض اليقين بالشكّ. ويقرب من هذا التعبير عبارة جماعة من القدماء. لكنّ التعبير لا يلزم دعوى شمول الأخبار للقاعدتين، على ما توهّمه غير واحد من المعاصرين، وإن اختلفوا بين مُدّعٍ لانصرافها إلى خصوص الاستصحاب، وبين منكر له، عامل بعمومها>( ).
وقد تصدّى لدفع هذا التوهّم المذكور وتضعيفه، وقد أفاد في مقام دفعه وجهين:
الوجه الأوّل: ـ ما ملخّصه على طوله ـ أنّ الظاهر من الأخبار الدالّة على عدم نقض اليقين بالشكّ هو اتّحاد متعلّق اليقين والشكّ، فلابدّ أن يلاحظ المتيقّن والمشكوك في قاعدة الاستصحاب غير مقيّدين بالزمان، وإلّا، لم يجز استصحابه كما تقدّم في ردّ شبهة من قال بتعارض الوجود والعدم في شيء واحد، ـ يعني به: الفاضل النراقيّ على ما تقدّم شرح كلامه في ذيل استصحاب الاُمور التدريجيّة ـ والمفروض في القاعدة الثانية كون الشكّ متعلّقاً بالمتيقّن السابق بوصف وجوده في الزمان السابق، ومن المعلوم: عدم جواز إرادة الاعتبارين، من اليقين والشكّ، في تلك الأخبار.
إلى أن قال: <ثمّ إذا ثبت عدم جواز إرادة المعنيين، فلا بدّ أنّ يُخصّ مدلولها بقاعدة الاستصحاب؛ لورودها في موارد تلك القاعدة، كالشكّ في الطهارة من الحدث والخبث ودخول هلال شهر رمضان أو شوّال>( ).
الوجه الثاني: ما لفظه: <ثمّ لو سلّمنا دلالة الروايات على ما يشمل القاعدتين، لزم حصول التعارض في مدلول الرواية المسقط له عن الاستدلال به على القاعدة الثانية؛ لأنّه إذا شكّ فيما تيقّن سابقاً، أعني: عدالة زيد في يوم الجمعة، فهذا الشكّ معارض لفردين من اليقين، أحدهما: اليقين بعدالته المقيّدة بيوم الجمعة.
الثاني: اليقين بعدم عدالته المطلقة قبل يوم الجمعة، فتدلّ بمقتضى القاعدة الثانية على عدم نقض اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة باحتمال انتفائها في ذلك الزمان، وبمقتضى قاعدة الاستصحاب على عدم نقض اليقين بعدم عدالته قبل الجمعة باحتمال حدوثها في الجمعة، فكلّ من طرفي الشكّ معارض لفرد من اليقين>( ).
وأمّا المحقّق النائيني، فقد ذهب إلى أنّ في الاستصحاب والقاعدة جهات أربع، هي: جهة اليقين، وجهة المتيقّن، وجهة النقض، وجهة الحكم، ولا يمكن الجمع بين هاتين القاعدتين في اللّحاظ من جميع الجهات.
<أمّا من جهة اليقين؛ فلأنّ اليقين في باب الاستصحاب إنّما يكون ملحوظاً من حيث كونه طريقاً وكاشفاً عن المتيقّن، وفي القاعدة يكون ملحوظاً من حيث نفسه؛ لبطلان كاشفيّته بعد تبدّله إلى الشكّ.
وأمّا من جهة المتيقّن؛ فلأنّ المتيقّن في الاستصحاب لا بدّ وأن يكون معرّى عن الزمان، غير مقيّد به، وفي القاعدة لا بدّ من لحاظه مقيّداً بالزمان.
وأمّا من جهة النقض؛ فلأنّ نقض اليقين في الاستصحاب إنّما يكون باعتبار ما يقتضيه اليقين من الجري العمليّ على طبق المتيقّن، وفي القاعدة إنّما يكون باعتبار نفس اليقين، وذلك من لوازم لحاظ اليقين موضوعاً أو طريقاً.
وأمّا من جهة الحكم؛ فلأنّ الحكم المجعول في القاعدة إنّما هو البناء العمليّ على ثبوت المتيقّن في زمان اليقين، وفي الاستصحاب هو البناء العمليّ على ثبوت المتيقّن في زمان الشكّ.
فالقاعدة تباين الاستصحاب من كلّ جهة من هذه الجهات الأربع، فلا يمكن أن تعمّها أخبار الباب>( ).
وما ذكره من الفرق، وإن كان محلّاً للتأمّل، ولكنّ ما أفاده من عدم شمول الأخبار للقاعدتين، فلا كلام فيه.
وقد أفاد المحقّق الخراسانيّ في حاشيته على الرسائل ما حاصله:
أنّه بعد لحاظ اتّحاد متعلّقي الشكّ واليقين؛ حيث كان النقض والإبقاء متوقّفين على ذلك، فلابدّ من إلغاء خصوصيّة الزمان في الاستصحاب، وحينئذٍ: ففي الاستصحاب تتمّ ملاحظة المتيقّن بدون الزمان، وأمّا في القاعدة فيلاحظ المتيقّن مع الزمان، فاللّحاظان في القاعدتين مختلفان، وبذلك يختلف ما هو المؤدّى في إحداهما عن ما هو المؤدّى في الأُخرى.
وحينئذٍ: فإن أُفيد المؤدّيان بمفهوم اسميّ يعمّهما، بحيث يكشف عن اللّحاظين المذكورين ـ كما إذا قيل: لا تنقض اليقين بالشكّ الذي له تعلّق بما تعلّق به اليقين ـ فهو، وإلّا، فلا يمكن أداء هذين المؤدّيين بمعنى حرفيّ بحيث لا يكاد يراد منه إلّا أحدهما؛ لعدم إمكان اجتماع اللّحاظين المتنافيين في إنشاء واحد.
ولا يخفى: أنّ أخبار الباب ليس لها مفهوم اسميّ يعمّ المؤدّيين، فيكون مفهومها حرفيّاً، فلا يعمّهما بلحاظهما المتنافيين، فلا يصلح لأن يستفاد من الأخبار ـ حينئذٍ ـ إلّا الاستصحاب.
وإليك نصّ كلامه:
<لولا لحاظ اتّحادهما، لما كان العمل على خلاف اليقين نقضاً له بالشّكّ، ولا العمل على طبقه مضيّاً على اليقين، فلا بدّ من عدم ملاحظة الزّمان، وأن متعلّقهما مع ملاحظته اثنين، ومتعلّق الشّكّ واليقين في القاعدة، وإن كان ـ أيضاً ـ متّحداً، إلّا أنّه مع ملاحظة الزّمان، فكان إلغاء الشّكّ والمضيّ على اليقين في الاستصحاب عبارة عن التّعبّد بثبوت المشكوك في اللّاحق، كما كان في السابق، وفي القاعدة عبارة عن التّعبّد بثبوته فيه سابقاً، وإن شكّ في ثبوته كذلك لاحقاً، واختلاف مؤدّاهما، وإن لم يمنع عن الجمع بينهما في كلام واحد مشتمل على ما يعمّهما بمفهومه ويحويهما بمعناه حاكٍ عن حرمة النّقض، ووجوب المضيّ في الواقع باللّحاظين اللّذين كانا موجبين لاختلاف مؤدّى القاعدتين، كما إذا قيل ـ مثلاً ـ (لا تنقض اليقين بالشكّ الذي كان له تعلّق بما تعلّق به اليقين)، فإنّ التّعلّق بإطلاقه يعمّ ما إذا كان تعلّقه به بأصل ثبوته الذي لا بدّ فيه من اتّحاد المتعلّقين، ولو مع ملاحظة الزمان أو بقائه الذي لا بدّ من اتّحادهما مع عدم ملاحظته، إلّا أنّه لا يكاد يمكن الجمع بينهما فيما إذا لم يكن هناك ما يحكي عنهما بمفهومه، ويظهر في تحقّقهما بإطلاقه أو عمومه، بل كان إرادتهما بالجمع بين اللّحاظين في خطاب واحد قصد به ضرب كلتا القاعدتين؛ ضرورة امتناع الإنشاء الواحد بلحاظين متنافيين ونظرين متضادّين: لحاظ المتيقّن مع زمانه، ولحاظه بدونه، والنّظر إلى ثبوته في زمان قطع بثبوته فيه من دون نظر إلى بقائه، والنّظر إلى خصوص بقائه>( ).
ولكن يرد عليه: أنّه لا يشترط في الاستصحاب لحاظ المتيقّن بدون الزمان، كما ذكر، بل الذي هو معتبر إنّما هو تعلّق الشكّ بالبقاء على حدّ تعلّق اليقين بالحدوث فعلاً، لا أن يلحظ عدم الزمان في المتيقّن.
وكيف كان، فإنّ بعض أخبار الباب وإن كانت مختصّةً بالاستصحاب، ولكنّ بعضها مجمل، كموثّقة إسحاق بن عمّار المتقدّمة، وهو قوله: <إذا شككتَ فابنِ على اليقين. قال: قلت: هذا أصل، قال: نعم>، فإنّها مجملة مردّدة بين قاعدة الاستصحاب وقاعدة اليقين، فلا يمكن الاستدلال بها لشيء منهما. والقول بشمولها لكلتا القاعدتين، على تقدير تجويزها ثبوتاً، خلاف الظاهر بلا إشكال.
وأمّا قوله: <من كان على يقين فشكّ>، أو <فأصابه شكّ فليمضِ على يقينه، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين> أو <فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ>، فالشيخ ـ كما تقدّم عند الحديث عن أخبار الباب ـ حمله على قاعدة اليقين؛ لظهوره في اختلاف زمان الوصفين المعتبر في قاعدة اليقين دون الاستصحاب.
بينما ادّعى صاحب الكفاية هناك أنّها ظاهرة في الاستصحاب، لقوله في آخر الحديث: <فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين> أو <فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ>، فإنّه يشير إلى القضيّة المرتكزة في الاستصحاب الواردة في الصحاح الثلاث المتقدّمة.
ولكنّ الشيخ الأعظم استدرك قائلاً: <فالانصاف: أنّ الرواية ـ سيّما بملاحظة قوله: (فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين)، بملاحظة ما سبق في الصحاح، من قوله: (لا ينقض اليقين بالشكّ)، حيث إنّ ظاهره مساوقته لها، ظاهرة في الاستصحاب، ويبعد حملها على المعنى الذي ذكرنا>( )، يعني به: قاعدة اليقين.

الأمر الثالث: في تقدّم الأمارات على الاستصحاب:
ولا شبهة في هذا التقديم ولا كلام، وإنّما الكلام في وجهه، وأنّه هل يكون من باب التخصيص أو التخصّص أو الحكومة أو الورود؟
فلابدّ ـ أوّلاً ـ من بيان المراد من كلّ من هذه المصطلحات الأربعة، فنقول:
أمّا التخصيص: فهو إخراج بعض الأفراد عن تحت العامّ الذي ثبت له الحكم، مع حفظ فرديّته ومصداقيّته له، كخروج الفسّاق من العلماء فيما لو قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (لا تكرم فسّاق العلماء).
وأمّا التخصّص: فهو خروج الفرد عن تحت العامّ حقيقة تكويناً وذاتاً، بلا حاجة إلى ما يخرجه، كخروج زيد الجاهل عن تحت قوله: (أكرم العلماء)، من دون أن نحتاج في إخراجه إلى أن يقال: (لا تكرم زيداً الجاهل).
وأمّا الورود: فهو ما إذا كان أحد الدليلين رافعاً لموضوع الآخر حقيقةً، ولكن لا تكويناً، بل بواسطة التعبّد الشرعيّ، فهو من هذه الناحية ـ وهي كون الخروج حقيقيّاً ـ يشترك مع التخصّص، وإنّما يختلف عنه في أنّ الخروج هنا يكون ببركة التعبّد وجعل الشارع واعتباره، ولولا ذلك لما كان بياناً أصلاً حتى يكون متقدّماً على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ورافعاً لموضوعها حقيقة.
والورود قد يكون حقيقةً، كما في الأمارات بالنسبة إلى الاُصول العقليّة كالبراءة العقليّة والاحتياط والتخيير العقليّين، فإنّ الأمارة إذا قامت على حكم أو موضوع ذي حكم فلا يبقى معها ـ أصلاً ـ موضوع لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، بل ينقلب اللّابيان، الذي هو موضوع هذه القاعدة، إلى البيان، وهكذا موضوع الاحتياط والتخيير العقليّين، وهو احتمال العقاب وعدم الترجيح لتقديم أحدهما.
وقد يكون تعبّداً، كما في الأمارات بالنسبة إلى الاُصول الشرعيّة، كالبراءة الشرعيّة والاستصحاب، بناءً على إدخاله في باب الاُصول العمليّة، وكقاعدتي الحلّ والطهارة، بل بناءً على عدم دخوله في الأمارات ولا الاُصول، كما ذكرناه من أنّ الاستصحاب فرش الاُصول وعرش الأمارات؛ فإنّه إذا قامت الأمارة على شيء فالجهل، ولو كان باقياً ولم يرتفع معها حقيقةً، ولكن لا جهل معها شرعاً بعد أن كان الشارع قد نزّلها منزلة العلم، فلا يبقى ـ بعد ورودها ـ مجال لمثل حديث الرفع ممّا أُخذ في موضوعه الجهل أو الشكّ.
وأمّا الحكومة: فقال الشيخ الأعظم في شرحها في هذا المقام ما نصّه:
<ومعنى الحكومة ـ على ما سيجيء في باب التعارض والتراجيح ـ: أن يحكم الشارع في ضمن الدليل بوجوب رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل الآخر لولا هذا الدليل الحاكم، أو بوجوب العمل في موردٍ بحكمٍ لا يقتضيه دليله لولا الدليل الحاكم، وحاصله: تنزيل شيء خارجٍ عن موضوع دليلٍ منزلةَ ذلك الموضوع في ترتيب أحكامه عليه، أو داخلٍ في موضوعٍ منزلة الخارج منه، في عدم ترتيب أحكامه عليه>( ).
وما ذكره في مبحث التعادل والتراجيح هو التالي:
<وضابط الحكومة: أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللّفظيّ متعرّضاً لحال دليل الآخر ورافعاً للحكم الثابت بالدليل الآخر عن بعض أفراد موضوعه، فيكون مبيّناً لمقدار مدلوله، مسوقاً لبيان حاله، متفرّعاً عليه، وميزان ذلك: أن يكون بحيث لو فرض عدم ورود ذلك الدليل لكان هذا الدليل لغواً خالياً عن المورد>( ).
والحاصل: أنّ الحكومة هي ما إذا كان أحد الدليلين ناظراً إلى الدليل الآخر مفسّراً له متصرّفاً فيه، وذلك:
إمّا في حكمه، كما إذا قال: (أكرم العلماء)، ثمّ قال: (لا وجوب لإكرام العالم الفاسق). والفرق بين المخصّص وهذا النوع من الحاكم مع كونهما متساويين في النتيجة: أنّ المخصّص ليس له نظر إلى العامّ، بخلاف الحاكم، فله نظر إلى المحكوم.
وإمّا في موضوعه، كما إذا قال: (أكرم العلماء) ثمّ قال: (العالم الفاسق ليس بعالم).
ثمّ إنّه لا فرق في تصرّف الحاكم في المحكوم بين أن يكون بنحو التضييق، كما في مثل (لا ربا بين الوالد وولده)، أو بنحو التوسعة، نحو (الصلاة بالبيت طواف). بل قد يكون ـ أيضاً ـ بمعنى التغيير والتبديل، كما إذا قال: (لا تجالس الفقراء) ثمّ قال: (ليس الفقير من لا مال له بل الفقير لا دين له).
وكذلك، لا فرق بين أن تكون الحكومة واقعيّة كما في الأمثلة المتقدّمة، وبين أن تكون ظاهريّة، كما إذا قال: (يشترط في الصلاة طهارة الثوب)، ثمّ قال: (كلّ شيء لك طاهر حتى تعلم أنّه قذر) فيوسع الثاني دائرة الشرط ظاهراً ويجعل الشرط أعمّ من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة، أو قال: (يجب في الصلاة كذا وكذا من الأجزاء)، ثمّ قال: (رفع عن اُمّتي ما لا يعلمون)، فيضيّق الثاني دائرة الأجزاء ظاهراً ويخصّصها بصورة العلم فقط، فتكون الحكومة ـ حينئذٍ ـ ظاهريّة، وهنا: لا يكون العمل مجزياً عن الحكم الواقعيّ عند انكشاف الخلاف، بل هو، والحال هذه، ﴿ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء﴾( ).
فإذا عرفت ذلك، نقول:
لا يخفى: أنّ الأمارات واردة على الاُصول العقليّة، وحاكمة على الاُصول الشرعيّة.
فهل تقديم الأمارات على الاستصحاب بنحو الورود أو الحكومة أو التخصيص؟
وقد صرّح الشيخ الأنصاريّ في هذا المقام بتقديم دليل الأمارات على دليل الاستصحاب بالحكومة، قال ـ ما هذا لفظه ـ:
<لكنّ الشأن في أنّ العمل به [يعني: بما أقامه الشارع مقام العلم بالواقع] من باب تخصيص أدلّة الاستصحاب، أو من باب التخصّص؟ [ويعني بالتخصّص هنا: الورود]، الظاهر: أنّه من باب حكومة أدلّة تلك الاُمور على أدلّة الاستصحاب، وليس تخصيصاً بمعنى خروج المورد بمجرّد وجود الدليل عن مورد الاستصحاب؛ لأنّ هذا مختصّ بالدليل العلميّ المزيل وجوده للشكّ المأخوذ في مجرى الاستصحاب>.
ثمّ ساق الكلام إلى بيان معنى الحكومة، بعبارة نقلنا نصّها سابقاً.
إلى أن قال:
<ففيما نحن فيه، إذا قال الشارع: (اعمل بالبيّنة في نجاسة ثوبك)، والمفروض أنّ الشكّ موجود مع قيام البيّنة على نجاسة الثوب، فإنّ الشارع جعل الاحتمال المطابق للبيّنة بمنزلة اليقين الذي ينتقض به اليقين السابق، وجعل ـ أيضاً ـ الاحتمال المخالف للبيّنة كالمعدوم، فكأنه لا شكّ حتى يرجع فيه إلى الاستصحاب، فكأنّه قال: لا يُحكم على هذا الشكّ بحكمه المقرّر في قاعدة الاستصحاب، وافرضه كالعدم>. انتهى( ).
ولكنّه عاد في باب التعادل والتراجيح، ليقول بالتفصيل، ونصّ كلامه:
<فإن كان الأصل ممّا كان مؤدّاه بحكم العقل، كأصالة البراءة العقليّة والاحتياط والتخيير العقليّين، فالدليل ـ أيضاً ـ [يعني: الاجتهاديّ]، وارد عليه، ورافع لموضوعه؛ لأنّ موضوع الأوّل عدم البيان، وموضوع الثاني احتمال العقاب، ومورد الثالث عدم المرجّح لأحد طرفي التخيير، وكلّ ذلك يرتفع بالدليل العلميّ المذكور. [أي: الدليل الذي ثبت اعتباره بالعلم].
وإن كان مؤدّاه من المجعولات الشرعيّة، كالاستصحاب ونحوه، كان ذلك الدليل حاكماً على الأصل، بمعنى: أنّه يحكم عليه بخروج مورده عن مجرى الأصل، فالدليل العلميّ المذكور وإن لم يرفع موضوعه ـ أعني الشكّ ـ، إلّا أنّه يرفع حكم الشكّ، أعني: الاستصحاب>.
ثمّ ساق الكلام إلى بيان ضابط الحكومة، بعبارةٍ نقلنا نصّها ـ أيضاً ـ.
إلى أن قال:
<والفرق بينه وبين التخصيص: أنّ كون المخصّص بياناً للعامّ إنّما هو بحكم العقل، الحاكم بعدم جواز إرادة العموم مع العمل بالخاصّ، وهذا بيان بلفظه، ومفسّر للمراد من العامّ، فهو تخصيص في المعنى بعبارة التفسير>. انتهى( ).
وقد خالف في ذلك صاحب الكفاية، الذي ادّعى الورود.
وحاصل ما أفاده: أنّ تقديم الأمارات على الاستصحاب ليس إلّا بمناط الورود، وذلك لأنّ الأمارات مهما قامت على خلاف اليقين السابق، فرفع اليد عنه لا يكون نقضاً لليقين بالشكّ، بل باليقين، أي: باليقين التنزيليّ، يعني به: الحجّة، وهكذا الأمر فيما إذا قامت الأمارة المعتبرة على وفق اليقين السابق، فعدم رفع اليد عنه ليس لأجل أن لا يلزم نقض اليقين بالشكّ، بل من جهة لزوم العمل بالحجّة، أي باليقين التنزيليّ، وانتفاء الشك، ولو تعبّداً، لا حقيقةً.
وإليك نصّ كلامه، قال:
<والتحقيق: أنّه للورود، فإنّ رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشكّ، بل باليقين، وعدم رفع اليد عنه مع الأمارة على وفقه ليس لأجل أن لا يلزم نقضه به، بل من جهة لزوم العمل بالحجّة>( ).
ثمّ أورد على نفسه بما حاصله: بأنّه إنّما تكون الأمارة واردة على الاستصحاب لو أُخذ بدليلها في مورد الاجتماع مع الاستصحاب، ولكن لماذا لا يؤخذ بدليل الاستصحاب ويؤخذ بدليل الأمارة؟ وأيّ مرجّح لتقديم جانب الأمارة على جانب الاستصحاب؟
وقد أجاب عنه( ): بأنّ المرجّح لتقديم جانب الأمارة على جانب الاستصحاب، هو أنّا لو أخذنا بجانب الأمارة فلا يلزم منه شيء سوى ارتفاع موضوع الاستصحاب بها، وهو الشكّ، ولزوم نقض اليقين باليقين، وهذا ليس بمحذور.
وإن أخذنا بجانب الاستصحاب ورفعنا اليد عن الأمارة:
فإن كان ذلك من دون ما يُخرج الأمارة عن تحت عموم أدلّة الاعتبار، كان تخصيصاً بلا مخصّص.
وإن كان لأجل الاستصحاب وكونه مخصّصاً لأدلّة اعتبارها، فهذا دور؛ فإنّ مخصّصيّة الاستصحاب لها يتوقّف على اعتبار الاستصحاب مع الأمارة، واعتبار الاستصحاب مع الأمارة يتوقّف على مخصّصيته لها، وإلّا، فلا مورد له معها، بعدما عرفت من ورود الأمارة عليه.
وبالجملة: ففي مورد الاجتماع مع الاستصحاب، لابدّ من الأخذ بدليل الأمارة دون الاستصحاب، وإلّا، لزم محذور التخصيص بلا مخصّص، أو التخصيص على وجه دائر.
هذا حاصل ما أفاده موضّحاً.
وسلك المحقّق النائيني مسلكاً آخر، رأى فيه أنّ التقديم إنّما يكون من باب الحكومة؛ وذلك نظراً إلى أنّ مقتضى التحقيق هو كون المجعول في الأمارة هي الطريقيّة وتتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف، وما أشبه ذلك، لا المنجّزيّة؛ لاستلزامه تخصيص الحكم العقليّ بقبح العقاب بلا بيان، وهو غير قابل للتخصيص، ولا لجعل المؤدّى؛ لمحذور اجتماع الحكم الواقعيّ والظاهريّ، وحينئذٍ: يرتفع موضوع الاستصحاب تعبّداً عند قيام الأمارة، وهو معنى الحكومة؛ لأنّه أوجب التصرّف في عقد الوضع.
قال:
<وبالجملة: حكومة الأدلّة المتكفّلة للأحكام الظاهريّة بعضها على بعض، إنّما تكون باعتبار رفع دليل الحاكم موضوع دليل المحكوم في عالم التشريع، مع بقائه في عالم التكوين، فإنّ قيام الأمارة على خلاف مؤدّى الأصل لا يوجب رفع الشكّ خارجاً؛ لاحتمال مخالفة الأمارة للواقع، فموضوع الأصل محفوظ تكويناً، ولكن لمّا كان المجعول في باب الأمارات هو الإحراز وإلغاء احتمال الخلاف، كانت الأمارة رافعة للشكّ في عالم التشريع؛ لأنّ المكلّف يكون محرزاً للواقع بحكم التعبّد بالأمارة، فلا يبقى موضوع الأصل>. إلى آخر ما أفاده( ).
وقريب من ذلك ما اختاره المحقّق العراقي، ولكن بتعبير آخر، فقد التزم بأنّ قيام الأمارة ـ بمقتضى دليل الاعتبار ـ يحقّق غاية الاستصحاب، وهو اليقين، ولم يرَ بأنّه يرفع موضوعه، وهو الشكّ. ولعلّه لأجل أنّ موضوع الاستصحاب ليس عبارة عن عدم العلم كي يكون اعتبار العلم رافعاً لموضوعه، بل عبارة عن أمر وجوديّ، وهو الاحتمال الذي يصل إلى حدّ العلم، ومن الواضح: أنّ اعتبار أحد الضدّين لا يلازم اعتبار عدم الضدّ الآخر، فالتلازم بين الواقعين لا يستلزم التلازم بين الاعتبارين.
وعليه: فاعتبار العلم لا يلازم اعتبار عدم الاحتمال الخاصّ، فلا يكون اعتباره رافعاً لموضوع الاستصحاب.
وإليك نصّ ما أفاده:
<إنّ التنزيل المستفاد من أدلّة الأمارات، إمّا أن يكون ناظراً إلى حيث تتميم الكشف وإثبات العلم بالواقع، وإمّا أن يكون ناظراً إلى المؤدّى بإثبات كونه هو الواقع، بلا تكفّله لحيث تتميم كشف الأمارة. فعلى الأوّل ـ كما هو التحقيق ـ يكون تقديم الأمارة على الاُصول التي منها الاستصحاب بمناط الحكومة، لا غيرها؛ إذ هي بدليل تتميم كشفها تكون رافعةً للشكّ الذي أُخذ موضوعاً في الاُصول، ومثبتة للمعرفة المأخوذة غايةً في مثل دليل الحلّيّة ودليل حرمة النقض، وبهذا الاعتبار، تكون ناظرةً إلى نفي الحكم المترتّب على عدم انكشاف الواقع واستتاره، ومعه: لا يكون رفع اليد عن اليقين السابق في الاستصحاب من نقض اليقين بالشكّ، بل كان من نقض اليقين باليقين ...>. انتهى موضع الحاجة( ).
ولكنّ الحقّ: أنّ ما يفهم من دليل حرمة النقض ليس هو تحديد وتحقيق غاية للاستصحاب، بل إنّما هو عبارة عن تحديد جريان الاستصحاب بارتفاع موضوعه، ونتيجته: ارتفاع الاستصحاب بارتفاع موضوعه؛ ومع وجود اليقين فلا يبقى الشكّ، الذي هو موضوع الاستصحاب، فيشكل القول بالحكومة.
ولكن بعدما عرفت من الفرق بين الورود والحكومة، وأنّ معنى الورود هو أن يكون الدليل رافعاً لموضوع الدليل الآخر. وأمّا الحكومة فهي أن يكون أحد الدليلين ناظراً إلى الآخر، فقد يقال:
إنّ دليل الأمارة لا نظر فيه إلى دليل الاستصحاب في مقام الإثبات، وإن كان دالّاً على إلغاء الاستصحاب معها في عالم الثبوت والواقع؛ للتنافي بين لزوم العمل بها وبين العمل به لو كان الاستصحاب على خلافها، ولكنّ هذا المعنى، كما أنّه يكون موجوداً في طرف الأمارة، فكذلك هو موجود في طرف الاستصحاب لمنافاة وجوب العمل به مع العمل بها لو كانت على خلافه.
ولكنّ هذا الكلام إنّما يتمّ فيما لو كان الاستصحاب مخالفاً للأمارة، دون ما إذا كان موافقاً لها؛ لأنّه لا منافاة بين وجوب العمل بها وبين العمل به، فيلزم منه اختصاص الحكومة ـ حينئذٍ ـ بما إذا كان الاستصحاب مخالفاً للأمارة، مع أنّ الأمارة عندهم تكون مقدّمة عليه مطلقاً، بلا فرق بين صورتي الخلاف والوفاق.
فالحقّ ـ إذاً ـ: هو القول بالورود، وفاقاً لصاحب الكفاية؛ لأنّ دليل الأمارة لا نظر له بمدلوله اللّفظيّ إلى دليل الاستصحاب أصلاً حتى يكون مفسّراً له، فلا يكون من باب الحكومة.
ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الأمارة كما تكون واردة على الاستصحاب، فإنّ الاستصحاب ـ هو أيضاً ـ يكون وارداً على بقيّة الاُصول، من البراءة والاشتغال والتخيير.
غاية الأمر: أنّ وروده على البراءة الشرعيّة ورود تعبّديّ، بمعنى كونه رافعاً لموضوعها، الذي هو الشك، رفعاً شرعيّاً، لا حقيقيّاً؛ لأنّ الشكّ باقٍ معه واقعاً. وأمّا وروده على الاُصول العقليّة الثلاثة فإنّه يكون وروداً حقيقيّاً؛ لارتفاع موضوعها بالاستصحاب واقعاً، فببركة الاستصحاب يرتفع اللّابيان، الذي هو موضوع البراءة العقليّة، وينقلب إلى بيان، كما يرتفع به ـ أيضاً ـ عدم الأمن من العقوبة، الذي هو موضوع قاعدة الاحتياط، فإنّه بعد جريان الاستصحاب ينقلب إلى الأمن.
كما يرتفع به ـ أيضاً ـ عدم الترجيح، الذي هو موضوع حكم العقل بالتخيير في دوران الأمر بين المحذورين، وينقلب إلى الترجيح، فمثلاً: لو علم إجمالاً بأنّ صلاة الجمعة هي إمّا واجبة أو محرّمة، فبعدما كانت الحالة هي الوجوب، يجري استصحابه، ومعه: فلا يحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك.
بل حتى الشيخ الأعظم الذي قال بحكومة الأمارات على الاستصحاب، نجده يقول ـ هنا أيضاً ـ بحكومة الاستصحاب على البراءة الشرعيّة، ولا يقول بالتخيير( ).

الأمر الرابع :تقديم الأصل السببيّ على المسبّبيّ:
استدلّ الشيخ الأعظم لتقديم الأصل السببيّ على المسبّبيّ باُمور أربعة( ):
الأوّل: الإجماع.
الثاني: مانعيّة السببيّ عن شمول العامّ للمسبّبيّ.
الثالث: لو لم نقل بتقديم السببيّ على المسبّبي لكان الاستصحاب قليل الفائدة.
الرابع: أنّ المستفاد من الأخبار عدم الاعتبار باليقين السابق في المسبّبيّ.
والعمدة من بين هذه الوجوه الأربعة إنّما هو الوجه الثاني، وذلك لأنّ قوله: <لا ينقض اليقين بالشكّ>، شامل لليقين والشكّ في السببيّ، وبشموله لهما، يكون مانعاً من شموله لليقين والشكّ في المسبّبيّ؛ لأنّ اليقين فيه قد ارتفع بالدليل، فلا يكون في المسبّبيّ نقض لليقين بالشكّ، بل بالدليل.
وأمّا إذا قلنا بشموله لليقين والشكّ في المسبّبيّ، كان مستلزماً لنقض اليقين بالشكّ في السببيّ، دون ما يخرجه عن تحت عموم (لا ينقض اليقين بالشكّ).
ومرجع ذلك إلى ما أفاده صاحب الكفاية، حيث قال ما هذا لفظه:
<وبالجملة: فكلّ من السبب والمسبّب، وإن كان مورداً للاستصحاب، إلّا أنّ الاستصحاب في الأوّل بلا محذور، بخلافه في الثاني، ففيه محذور التخصيص بلا وجه إلّا بنحو محال، فاللّازم الأخذ بالاستصحاب السببيّ، نعم، لو لم يجرِ هذا الاستصحاب بوجهٍ، لكان الاستصحاب المسبّبي جارياً، فإنّه لا محذور فيه حينئذٍ مع وجود أركانه وعموم خطابه>( ).
وحاصل كلامه: أنّه لو أخذنا بجانب السببيّ، فإنّه لا يلزم منه شيء سوى نقض اليقين باليقين، وهو ليس بمحذور. بخلاف ما لو أخذنا بجانب المسبّبيّ، فإنّه يلزم من ذلك: إمّا التخصيص بلا مخصّص، أو على وجه دائر.
ففي مثال نجاسة الثوب، وغسله بالماء المشكوك الطهارة، فإن أخذنا باستصحاب طهارة الماء وبنينا على طهارة الثوب المغسول به، فلا يكون هناك سوى نقض اليقين السابق بنجاسة الثوب باليقين بطهارة الماء طهارة ظاهريّةً ناشئة من استصحاب طهارة الماء. وهذا ليس بمحذور.
وأمّا إن أخذنا باستصحاب نجاسة الثوب المغسول بماء شكّ في بقاء طهارته، فإن رفعنا اليد عن طهارة الماء بدون ما يخرجه عن تحت دليل الاستصحاب، كان من التخصيص بلا مخصّص.
وإن رفعنا اليد عنه لأجل كون استصحاب نجاسة الثوب مخصّصاً له، كان دوراً. ببيان: أنّ مخصّصية المسبّبيّ للسببيّ ممّا يتوقّف على اعتباره معه، واعتباره معه ممّا يتوقّف على مخصّصيته له، وإلّا، لكان السببيّ وارداً عليه، وهو دور ومحال.
وعليه: فبما أنّ الأصل السببيّ رافع لموضوع الأصل المسبّبيّ، وهو الشكّ، ولو من قبل الشرع، لا العقل، فلا يبقى ـ حينئذٍ ـ مجال لجريان الأصل المسبّبيّ، لورود السببيّ عليه.
نعم، لو لم يجرِ الأصل السببيّ لسبب من الأسباب، فحينئذٍ: تصل النوبة إلى الأصل المسبّبيّ، كما إذا فرض عدم جريان استصحاب طهارة الماء لوقوعه طرفاً لعلم إجماليّ، فإنّه يجري ـ حينئذٍ ـ الأصل المسبّبيّ، وهو استصحاب نجاسة الثوب المغسول به.

الأمر الخامس :في تعارض الاستصحابين:
إذا تعارض الاستصحابان، ولم يكن أحدهما من آثار الآخر، كما إذا كان الاستصحابان عرْضيّين، كاستصحاب طهارة الإناءين مع العلم الإجماليّ بنجاسة أحدهما، فإنّ الاستصحابين لا يجريان معاً؛ لتنجّز العلم الإجماليّ ولزوم المخالفة القطعيّة بجريانهما معاً. كما لا يجري الاستصحاب في بعض الأطراف دون الأطراف الأُخرى؛ لاستلزامه الوقوع في المخالفة الاحتماليّة، وقد تقدّم في محلّه حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة.
وأمّا إذا لم يكن الأصلان في أطراف علم إجماليّ بتكليف فعليّ، بحيث لو أجرينا الأصلين معاً لم يلزم مخالفة قطعيّة، وإذا جرى أحدهما دون الآخر لم يلزم مخالفة احتماليّة ـ كما في استصحابي النجاسة في أطراف العلم الإجماليّ بالطهارة، أو كإجراء الأصلين في دوران الأمر بين المحذورين ـ فحينئذٍ: يجري الأصلان جميعاً؛ وذلك لوجود المقتضي وفقد المانع، كما هو ظاهر.

الأمر السادس: تقدّم التجاوز والفراغ وأصالة الصحّة على الاستصحاب بالتخصيص:
قد يدّعى تقديم هذه القواعد على الاستصحاب؛ لتخصيص أدلّتها لدليل الاستصحاب.
وفصّل الشيخ الأعظم بأنّ القاعدتين وأمثالهما، إن كانت من الأمارات، فيكون تقدّمها على الاستصحاب بمناط الحكومة، طبقاً لمبناه القاضي بتقديم الأمارات على الاستصحاب بالحكومة، وإن كانت من الاُصول شرعيّة، فيكون تقدّمها على الاستصحاب بالتخصيص، إلّا في أصالة الصحّة، فقد تنظّر في تقديمها على الاستصحاب الموضوعيّ الذي في مورده من استصحاب عدم الإتيان بالجزء أو الشرط ونحوه، ولم يقل بتقديمها عليه بالتخصيص.
قال ما لفظه:
<أمّا الكلام في المقام الأوّل [يعني به: معارضة الاستصحاب لبعض الأمارات التي يتراءى كونها من الاُصول، كاليد ونحوها، يعني التجاوز والفراغ وأصل الصحّة في فعل الغير] فيقع في مسائل:
الأُولى: أنّ اليد ممّا لا يعارضها الاستصحاب بل هي حاكمة عليه. بيان ذلك: أنّ اليد إن قلنا بكونها من الأمارات المنصوبة دليلاً على الملكيّة، من حيث كون الغالب في مواردها كون صاحب اليد مالكاً أو نائباً عنه، وأنّ اليد المستقلّة غير المالكيّة قليلة بالنسبة إليها، وأنّ الشارع إنّما اعتبر هذه الغلبة تسهيلاً على العباد، فلا إشكال في تقديمها على الاستصحاب، على ما عرفت من حكومة أدلّة الأمارات على أدلّة الاستصحاب.
وإن قلنا بأنّها غير كاشفة بنفسها على الملكيّة، أو أنّها كاشفة لكنّ اعتبار الشارع لها ليس من هذه الحيثيّة، بل جعلها في محلّ الشكّ تعبّداً؛ لتوقّف استقامة نظام معاملات العباد على اعتبارها، نظير أصالة الطهارة>
إلى أن قال:
<فالأظهر ـ أيضاً ـ تقديمها على الاستصحاب>.
إلى قوله: <وكيف كان، فاليد على تقدير كونها من الاُصول التعبّديّة ـ أيضاً ـ مقدّمة على الاستصحاب، وإن جعلناه [أي: الاستصحاب] من الأمارات الظنيّة؛ لأنّ الشارع نصبها في مورد الاستصحاب. وإن شئت قلت: إنّ دليلها أخصّ من عمومات الاستصحاب>( ).
ثمّ قال بعد ذلك:
<المسألة الثانية: في أنّ أصالة الصحّة في العمل عند الفراغ عنه لا يعارَض بها الاستصحاب: إمّا لكونها من الأمارات، كما يشعر به قوله ـ في بعض روايات ذلك الأصل ـ: (هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ). وإمّا لأنّها وان كانت من الاُصول، إلّا أنّ الأمر بالأخذ بها في مورد الاستصحاب يدلّ على تقديمها عليه، فهي خاصّة بالنسبة إليه، يخصَّص بأدلّتها أدلّته>( ).
ثمّ ساق الكلام طويلاً في تحقيق قاعدة التجاوز والفراغ، إلى أن وصل به الكلام إلى أصالة الصحّة في فعل الغير وتحقيق حالها، فذكر في جملة ما ذكره تنبيهات عدّة، ثمّ قال:
<السادس: في بيان ورود هذا الأصل على الاستصحاب، فنقول: أمّا تقدّمه على استصحاب الفساد وما في معناه، فواضح>( ).
وملخّص ما أفاده في وجه هذا الوضوح: أنّ أصل الصحّة أصل سببيّ، وأمّا أصل الفساد، أي: عدم الأثر عقيب الفعل المشكوك في تأثيره فهو مسبّبيّ.
إلى أن قال:
<وأمّا تقديمه على الاستصحاب الموضوعيّة المترتّب عليها الفساد، كأصالة عدم البلوغ وعدم اختيار المبيع بالرؤية أو الكيل أو الوزن، فقد اضطربت فيه كلمات الأصحاب، خصوصاً العلّامة وبعض من تأخّر عنه.
والتحقيق: أنّه إن جعلنا هذا الأصل من الظواهر ـ كما هو ظاهر كلمات جماعة، بل الأكثر ـ فلا إشكال في تقديمه على تلك الاستصحابات. وإن جعلناه من الاُصول ... ففي تقديمه على الاستصحاب الموضوعيّ نظر>.
انتهى موضع الحاجة من كلامه( ).


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com