مبحث التعادل والتراجيح

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

مبحث التعادل والتراجيح


وفيه اُمور:

الأمر الأوّل: في تعريفهما:
لا يخفى: أنّ التعادل مأخوذ من العدل، وهو التسوية، ولذا يسمّى أحد الحملين عدلاً، لمساواته مع الآخر في الوزن، والمراد به فيما نحن فيه: تساوي الدليلين.
وأمّا التراجيح فهو مأخوذ من الترجيح، وهو بمعنى: أن يكون أحد الدليلين ذا مزيّة موجبة لتقديمه على الآخر في الباب، وهو تقدّم أحد الدليلين المتعارضين لأجل مزيّة فيه.
ثمّ إنّ من الفقهاء من أتى بهذا اللّفظ مفرداً، أي: بلفظ (الترجيح)، ومنهم من عبّر بلفظ الجمع، أي: (التراجيح).
فمن أتى به مفرداً كان نظره إلى نفس الفعل، أعني: تقديم أحد الدليلين بعينه على الآخر، لكونه مرجَّحاً على ذلك الآخر بسبب مزيّة فيه.
ومن أتى به بلفظ الجمع فنظره إلى الحاصل من أقسام المرجّحات من حيث صفات الراوي بأقسامها أو من حيث مضمون الرواية أو جهة الصدور، وهكذا، فحينئذٍ: يتعدّد الترجيح، أي: المرجّح.
وقد حكي عن بعض الطلبة في النجف الأشرف أنّه حضر بحث بعض الأساتذة الذي تحدّث لمدّة أربعة أشهر حول أنّ صاحب المعالم لماذا اختار في عنوان هذا البحث (التراجيح) بلفظ الجمع على (الترجيح) بلفظ المفرد.

الأمر الثاني :في أنّه من المسائل الاُصوليّة:
الظاهر: أنّ هذا البحث من المسائل الاُصوليّة ـ خلافاً لمن عدّه في خاتمة المسائل الاُصوليّة، لا في صميمها، سواء قلنا بأنّ المسائل الاُصوليّة هي ما يبحث فيها عن عوارض الدليل على الحكم الشرعيّ وجعلنا المائز بين المسائل الاُصوليّة والفقهيّة هو المحمول، أم قلنا بأنّ المائز بين المسائل الاُصوليّة والفقهيّة أنّ المسائل الاُصوليّة لا يكون المجتهد والمقلّد فيها على حدٍّ سواء، بل هي من مختصّات وشؤون الأوّل، وأمّا الفقهيّة فيكونان فيها على حدٍّ سواء.
وفي المقام قال اُستاذنا المحقّق ما نصّه:
<المناط في كون المسألة اُصوليّة وقوع نتيجة البحث عنها كبرىً في قياس الاستنباط، ولا شكّ أنّ نتيجة البحث في هذه المسألة سواء كان هو التخيير مطلقاً بعد فقد المرجّحات. وأمّا مع وجود المرجّحات، فالترجيح وتقديم ذي المزيّة هو تعيين الحجّة وتشخيصها: إمّا معيّناً، أعني: خصوص ذي المزيّة، أو مخيّراً مطلقاً، أو في خصوص صورة فقد المرجّح فيكون ـ بعد تشخيص ما هو الحجّة ـ ذلك المعيّن أو المختار في المخيّر كبرى في قياس، يستنتج من ذلك القياس الحكم الفرعيّ الكلّيّ الإلهيّ.
فالإنصاف: أنّ هذه المسألة من أهمّ المسائل الاُصوليّة، وفائدة حجّيّة الخبر الواحد لا يتمّ إلّا بهذه المسألة>( ).

الأمر الثالث: في تعريف التعارض:
لا يخفى: أن التعارض بين الدليلين إنّما يكون باعتبار عدم إمكان اجتماع المحكي والمنكشف بهما بحيث تؤول حكايتهما إلى اجتماع الضدّين.
وإن شئت قلت: إنّ التعارض هو التنافي الذي يقع بين الدليلين باعتبار تنافي مدلوليهما في عالم الجعل والتشريع، فالتنافي أوّلاً وبالذات يكون بين المدلولين أنفسهما، ونسبته الى الدليلين ليست إلّا بالمسامحة، بل لا تنافي بين الدليلين في مرحلة الدلالة حقيقةً؛ لأنّ كليهما يفيد الظنّ النوعيّ.
وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ أحد الدليلين المتعارضين يُثبت ما هو الضدّ للآخر، نحو: (ثمن العذرة سحت) و(لا بأس ببيع العذرة)، فإنّ التعارض إنّما عرض لمثل هذين الدليلين باعتبار كونهما يثبتان المتنافيين ويحكيان عن المتناقضين، فالتعارض يحصل من جهة التنافي بين مدلوليهما بحيث لا يمكن اجتماعهما في وعاء الاعتبار، فمفادهما جمعاً هو اجتماع الضدّين، أو أنّ أحدهما ينفي ما ثبت الآخر فيكون من باب اجتماع النقيضين.
ثمّ إنّ التنافي قد يكون لأجل عدم امتناع اجتماع الدليلين ذاتاً في حدّ أنفسهما، أو من جهة تنافي اللّوازم، أو من جهة التنافي بين الاُمور الخارجية، كالخبرين اللّذين يدلّ أحدهما على وجوب صلاة الظهر والآخر على وجوب صلاة الجمعة، مع أنّا نعلم من خارج بأنّ الواجب ظهر الجمعة هو صلاة واحدة هي إحداهما.

الأمر الرابع :في شرائط حصول التعارض:
إنّما يحصل التعارض بين الدليلين باُمور:
الأوّل: وحدة الموضوع، نحو: الصلاة واجبة، والصلاة ليست بواجبة؛ إذ لو كان موضوع الدليلين متعدّداً فلا يكون هناك تعارض، كما في الأصل العمليّ الذي يقع مقابلاً للدليل الاجتهاديّ، فإنّ موضوع الأصل العمليّ هو الأشياء بوصف كونها مجهولة، بخلاف موضوع الدليل الاجتهاديّ، فإنّه الأشياء بما هي، وكذلك، فإنّ الدليل الاجتهاديّ حاكم على الأصل؛ لأنّه لا يجري الاستصحاب إلّا في مقام لا يكون فيه دليل اجتهاديّ.
والثاني: وحدة المحمول ووحدة القيود المأخوذة من الزمان أو المكان. وعندئذٍ: فلا فرق في وجود التنافي بين أن يكون في تمام المدلول أو في جزئه فقط في العامّين من وجه، أمّا لو كان بينهما عموم وخصوص مطلقاً، فإن كان العرف يجمع بينهما بحمل العامّ على الخاصّ فهو، وإلّا، فإن كان الخاصّ منفصلاً فيعقد لكلّ منهما ظهور منافٍ للآخر.
والثالث: أن يكون كلّ واحد من الدليلين واجداً لشرائط الحجّيّة بحيث لا يكون التوقّف في العمل بكلّ واحدٍ منهما إلّا من جهة معارضة الآخر له، بحيث لو فرض عدم وجود المعارض لكان من اللّازم العمل به.
أمّا لو لم يكن أحد الدليلين حجّة، كما لو علم بكذب أحدهما وعدم صدوره عن الإمام، فلا يكون ـ حينئذٍ ـ من باب تعارض الدليلين والحجّتين، بل يكون من باب اشتباه الحجّة باللّاحجّة، فلابدّ أن يعمل فيه بقواعد العلم الإجماليّ، لا بقواعد باب التعارض؛ لأنّ التعارض مأخوذ فيه أن يكون بين دليلين، وظاهر لفظ (الدليلين) أن يكونا حجّتين، وذلك واضح.
وقد عرفت أنّ التعارض إنّما يلحق الدليلين ثانياً وبالعرض، والذي يتّصف به أوّلاً وبالذات هو مدلول الدليلين وما يكشفان عنه ويؤدّيان إليه، مطابقةً أو التزاماً. فإذا تكاذب الدليلان في المؤدّى امتنع اجتماع المدلول المطابقيّ أو الالتزاميّ لأحدهما مع مدلول الآخر كذلك في عالم الجعل والتشريع، فلا محالة: يقع التعارض بين الدليلين مطلقاً أو في بعض الأفراد والأحوال.
بلا فرق بين أن يكون التكاذب بينهما بأنفسهما ابتداءً وبين أن يكون التكاذب بينهما لأمر خارج، كما إذا دلّ أحدهما على وجوب الجمعة والآخر على وجوب الظهر وعلمنا من الخارج أنّ الوجوب لا يلحق إلّا إحدى هاتين الصلاتين فقط؛ فإنّ الدليلين هنا، وإن لم يتكاذبا ابتداءً ولم يمتنع اجتماع مؤدّاهما ثبوتاً، إلّا أنّه بعد العلم بعدم وجوب إحدى الصلاتين يقع التكاذب بين الدليلين، فإنّ كلاً منهما يثبت مؤدّاه وينفي بلازمه مؤدّى الآخر، فيَؤُول الأمر إلى امتناع اجتماع المؤدّيين.

الأمر الخامس :في الفرق بين التعارض والتزاحم:
وحاصل الفرق بينهما: أنّه في باب التعارض لا يكون الملاك ثابتاً لكلّ واحد من الحكمين، بل يكون المقتضي والملاك ثابتاً لأحدهما غير المعيّن فقط، وأمّا في باب التزاحم، فيكون الملاك ثابتاً وموجوداً في كلّ واحدٍ منهما.
وقد ذهب صاحب الكفاية إلى أنّه متى ما ثبت وجود الملاك لكلا الحكمين فالمورد من موارد التزاحم ، ومتى لم يثبت وجود الملاكين كان المورد من موارد التعارض( ).
وفي المقابل، ذهب المحقّق النائيني إلى اختلاف موردي التزاحم والتعارض، فلكل منهما مقام مستقلّ عن مقام الآخر وينفرد عنه، وذلك: لأنّ التنافي بينهما:
إن كان يرجع إلى التنافي في مرحلة الجعل والتشريع بحيث لا يمكن جعل كلا الحكمين فهو التعارض، كالتنافي بين وجوب الشيء وحرمته، فإنّه يستحيل جعل كلا الحكمين من المولى لتضادّهما.
وإن كان يرجع إلى التنافي في عالم الامتثال ومرحلة فعليّة الحكمين بأن كان جعل كلا الحكمين في نفسه وبنحو القضيّة الحقيقيّة ممكناً للمولى، فلا تنافي بينهما في عالم الجعل، وإنّما التنافي بينهما في مرحلة فعليّتهما، باعتبار عدم إمكان امتثالهما معاً؛ لعدم تحقّق موضوعيهما معاً، فهو التزاحم، كوجوب إنقاذ هذا الغريق ووجوب إنقاذ ذاك الثابتين بدليليهما في زمانٍ واحد، فإنّ جعل كلا الحكمين لا محذور فيه؛ لأنّ جعل الأحكام بنحو القضايا الحقيقيّة، وهو لا ينظر إلى ثبوت الموضوع وعدمه، بل هو ثابت ولو لم يكن الموضوع ثابتاً وموجوداً، فاجتماع الغريقين مع عدم القدرة إلّا على إنقاذ أحدهما لا يوجب التنافي بين الحكمين في عالم الجعل، بل في عالم الفعليّة، لأجل التردّد في صَرف القدرة في هذا الطرف، فيكون حكمه فعليّاً دون الآخر، وبالعكس.
ولا يخفى: أنّ تعيين أحدهما ليس من شأن المولى والجاعل؛ إذ لا يرتبط بمولويّته وبجعله، بل من وظائف غيره، وهو لا يضرّ بنفس الجعل؛ لأنّه ينفي موضع الحكم الآخر، لا أنّه ينفي الحكم عن موضوعه
هذا توضيح ما أفاده، وإليك نصّ عبارته:
<وحاصله: أنّ التزاحم وإن كان يشترك مع التعارض في عدم إمكان اجتماع الحكمين، إلّا أنّ عدم إمكان الاجتماع في التعارض إنّما يكون في مرحلة الجعل والتشريع، بحيث يمتنع تشريع الحكمين ثبوتاً؛ لأنّه يلزم من تشريعهما اجتماع الضدّين أو النقيضين في نفس الأمر.
وأمّا التزاحم فعدم إمكان اجتماع الحكمين فيه إنّما يكون في مرحلة الامتثال، بعد تشريعهما وإنشائهما على موضوعهما المقدّر وجوده، وكان بين الحكمين في عالم الجعل والتشريع كمال الملاءمة، من دون أن يكون بينهما مزاحمة في مقام التشريع والإنشاء.
وإنّما وقع بينهما المزاحمة في مقام الفعليّة بعد تحقّق الموضوع خارجاً؛ لعدم القدرة على الجمع بينهما في الامتثال، فيقع التزاحم بينهما لتحقّق القدرة على امتثال أحدهما، فيصلح كلّ منهما لأن يكون تعجيزاً مولويّاً عن الآخر ورافعاً لموضوعه، فإنّ كلّ تكليفٍ يستدعي حفظ القدرة على متعلّقه، وصَرفها نحوه، وإن لزم منه سلب القدرة عن التكليف الآخر.
والمفروض ثبوت القدرة على كلٍّ منهما منفرداً، وإن لم يمكن الجمع بينهما، فكلٌّ من الحكمين يقتضي حفظ موضوعه ورفع موضوع الآخر بصرف القدرة إلى امتثاله، فيقع التزاحم بينهما في مقام الامتثال>( ).
وتظهر الثمرة في هذا الخلاف:
بين المحقّقين الخراساني والنائيني في موردٍ يتوارد فيه الحكمان المتنافيان على موضوع واحد، ولم يكن التنافي ناشئاً عن عجز المكلّف عن الجمع بين الامتثالين مع ثبوت الملاك لكلٍّ من الحكمين، كالصلاة في الدار المغصوبة بناءً على الاتّحاد والانحصار، فإنّها مشمولة لدليل (صلِّ) ودليل (لا تغصب).
فهذا المورد عند المحقّق الخراساني يكون داخلاً في باب التزاحم؛ لوجود الملاك.
وأمّا عند الميرزا النائيني فهو من موارد التعارض؛ لرجوع التنافي إلى عالم الجعل لا إلى مرتبة الفعليّة؛ لعدم إمكان اجتماع الأمر والنهي وامتناعه.

الأمر السادس: مرجّحات بابي التعارض والتزاحم:
أمّا مرجّحات باب التعارض، فهي ترجع إمّا إلى قوّة السند، كأوثقيّة الراوي وأعدليّته، أو كون الرواية أشهر، ونحو ذلك ممّا سيأتي الكلام فيه، وإمّا إلى قوّة الدلالة، ككونها أظهر، كما سيأتي.
وأمّا مرجّحات باب التزاحم فهي اُمور خمسة:
الأوّل: أن يكون أحد المتزاحمين مضيّقاً والآخر موسّعاً، فالمضيّق يقدّم على الموسّع؛ لأنّ المضيّق بالنسبة إلى الفرد المزاحم من الموسّع معه يكون مُخرجاً للطبيعة عن تساوي الإقدام عليها بالنسبة إلى أفرادها الطوليّة؛ فإنّ التخيير في تطبيق الصلاة الماُمور بها على أيّ فردٍ شاء بحسب الأوقات التي هي بين الحدّين عقليّ من جهة تساوي إقدام الماُمور به في تحصيل المصلحة الملزمة بالنسبة إلى تلك الأوقات، فإذا كان تطبيقه للفرد المزاحم موجباً لفوات مصلحةٍ ملزمة يخرج بالنسبة إلى هذا الفرد عن التساوي، فلا يرخّص العقل في التطبيق على هذا الفرد، ولذلك يحكم بتقديم المضيّق على الموسّع، ولو كان الموسّع أقوى منه ملاكاً وأهمّ.
الثاني: أن يكون أحد المتزاحمين مشروطاً بالقدرة الشرعيّة والآخر مشروطاً بالقدرة العقليّة، فيقدّم المشروط بالقدرة العقليّة على الآخر.
والسرّ في ذلك: أنّ القدرة الشرعيّة دخيلة في الملاك ومأخوذة في موضوع الحكم، وما لم يتحقّق لم يوجد لا خطاب ولا ملاك؛ لأنّها مأخوذة في الموضوع، فما هو المشروط بالقدرة العقليّة يذهب بموضوع ما هو المشروط بالقدرة الشرعيّة. ولا يمكن القول بالعكس؛ لأنّ موضوع المشروط بالقدرة العقليّة ليس مقيّداً بها، بل هو مطلق من هذه الجهة، وهذا معنى أنّ المقيّد بالقدرة العقليّة يكون مقدّماً على الآخر.
الثالث: أن يكون أحد المتزاحمين أهمّ من الآخر من حيث الملاك والمصلحة، فإنّ الأهمّ مقدّم على غيره في نظر العقل.
الرابع: أن يكون أحد الواجبين المتزاحمين مقدّماً في الوجود في مقام الامتثال على الآخر، مثل العاجز عن القيام في جميع ركعات صلاته وليس قادراً إلّا على القيام في بعض الركعات، فحينئذٍ: لابدّ له القيام في أوّل ركعة من ركعات صلاته، ثمّ إذا عجز يجلس في سائر ركعاته.
والوجه في لزوم صرف قدرته في المقدّم في الوجود: أنّ التكليف بالنسبة إليه قد صار فعليّاً في الزمان المتقدّم ومحرّكاً نحو الامتثال، والقدرة على الامتثال في ذلك الزمان موجودة، وليس في ذلك الزمان واجب يزاحمه في صرف القدرة، بل ينبغي أن لا يعدّ هذا المفروض من أقسام الواجبين المتزاحمين.
فلو فرض أنّه كان عاجزاً من صوم تمام الشهر ـ مثلاً ـ ولا يقدر إلّا على صوم نصفه، فهل يصحّ أن يقال ـ حينئذٍ ـ إنّه مخيّر بين أن يصوم نصفه الأوّل وبين أن يصوم نصفه الثاني فيجوز أن يفطر في النصف الأوّل مع كمال قدرته؟! أوليس هذا بمردود ومستنكر عند العقلاء، بل وعند كلّ خبير بأحكام الدين؟!
نعم، لو كان الواجب المتأخّر الذي لا يمكن جمعه في الامتثال مع الواجب المتقدّم له أهمّيّة عظمى بحيث إنّه لو قدّم الواجب المتقدّم يفوّت مصلحةً لا يرضى المولى بتفويتها، فحينئذٍ: يحكم العقل بلزوم حفظ القدرة وسقوط الواجب المقدّم عن الفعليّة.
ولكنّك خبير: بأنّ هذا فرض آخر لا ربط له بما نحن فيه، والذي فرضنا أنّه يتمحور حول الواجبين المتساويين في الملاك والمصلحة، ويكون المرجّح الموجب لصرف القدرة هو مجرّد تقدّمه في الوجود.
الخامس: أن يكون أحدهما له البدل دون الآخر، فيقدّم ما ليس له البدل على ما له البدل.
والوجه في ذلك: أنّه لو قدّم ما ليس له البدل لا يفوّت مصلحة ما له البدل بالمرّة، بل له ـ حينئذٍ ـ الانتقال إلى البدل. بل الانتقال إلى البدل:
إمّا موجب لاستيفاء تمام مصلحة المبدل في حال التزاحم ـ إن قلنا بأنّ مصلحة البدل هي بمقدار المبدل بعد تحقّق موضوعه والانتقال إليه ـ.
وإمّا موجب لاستيفاء مقدار مهمّ من المصلحة الفائتة بواسطة ترك المبدل، بخلاف ما لو قدّم ما له البدل، فإنّه يفوت مصلحة ما ليس له البدل ولا يستوفي شيئاً منه.
ثمّ إنّ من جملة الفروق بين التزاحم والتعارض ـ أيضاً ـ أنّ مرجّحات باب التعارض اُمور تعبّديّة، وإلّا فمقتضى القاعدة ـ بناءً على المسلك القائل بأنّ حجّيّة الروايات هي من باب الطريقيّة لا السببيّة ـ هو تساقطهما، وأنّ النوبة لا تصل إلى التخيير إذا كانتا متساويتين، ولا إلى الترجيح إذا كان لأحدهما مزيّة على الآخر، ولكنّ الشارع حكم بالتخيير عند تساويهما، وبالترجيح عند وجود مزايا مخصوصة أو منصوصة أو مطلق المزيّة.
ولا يخفى: أنّ التعارض إنّما يتحقّق بين الدليلين فيما لو كان النفي الذي هو مدلول أحد الدليلين، مع الإثبات الذي هو مدلول دليل الآخر، واردين على موردٍ واحد؛ لأنّ مرجع التعارض إلى التناقض في مدلولي الدليلين، فلذلك لابدّ من كونهما واردين على موردٍ واحد، أو فقل: إنّه يعتبر فيه الوحدات المعتبرة في تحقّق التناقض.
وعلى هذا الأساس: لا يمكن أن يكون أحدهما حاكماً على الآخر؛ لأنّ دليل المحكوم يثبت الحكم على تقدير ثبوت موضوعه، وليس متكفّلاً لإثبات ذلك التقدير، أي: إثبات ما هو موضوع الحكم.
فمثلاً: ثمّة قاعدة مفادها: أنّه متى ثبت الشكّ في عدد الركعات في الصلوات الرباعيّة بعد إكمال السجدتين يبني على الأكثر، وهذه القاعدة لا تنهض لإثبات موضوعها، بل مفادها أنّه إنّما يبني على الأكثر على تقدير وجود مثل ذلك الشكّ المذكور، فلو جاء دليل كان مفاده نفي الشكّ عن كثير الشكّ، لا يمكن لقاعدة البناء على الأكثر أن تعارضه؛ لأنّ القاعدة تثبت شيئاً غير ما ينفيه الدليل الآخر، وهو (لا شكّ لكثير الشكّ) ـ مثلاً ـ، فلم يرد النفي والإثبات على محلٍّ واحد، وقد ذكرنا أنّه يشترط في تحقّق التعارض والتنافي أن يكون الدليلان واردين على مورد واحد.
وأمّا لو كان أحدهما وارداً والآخر موروداً، فبما أنّ دليل الذي هو وارد على دليلٍ آخر يفني موضوع المورود فلا يبقى شيء في البين حتى يقع التعارض بينهما.
وكمثال على ذلك: دليل البراءة العقليّة، موضوعه: عدم البيان، فإذا جاء بيان من قبل الشارع، أو من قبل العقل، سواء كان أمارة أم أصلاً، تنزيليّاً أم غير تنزيليّ، شرعيّاً كان أو عقليّاً، فإنّه لا يبقى موضوع لحكم العقل حقيقةً وتكويناً، لا بصرف التعبّد، فينتفي حكم العقل من البين، وليس هناك شيء متبقٍّ حتى يقال بأنّه معارض أو غير معارض.
ثمّ لو كان هناك دليلان بينهما عموم وخصوص مطلق، فهل يقع بينهما التعارض ليقدّم الخاصّ على العامّ، ويكون هذا التقديم علاجاً؟ أم لا يقع، بل يكون حالهما حال الحاكم والمحكوم، أي: فلا تعارض بينهما؟
لا شكّ في أنّه في المخصّص إذا كان منفصلاً ينعقد للعامّ ظهورٌ في العموم، فإذا كان مخالفاً للدليل الخاصّ في السلب والإيجاب، فيقع التعارض بينهما في تلك القطعة التي هي محلّ اجتماعهما، فأحدهما ينفي الحكم والآخر يثبته كما هو المفروض، ولكن عند العرف لا تعارض بينهما، بل هم يقدّمون الخاصّ على العامّ من دون أيّ توقّف في ذلك.
وإنّما يقع البحث في أن هذا التقدّم هل هو لأجل حكومة أصالة الظهور في طرف الخاصّ عليها في طرف العامّ أو لأجل التوفيق العرفيّ من جهة أظهرية الخاصّ في تلك القطعة على العامّ، أو تقديم الخاصّ على العامّ من جهة التخصّص، كتقديم الأدلّة المتكفّلة للعناوين الثانويّة، كأدلّة نفي الضرر أو الحرج على الأدلّة الأوّليّة، من باب الجمع العرفيّ، فيحمل الأوّليّ على الحكم الفعليّ، والثاني على الاقتضائيّ.
والتحقيق أن يقال: إنّ الخاصّ:
تارةً: يكون قطعيّ السند والدلالة، كالنصّ المتواتر، أو الخبر المحفوف بالقرائن القطعيّة، أو كان آيةً من القرآن هي نصّ في الدلالة، وفي هذه الحالة، يقدّم الخاصّ في تلك القطعة بالتخصّص؛ لأنّ حجّيّة العامّ في تلك القطعة إنّما تكون بأصالة الظهور، ولا محلّ لأصالة الظهور مع العلم بالعدم، كما هو مدلول الخاصّ القطعيّ سنداً ودلالة.
وإنّما كان هذا الخروج خروجاً بالتخصّص؛ لانتفاء موضوع الحجّيّة للعام تكويناً وحقيقة؛ لأنّ موضوع هذه الحجّيّة هو العامّ الذي لم يرِدْ دليل على خلافه وكان أقوى ظهوراً منه، وفي محلّ الفرض قد ورد دليل على خلافه فعلاً، وهو أقوى منه قطعاً، فالموضوع منتفٍ.
وتارةً: يكون ظنّيّاً بحسب الدلالة وقطعيّاً بحسب السند، أو يكون ظنّيّاً دلالةً وسنداً.
وفي هذين الموردين ذهب الشيخ الأنصاري إلى القول بأنّه لابدّ من تقديم أقوى الظهورين في تلك القطعة التي هي مجمع العنوانين، فإذا كان ظهور (أكرم العلماء) ـ مثلاً ـ في العالم الفاسق أقوى من ظهور (لا تكرم العالم الفاسق) فيه، فيقدّم العامّ في مورد اجتماع العنوانين ويطرح الخاصّ. وإن كان ظهور الخاصّ في تلك القطعة أقوى ـ كما هو كذلك غالباً ـ فيقدّم الخاصّ.
وأمّا إذا كانا متساويين في درجة الظهور فيتساقطان( ).
وقد ادّعى المحقّق النائيني أنّ مبنى الشيخ في الاُصول في هذه المسألة مغاير لما التزم به من المبنى في الفقه، حيث التزم بتقديم الخاصّ على العامّ مطلقاً.
وفي ذلك يقول ما لفظه: <والشيخ في المقام، وإن عارض ظهور الخاصّ مع ظهور العامّ وحكم بأنّه يؤخذ بأقوى الظهورين، إلّا أنّه لم يلتزم بذلك في شيءٍ من المسائل الفقهيّة، فإنّه لم يتّفق في موردٍ عامل مع الخاصّ والعامّ معاملة التعارض، بل يقدّم الخاصّ مطلقاً على العامّ... >( ).
وقد يقال في الاعتذار عن الشيخ الأعظم ـ على تقدير تماميّة هذه الدعوى ـ: لعلّه لم يجد أقوائيّةً في ظهور العامّ على ظهور الخاصّ في غالبيّة الموارد.
ولكنّ الحقّ: هو تقديم ظهور الخاصّ على ظهور العامّ، بلا فرق بين أن تكون الأقوائيّة لصالح ظهور العامّ أو الخاصّ؛ وذلك لأنّ أصالة الظهور في طرف الخاصّ تكون حاكمة على أصالة الظهور في طرف العامّ؛ إذ إنّ ظهور العامّ في العموم وكاشفيّته عن إرادة العموم متوقّف على أن لا يكون هناك قرينة على عدم إرادة العموم، فإذا كان التعبّد بظهور الخاصّ وأنّه كاشف عن مراد المتكلّم قرينةً على عدم إرادة العموم، فيقدّم على ظهور العامّ في العموم، ويكون ذكر الخاصّ دليلاً على عدم حجّيّة العامّ؛ لأنّ العامّ إنّما ينفي القيد تعبّداً، لا تكويناً، ومعه: فيكون المراد من العامّ هو ما عدا تلك القطعة التي ينفيها الخاصّ.
ويتّضح ما ذكرناه فيما لو فرض أنّ العامّ والخاصّ ـ كليهما ـ كانا في كلام واحد صادر من متكلّم واحد، فإنّ العرف ـ حينئذٍ ـ لا يتوقّف في حمل العامّ على ما عدا الخاصّ.
ومن هنا ينقدح: لزوم حمل العامّ الصادر من الإمام المتقدّم زماناً على الخاصّ، ولو أتى هذا الخاصّ على لسان الإمام المتأخّر؛ فإنّ كلامهم هو من قبيل الكلام الصادر عن شخص واحد في مجلس واحد؛ لأنّ جميعهمفي مقام بيان حكم اﷲ كشخص واحد، فجاز أن يخصّص العامّ الوارد عن الإمام المتقدّم بالخاصّ الوارد عن الإمام المتأخّر.
ولذا، فإنّ الظهور الوضعيّ وإن كان أقوى من الظهور الإطلاقيّ، ولكن في مثل (رأيت أسداً يرمي)، فإنّ ظهور (الأسد) في الحيوان المفترس أقوى من ظهور (يرمي) في الإنسان؛ لأنّه بالإطلاق، وذاك بالوضع، ولكن مع ذلك، يقدّم ظهور (يرمي) في الإنسان، فيقال: المراد من هذه العبارة هو الرجل الشجاع؛ لأنّه مع حكومة القرينة على ذيها لا يبقى مجال لأن تلاحظ الأقوائيّة والأضعفيّة بين الحاكم والمحكوم، وكذا ما نحن فيه، أعني: حكومة أصالة الظهور في طرف الخاصّ على أصالة الظهور في طرف العامّ.
وأمّا بالنسبة للنصّ والظاهر، وكذا الأظهر مع الظاهر، فلا شكّ في أنّه يقدّم كلّ من النصّ والأظهر على الظاهر، وذلك لأنّ حجّيّة الظاهر مقيّدة بما إذا لم يكن هناك ما هو أقوى منه ظهوراً، فورود النصّ أو ما هو أظهر يستوجب خروج الظاهر عن موضوع الحجّيّة، فلا يكون بينهما ـ حينئذٍ ـ تدافع، فلا تعارض.
وكذا يقال ـ أيضاً ـ بالنسبة إلى المطلق مع المقيّد، والعامّ مع الخاصّ، فيخرج هذان الموردان عن باب التعارض بالمعنى الذي ذكرناه؛ لأنّه لا تنافي ولا تدافع بينهما في نظر العرف والعقلاء كما عرفت.

الأمر السابع :في حكم التعارض:
اعلم: أنّ التعارض تارة يكون بين دليلين فقط، وأُخرى يكون بين أكثر من اثنين، فالأوّل: كما إذا قام أحد الدليلين على الوجوب والآخر على الحرمة. والثاني: كما إذا قام دليل ثالث في المثال المتقدّم على الإباحة.
وعلى كلا التقديرين: فإمّا أن يكون في أحد المتعارضين مزيّة مع كون الآخر فاقداً لها، وإمّا أن لا يكون في أحدهما مزيّة لا توجد في الآخر، بل هما متساويان في المزايا والخصوصيّات.
وعلى الأوّل: فالمزيّة تارةً تكون في السند، وأُخرى في جهة الصدور، وثالثة في الدلالة.
والمزيّة في السند ككون الرواية مشهورة بين الرواة والمحدّثين، وكصفات الراوي من كونه أوثق أو أعدل أو أصدق.
والمزيّة في جهة الصدور ككون الإمام في مقام بيان حكم اﷲ الواقعيّ، لا أنّه في مقام التقيّة وستر الحكم الواقعيّ خوفاً من الأعداء، ومثالها: مخالفة أحد المتعارضين للعامّة.
والمرجّح من جهة الدلالة ومضمون أحدهما ومفاده أنّه حكم اﷲ، كموافقة الكتاب.
فإن كانا متساويين في المزايا والخصوصيّات، ولم يكن لأحدهما مزيّة في إحدى الجهات الثلاث على الأُخرى، فالقاعدة الأوّليّة مع قطع النظر عن جعل ثانويّ واقعيّ أو ظاهريّ تقضي بالتساقط بناءً على الطريقيّة، والتخيير بناءً على الموضوعيّة.
توضيح ذلك: أنّ حجّيّة الروايات بناءً على الطريقيّة ليست إلّا من باب تتميم كشفها وجعلها في عالم الاعتبار كاشفاً تامّاً.
وأمّا مؤدّياتها فتبقى على ما كان، من دون إحداث شيء من المصلحة أو المفسدة فيها من قبل قيام الأمارة عليها، فإن كان جعل كلا المؤدّيين غير ممكن ـ كما هو كذلك في باب التعارض ـ فلا يمكن أن يكون الاثنان جمعاً طريقاً فعليّاً إلى الحكم الواقعيّ.
نعم، كلّ واحد منهما له اقتضاء الطريقيّة، وهو مشمول لأدلّة جعلها طريقاً، ولكن بما أنّهما متساويان في شرائط الطريقيّة، ولا يمكن الأخذ بهما جميعاً؛ للزوم اجتماع الضدّين أو النقيضين، ولم يكن هناك وجه للتخيير؛ لعدم الملاك في الواقع لكلّ واحد منهما، ولم يكن تعيين أحدهما إلّا من باب الترجيح بلا مرجّح، فلا محالة يتساقطان.
وإن كان أحدهما حائزاً على المزيّة دون الآخر، فهذه المزيّة الموجودة إن كانت في السند أو في جهة الصدور كان لابدّ من الأخذ بصاحب المزيّة وطرح الآخر. ويدلّ على ذلك أخبار الترجيح التي سيأتي البحث فيها في محلّه مفصّلاً.
وأمّا إذا كانت المزيّة في الدلالة، فاللّازم ـ حينئذٍ ـ هو الجمع بين المتعارضين، ولا يجوز طرح أحدهما.
بل قد ادّعي الإجماع على ذلك، كما عن ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللئالي، حيث قال ـ ما نصّه ـ: <فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله بإجماع العلماء>( )، وهي القاعدة المعروفة بقاعدة <أنّ الجمع بين الدليلين اُولى من الطرح>.
ولا يخفى: أنّ الجمع الذي اُولى هو من الطرح إنّما هو الجمع في الدلالة؛ ضرورة أنّه لو كان الجمع بينهما في الدلالة ممكناً ارتفع بينهما التعارض والتكاذب.
وعلى هذا الأساس: فالقاعدة المذكورة تشمل صورة تعادل المتعارضين في السند، وصورة ما إذا كان لأحدهما مزيّة تستوجب ترجيحه في السند؛ لأنّه في هذه الصورة الثانية يلزم بتقديم ذي المزيّة طرح الآخر مع فرض إمكان الجمع.
فيكون مقتضى القاعدة ـ إذاً ـ أنّه مع إمكان الجمع لا يجوز طرحهما معاً، ولا طرح أحدهما غير المعيّن ـ كما هو مقتضى القول بالتخيير ـ، ولا طرح أحدهما المعيّن، أعني به: غير ذي المزيّة مع الترجيح.
وهنا، فإن كان مراده من الجمع الجمع العرفيّ فهو كلام حسن؛ لأنّ الجمع العرفيّ يكون إمّا بالورود أو بالحكومة أو بالنصّ والظاهر، ولذا عند تعارض العامّ والخاصّ ـ أيضاً ـ يرجع إلى الحكومة؛ إذ لا تعارض بينهما حقيقةً، فمردّ الجمع العرفيّ في حقيقة الأمر إلى العمل بمضمون كلا الدليلين.
وإن كان مراده مطلق الجمع ورفع اليد عن ظاهر كليهما أو أحدهما، بتأويلهما أو تأويل أحدهما:
فأوّلاً: لا وجه ـ حينئذٍ ـ لكونه أَولى، بل هو غير جائز؛ لما فيه من ترك العمل بأصالة الظهور. وليس ترك الأخذ بها أَولى من ترك الأخذ بصدور أحدهما.
وثانياً: هذا يكون سبباً لطرح أخبار الترجيح عند وجود المرجّحات والمزايا، خصوصاً المنصوصة منها، أو حملها على خصوص ما لا يمكن الجمع فيه ولو بالتأويل، ومعلوم أنّه هذا المورد في غاية الندرة.

هل المرجّحات عرضيّة أم مترتّبة:
ثمّ إنّه قد وقع الخلاف فيما بينهم في أنّ هذه الأنواع من المرجّحات هل كلّ واحد منها مرجّح في عرض الآخر بحيث لو كان أحد المرجّحات متوفّراً في أحد المتعارضين وكان في الآخر مرجّح آخر فيقع التزاحم، فلابدّ من أن يُعمل بقواعد باب التزاحم، فيقدّم ما هو الأقوى مناطاً منهما، وإلّا، كان لابدّ من التخيير؟ أم لا، بل هي مترتّبة في مقام الترجيح، فبعض الأنواع يكون مقدّماً على بعض؟
وبالجملة: فهل هذه المرجّحات عرضيّة أو مترتّبة؟
الظاهر: أنّها كذلك، ولأجل ذلك وقع الخلاف بينهم في أنّ المرجّح الجهتيّ مقدّم على السنديّ أو العكس.
ولكن مع ذلك، فقد ذهب صاحب الكفاية إلى أنّها عرضيّة ولا ترتيب بينها بناءً على التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها؛ إذ بناءً على التعدّي يكون مناط الترجيح بشيءٍ هو أن يكون ذلك الشيء موجباً لأقربيّة ذي المزيّة إلى الواقع، فإذا كان لكلّ واحدٍ من المتعارضين مزيّة توجب أقربيّته إلى الواقع فيقع التزاحم بينهما، ويقدّم الأقوى مناطاً.
والوجه في ذلك: أنّ العقل يرى أنّ الأهمّ يكون صالحاً للمانعيّة عن المهمّ ثبوتاً؛ لحكمه بلزوم صرف القدرة إلى متعلّقه دون متعلّق المهمّ، فمن هنا يكون مانعاً عن شمول الإطلاق للفرد المهمّ في صورة المزاحمة، ولا يرى المانعيّة في طرف المهمّ؛ لكونه لا يصلح للمنع من ثبوت الأهمّ، فلا يبقى هناك تنافٍ بين الإطلاقين؛ لأنّ أحد الإطلاقين بضميمة حكم العقل بلزوم صرف القدرة إلى الفرد الأهمّ لا يشمل المهمّ بعد عدم القدرة على متعلّقه، وبذلك يخرج المورد موضوعاً عن باب التعارض، فلا يجري فيه أحكام التعارض.
وأمّا لو لم يكن أحدهما أقوى مناطاً، فالمرجع ـ حينئذٍ ـ إلى إطلاقات التخيير.
هذا بناءً على التعدّي من المنصوص إلى غيره.
وأمّا بناءً على عدم التعدّي، فلكونها مرتبةً وجهٌ، وهو الترتيب المذكور في الروايات.
ولكنّ الحقّ: أن المرجّح الصدوري مقدّم طبعاً على المرجّح الجهتيّ والمضمونيّ؛ لأنّه بعد التعبّد بصدور الخبر تصل النوبة إلى السؤال عن أنّه هل كان المتكلّم بصدد بيان مراده الواقعيّ أو صدر هذا الكلام منه تقيّةً وخوفاً؟
على أنّ ظاهر الكلام هو مرادهم في مقام التفهيم والتفهّم، كما قام عليه بناء العقلاء.
وأمّا أصالة الصدور فهو أصل تعبّديّ مدركه أدلّة حجّيّة خبر العادل، وإن كان المدرك لذلك ـ أيضاً ـ هو بناء العقلاء.
هذا كلّه في مقام الثبوت.
وأمّا في مقام الإثبات فقد ذكروا اُموراً لترجيح أحد الدليلين على الآخر:
منها:
أن يكون أحد الدليلين عامّاً والآخر خاصّاً، والخاصّ ـ كما تقدّم ـ تارةً يكون قطعيّ السند والدلالة فيقدّم على العامّ تخصّصاً.
وأمّا في ما عدا هذه الصورة، أي: في الصور الثلاث الأُخَر، أي: فيما إذا كان الخاصّ بحسب الدلالة والسند ظنّيّاً، أو كان مختلفاً بحسبهما، فيقدّم على العام، ولكن بالحكومة لا بالورود.
ومنها:
ما إذا كان أحد المتعارضين عامّاً اُصوليّاً والآخر إطلاقاً شموليّاً، كقوله: (أكرم العلماء)، حيث إنّه عامّ اُصوليّ مقدّم على قوله: (لا تكرم الفسّاق) في مادّة الاجتماع، وهو العالم الفاسق؛ لأنّ شمول العامّ الاُصوليّ لمورد الاجتماع كان بالوضع، وشمول الإطلاق الشموليّ له بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، واللّازم لتماميّة مقدّمات الحكمة عدم القرينة على التقييد، ويكفي في القرينيّة شمول العموم لمورد الاجتماع بالوضع من دون اشتراطه بشيء.
وقد يورد عليه: بأنّ كون العموم بالوضع يصير قرينةً وبياناً لعدم شمول الإطلاق لمورد الاجتماع إذا قلنا بأنّ مطلق البيان القرينة ولو كانت منفصلة عن الكلام الملقى إلى المخاطب في مجلس التخاطب يكفي في منع التمسّك بالإطلاق وعدم جريان مقدّمات الحكمة؛ إذ حينئذٍ مع وجود تلك القرينة المنفصلة لا ينعقد للمطلق ظهور في الإطلاق.
وأمّا إذا كان أساس مقدّمات الحكمة على كون المتكلّم في مقام بيان تمام مراده بخصوص الكلام الملقى إلى المخاطب في مجلس التخاطب، لا به وبكلامٍ آخر منفصلٍ عنه ولو بعد سنين، كما عليه بناء العرف والعقلاء في محاوراتهم، فلا محالة ينعقد ظهور إطلاقيّ للكلام، وتتحقّق الدلالة التصديقيّة النوعيّة التي يدور عليها مدار الحجّيّة في باب الألفاظ.
والحاصل: أنّ القرينة المنفصلة لا تمنع من تحقّق الظهور الإطلاقيّ، فإذا تحقّق الظهور الإطلاقيّ، ثمّ جاءت قرينة منفصلة تصلح لأن تكون مقيّداً للإطلاق، يقع التعارض بينها وبين الظهور الإطلاقيّ، فيقدّم أقوى الظهورين، وليس المقام من قبيل المقتضى التعليقيّ والمقتضى التنجيزيّ لكي يقال بأنّ المقتضى التنجيزيّ يرفع موضوع المقتضى التعليقيّ.
ولكنّ الحقّ: أنّ كلّ جملة صدرت من المتكلّم فدلالته التصديقيّة بمعنى: أنّ هذا هو الذي قاله المتكلّم موقوف على إتمام الكلام، وإلّا، فما دام مشغولاً بالكلام له أن يُلْحق بكلامه ما شاء من القيود، وبعد أن أتمّ كلامه وسكت يصحّ أن يُسنِد إليه مضمون الجملة، ويقال ـ حينئذٍ ـ: بأنّ هذا مضمون ما قاله فلان، ويصحّ إسناده إليه بعنوان أنّه قاله، لا يتوقّف على شيء.
وأمّا ان هذا مراده من هذا الكلام، فيتوقّف على عدم إتيان قرينةٍ على الخلاف، فلو أتى بقرينةٍ على خلاف هذا المضمون، بحيث تبدّل مع وجود تلك القرينة إلى معنىً آخر.
ولو كانت تلك القرينة منفصلة، فيظهر أنّ مراده هذا المضمون الأخير دون المضمون الأوّل، أي: غير ما قال أوّلاً، وهذا القسم هي الدلالة التصديقيّة التي قالوا بأنّها تابعة للإرادة.
ولا معنى لأن يقال: إنّ ما هو ظاهر الجملة بعد تماميّتها كاشف عن المراد الواقعيّ حتى ولو جاء المتكلّم بقرينة منفصلة على عدم إرادته.
وقد يقال: إنّ بناء أهل المحاورة على الأخذ بظاهر الجملة وعدم التوقّف في العمل به.
ولكنّ هذا، وإن كان حقّاً، إلّا أنّه إنّما يكون معتبراً هنا من جهة وجود الاُصول العقلائيّة، وهي أصالة عدم القرينة وأصالة عدم المخصّص وأصالة عدم المقيّد.
وأمّا بعد وجود القرينة والمخصّص والمقيّد، ولو كانت منفصلة، بل ولو كان مجيئها بعد سنين، فلا يكون حال هذه الجملة حالها قبل الإتيان بهذه القرينة، ولا يكون ظاهرها الذي كان لها قبل وجود هذه الأشياء هو المراد.
وكذلك، فلا معنى ـ أيضاً ـ لأن يقال: تقع المعارضة بين ما كان ظاهر الجملة وبين ظهور هذه الأشياء، فيؤخذ بأقوى الظهورين؛ فإنّ ظهور القرينة يكون حاكماً على ظهور ذي القرينة، ويقدّم متى وجدت، متّصلةً كانت أم منفصلة.
وإذا عرفت هذا، يتّضح:
أنّ الدلالة التصديقيّة بمعنى: أن يكون هذا هو مراد المتكلّم، والذي هو المناط في لزوم الأخذ بالظاهر والعمل على طبقه في باب ظواهر الألفاظ، متوقّف على عدم مجيء قرينةٍ على أنّ الظاهر ليس بمراد، فإذا جاءت قرينة على خلافه، فلا يكون هذا الظاهر كاشفاً عن المراد والمناط حينئذٍ.
ومنها:
ما إذا كان أحد المتعارضين من قبيل الإطلاق الشموليّ ﻛ (لا تكرم الفاسق) والآخر من قبيل الإطلاق البدليّ ﻛ (أكرم عالماً)، فكلا الإطلاقين وإن كانا بمقدّمات الحكمة، ولكنّ تقييد الإطلاق البدليّ مقدّم على تقييد الإطلاق الشموليّ؛ لأنّ الإطلاق البدلي ورد على نحو تعلّق التكليف بصرف الوجود، والطبيعة بالنسبة إلى وجودات جميع الأفراد متساوي الإقدام في انطباق صرف الوجود عليها، فالعقل يحكم بالتخيير في مقام انطباقها على كلّ فرد من الأفراد بواسطة إجراء مقدّمات الحكمة، بخلاف الإطلاق الشموليّ، فإنّه ليس كذلك.
وخلاصة البحث: أنّ جريان مقدّمات الحكمة في الإطلاق البدليّ مشروط بشرط، وهو تساوي إقدام الأفراد، بخلاف الجريان في الإطلاق الشموليّ، فإنّه ليس مشروطاً بشرط؛ لأنّ إطلاق الشموليّ عبارة عن تعلّق الحكم بوجود الطبيعة السارية، وهو من هذه الناحية يشترك مع العامّ الاستغراقيّ.
وإنّما الفرق بينهما في أنّ دلالة اللّفظ على الاستيعاب وشمول الحكم لجميع الأفراد وعدم خروج فرد عن تحته بتوسّط الوضع، فهذا عامّ استغراقيّ، وإن كان بتوسّط مقدّمات الحكمة وإنّه فرد أو صنف من أفرادها خارج عن تحت هذا الحكم؛ لعدم الملاك، أو لوجود مانعٍ فيه، كان عليه البيان، وإلّا، هو الذي أخلّ بغرضه فهذا إطلاق شموليّ.
ومنها:
ما إذا كان أحد المتعارضين العامّين من وجه وارداً في مورد الاجتماع، فلابدّ أن يخصّص الآخر؛ لأنّ تخصيص المورد قبيح، فإذا كان السؤال عن جواز إكرام العالم الفاسق، وقال في الجواب: (أكرم العلماء)، وصدر منه ـ أيضاً ـ قبلاً أو بعداً، (لا تكرم الفسّاق)، فلابدّ أن يقدّم عموم (أكرم العلماء) ويخصّص عموم (لا تكرم الفسّاق)، وإن كان بينهما عموم من وجه، وإلّا، يلزم تخصيص المورد، وهو قبيح كما لا يخفى.
ومنها:
ما إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقّن في مقام التخاطب، فيكون نصّاً فيه.
ولا يخفى: أنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب وإن كان لا ينفع في مقام تقييد المطلق ما دام لم يصل إلى حدٍّ يوجب انصراف المطلق إلى المقيّد، إلّا أنّ وجود القدر المتيقّن ينفع في مقام رفع التعارض عن الدليلين.
هذا فيما إذا كان ثبوت القدر المتيقّن للمطلق بنحوٍ يكون موجباً لانصرافه، وإلّا، فإنّ كلّ مطلق له قدر متيقّن، فإنّ الدليل يكون كالنصّ في القدر المتيقّن، فيصلح لأن يكون قرينةً على التصرّف في الدليل الآخر، فلو كان مفاد أحد الدليلين ـ مثلاً ـ وجوب إكرام العلماء، وكان مفاد الدليل الآخر حرمة إكرام الفسّاق، وعلم من حال الآمر أنّه يبغض العالم الفاسق ويكرهه أشدّ كراهة من الفاسق غير العالم، فالعالم الفاسق متيقّن الاندراج في عموم قوله: (لا تكرم الفسّاق)، ويكون بمنزلة التصريح بحرمة إكرام العالم الفاسق، فلابدّ أن يخصّص (أكرم العلماء) بما عدا الفسّاق منهم.
ومنها:
ما إذا كانت أفراد أحد العامّين بمرتبةٍ من القلّة بحيث لو خصّص بما عدا مورد الاجتماع مع العامّ الآخر يلزم تخصيص الأكثر، فلو قلت: (أكرم العلماء) و(لا تكرم النحويّين)، فلو خصّص العلماء بما عدا مورد الاجتماع من النحويّين يلزم التخصيص المستهجن، فيخصّص ما لا يلزم منه التخصيص المستهجن.
ومنها:
ما إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص.
وينبغي ـ أوّلاً ـ الكلام في معنى النسخ، فنقول:
النسخ في اللّغة بمعنى النقل والتغيير، ومنه: تناسخ المواريث والدهور، ويأتي بمعنى الإزالة، كما يقال: نسخت الشمس الظلّ( ).
وأمّا في الاصطلاح فهو عبارة عن رفع الحكم الثابت في الدين بارتفاع أمده وزمانه.
ولكي تتّضح حقيقة هذا المعنى من النسخ نقول:
لا يخفى: إنّ الحكم المجعول من قبل الشارع في الواقع له نحوان من الثبوت:
الأوّل: ثبوت ذلك الحكم في مرحلة التشريع والتقنين، وهو في هذه المرحلة مجعول على نهج القضايا الحقيقيّة، بمعنى: أنّ ثبوته في هذه المرحلة لا يتوقّف على ثبوت الموضوع فعلاً في الخارج ولا على عدم ثبوته.
كما إذا قال الشارع ـ مثلاً ـ: (الخمر حرام)؛ فإنّ معناه: أنّه في كلّ وقت وُجد فيه الخمر فإنّه يكون حراماً، فالخمر ولو لم يكن له ثبوت خارجيّ إلّا أنّه متّصف بالحرمة فعلاً على تقدير وجوده، فثبوت الحرمة له غير مقيّد بوجوده الخارجيّ.
نعم، فعليّة هذه الحرمة متوقّفة على وجود الموضوع.
فرفع الحكم في هذه المرحلة، أعني: مرحلة التشريع والإنشاء، لا يكون إلّا بالنسخ؛ وذلك لأنّه لم يكن لموضوع هذا الحكم في نظر المقنّن ـ في هذه المرحلة ـ وجود فعليّ، واقعيّ أو ظاهريّ، حتى يتغيّر الحكم بتغيّر الموضوع، كما هو الشأن في النحو المثال الآتي، كما في الكلب الذي نجاسته متوقّفة على وجوده، فإذا استحال ملحاً تغيّر الموضوع، فتغيّر الحكم بتغيّره، فصار طاهراً.
والثاني: ثبوت الحكم وتحقّقه وصيرورته فعليّاً في الخارج، وذلك إنّما يكون فيما إذا كان الموضوع موجوداً في الخارج ومتحقّقاً فيه فعلاً، كتحقّق وجود الخمر في الخارج، فإنّ الحرمة مستمرّة بوجود الموضوع، فإذا ذهب الموضوع ذهب الحكم بذهابه، حتى إذا تبدّل الخمر خلاً ذهبت عنه الحرمة. ولكنّ هذا ليس من النسخ في شيء، كما هو واضح.
وعليه: فينحصر مورد البحث في النحو الأوّل خاصّةً.
وقد وقع البحث بينهم في أنّ النسخ في الأحكام هل هو ممكن أم لا؟
والمعروف بين العقلاء من المسلمين وغيرهم هو القول بإمكانه وعدم استحالته، وخالف في ذلك اليهود والنصارى فقالوا باستحالته.
والحقّ: هو القول بالإمكان؛ لعدم كون النسخ بالمعنى المذكور مستلزماً لأيّ محذور، كنسبة الجهل أو عدم الحكمة إليه عزّ وجلّ، بل جاز أن يكون الحكم المجعول مقيّداً من أوّل الأمر بزمانٍ خاصّ معلوم عنده تعالى، ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان لانتهاء أمده الذي قُيّد به.
فإذا اتّضح ذلك نقول:
إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص، فأيّهما يقدّم على الآخر النسخ أم التخصيص؟
قد يقال: بتقديم التخصيص؛ لكثرته، حتى قيل: ما من عامٍّ إلّا وقد خُصّ؛ ولمكان ندرة النسخ.
ولكنّ الحقّ: أنّه قد يُقدّم التخصيص على النسخ، وقد يُقدّم النسخ، ومن هنا، كان لابدّ أوّلاً من بيان كافّة صور المسألة وشقوقها، وهي كما يلي:
فإنّ العامّ والخاصّ المتنافيين:
تارةً يردان في زمان واحد، وأُخرى في زمانين.
وعلى تقدير أن يكونا واردين في زمانين: فالمتأخّر إمّا هو العامّ أو الخاصّ.
وعلى التقديرين: فالعامّ أو الخاصّ المتأخّر: إمّا أنّه ورد بعد حضور وقت العمل بالمتقدّم أو قبله. فهذه شقوق المسألة.
أمّا الصورة الاُولى: وهي ما إذا كانا واردين في زمانٍ واحد، فيقدّم الخاصّ؛ لا لأنّ التخصيص أكثر مع كون النسخ نادراً؛ فإنّ كثرة وجود الشيء لا تكون سبباً للخروج عما هو الظاهر، بل لأنّه إذا تقارن الخاصّ مع العامّ، كان الخاصّ سبباً لعدم كاشفيّة ظهور العامّ في العموم، وأنّ العموم هو مراد المتكلّم؛ لأنّ أصالة الظهور في طرف الخاصّ حاكمة ـ كما مرّ ـ على أصالة الظهور في طرف العامّ، ويكون من قبيل ظهور القرينة مع ظهور ذي القرينة.
وأمّا الصورة الثانية: وهي ما إذا كانا واردين في زمانين، وكان الخاصّ هو المتأخّر ولكن قبل حضور وقت العمل بالعامّ، فكذلك يكون تقديم الخاصّ هو المتعيّن، لعين ما ذكرناه في الصورة الأُولى.
وأمّا الصورة الثالثة: وهي عين السابقة، ولكن مع كون الخاصّ وارداً بعد حضور وقت العمل بالعامّ.
وقد يقال: بأنّه يتعيّن في هذه الصورة النسخ، وإلّا، يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو قبيح.
ولكن يمكن أن يقال: بأنّ تأخير البيان عن وقت العمل بالعموم لعلّه كان لمصلحة في التأخير، فمفاد العمومات المتقدّمة بالنسبة إلى الخاصّ حكم ظاهريّ، كما أنّ البراءة قبل صدور كثيرٍ من الأحكام مفادها حكم ظاهريّ، وبعد صدورها تكون حكماً واقعيّاً مخالفاً لذلك الحكم الظاهريّ الذي هو مؤدّى البراءة، فلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة بالنسبة إلى الحكم الواقعيّ؛ لأنّه لا حكم واقعيّ في البين حتى يكون البيان متأخّراً عن وقت الحاجة ويكون قبيحاً؛ لأنّه لا حكم واقعيّ بالنسبة إلى تلك القطعة التي تكون مجمعاً لعنواني العامّ والخاصّ.
ولكن يرد هنا الإشكال التالي:
وهو أنّ مفاد العامّ لابدّ أن يكون بالنسبة إلى القطعة التي لا تتعنون بعنوان الخاصّ حكماً واقعيّاً، وبالنسبة إلى القطعة التي هي مجمع العنوانين حكماً ظاهريّاً، مع أنّه دليل واحد، وكلام واحد. مضافاً إلى أنّ أصالة العموم ناظرة إلى الحكم الواقعيّ، لا أنّها ناظرة إلى إثبات حكم الشاكّ في الحكم الواقعيّ.
وخلاصة الكلام في المقام: أنّ الخاصّ إذا ورد بعد العامّ وبعد زمان العمل به، فالاحتمالات ثلاثة:
الأوّل: أن يكون الخاصّ ناسخاً لا مخصّصاً، لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنّه قبيح.
وفيه: أنّ كون هذه المخصّصات مع كثرتها ناسخة بعيدة غاية البعد؛ لأنّ كثيراً من هذه المخصّصات صادرة عن الأئمّة المتأخّرين، والحال أنّ العمومات صادرة عن الأئمّة المتقدّمين، فيلزم أن يكون أكثر هذه الخاصّات ناسخةً لا مخصّصة، مع أنّهم قالوا بندرة النسخ وكثرة التخصيص، حتى اشتهر ـ كما أسلفنا ـ أنّه ما من عامٍّ إلّا وقد خصّ، بل قيل: لا يمكن أن تكون ناسخة؛ لأنّ النسخ لابدّ أن يكون بتوسّط الوحي، ومعلوم أنّه قد انقطع بعد النبيّ.
ولكن يمكن أن يجاب عن هذا: بأنّه غير تامّ؛ لأنّ الوحي وإن كان قد انقطع بعد النبيّ، إلّا أنّ انقطاعه لا يلازم عدم جواز النسخ بعده؛ إذ من الممكن أنّه أودع الحكم الناسخ عند الوصيّ حتى يظهره في وقته، وهكذا الوصيّ عند وصيّه، وهو عند وصيّ آخر، إلى أن يحين وقت إظهاره، فيظهره من كان عنده من الأئمّة.
قال الاُستاذ المحقّق: <والدليل على ذلك: أنّه وردت أخبار صحيحة في تفويض دين اﷲ إلى الأئمّة المعصومين، ولا معنى للتفويض إلّا ذلك؛ إذ احتمال أن يكون المراد بالتفويض أن يقولوا من عندهم من دون أن يكون من قبل اﷲ، مخالف لاُصول المذهب، بل الدين. واحتمال أن يكون بالإلهام من قبل اﷲ تعالى إليهم، وإن كان ممكناً في حدّ نفسه، ولكنّه أيضاً مرتبة من الوحي، والظاهر: انقطاع الوحي بجميع مراتبه>( ).
الثاني: احتفاف العامّ بالمخصّصات المتّصلة، ولم يصل إلينا إلّا هذه المخصّصات المنفصلة.
الثالث: أن يكون مفاد العامّ حكماً ظاهريّاً بالنسبة إلى حكم الخاصّ، والحكم الواقعيّ لتلك القطعة من العامّ هو مفاد تلك المخصّصات المنفصلة، وإنّما تأخّر بيانها لمصالح اقتضت التأخير.
بقي صورتان من الصور الخمس التي يدور فيها الأمر بين النسخ والتخصيص، وهما فيما إذا كان الخاصّ وارداً قبل العامّ، بلا فرق بين أن يكون ورود العامّ بعد حضور وقت العمل بالخاصّ، أو قبله.
فهل يقدّم التخصيص أو النسخ على الإطلاق، أي: في الصورتين جميعاً، أم أنّ هناك فرقاً بين ما لو كان الورود بعد حضور وقت العمل فيكون نسخاً، أم قبله، فيكون تخصيصاً؟
الحقّ: أنّه في كلتا الصورتين يقدّم التخصيص على النسخ، بل تقديمه على النسخ في هاتين الصورتين أوضح من تقديمه عليه في الصور المتقدّمة؛ فإنّ اعتماد المتكلّم على القرينة المنفصلة المتقدّمة في مقام بيان مراده هو أَولى من اعتماده على القرينة المنفصلة المتأخّرة، فإذا كان الخاصّ متقدّماً على العامّ، فالمتكلّم يُلقي العامّ، ولكنّه يريد به ما عدا الخاصّ؛ لأنّه مع وجود الخاصّ المتقدّم لا يبقى ظهور للعامّ في إرادة العموم؛ لأنّ أصالة الظهور في طرف الخاصّ مقدّمة ـ كما تقدّم غير مرّة ـ على أصالة الظهور في طرف العامّ وحاكمة عليها، ومعه: فتكون أصالة الظهور في طرف العامّ ساقطةً عن الحجّيّة.
لا يقال: بعد تأخّر العامّ عن الخاصّ فمراد المتكلّم إنّما هو العموم.
فإنّه يقال: بعد قيام القرينة لم يتبقّ أيّ عموم في البين لكي يكون ناسخاً للخاصّ.
فالحقّ: أنّه في جميع الصور الخمس يقدّم الخاصّ على العامّ، لا من جهة كثرة الخاصّ؛ لأنّه لا اعتبار بهذه الكثرة ـ كما ذكرنا ـ وهي لا تنهض دليلاً على التقديم.
بل لزوم تقديم الخاصّ إنّما هو لأنّه مع وجوده يكون المتكلّم قد أتى بقرينةٍ تدلّ على تصرّفه في ظهور العامّ، فلا يبقى له ظهور في العموم، ويُعْلم أنّ المراد من العامّ إنّما هو ما عدا الخاصّ.
وقد ذكر صاحب الكفاية: أنّ التخصيص منافٍ لما التزم به في تقديم العامّ على المطلق من أقوائيّة ظهور العامّ؛ لأنّه تنجيزيّ، وظهور الإطلاق تعليقيّ؛ لأنّ ظهور الكلام في الدوام والاستمرار إنّما هو بالإطلاق، بخلاف ظهوره بالعموم، فإنّه بالوضع، فمقتضى ذلك الوجه أنّه لابدّ من تقديم أصالة العموم على الإطلاق فيما نحن فيه، لا العكس. وأمّا شيوع التخصيص، فهو إنّما يوجب أقوائيّة الظهور الإطلاقيّ لو كان من قبيل القرائن المكتنفة للكلام، بحيث يوجب تبدّل ظهور العامّ، وإلّا، فهو لا يقتضي الأقوائيّة، وإن أوجب الظنّ بالتخصيص.
قال ما لفظه:
<ولا يخفى: أنّ دلالة الخاصّ أو العامّ على الاستمرار والدوام إنّما هو بالإطلاق لا بالوضع، فعلى الوجه العقليّ في تقديم التقييد على التخصيص، كان اللّازم في هذا الدوران تقديم النسخ على التخصيص أيضاً، وأنّ غلبة التخصيص إنّما توجب أقوائيّة ظهور الكلام في الاستمرار والدوام من ظهور العامّ في العموم إذا كانت مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابةٍ تعدّ من القرائن المكتنفة بالكلام، وإلّا، فهي وإن كانت مفيدة للظنّ بالتخصيص، إلّا أنّها غير موجبة لها كما لا يخفى>( ).
وأمّا المحقّق النائيني فقد أفاد في المقام ما حاصله:
أنّ الدوام والاستمرار ليس ثابتاً بالإطلاق حتى يكون الكلام في ترجيح أحد الظهورين، بل هو ثابت بالاستصحاب؛ إذ ليس في المقام ظهوران يعارض أحدهما الآخر، وإنّما المعارضة البدويّة بين الاستصحاب وأصالة العموم، ولا كلام في تقدّمها عليه، فالالتزام بالنسخ بحسب قواعد المعارضة متعيّن. إلّا أنّه لما كان بناء العقلاء منعقداً على عدم العمل بأصالة العموم لو كان هناك خاصّ، ولو كان سابقاً أو لاحقاً؛ لأنّه يكون قرينة عليه، لم يمكن الالتزام بأصالة العموم فيما نحن فيه.
فعدم الالتزام بالعموم إنّما كان لهذا الأمر، لا لأقوائيّة دليل الاستمرار؛ إذ دليله الأصل، ولا ظهور فيه( ).
توضيح ذلك: أنّ الدوام والاستمرار:
تارةً: يلحظ وصفاً وعارضاً على الجعل، نظير الحكم بوجوب الحجّ على المستطيع؛ فإنّه قد لا تحصل الاستطاعة أصلاً، فلا ثبوت للحكم الفعليّ مع استمرار هذا الجعل ودوامه مطلقاً.
وأُخرى: يكون وصفاً للمجعول دون الجعل، نظير جعل وجوب التسبيح ساعةً عند الدخول إلى البلد؛ فإنّ الاستمرار ساعةً من شؤون المجعول، وهو الوجوب، دون الجعل؛ إذ الجعل واحد، كما لا يخفى.
والنسخ الذي يرجع إلى قطع الاستمرار ورفع الدوام إنّما يرتبط باستمرار الجعل لا المجعول؛ فإنّ الاستمرار وعدمه في المجعول لا يرتبط بالنسخ أصلاً.
وإذا كان الاستمرار من صفات الجعل ويتوقّف عليه توقّف العارض على معروضه لم يصلح الدليل المتكفّل لإنشاء الجعل لبيان الاستمرار؛ لأنّه متأخّر عن وجود الجعل، والدليل الإنشائيّ إنّما يتكفّل إيجاد الجعل، فيمتنع أن يتكفّل بنفسه بإثبات استمراره، بل لابدّ من دليل آخر يتكفّل بيان الاستمرار.
وليس من الأدلّة الاجتهاديّة ما يصلح لبيان ذلك، إلّا ما يتوهّم من قوله :<حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة>( ).
وهذا الدليل ظاهر في بيان دوام الشريعة المحمّديّة بما لها من الأحكام والمجموع بما هو مجموع، لا دوام كلّ حكم من أحكامه.
وعليه: فالدليل الذي يتكفّل بإثبات الاستمرار إنّما هو الاستصحاب، فباستصحاب الحكم يثبت بقاؤه ودوامه واستمراره.
وإذا كان الاستمرار ثابتاً بالاستصحاب لم يصلح لمعارضة أصالة العموم فيما نحن فيه؛ لأنّها دليل اجتهاديّ حاكم أو وارد عليه بلا كلام. مع امتناع جريان الاستصحاب في بعض الصور، وهي صورة تأخّر الخاصّ؛ فإنّه مع احتمال كون الدليل مخصّصاً، وأنّ حكم العامّ لم يكن ثابتاً للخاصّ من حينه، لا مجال لاستصحاب الحكم؛ لأنّ الشكّ في أصل الحدوث، فيبتني جريانه على قاعدة اليقين، وهي غير تامّة.
والذي يتلخّص من كلامه أمران:
الأوّل: أنّ استمرار الجعل لا يمكن بيانه بنفس الدليل المتكفّل لبيان الجعل؛ لأنّه متأخّر عن وجود الجعل، فلا يمكن بيانه بنفس الدليل المتكفّل لايجاد الجعل، فالدليل عليه هو الاستصحاب إذ لا دليل اجتهاديّاً يتكفّل بيانه.
والثاني: أنّ الخاصّ المتقدّم والمتأخّر يكون قرينة على العامّ بحيث يسلم ظهوره.
وكيف كان، فخلاصة القول في المقام: أنّ صور دوران الأمر بين النسخ والتخصيص ستّة: لأنّ العامّ والخاصّ إمّا مجهولا التاريخ من حيث زمان الصدور، أو معلوما التاريخ. وعلى الثاني: فهما إمّا متقارنان أو أحدهما مقدّم والآخر مؤخّر. والمؤخّر إمّا أن يصدر قبل حضور وقت العمل بالمقدّم أو بعده، فتصير صور المسألة ستّاً:
الاُولى: فيما إذا كان كلاهما مجهولي التاريخ.
الثانية: فيما إذا كانا متقارنين زماناً.
والثالثة: فيما إذا ورد الخاصّ بعد العامّ، وبعد حضور وقت العمل به.
الرابعة: فيما إذا كان الخاصّ بعد العامّ أيضاً، ولكن قبل حضور وقت العمل به.
الخامسة: فيما إذا كان العامّ بعد الخاصّ، ولكن قبل حضور وقت العمل به أيضاً.
السادسة: فيما إذا كان العامّ بعد الخاصّ أيضاً، ولكن بعد حضور وقت العمل به.
وفي هذه الصور جميعاً يكون التخصيص مقدّماً على النسخ، وذلك لعدم بقاء ظهور للعامّ، وكون الخاصّ قرينة على عدم إرادة العموم في العام.
وقد يقال: بتقديم النسخ على التخصيص فيما إذا دار الأمر بينهما؛ بدعوى: أنّ التخصيص عبارة عن التصرّف في العموم الأفرادي الذي كان للعامّ بالوضع، والنسخ عبارة عن تقييد الإطلاق.
فإذا دار الأمر بين التصرّف فيما هو بالإطلاق أو التصرّف فيما هو بالوضع، قدّم الأوّل.
وبعبارة أُخرى: فإنّ الأمر في الحقيقة يرجع الدوران بين التقييد والتخصيص؛ لأنّ مرجع النسخ إلى التقييد، وعند دوران الأمر بين التقييد والتخصيص، فالتقييد مقدّم.
ولكن فيه: أنّ النسخ متوقّف على شمول العامّ حكماً لمورد الخاصّ حتى يكون الحكم ثابتاً لأفراد الخاصّ التي هي تحت دائرة العموم، وبمجيء الخاصّ قبل العامّ، أو بعده، يرتفع حكم العامّ عن تلك القطعة التي هي مجمع العنوانين: عنوان العامّ وعنوان الخاصّ.
وقد عرفت أنّ وجود الخاصّ قبل العامّ أو بعده يكون قرينةً على عدم إرادة العموم، ومع هذه القرينة لا يبقى موضوع للنسخ حتى تصل النوبة إلى تقديم النسخ بدعوى: أنّه من تقييد الإطلاق الذي هو بمقدّمات الحكمة على التخصيص الذي هو تصرّف في العموم الأفراديّ الذي هو بالوضع.
وأيضاً: فإنّ الدوام والاستمرار في حكم العامّ الذي هو موضوع النسخ ليس بإطلاق الحكم؛ لعدم إمكان شمول إطلاق الحكم للحالات الواردة على نفس الحكم المتأخّر عنه؛ لأنّه من الانقسامات الثانويّة، كالعلم والجهل بالحكم.
فكذلك دوام الحكم واستمراره لابدّ وأن يكون بدليلٍ آخر، كقوله: <حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة>، فيكون النسخ ـ أيضاً ـ تخصيصاً؛ لأنّه تصرّف في عموم أفراد الزمان.
هذا كلّه لو كان التعارض بين دليلين فقط.

الأمر الثامن :فيما لو كان التعارض بين أكثر من دليلين:
لو فرض أنّ التعارض كان بين أكثر من دليلين، فهل يقدّم بعضها على بعضها الآخر تخصيصاً أو تقييداً، فيوجب انقلاب النسبة بينها بعد التقييد والتخصيص في بعضها أم لا يقدّم؟ بل كلّ واحدٍ منها يلاحظ مع غيره كما هو كذلك في حدّ نفسه من دون تقييده أو تخصيصه أوّلاً ثمّ ملاحظة النسبة بينه وبين غيره بعد ملاحظته مقيّداً أو مخصّصاً؟
ولتوضيح المطلب وبيان ما هو الحقّ من هذين الاحتمالين نذكر مقدّمة حاصلها: أنّ للظهور التصديقيّ في قبال الظهور التصوّري معنيين:
أوّلهما: ظهور الكلام فيما قال.
والثاني: ظهوره فيما أراد.
والأوّل ينعقد بعد تمام الكلام والفراغ منه، وليس متوقّفاً على عدم مجيء قرينة منفصلة على خلاف ظاهر الألفاظ. نعم، لو كان في الكلام قرينة متّصلة مذكورة في نفس الكلام، فهي دخيلة، وجوداً وعدماً، في انعقاد ذلك الظهور، وليس هذا الظهور هو ما عليه مدار الحجّيّة، بل مدار الحجّيّة على الظهور التصديقيّ بالمعنى الثاني، وهو ظهور الكلام فيما أراد؛ إذ بعدما عرفنا أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، فإرادة المولى هي التي تكون منشأً للآثار واستحقاق الثواب على موافقتها والعقاب على مخالفتها.
وأمّا الثاني: أي: الظهور التصديقيّ بعنوان ما أراده المتكلّم، متوقّف على عدم مجيء قرينة، ولو كانت منفصلة، على أنّ الظاهر ليس بمراد له، فلو جاءت قرينة منفصلة على عدم إرادة الظاهر، وأنّ الظاهر ليس بمراد له، فالجملة لا تكون دالّة بالدلالة التصديقيّة على أنّ الظاهر مراده، فلو كان العامّ والخاصّ كلّ منهما في جملتين مستقلّتين، فأصالة الظهور في طرف الخاصّ، ولو كان في كلام منفصل، قرينة على عدم إرادة الشمول والعموم بنحو يشمل عنوان العامّ وعنوان الخاصّ، بل يكشف عن أنّ مقدار الخاصّ كان خارجاً من أوّل الأمر.
وقد عرفت أنّ الحجّيّة تدور مدار الإرادة سعةً وضيقاً، فلو لم يكن العامّ شاملاً للخاصّ من حيث المراديّة ـ كما هو المفروض ـ فليس بحجّة في ذلك المقدار، فلا تعارض بين العامّ والخاصّ؛ لأنّ التعارض فرع الحجّيّة، وما ليس بحجّة لا ينهض لأن يكون معارضاً لحجّةٍ أُخرى.
فلو كان هناك دليلان متعارضان بالتباين، كقوله: (أكرم العلماء)، وقوله: (لا تكرم العلماء)، فإنّ النسبة بينهما هي التباين، ثمّ ورد دليل آخر مخصّص لأحدهما، كقوله: (يستحبّ إكرام العلماء العدول)، فهذا يخصّص قوله: (لا تكرم العلماء)، ويصير قرينةً على عدم إرادة العموم من قوله: (لا تكرم العلماء) بالنسبة إلى العدول منهم، فليس بحجّة في العلماء العدول، فكأنّه من أوّل الأمر قال: (لا تكرم العلماء غير العدول) فتنقلب النسبة من التباين إلى العموم والخصوص المطلق. فتكون نتيجة الجمع بين هذين الكلامين وجوب إكرام العلماء العدول دون الفسّاق منهم، فلا يصحّ إنكار انقلاب النسبة بقول مطلق.
وخلاصة القول: أنّ المخصّص المنفصل عين المخصّص المتّصل من ناحية أنّ العام لا يكون شاملاً لأفراد، وكذلك من ناحية كاشفيّته عن المراد، وإنّما الفرق بينهما أنّ المخصّص المنفصل لا يصادم ظهور العامّ بعنوان ما قال لا بعنوان ما أراد.
فإذا كان هناك عامّ وخاصّ، فلا يمكن أن يكون حال هذا العامّ مع وجود هذا الخاصّ في مقام معارضته لدليل آخر مثل حال هذا الخاصّ مع فرض عدم هذا الخاصّ؛ لأنّ العامّ مع فرض عدم وجود الخاصّ تكون حجّيّته أوسع ويكون كاشفاً عمّا يراد، وشاملاً لجميع الأفراد، بما فيها أفراد ذلك الخاصّ، وأمّا مع فرض وجود الخاصّ فلا تكون شاملة لأفراد الخاصّ.
فإذا عرفت ذلك، ظهر ما في كلام صاحب الكفاية الذي ذكره في مقام ردّ انقلاب النسبة من <أنّ النسبة إنّما هي بملاحظة الظهورات. وتخصيص العامّ بمخصّص منفصل، ولو كان قطعيّاً، لا ينثلم به ظهوره، وإن انثلم به حجّيّته>( ).
وذلك لأنّ المخصّص المنفصل، ولو لم يكن ـ كما أفاده ـ كالمتّصل من جهة عدم انثلام ظهور العامّ به، لكنّ ذلك هو الظهور التصديقيّ بمعنى ما قال، لا بمعنى ما أراد.
والنسبة بين المتعارضات والأدلّة وإن كانت باعتبار الظهورات، إلّا أنّ الظهورات التصديقيّة الكاشفة عن المراد لا صرف الظهور بعنوان ما قال، فما هو المناط في المعارضة هو هذا الظهور الكاشف عمّا أراد، وبه يكون الكلام حجّة، لا عن ما قال؛ لأنّه ليس بحجّة، وما لا يكون بحجّة فكيف يمكن أن يكون معارضاً لحجّة أُخرى.
ومن هنا ظهر الحال فيما أفاده المحقّق العراقي بقوله: <والتحقيق: أنّ مدار الجمع بعدما كان على تقديم أقوى الظهورين، وأنّ القرائن المنفصلة لا توجب انقلاب الظهور أيضاً، فلا محيص ـ حينئذٍ ـ من لا بدّيّة ملاحظة كلّ واحدٍ مع الآخر في [أنفسهما] مع قطع النظر عن جمع كلّ واحدٍ مع الغير؛ إذ المفروض أنّ الجمع لا يوجب انقلاب الظهور شدّةً وضعفاً>( ).
فقد عرفت أنّ الظهور الذي لا ينثلم مغاير للظهور الذي عليه مدار الحجّيّة، أي: الظهور التصديقيّ الكاشف عن مراد المتكلّم، وهذا الظهور هو الذي مدار الحجّيّة، وعليه يدور وقوع التعارض بين الأدلّة، وهو غير باقٍ مع وجود القرينة المنفصلة على الخلاف.
وكيف كان، فإنّه بناءً على ما اختاره! فبين (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفسّاق من العلماء) ـ مثلاً ـ عموم وخصوص من وجه، وكذا بين (أكرم العلماء) وبين (يستحبّ إكرام العدول)، فالنسبة الأوّليّة باقية بحالها، فلا يخصّص قوله: (يستحبّ إكرام العدول) بغير العلماء، بل النتيجة هي إمّا التخيير أو التساقط.
وأمّا بناءً على ما اخترناه، فيخصّص قوله: (يستحبّ إكرام العدول) بغير العالم العادل، وسائر العدول يكون إكرامهم مستحبّاً بدليل (يستحبّ إكرام العدول) بعد تخصيصه بغير العلماء، بواسطة قوله: (أكرم العلماء العدول) الحاصل من تخصيص قوله: (أكرم العلماء)، بقوله: (لا تكرم الفسّاق من العلماء).
وكذا تنقلب النسبة لو كان هناك عامّان متباينان، وكان دليل ثالث أخصّ من أحدهما، كقوله: (لا ترث الزوجة من العقار)، وقوله (ترث الزوجة من العقار)، فهما عامّان متباينان، فإذا ورد الدليل الثالث، وكان مفاده أنّ الزوجة التي لها ولد من الميّت ترث من العقار، فتنقلب النسبة؛ لأنّها تخصّص بقوله: (لا ترث الزوجة من العقار)، فتنقلب النسبة ـ حينئذٍ ـ بينه وبين العامّ الآخر من التباين إلى العموم والخصوص المطلق. فالنتيجة: أنّ اُمّ الولد من الزوجة ترث، والزوجة التي ليس لها ولد من الزوج الميت لا ترث.
هذه إحدى صور التعارض بين أكثر من دليلين.
صورة أُخرى: ما إذا كان هناك عامّ وخاصّان وكان بينهما تباين، كقوله: (أكرم العلماء) وقوله: (لا تكرم الكوفيّين من العلماء) وقوله: (لا تكرم البصريّين من العلماء)، فإنّ النسبة بين الخاصّين هي التباين، ولا شكّ في وجوب تخصيص العامّ بكلٍّ منهما ما لم يصل إلى حدّ التخصيص المستهجن.
ثمّ إنّ الشيخ الأعظم فصّل بين صور التعارض:
فحكم في بعضها بعدم صحّة الترتيب في العلاج، وهي صور ما إذا كانت نسبة المتعارضات إلى الدليل نسبةً واحدة، كما لو كانت نسبتها نسبة الخاصّ إلى العامّ، نظير: ما لو ورد: (أكرم العلماء)، ثمّ ورد: (لا تكرم النحويّين)، و(لا تكرم الصرفيّين).
وحكم في البعض الآخر بملاحظة الترتيب في العلاج، وهي صور ما إذا كانت نسبة المتعارضات مختلفة، كما إذا ورد عامّ ثمّ ورد عامّ آخر نسبته مع الأوّل نسبة العموم من وجه، ثمّ ورد مخصّص لأحدهما، نظير: (أكرم العلماء) و(لا تكرم الفسّاق من العلماء)، و(يستحبّ إكرام العدول)؛ فإنّه حكم بتخصيص (أكرم العلماء)، بدليل: (لا تكرم فسّاقهم)، فتنقلب نسبته إلى دليل: (يستحبّ إكرام العدول) إلى نسبة الأخصّ مطلقاً فيتخصّص به. وتكون النتيجة: حرمة إكرام فسّاق العلماء ووجوب إكرام عدولهم، واستحباب إكرام العدول من غير العلماء.
وقد استدلّ على صحّة عدم الترتيب في الأوّل:
أوّلاً: بأنّ تقديم أحد الخاصّين المعيّن على العامّ، ثمّ ملاحظة نسبة العامّ مع الخاصّ الآخر، ترجيح بلا مرجّح، فيتعيّن ملاحظتهما معاً بالنسبة إلى العامّ.
وثانياً: بأنّه مع تخصيص العامّ بأحد المخصّصين، لا ينعقد له ظهور في الباقي إلّا مع إحراز عدم المخصّص، ومع وجود الخاصّ الآخر لا مجال لإحراز عدم المخصّص حتى بالأصل، فلا ينعقد له ظهور في الباقي كي يصلح لمعارضة الخاصّ الآخر، وملاحظة النسبة بينهما.
وبالجملة: انعقاد ظهور العامّ في الباقي حتى يكون صالحاً للمعارضة يتوقّف على العلاج بالنسبة إلى الخاصّ الآخر ونفي مخصّصيّته، والعلاج بالنسبة إليه يتوقّف على انعقاد ظهوره كي تلاحظ النسبة بينه وبين الدليل الآخر.
وبهذا الدليل دفع توهّم صحّة الترتيب في العلاج، مع كون أحد الخاصّين ثابتاً بالإجماع أو العقل؛ فإنّه وإن أقرّه في نفس الترتيب؛ لأنّه يكون كالمخصّص المتّصل الذي لا إشكال في تقدّمه على العامّ، لكنّه لم يقرّه في دعوى انقلاب النسبة به كما ادّعاه المتوهّم.
واستدلّ على ملاحظة الترتيب في الثاني:
باستلزام عدم الترتيب لمحذور طرح النصّ أو طرح الظاهر في مدلوله أجمع؛ وذلك لأنّه لو لم يرتّب في العلاج وقدّم العامّ الآخر وخصّص به العامّ، كما لو خصّص (أكرم العلماء) ﺑ (يستحبّ إكرام العدول)، فإمّا أن يخصّص العامّ بالخاصّ، وهو (لا تكرم فسّاق العلماء) أو لا. فعلى الثاني: يلزم طرح النصّ؛ لأنّ الخاصّ نصّ في مدلوله، والعامّ ظاهر فيه، وعلى الأوّل: يلزم طرح الظاهر مطلقاً، وهو ممنوع؛ لأنّ العامّ نصّ في منتهى التخصيص، فيلزم من طرحه طرح أحد النصّين، وهو محذور كما لا يخفى( ).
وأمّا المحقّق النائيني فقد ذكر وجهاً لتقريب انقلاب النسبة، وتوضيحه:
أنّ للكلام دلالاتٍ ثلاث:
أ. دلالة تصوّريّة، وهي انتقال المعنى من اللّفظ عند إبرازه، وهي لا تتوقّف على صدور اللّفظ عن اختيار وإرادة، وهي نفس الدلالة الوضعيّة عند بعض.
ب. ودلالة تصديقيّة، وهي الحاصلة من ضمّ بعض أجزاء الكلام إلى بعض، وملاحظة القرائن المحفوف بها الكلام، فقد يكون دالّاً على غير المعنى الوضعيّ الأوّليّ، لوجود القرائن المغيّرة لظهوره الأوّليّ، ويسند المجموع إلى المتكلّم، ويُحكم بأنّه قصد تفهيم هذا المعنى المستفاد من الكلام. وهذه الدلالة تتوقّف على صدور الكلام عن إرادةٍ وقصد.
ج. ودلالة ثالثة على كون المعنى المقصود تفهيمه هو المراد جدّاً وواقعاً، ويعبّر عنها ـ أيضاً ـ بالدلالة التصديقيّة في الكشف عن المراد الجدّيّ.
وموضوع الحجّيّة إنّما هو القسم الثالث من الدلالات المذكورة؛ فإنّ الكشف النوعيّ للكلام عن المراد الجدّيّ هو الذي يكون موضوعاً للحجّيّة والاعتبار عند العقلاء.
والمعارضة بين الأدلّة إنّما هي باعتبار الكشف النوعيّ لكلٍّ منها عن المراد الجدّيّ المنافي للآخر، بحيث لا يمكن الالتزام بكلٍّ منها، وإلّا، فمع الغضّ عنه لا تعارض بين الأدلّة بلحاظ المستعمل فيه في كلٍّ منها؛ إذ مع العلم بأنّه لا مراد جدّيّاً على طبق المستعمل فيه والمقصود بالتفهيم لا يكون هناك تزاحم وتعارض بين الأدلّة.
وإليك نصّ ما أفاده:
<وقد أشرنا إلى الوجه في انقلاب النسبة في مثل هذه الموارد، وحاصله: أنّ ملاحظة النسبة بين الأدلّة إنّما هي لأجل تشخيص كونها متعارضة أو غير متعارضة.
وقد تقدّم: أنّ تعارض الأدلّة إنّما هو لأجل حكايتها وكشفها عمّا لا يمكن جعله وتشريعه لتضادّ مؤدّياتها، فالتعارض بين الأدلّة إنّما يكون بمقدار كشفها وحكايتها عن المراد النفس الأمريّ.
ومن الواضح: أنّ تخصيص العامّ يقتضي تضييق دائرة كشفه وحكايته؛ فإنّ التخصيص يكشف ـ لا محالة ـ عن عدم كون عنوان العامّ تمام المراد، بل المراد هو ما وراء الخاصّ؛ لأنّ دليل الخاصّ لو لم يكشف عن ذلك يلزم لغويّة التعبّد به وسقوطه عن الحجّيّة، فلازم حجّيّة دليل المخصّص هو سقوط دليل العامّ عن الحجّيّة في تمام المدلول وقَصْر دائرة حجّيّته بما عدا المخصّص، وحينئذٍ: لا معنى لجعل العامّ بعمومه طرف النسبة؛ لأنّ النسبة إنّما تلاحظ بين الحجّتين، فالذي يكون طرف النسبة هو الباقي تحت العامّ الذي يكون العامّ حجّةً فيه، فلو خصّص أحد العامّين من وجه بمخصّص متّصل أو منفصل يسقط عن الحجّيّة في تمام المدلول، ويكون حجّةً فيما عدا عنوان الخاصّ، فتلاحظ النسبة بينه بمقدار حجّيّته وبين العامّ الآخر، ولا محالة تنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق>( ).
وخلاصة الكلام في المقام: أنّ جهة انقلاب النسبة هو أنّ العامّ قبل تخصيصه يكون حجّة دالّة على تمام المدلول، ولكن بعد ورود الخاصّ، ولو كان منفصلاً، لا يكون حجّة إلّا فيما عدا مدلول الخاصّ، فقهراً تتضيّق دائرة حجّيّته. وقد تقدّم آنفاً أنّ التعارض يقع بين حجّتين أو الحجج باعتبار كشفها عن المراد الواقعيّ، وعدم إمكان اجتماعهما، أو عدم اجتماعها، إذا كانا، أو كانت، مراداً واقعيّاً، فحينئذٍ: تتغيّر النسبة بينهما بتغيّر مدلولهما. والقول بعدم تغيّر النسبة، وعدم انقلابها، بعد وجود المخصّص المنفصل مساوق للقول بعدم تضييق دائرة حجّيّة العامّ بواسطته، وهو كما ترى، ولا يقول به من ينكر الانقلاب في النسبة.

تتميم :في نسبة أدلّة ضمان العارية بعضها إلى بعض:
وقد ذكر اُستاذنا الأعظم ـ كما في مصباح الاُصول ـ <أنّ الأخبار الواردة في ذلك الباب على طوائف:
منها: ما يدلّ على نفي ضمان العارية بقول مطلق.
ومنها: ما يدلّ على نفي الضمان مع عدم الاشتراط وإثباته معه.
ومنها: ما يدلّ على نفي الضمان في غير عارية الدراهم وإثباته فيها.
ومنها: ما يدلّ على نفي الضمان في غير عارية الدنانير وإثباته فيها.
ومنها: ما يدلّ على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضّة وإثباته في عاريتهما>.
ثمّ ذكر بعد ذلك: أنّ نسبة ما يدلّ على ثبوت الضمان مع الاشتراط مع سائر المخصّصات هي نسبة العموم من وجه؛ <إذ ربما يكون الاشتراط في غير عارية الدرهم والدينار، وربما يكون الاشتراط في عاريتهما، وربما تكون عارية الدرهم أو الدينار بلا اشتراط. وكذا الحال بالنسبة إلى ما يدلّ على الضمان في عارية الذهب والفضّة، فإنّ النسبة بينه وبين ما يدلّ على الضمان مع الاشتراط أيضاً العموم من وجه، فمقتضى القاعدة هو تخصيص العامّ بجميع هذه المخصّصات>.
إلى أن قال: <وأمّا ما يدلّ على نفي الضمان في غير عارية الدرهم وإثباته فيها، وما يدلّ على نفي الضمان في غير عارية الدينار وإثباته فيها، فهما بمنزلة رواية واحدة دالّة على نفي الضمان في غير عارية الدرهم والدينار، وإثباته في عاريتهما>؛ لأنّ العقد الإيجابيّ من كلّ منهما يقيّد العقد السلبيّ من الآخر؛ لأنّه ينافيه وأخصّ منه، فيجمع بينهما كذلك، ويكونان بمنزلة دليل واحد، وتقع المعارضة بعد ذلك بينه وبين ما دلّ على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضّة وإثباته فيهما؛ لأنّ النسبة بين العقد السلبيّ لهذا الدليل وبين العقد الإيجابيّ لما دلّ على نفي ضمان غير عارية الذهب والفضّة هي العموم من وجه؛ لأنّ العقد السلبيّ لهذا الدليل مفاده نفي الضمان عن غير عارية الدرهم والدينار، سواء كان ذهباً أم فضّةً أم غيرهما، والعقد الإيجابيّ لذلك مفاده إثبات ضمان عارية الذهب والفضة، سواء كان درهماً أم ديناراً أم غيرهما من غير المسكوك.
ويدور الأمر بين رفع اليد عن أحد الإطلاقين، ومقتضى القاعدة هو التساقط، إلّا أنّها غير تامّة ههنا؛ لأنّ رفع اليد عن إطلاق دليل ثبوت ضمان عارية الذهب والفضّة في مورد المعارضة بالتساقط ـ يلزم تخصيصه بالفرد النادر ـ؛ لأنّ إعارة الدينار والدرهم نادرة؛ لعدم الانتفاع بها مع بقاء عينها غالباً، وهو مستهجن( ).
ولا بأس هنا باستعراض تلك الطوائف من الروايات الواردة في باب العارية، مع الإشارة إلى كيفيّة الجمع فيما بينها، فنقول:
من هذه الروايات:
ما يدلّ على عدم الضمان في العارية مطلقاً من حيث المستعير والمال، أو الشيء المستعار، كصحيحة الحلبي عن الصادق:
<ليس على مستعيرٍ عارية ضمان، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن>( ).
ومنها: ما يدلّ على عدم ضمان العارية مطلقاً من حيث المال المستعار، ولكن من حيث المستعير مشروط بكونه مأموناً، كرواية مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمّد، قال:
<سمعته يقول لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت أو سرقت أو ضاعت إذا كان المستعير مأموناً>( ).
ومنها: ما يدلّ على عدم الضمان إلّا في عارية الدراهم، كرواية عبد الملك عن أبي عبد اﷲ قال:
<ليس على صاحب العارية ضمان إلّا أن يشترط صاحبها، إلّا الدراهم، فإنّها مضمونة، اشترط صاحبها أو لم يشترط>( ).
ومنها: ما يدلّ على عدم الضمان إلّا في عارية الدنانير، كرواية عبد اﷲ ابن سنان قال:
<قال أبو عبد اﷲ لا تضمن العارية، إلّا أن يكون قد اشترط فيها ضمان، إلّا الدنانير فإنّها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضماناً>( ).
ومنها: ما يدلّ على عدم الضمان إلّا في عارية مطلق الذهب والفضة، كرواية اسحاق بن عمار عنه:
<قال: العارية ليس على مستعيرها ضمان إلّا ما كان من ذهب أو فضّة، فإنّهما مضمونان، اشترطا أو لم يشترطا>( ).
فإذا لاحظت هذه الطوائف من أخبار الباب نقول:
لا يخفى: أنّ الطائفة الاُولى والثانية مشتركان في نفي الضمان مطلقاً، من أيّ جنسٍ كان المال المستعار، من الدنانير أو الدراهم أو غيرهما، من الذهب أو الفضة أو غيرهما، وإنّما الاختلاف بين الطائفتين في أنّ الطائفة الثانية تشترط كون المستعير مأموناً.
ومعه: فيمكن حمل الطائفة الاُولى على الثانية، وتكون النتيجة: أنّه إنّما لا يكون هناك ضمان فيما إذا كان المستعير مأموناً.
وأمّا الطائفة الثالثة والرابعة فلكلٍّ منهما عقد سلبيّ وعقد إيجابيّ.
أمّا العقد السلبيّ في الثالثة ـ وهي رواية عبد الملك عن أبي عبد اﷲ ـ هو عدم الضمان في كلّ عارية إذا لم يشترط صاحبها الضمان، إلّا في عارية الدراهم، فكلّ عارية غير عارية الدراهم اذا لم يشترط فيها صاحبها الضمان من أيّ جنسٍ كان ليس فيها ضمان. والعقد الإيجابيّ هو أنّه في عارية الدراهم ضمان مطلقاً.
فهذا العقد الإيجابيّ يخصّص العمومات أو يقيّد المطلقات التي كان مفادها عدم الضمان في كلّ عاريةٍ من أيّ جنسٍ كان؛ لأنّه أخصّ منها.
وكذلك الطائفة الرابعة، أي: رواية عبد اﷲ بن سنان، فهي ـ أيضاً ـ لها عقد سلبيّ وعقد إيجابيّ، فالعقد السلبيّ فيها عبارة عن: عدم الضمان في كلّ عارية لم يشترط فيها الضمان من أيّ جنسٍ كان، إلّا أن تكون من جنس الدنانير، والعقد الإيجابيّ فيها عبارة عن ثبوت الضمان في عارية الدنانير مطلقاً، سواء اشترط صاحبها الضمان أم لم يشترط.
وهذا العقد الإيجابيّ في هذه الطائفة ـ أيضاً ـ يخصّص العمومات التي كان مفادها عدم الضمان مطلقاً من أيّ جنسٍ كان؛ لأنّه ـ كذلك ـ أخصّ منها.
وقد عرفنا سابقاً أنّه لو كان للعامّ مخصّصات متعدّدة ﻛ (أكرم العلماء) ثمّ جاء (لا تكرم الشعراء) ثمّ ورد (لا تكرم الأدباء) ثمّ ورد (لا تكرم البصريّين) ثمّ ورد (لا تكرم الكوفيّين) فإنّ العامّ يُخصّص بالكلّ، ما لم يصل إلى حدّ التخصيص المستهجن.

الأمر التاسع :في مقتضى القاعدة الأوّليّة عند عدم المرجّح:
لو لم تكن لأحد المتعارضين من ناحية الدلالة مزيّة وتعذّر الجمع العرفيّ، فهل مقتضى القاعدة الأوّليّة هو التساقط ـ مع قطع النظر عن أخبار الترجيح والتخيير ـ أم لا؟
بل مقتضى القاعدة الأوّليّة عدم سقوطهما، بل لابدّ من الجمع بينهما ولو بنحوٍ من التأويل.
والكلام في هذه المسألة يقع في مقامين: الأوّل: بناءً على الطريقيّة. والثاني: بناءً على السببيّة.
أمّا المقام الأوّل:
فحيث إنّ مضمونها ومؤدّاهما لا يمكن أن يكون مجعولاً جمعاً؛ لكونه من اجتماع الضدّين أو النقيضين مطابقةً أو التزاماً، فلا يمكن أن يكون كلاهما طريقاً وكاشفاً عن الحكم الواقعيّ، فمع العلم بأنّهما ليسا بمجعولين جمعاً كيف يمكن أن يقول أحد بأنّ كليهما ـ جمعاً ـ طريق.
وحاصل الكلام: أنّه بناء على الطريقيّة، فكلّ واحدٍ منهما ليس حجّة في خصوص مؤدّاه. وأمّا بالنسبة إلى نفي الحكم الثالث، فإن كان التعارض بينهما من جهة تنافي مؤدّاهما وعدم إمكان اجتماعهما؛ لاستلزامه اجتماع الضدّين أو النقيضين، فهما يشتركان في نفي الثالث بالدلالة الالتزاميّة، فإذا ورد روايتان مفاد إحداهما وجوب صلاة الجمعة، ومفاد الأُخرى استحبابها، فهما مشتركان في نفي الكراهة والحرمة والإباحة بالدلالة الالتزاميّة، فالمدلول المطابقيّ لإحداهما الوجوب، وللأُخرى الاستحباب، إذ لازم كونه واجباً، وكذلك مستحبّاً، أنّه ليس محكوماً بسائر الأحكام الخمسة.
فإن قلت: دلالة الجملة على المعنى الالتزاميّ فرع دلالتها على المعنى المطابقيّ، وفي المقام، ليس الخبران حجّة بالنسبة إلى مدلولهما المطابقيّ؛ لسقوطهما عن الحجّيّة بالنسبة إليه، كما هو المفروض.
قلنا: إنّ تبعيّة دلالة اللّفظ والكلام على مدلوله الالتزاميّ لدلالته عن مدلوله المطابقيّ في عالم الوجود، لا في عالم الحجّيّة، فيمكن التفكيك في عالم الحجّيّة بعد وجودهما معاً لوجود محذور في حجّيّة إحداهما دون الأُخرى، كما في المقام؛ لأنّه في المثل المذكور لكلّ واحدٍ منهما دلالة مطابقيّة، وهي دلالتهما في نفس مؤدّاهما من الوجوب في إحداهما والاستحباب في الأُخرى. والأُخرى التزاميّة، وهي دلالة كلٍّ منهما على نفي غير مؤدّاهما، فبالنسبة إلى نفي غير مؤدّى الاثنين كلاهما مشتركان فيها، بخلاف حجّيّة دلالتهما المطابقيّة؛ فإنّ فيها استلزام اجتماع الضدّين أو النقيضين، ولأجل ذلك يقع التفكيك في الحجّيّة بين الدلالتين.
وأمّا إذا كان التعارض بينهما لأجل دليلٍ خارجيٍّ على أنّ كلا المؤدّيين غير مجعول من دون أن يكون بين نفس المؤدّيين ـ من حيث أنفسهما ـ تضادّ أو تناقض، كما في الروايتين الواردتين في صلاة يوم الجمعة، حيث إنّ إحداهما تدلّ على وجوب صلاة الجمعة في يومها، والأُخرى على وجوب صلاة الظهر فيه.
وليس بينهما تضادّ وتنافٍ في أنفسهما، ولكن من جهة وجود دليلٍ خارجيّ على عدم مجعوليّتهما جميعاً يقع بينهما التعارض.
ففي مثل هذا القسم لا يدلّان إلّا على إثبات مؤدّاهما من دون دلالتهما على نفي حكمٍ آخر، بل كلّ واحدٍ منهما يدلّ على مؤدّاه، أي: وجوب صلاة الظهر ـ مثلاً ـ أو وجوب صلاة الجمعة، فلو سقطا بالتعارض واحتملنا وجوب صلاة أُخرى في ذلك اليوم لا مانع من إجراء البراءة.
نعم، لو علمنا بوجوب صلاةٍ في ذلك اليوم، والتعارض وقع في تعيين ذلك الواجب، فأحد الدليلين كان مفاده أنّ الصلاة الواجبة في يوم الجمعة ـ مثلاً ـ هي خصوص صلاة الجمعة، وكان مفاد الدليل الآخر أنّ الصلاة الواجبة المعلوم وجوبها في يوم الجمعة هي إمّا صلاة الظهر وإمّا صلاة الجمعة، فلو تساقط الدليلان بالتعارض لا يمكن إجراء البراءة، بل لابدّ من الاحتياط بالجمع بين الصلاتين، أي: صلاة الظهر وصلاة الجمعة، من باب لزوم الاحتياط ووجوب الموافقة القطعيّة في أطراف العلم الإجماليّ، ومثال ورود الروايتين اللّتين تدلّ إحداهما على وجوب صلاة الجمعة في يوم الجمعة والأُخرى على وجوب صلاة الظهر من هذا القبيل.
هذا كلّه بناءً على الطريقيّة.

وأمّا المقام الثاني:
أي: بناءً على السببيّة والموضوعيّة، فهل مقتضى القاعدة ـ أيضاً ـ هو تساقطهما، أو لا، بل مقتضى الأصل هو التخيير؟
فنقول: السببيّة والموضوعية على أربعة أقسام:
الأوّل: هو كون الأحكام الواقعيّة تابعةً لآراء المجتهدين، وليس هناك في الواقع أحكام واقعيّة محفوظة بحيث قد يصيب المجتهد ويصل إليها بواسطة الأمارات والأدلّة، وقد يخطئ، ولذا سمّوا ﺑ <المصوّبة>؛ لأنّه بناءً على هذا المسلك الباطل لا يمكن وقوع الخطأ في اجتهاداتهم، وهذا هو التصويب الأشعريّ المحال.
الثاني: أن تحدث في مؤدّى الأمارات والاُصول بواسطة قيامهما على الحكم الشرعيّ مصلحة أو مفسدة تكون غالبة على المصلحة أو مفسدة الواقع، فيكون الحكم مجعولاً على طبقهما دون الواقع، فيكون الحكم الواقعيّ الفعليّ هو مؤدّى الأمارات والاُصول، ويبقى الحكم الواقعيّ الأصليّ في مرتبة الشأن، وهذا هو التصويب المعتزليّ، وليس بمحال، ولكنّ الإجماع منعقد على خلافه، وإن كان يظهر كلام جماعةٍ قبول هذا القسم.
الثالث: هو القول بالمصلحة السلوكيّة.
الرابع: هو ما عن المحقّق العراقي من أنّ متعلّقات وموضوعات الأحكام لها مصالح ومفاسد في الرتبة السابقة على الجهل بتلك الأحكام، وهي مناطات الأحكام الواقعيّة، ولها مصالح ومفاسد في الرتبة المتأخّرة عن الجهل بها، وهي مناطات الأحكام الظاهريّة.
والفرق بين هذا القسم وبين القسم الثاني، وهو السببيّة المعتزليّة، أنّه في القسم الثاني تنكسر المصالح والمفاسد الواقعيّة، فلا تقتضي جعلاً على طبقها، فليس في البين إلّا تلك الأحكام الظاهريّة.
وأما في هذا القسم، فلكلّ متعلّق وموضوع جُعل حكمان: واقعيّ وظاهريّ، ولا تناقض ولا تضادّ في البين؛ لاختلاف الرتبة بين الحكمين، فلا الحكم الواقعيّ ينزل إلى رتبة الحكم الظاهريّ، ولا الحكم الظاهريّ يصعد إلى رتبة الحكم الواقعيّ، بل كلّ منهما يقف على موضوعه، وقد تقدّم وجه البطلان في مسألة الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ، وذكرنا هناك أنّ الحكم الظاهريّ ولو لم يصعد إلى رتبة الحكم الواقعيّ، إلّا أنّ الحكم الواقعيّ بإطلاقه يشمل حتى مرتبة الظاهر، وينزل حتى إلى تلك المرتبة، فيحصل منه اجتماع للضدّين.
ثمّ لا يخفى: أنّ مقتضى القاعدة بناءً على السببيّة التصويبيّة بكلا قسميها، أي: الأشعريّة والمعتزليّة، بل حتى بناءً على السببيّة المخطّئة ـ وهي التي قال بها المحقّق العراقي ـ هو التخيير؛ لأنّه لو فرض أن الأخبار كانت على نحو السببيّة، وكان في كلّ واحدٍ منها ملاك ومصلحة، فالعقل يحكم بالامتثال بمقدار القدرة، وهو أن يمتثل أحدهما في ظرف عدم امتثال الآخر.
أمّا إذا كانت إحدى الأمارتين تثبت حكماً، والأُخرى تنفي ذلك الحكم، بحيث تكون الأمارتان مختلفتين في الإيجاب والسلب، ويكون الجمع بين مفاديهما من قبيل الجمع بين النقيضين، لا الضدّين، فلا يمكن القول بالتخيير، بعد أن كان مفاد إحدى الأمارتين هو رفع مؤدّى الأُخرى، بل من جهة أنّ أحد الملاكين، ملاك الحرمة أو ملاك الوجوب، غير موجود، فلا وجه للقول بالتخيير حينئذٍ.
وأمّا السببيّة بمعنى أن تكون المصلحة في سلوك الأمارة:
فربّما يقال: بأنّ مقتضى الأصل ـ أيضاً ـ هو التخيير؛ لأنّ في سلوك كلٍّ من الطريقين المتعارضين مصلحة يجب استيفاؤها مع الإمكان. ولكن حيث لا يمكن سلوك كليهما؛ لأنّه مستلزم لاجتماع الضدّين أو النقيضين، فالعقل يحكم بلزوم استيفاء إحدى المصلحتين لأنّه ممكن، وهذا هو التخيير.
ولكنّ الحقّ: أنّ المصلحة السلوكيّة ـ بناءً على القول بها ـ تعني أنّ المولى يجعل مصلحةً في الطريق لأجل ما فات العبد من مصلحة الواقع بسبب جعل هذه الأمارة حجّة وطريقاً، فإذا سقطت طريقيّته بواسطة التعارض، فليس هناك طريق حتى يكون لسلوكه مصلحة، فليس هناك مصلحة سلوكيّة في البين حتى تكون مستدعيةً لحكم العقل بالتخيير.
وخلاصة الكلام: أنّه بعد ما عرفنا أنّ التزاحم الموجب للتخيير على تقدير عدم كونه مختصّاً بمورد الحكمين المتزاحمين، فهو لا يثبت إلّا بين المصلحتين المتزاحمتين، اللّتين لا يمكن استيفائهما معاً، ولكن يمكن استيفاء أحدهما غير المعيّن. وهذا لا يأتي في محلّ الكلام، حيث إنّ المتعارضين سقطا عن الطريقيّة، فليس في سلوكهما مصلحة حتى يحكم العقل بالتخيير في استيفاء أيّهما شاء.

الأمر العاشر :حكم الخبرين بعد أن كان مقتضى الأصل تساقطهما:
لا يخفى: أنّ ما قلناه من سقوط الخبرين المتعارضين كان بمقتضى الأصل والقاعدة الأوّليّة، وإلّا، فبمقتضى الأخبار العلاجيّة المستفيضة، بل المتواترة، في هذا الباب، فلا إشكال في عدم التساقط إذا لم يكن لأحدهما مرجّح أو مزيّة، بل كانا متكافئين من جميع الجهات.
نعم، اختلفت آراء الأصحاب بعد ذلك على أقوالٍ عدّة:
الأوّل: وهو المشهور، بل ادّعي عليه الإجماع، وهو الحكم بالتخيير والأخذ بأيّهما شاء.
والثاني: التوقّف في الفتوى والعمل بما يوافق الاحتياط، ولو كان الاحتياط مخالفاً لهما، كالجمع بين القصر والإتمام إذا تعارضت الأدلّة بالنسبة إليهما. والمراد من التوقّف في الفتوى أن يتوقّف في الفتوى على طبق أحدهما.
الثالث: العمل بما يطابق منهما الاحتياط، فإن لم يكن فيهما ما يطابق الاحتياط فلابدّ من التخيير بينهما.
ومنشأ هذا الاختلاف في الآراء هو اختلاف الأخبار، فلابدّ من النظر فيها للوقوف على أصحّ الأقوال، بعدما عرفنا أنّ القاعدة الأوّليّة بحكم العقل هي التساقط، فكيف يمكن القول بعدم تساقطهما حينئذٍ، بل كيف يصحّ القول بالتخيير بينهما مع وجود منافاة ظاهرة بين الحكم بالتساقط وبين الحكم بالتخيير.
ولكن يمكن أن يقال: بأنّه لو فرض قيام الإجماع أو ورود الأخبار بعدم تساقط المتعارضين، فإنّ هذا يكون كاشفاً عن جعل جديدٍ لحجّيّة أحد الخبرين بالفعل لا على التعيين، وذلك لا يتنافى مع ما قلناه سابقاً من تساقط المتعارضين بناءً على الطريقيّة؛ لأنّ حكمنا بالتساقط إنّما كان من جهة عدم قصور أدلّة حجّيّة الأمارة عن شمولها للمتعارضين أو لأحدهما لا على التعيين.
ولكن لا يضرّ في ذلك أن يرِد دليل خاصّ يتضمّن بيان حجّيّة أحدهما غير المعيّن بجعلٍ جديد، لا بنفس الجعل الأوّل الذي تتضمّنه الأدلّة العامّة.
وهذا لا يستلزم القول بكون الأمارة مجعولة على نحو السببيّة؛ لأنّه إنّما يلزم ذلك لو كان عدم التساقط باعتبار الجعل الأوّل الذي تتضمّنه الأدلّة العامّة.
وبعبارة أُخرى: لو كنّا نحن وتلك الأدلّة العامّة الدالّة على حجّيّة الأمارة، فإنّه لا يبقى دليل لنا على حجّيّة أحد المتعارضين؛ لقصور تلك الأدلّة عن شمولهما لهما، فلابدّ أن نحكم بعدم الحجّيّة لكليهما معاً.
ولكن بعد فرض ورود دليل خاصّ في صورة التعارض بالخصوص على حجّيّة أحدهما، فلابدّ من الأخذ به، ويدلّ على أنّ أحدهما حجّة بجعل جديد.
وعلى هذا، ومع أنّ التعارض بناءً على القاعدة الأوّليّة موجب للتساقط، إلّا أنّ الذي يستفاد من هذا الدليل الخاصّ هو قاعدة ثانويّة مجعولة من قبل الشارع.
وأمّا التخيير، فلا يمكن أيضاً استفادته من الأدلّة العامّة لأنّه لا نفهم منها لا المعذّريّة والمنجّزيّة، بل يجوز ترك العمل بهما معاً، وإن استلزم مخالفة الواقع؛ إذ لا منجز للواقع بالمتعارضين بمقتضى هذه الأدلّة العامّة.
وأمّا بالنسبة إلى الدليل الخاصّ والجعل الجديد فإنّه يكشف عن أنّ كلّ واحدٍ من المتعارضين منجّز للواقع على تقدير إصابته له، ومعذّر للمكلّف على تقدير خطئه، فلا يجوز للمكلّف ترك العمل بكليهما معاً؛ لأنّه لو تركهما فلا منجّزيّة لأحدهما غير المعيّن ولا معذّريّة، فلا يكون له معذّر عندئذٍ في مخالفة الواقع، مع أنّه لو أخذ أحدهما وخالف الواقع كان معذوراً، فهو مخيّر في الأخذ بأحدهما، فإن صادف الواقع فقد تنجّز به، وإن خالف الواقع كان معذوراً.
فإذا اتّضح ذلك، نقول:
اعلم أنّ أخبار الباب على أقسام:
منها: ما يدلّ على التخيير مطلقاً.
ومنها: ما يدلّ على التخيير في صورة التعادل.
ومنها: ما يدلّ على التوقّف.
ونشير فيما يلي إلى بعض هذه الأخبار:
1ـ خبر الحسن بن جهم عن الرضا قال: <قلتُ: يجيئنا الرجلان ـ وكلاهما ثقة ـ بحديثين مختلفين، ولا نعلم أيّهما الحقّ، قال: فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت>( ).
وهذا الحديث يدلّ على التخيير بين المتعارضين مطلقاً، من دون تقييد ولا اشتراط بشيء، ولكنّ صدر هذه الرواية الذي لم نذكره دالّ على عرضهما على الكتاب والسنة أوّلاً، فهي دالّة على أنّ التخيير إنّما هو بعد فقدان المرجّح، ولو في الجملة.
فذيل الحديث يقيّد بالصدر؛ لأنّ ما ورد فيه أنّ التخيير إنّما يرد بعد فقدان المرجّح، حيث قيّده بالعرض على الكتاب والسنّة.
2ـ خبر الحارث بن المغيرة عن أبي عبد اﷲ قال: <إذا سمعت من أصحابك الحديث، وكلّهم ثقة، فموسّع عليك حتى ترى القائم فتردّ إليه>( ).
ويمكن أن يقال: بأنّ هذه الرواية ـ أيضاً ـ تدلّ على التخيير مطلقاً في زمان عدم التمكّن من الوصول إلى الإمام، إلى زمان التمكّن منه.
ولكنّها واردة في فرض التمكّن من لقاء الإمام والأخذ منه، فلا يمكن التمسّك به، لعدم العلم بشموله لزمان الغيبة؛ فإنّ الرخصة في التخيير في المدّة القصيرة لا تستلزم الرخصة في التخيير أبداً، ولا تدلّ عليها.
3ـ ذيل مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد اﷲ أنّه قال: <إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك؛ فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات>( ). فقد دلّت هذه الرواية على التوقّف في زمان الحضور والتمكّن من الوصول إليهم(. وهي ظاهرة في أنّه بعد فقد المرجّحات يجب التوقّف عند التعادل.
4ـ منها مكاتبة علي بن عيسى كتب إليه يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك( قد اختلف علينا فيه... فكتب: <ما علمتم أنّه قولنا فالزموه، وما لم تعلموا فردّوه إلينا>( ).
فقد يستفاد منها: أنّها دالّة على التوقّف مطلقاً، سواء كان في حال الحضور أم في حال الغيبة.
ولكن فيه: أنّ هذه المكاتبة خارجة عن محلّ البحث؛ إذ هي ليست ظاهرةً في التوقّف، بل ظاهرها: أنّه لابدّ من الأخذ بالخبر المعلوم الصدور، وردّ المشكوك إليهم، ولا يجوز العمل به؛ لعدم حجّيّته، فمفادها أجنبيّ عن محلّ البحث.
وعلى هذا الأساس، يتلخّص أنّ أخبار الباب على ثلاث طوائف:
أمّا الاُولى والثانية منها فتدلّان على التخيير مطلقاً، أو مقيّداً بزمان الحضور.
وأمّا الثالثة، فهي تدلّ على التوقّف في حال الحضور.
وليس بين الأُوليين تعارض؛ لما ذكرناه في محلّه من أنّ التقييد إمّا أن يكون في المتخالفين بالسلب والإيجاب، أو فيما إذا أُحرز في المثبتين وحدة المطلوب وأنّ المطلوب هو صرف الوجود.
وأمّا إذا كان المطلوب في المطلق هو الطبيعة المرسلة، فلا وجه للتقييد حينئذٍ. فيقع التعارض بين ما دلّ على التوقّف في حال الحضور، وما دلّ على التخيير في أيّ زمانٍ مطلقاً، فيتعارضان ويتساقطان، وتكون النتيجة هي الأخذ بالأخبار الدالّة على التخيير مطلقاً، أي: سواء كان في زمان الحضور أم الغيبة، لا في خصوص زمان الغيبة.
5ـ مكاتبة عبد اﷲ بن محمّد إلى أبي الحسن: <اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد اﷲ في ركعتي الفجر في السفر، فروى بعضهم: أن صلّهما في المحمل، وروى بعضهم: لا تصلّهما إلّا على الأرض، فأعلمني، كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك؟ فوقّع: موسّع عليك بأيّةٍ عملْت>( ).
6ـ جواب مكاتبة الحميري إلى الحجّة: <في الجواب عن ذلك حديثان: أمّا أحدهما: فإذا انتقل من حالةٍ إلى أُخرى فعليه التكبير. وأمّا الآخر: فإنّه رُوي أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية، وكبّر، ثمّ جلس، ثمّ قام، فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير. وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى. وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صواباً>( ).
ولكنّ هذه الرواية مكاتبة، فلا بأس بالأخذ بها إذا كان بنحو التأييد، لا الاستدلال. وهي من جهة الدلالة ـ أيضاً ـ غير تامّة، وإن استظهر البعض منها التخيير مطلقاً؛ إذ من المحتمل قريباً أنّ المراد بيان التخيير في العمل بالتكبير، لبيان عدم وجوبه، وليس لبيان التخيير بين المتعارضين. والدليل على ذلك قوله: <كان صواباً>، ومعلوم أنّ المتعارضين لا يمكن أن يكون كلاهما صواباً.
7ـ ومرفوعة زرارة المرويّة عن عوالي اللآلي، وقد جاء في آخرها: <إذاً فتخيّر أحدهما، فتأخذ به وتدع الآخر>( ).
وهذه الرواية تامّة من ناحية الدلالة؛ لأنّها تدلّ على التخيير بعد فقد المرجّحات وفرض التعادل، لأنّ الفقرة المذكورة قد جاءت بعد ذكر المرجّحات وفرض التساوي من جميع الجهات.
وإنّما الكلام في سندها؛ فإنّها ضعيفة بسبب الرفع، إلّا أن يحصل الاطمئنان بها بعد قبول الأصحاب لها، وإلّا، فهي من أهمّ الأخبار من جهة الدلالة.
8ـ خبر سماعة عن أبي عبد اﷲ قال: <سألته عن رجلٍ اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمرٍ كلاهما يرويه: أحدهما يأمر بأخذه، والآخر ينهاه عنه، كيف يصنع؟ فقال: يرجئه حتى يلقى من يخبره، فهو في سعةٍ حتى يلقاه>( ).
فقد استدلّ بقوله: <فهو في سعة> على التخيير مطلقاً، ولكن:
أوّلاً: هذه الرواية لا تدلّ على التخيير المطلق، بل في فرض التمكّن من لقاء الإمام أو كلّ من يخبره عن رأي الإمام بحيث يحصل من إخباره اليقين.
وثانياً: يمكن أن يقال: أنّ الاُولى في هذه الرواية أن يقال بدلالتها على التوقّف، لا التخيير، حيث ورد فيها كلمة <أرجئه>، وأمّا عبارة <في سعة>، فهي ظاهرة في التخيير بين الفعل والترك، باعتبار أنّ الأمر في مفروض السؤال يدور بين المحذورين، وهما الوجوب والحرمة، لا التخيير بين الروايتين؛ لأنّ العمل بأحدهما لابدّ منه، وهو لا يعدّ إرجاءً، بل الإرجاء هو ترك العمل بهما معاً، فلا دلالة لهذه الرواية ـ إذاً ـ على التخيير بين المتعارضين.
وعن الكليني: أنّه في روايةٍ أُخرى: <بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك>( ).
فقد يقال: بأنّها دالّة على التخيير بين المتعارضين على الإطلاق، ولو كانت مذكورة في ذيل تلك الرواية.
ولكنّ الظاهر: أنّها رواية مستقلّة، والدليل على ذلك قوله: <بأيّهما أخذْتَ من باب التسليم وسعك>، ولو كانت جزءاً من تلك، كان لابدّ أن يقال: <بأيّهما أَخَذَ من باب التسليم>.
9ـ وفي عيون أخبار الرضا للصدوق، في خبر طويل، جاء في آخره: <فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعاً، أو بأيّهما شئت، وسعك الاختيار من باب التسليم، والاتّباع، والردّ إلى رسول اﷲ>( ).
10ـ خبر سماعة عن أبي عبد اﷲ، قُلْتُ: <يَرِد علينا حديثان: واحد يأمرنا بالأخذ به، والآخر ينهانا عنه؟ قال: لا تعمل بواحدٍ منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله. قُلْتُ: لا بدّ أن نعمل بواحدٍ منهما، قال: خذ بما فيه خلاف العامّة>( ).
11ـ مرسلة صاحب عوالي اللآلي، فإنّه بعد روايته المرفوعة المتقدّمة عن زرارة، قال: <وفي روايةٍ أنّه قال: إذن فأرجئه حتى تلقى إمامك فتسأله>( ).
وهذه ـ أيضاً ـ تامّة دلالةً، ولكنّها غير تامّة سنداً.
ثمّ إنّ ما ورد من إطلاقات التخيير يحمل على المقيّدات، وهو التخيير بعد فقد المرجّحات. فتكون النتيجة هي التوقّف أو الرجوع إلى التخيير بعد فقد المرجّحات.
والحقّ: أن مقتضى القاعدة الأوّليّة هو التساقط، وأخبار التوقّف ـ مع كثرتها وصحّة بعضها ـ لا تنافي قاعدة التساقط؛ لأنّ نتيجة الإرجاء والتوقّف لا تزيد على التساقط، بل هي من لوازمه، فتكون أخبار التوقّف على طبق القاعدة. وأمّا أخبار التخيير، فلا يمكنها أن تعارض أخبار التوقّف، وبالتالي: فلا يمكن الخروج بها عن القاعدة.
وقد يقال: بأنّ أدلّة التخيير مطلقة تشمل زمن الحضور وغيره، وأخبار التوقّف مقيّدة به، فالنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، فيحمل المطلق على المقيّد، لتكون النتيجة هي التخيير في زمان الغيبة.
ولكنّ الحقّ: أنّ أخبار التوقّف واردة بلسان الإرجاء إلى حين ملاقاة الإمام، ولا يستفاد منها تقييد الحكم بالتوقّف بزمان الحضور؛ لأنّ استفادة ذلك إنّما تكون بدلالة مفهوم الغاية، وقد مرّ في محلّه أنّ الغاية إذا كانت قيداً للموضوع أو المحمول فقط، فلا يكون لها دلالة على المفهوم.
نعم، يفهم منها المفهوم إذا كان التقييد بالغاية راجعاً إلى الحكم. والغاية فيما نحن فيه غاية لنفس الإرجاء، لا لحكمه، وهو الوجوب، أي: أنّ نفس الإرجاء هو المغيّى، لا الوجوب المتعلّق به.
والحاصل: أنّه لا يفهم من أخبار التوقّف إلّا أنّه لا يجوز الأخذ بالأخبار المتعارضة المتكافئة، ولا العمل بواحدٍ منها، وإنّما يُحال الأمر في شأنها إلى الإمام، ويؤجّل البتّ فيها إلى ملاقاته لتحصيل الحجّة على الحكم بعد السؤال عنه.
وبناءً على هذا، فالأخبار المتعارضة لا تصلح لإثبات الحكم، ولا يجوز الفتوى والعمل بأحدها، ويكون الأمر ـ حينئذٍ ـ منحصراً بملاقاة الإمام والسؤال عنه، فلو لم تحصل الملاقاة، لغيبة الإمام ـ مثلاً ـ، فلا يجوز الإقدام على العمل بأحد المتعارضين.
وعليه: فيكون بين هذه الأخبار وبين أخبار التخيير تباين، لا عموم وخصوص، فتتعارض وتتساقط، وتكون أخبار التوقّف، كما أشرنا، مطابقةً للقاعدة.
ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ من شروط التعارض أن يكون كلّ منهما حائزاً على شرائط الحجّيّة، والتعارض بينهما إنّما يتصوّر بعد فقد المرجّحات، فحجّيّة كلّ واحدٍ منهما متوقّفة على عدم كون الآخر راجحاً؛ إذ لا تعارض بين الحجّة واللّاحجّة، والمرجوح ليس بحجّة فعليّة.
فكما أنّ الواجب في باب الاُصول العمليّة هو الفحص عن الدليل في مورد الشكّ في الحكم الشرعيّ، فإذا لم يظفر بالدليل تصل النوبة إلى الاُصول العمليّة؛ لأنّ اعتبار الأصل العمليّ وحجّيّته متوقّف على عدم الدليل على الحكم الشرعيّ، فيجب أن يفحص أوّلاً لإثبات ما هو موضوع الحجّة، فكذلك في مورد البحث، فإنّ الواجب هو الفحص أوّلاً لإثبات ما هو الحجّة، فيبحث عن المرجّحات، وما يرجّح الحجّة على الأُخرى، ولو أنّ كلّ واحدة منهما في حدّ نفسها هي حجّة، وذلك من جهة أنّ التخيير إنّما يتصوّر بمعنى الأخذ بأيّة واحدةٍ من الروايتين المتعارضتين بعد فقد المزايا، فالفحص عن وجود تلك المزايا إنّما يرجع في حقيقته إلى الفحص عن الحجّة.
وينبغي أن يُعلم: أنّ الأخبار التي تدلّ على التخيير لا تشمل اختلاف النسخ؛ لأنّ ظاهر قوله: <يأتي عنكم الخبران المتعارضان أو المختلفان>، أو قوله: <يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين> هو أن يكون هناك روايتان وحديثان يرويان عن الإمام، وكلّ واحدٍ منهما يناقض الآخر بالدلالة المطابقيّة أو الالتزاميّة، واختلاف النسخ ما هو إلّا عبارة عن أنّ هناك خبراً واحداً معيّناً، هو إمّا هذا أو ذاك، أي: إمّا الموجود في هذه النسخة أو ذاك الذي في تلك.
ثمّ هل المراد من التخيير هو التخيير في العمل أو التخيير بالأخذ بإحدى الروايتين باعتبار أنّها حجّة؟
الظاهر: أنّ المراد من التخيير المستفاد من الروايات هو التخيير في المسألة الاُصوليّة، أي: التخيير في الأخذ بإحدى الروايتين بعنوان أنّهاحجّة، لا التخيير في المسألة الفرعيّة، بمعنى: كونه مخيّراً في العمل على طبق أيّة واحدةٍ شاء؛ وذلك لأنّ الظاهر من قوله: <بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك> أنّ المراد من الأخذ بأيٍّ منهما هو الأخذ بما هو حجّة، لا مجرّد العمل على طبقه.
ويمكن أن يكون المراد من قوله <إذاً فتخيّر> هو ذلك ـ أيضاً ـ، فإنّه ظاهر في أنّ المراد من الأخذ هو الأخذ بأحدهما الذي يكون حجّة، لا صرف أنّك مخيّر في العمل على طبق أحدهما.
نعم، قوله: <فموسّع عليك>، ولو كان له ظهور في أنّ متعلّق التوسعة هو العمل، ولكنّه قابل للتأويل، بأن يكون المتعلّق هو الأخذ بإحداهما طريقاً إلى العمل.
وإذا عرفت ذلك، فهل هناك ثمرة في القول بكون التخيير بمعنى الأخذ بما هو حجّة، حتى تكون المسألة اُصوليّة، أو بمعنى التخيير في العمل، حتى تكون فرعيّة؟
قد ذكروا هنا فروقاً بينهما، نعرض عن تفصيلها حذراً من الإطناب والتطويل.
نعم، يبقى حكم الشكّ في أن التخيير هل هو في المسألة الاُصوليّة أو المسألة الفرعيّة؟ فنقول: مرجع الشكّ في المسألة الاُصوليّة إلى الشكّ في بقاء موضوع الاستصحاب؛ وذلك لأنّ موضوع الاستصحاب على تقدير كون التخيير في المسألة الاُصوليّة غير باقٍ قطعاً، وعلى تقدير كونه في المسألة الفرعيّة باقٍ يقيناً. فإذا شكّ في أنّ المسألة هي من أيٍّ من القسمين يكون الشكّ شكّاً في بقاء الموضوع، أي: في بقاء موضوع الاستصحاب.

فصل :في تقييد أدلّة التخيير بأدلّة الترجيح:
هل التخيير بعد فقد المرجّحات، أو حتى مع وجودها، نسب إلى المشهور القول بالأوّل، وحُكِي عن بعضٍ القول بالثاني، وهو الحكم بالتخيير مطلقاً، تمسّكاً بإطلاق التخيير، وحينئذٍ: فتحمل أخبار الترجيح على الاستحباب.
ولكنّ الصحيح: أنّ هذه الإطلاقات تقيّد بأدلّة الترجيح، كما هي القاعدة في باب الإطلاق والتقييد، ولا يمكن التمسّك بالإطلاقات مع وجود المقيّد، فلابدّ من الخروج عن إطلاق أدلّة التخيير بظهور أدلّة الترجيح في الوجوب؛ فإنّ المطلق مهما بلغ من الظهور لا يقاوم المقيّد لأظهريّته وحاكمية المقيّد.
ويدلّ على قول المشهور روايات:
منها: مقبولة عمر بن حنظلة، قال: <سألْتُ أبا عبد اﷲ عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما ـ إلى أن قال: ـ فإن كان كلّ واحدٍ اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، واختلفا فيما حَكَما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال: الحكم ما حَكَم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما في الحديث، وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال: فقلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا، لا يفضل واحد منهما على صاحبه. قال: فقال: ينظر إلى ما كان من رواياتهما عنّا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، ـ إلى أن قال: ـ فإن كان الخبران عنكم مشهورين، قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة، قلت: جُعلْتُ فداك، أرأيتَ إن كان الفقيهان عَرَفا حكمه من الكتاب والسنّة، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة، والآخر مخالفاً لهم، بأيّ الخبرين يؤخذ؟ فقال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد، فقلت: جُعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم، فيترك، ويؤخذ بالآخر، قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى إمامك؛ فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات>( ).
ومنها: ما عن الحسن بن الجهم، عن الرضا، قال: <قلت: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، فقال: ما جاءك عنّا فقس على كتاب اﷲ عزّ وجل وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا، قلت: يجيئنا الرجلان ـ وكلاهما ثقة ـ بحديثين مختلفين، ولا نعلم أيّهما الحقّ، قال: فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت>( ).
وعنه ـ أيضاً ـ عن العبد الصالح: قال: <إذا جاءك الحديثان المختلفان، فقسهما على كتاب اﷲ وأحاديثنا، فإن أشبهها فهو حقّ، وإن لم يشبهها فهو باطل>( ).
ومنها: ما رواه القطب الراوندي سعيد بن هبة اﷲ، بسنده الصحيح عن الصادق، قال: <إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اﷲ، فما وافق كتاب اﷲ فخذوه، وما خالف الكتاب فردّوه، فإن لم تجدوهما في كتاب اﷲ فاعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه>( ).
ودلالة هذه الروايات على وجوب الترجيح بالمرجّحات المذكورة فيها واضحة لا شكّ فيها.
وأمّا أخبار التخيير، فهي وإن كانت كثيرة وقويّة، وواردة في مقام البيان، إلّا أنّ إطلاقاتها لا تعارض ظهور هذه المرجّحات المذكورة، وأكثر روايات الترجيح جمعاً وإحاطةً بهذه المرجّحات هي المرفوعة، ويليها المقبولة.
وقد أُورد على الاستدلال بكلٍّ منهما لوجوب الترجيح بإشكالات عدّة نذكر منها:
ما قد يستشكل به على المقبولة، وحاصله: أنّ مورد المرجّحات المذكورة إنّما هو الحكمان في الروايتين اللّتين هما مستند حكمهما، وفي ذلك المورد لابدّ من الترجيح لقطع الخصومة؛ إذ مع التخيير لا ترفع الخصومة، ولا ينقطع النزاع.
ولكن قد عرفت أنّ التخيير هنا هو في المسألة الاُصوليّة، أي: في أخذ أحدهما وجعله حجّة، فالترجيح ـ أيضاً ـ يكون معناه: أخذ ذي المزيّة حجّة، فإذا كان ما هو الحجّة هو الذي فيه المزيّة، وغيره ليس بحجّة، فلا فرق بين أن يكون المجتهد في مقام الحكم أو مقام الفتوى، بل يجب في كليهما العمل على طبق الحجّة. وأمّا احتمال أنّ الشارع قد جعل ما له المزيّة حجّةً في باب الحكم دون الفتوى فبعيد.

المرجّحات المدّعى أنّها منصوص عليها:
ذكرنا آنفاً أنّ من شرائط تحقّق التعارض أن يكون كلّ من الدليلين حجّة وواجداً لشرائط الحجّيّة في حدّ نفسه؛ إذ لا تعارض بين الحجّة واللّاحجّة، فإذا بحثنا عن المرجّحات فمعنى ذلك: أنّنا نبحث عمّا يرجّح الحجّة على الأُخرى، بعد فرض كون كليهما حجّةً في أنفسهما، لا أنّ الكلام عن أصل حجّيّة الحجّة، أو عمّا يميّزها عن اللّاحجّة.
وكيف كان، فالمرجّحات المذكورة في الروايات والمدّعى ورود النصّ بها خمسة:
أوّلها: الترجيح بالأحدث تاريخاً.
الثاني: الترجيح بصفات الراوي.
الثالث: الترجيح بالشهرة.
الرابع: الترجيح بموافقة الكتاب.
الخامس: الترجيح بمخالفة العامّة.
ولابدّ أوّلاً ـ من التعرّض بالتفصيل لكلّ واحدة من هذه المرجّحات الخمسة:

1) الترجيح بالأحدث:
ورد بالنسبة إلى هذا الترجيح روايات عدّة، نكتفي منها بما رواه الكلينيّبسنده إلى أبي عبد اﷲ: قال: <أرأيتك لو حدّثْتك بحديث العامّ، ثمّ جئتني من قابلٍ فحدّثتك بخلافه، بأيّهما كُنْتَ تأخذ؟ قال: قُلْتُ: كُنْتُ آخذ بالأخير، فقال لي: رحمك اﷲ>( ).
فقد يقال بدلالة هذا الخبر على الترجيح.
ولكنّ الحقّ: أنّه لا دلالة بها على ما نحن فيه، أي: أنّها لا تدلّ على الترجيح بالأحدث من باب القاعدة العامّة، أي: بالنسبة إلى كلّ مكلّف، وفي جميع العصور؛ لأنّه لا دلالة على محلّ البحث إلّا أن يُفهم منها أنّ الأحدث هو الحكم الواقعيّ، ولكنّها ليست ناظرةً إلى بيان ذلك، بل لعلّ حكمه هذا كان حكماً ظاهريّاً بالنسبة إليه من باب التقيّة، لا حكماً واقعيّاً ووظيفةً عامّةً بالنسبة إلى جميع المكلّفين، وفي جميع الأزمنة، حتى في زمن الغيبة، وعليه: فلا دلالة فيها على مرجّحيّة الأحدثيّة.

2) الترجيح بالصفات:
ورد الترجيح بالصفات في مرفوعة زرارة المتقدّمة الذكر، والتي ورد فيها: <فقلت جُعِلْتُ فداك، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان.. إلى أن يقول: خذ بقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك> الخبر..( ).
ولكنّ هذه الرواية مرفوعة، وهي قد وردت في كتاب عوالي اللآلي، وقد طعن صاحب الحدائق في هذا الكتاب كما في مؤلّفه، إذ قال:
<فإنّا لم نقف عليها في غير كتاب عوالي اللآلي، مع ما هي عليه من الرفع والإرسال، وما عليه الكتاب المذكور من نسبة صاحبه إلى التساهل في نقل الأخبار، والإهمال، وخلط غثّها بسمينها، وصحيحها بسقيمها>( )، وعليه: فلا يمكن الاعتماد عليها بحالٍ من الأحوال.
فالعمدة في المقام هي مقبولة عمر بن حنظلة، المتقدّمة ـ أيضاً ـ، وفيها: <الحكم ما حكم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما في الحديث، وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر>.
وهذه الرواية تلقّاها الأصحاب بالرضا والقبول؛ فإنّ راويها هو صفوان بن يحيى الذي هو من أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.
وقد يستشكل في الاستدلال بهذه الرواية بأنّها واردة في باب التعارض بين الحكمين، لا الروايتين، كما هو محلّ الكلام.
ولكن فيه: أنّ الحكم والفتوى في الصدر الأوّل كانا يقعان بنصّ الأحاديث، لا بتعبير من الحاكم أو المفتي، كما هو الحال في العصور المتأخّرة استنباطاً من الأحاديث، ولذا تعرّضت هذه المقبولة للرواية والراوي؛ لمكان ارتباط الرواية بالحكم.
وقد يستشكل في الاستدلال بها ـ أيضاً ـ: بأنّ ما يظهر من الرواية أنها مختصّة بالحاكم؛ لأنّ اعتبار شيء في الراوي بما هو حاكم مغاير لاعتباره فيه بما هو راوٍ ومحدّث.
والذي يظهر منها: أنّ ترجيح الأعدل والأورع والأفقه إنّما هو بما هو حاكم، وفي مقام نفوذ حكمه، لا في مقام قبول روايته. ويشهد لذلك أنّها جعلت من جملة المرجّحات كونه (أفقه) في عرض كونه (أعدل) و(أصدق)، وأيّ ربطٍ للأفقهيّة بترجيح الرواية من جهة كونها رواية؟!
ولكن مع ذلك، يمكن القول:
بأنّ ذكر وجوب الترجيح بها في مورد الحكمين لا يدلّ على الاختصاص بذلك المورد كما هو الحال في غالب الأخبار، فإنّ السؤال غالباً ما يكون عن الموارد الخاصّة، والإمام يجيب بما هو يعمّ المورد وغيره. مع أنّ صدر الرواية وإن كان مختصّاً بالحكمين، ولكنّه بعد ذلك يكون بصدد بيان حكم الروايتين المتعارضتين على نحو الكلّيّة، وفي أيّ مقامٍ كان، لا في خصوص مورد الحكمين.
بل يمكن أن يقال: إنّ الرواية المشتملة على مقاطع يمكن أن يكون كلّ مقطع منها دالّاً على مورد، بأن يكون مقطع ما ناظراً إلى مورد الحكمين ـ مثلاً ـ، وآخر ناظراً إلى مورد الروايتين المتعارضتين، ولذا نرى أنّ الرواية انتقلت بعد ذلك إلى الترجيح بالرواية بما هي رواية، معلّلةً لوجوب أخذ المشهور دون الشاذّ بقوله: <فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه>، والحكم والفتوى مشتركان في هذا التعليل، ومن هنا، وتمسّكاً بعموم هذا التعليل، تعدّى بعضهم من المرجّحات المنصوصة إلى مطلق المرجّحات، كما سنشرحه إن شاء اﷲ.

3) الترجيح بالشهرة:
لا يخفى: أنّ الشهرة المرجّحة على قسمين: الشهرة العمليّة، والشهرة الفتوائيّة.
والشهرة الفتوائيّة يشترط في تقوية الرواية بالعمل بها أمران:
الأوّل: أن يعرف استناد الفتوى إلى الرواية، ولا يكفي مجرّد مطابقة فتوى المشهور للرواية.
والثاني: أن تكون هذه الشهرة قديمة، أي: واقعة في عصر المعصومين(، أو في العصور اللّاحقة التي تمّ فيها جمع الروايات وتحقيقها، وذلك لقرب ذلك الزمان من زمان الأئمّة، وكون الأصحاب فيه أقدر على معرفة أحوال الرواة.
وأمّا الشهرة في العصور المتأخّرة فيشكل كونها مقوّيةً للعمل بالرواية، إلّا أن تتّصل بشهرة المتقدّمين.
وفي ذلك يقول الاُستاذ المحقّق ـ ما لفظه ـ: <وذلك من جهة أنّ المتأخّرين حيث يفتون بالأدلّة العقليّة والاستحسانات، فلا يستكشف من كون فتواهم على طبق الرواية أنّهم استندوا في هذه الفتوى إلى تلك الرواية؛ إذ من الممكن أن يكون مدركهم شيئاً آخر غير هذه الرواية من الظنون والاستحسانات والأدلّة العقليّة>( ).
وهذه الشهرة لم يرد لها أثر في الأخبار بحيث تدلّ على الترجيح بها، إلّا أن يكون بمناط الترجيح بكلّ ما يوجب الأقربيّة إلى الواقع في مقام التعارض.
وأمّا الشهرة العمليّة ـ وهي عبارة عن عمل المشهور على طبقها مستنداً إليها في مقام الفتوى ـ فيقع البحث في أنّها هل تجبر الخبر الضعيف مع قطع النظر عن وجود ما يعارضه أم لا؟
قد يقال بالجابريّة، خصوصاً إذا كانت قديمة؛ لأنّ العمل بالخبر عند المشهور من القدماء ممّا يوجب الوثوق بصدوره. والوثوق هو المناط في الحجّيّة.
وبالعكس من ذلك، فإنّ إعراض الأصحاب عن روايةٍ يكون موجباً لوهنها، وإن كان راويها ثقةً، أو كانت تامّة السند، بل كلّما قوي سند الرواية، وأعرض الأصحاب عنها، كان إعراضهم هذا أكثر دلالةً على وهنها.
ولكنّ الحقّ: أنّه لا دليل على جابريّة هذه الشهرة ولا على كاسريّتها، خلافاً لما ذكره الاُستاذ المحقّق بقوله:
<ولا شبهة في صحّة الترجيح بهذه الشهرة، بل هي مدار حجّيّة الخبر الضعيف؛ إذ بها ينجبر الضعف ويدخل في موضوع الحجّيّة الذي هو عبارة عن الخبر الموثوق الصدور، فيكون من مرجّحات الصدور، كما عليه المشهور>( ).
وأمّا الشهرة في الرواية ـ وهي أن تكون الرواية مشهورة بين الرواة والمحدّثين، مع كون رواتها متعدّدين، خصوصاً إذا كان تعدّد الرواة في كلّ طبقة ـ فهي من المرجّحات.
بل إنّ الظاهر من قوله: <خذ بما اشتهر بين أصحابك> هو هذا المعنى من الشهرة. بل دلّت عليه ـ أيضاً ـ المقبولة المتقدّمة، في قوله: <فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه>؛ إذ المراد من المجمع عليه إنّما هو المشهور، بدليل تعقيب السائل بقوله: <فإن كان الخبران عنكما مشهورين>.
وقد يقال: إنّ المسألة لا تكون داخلة في محلّ البحث، بل تكون داخلة في باب الحجّة واللّاحجّة؛ فإنّ شهرة الرواية في عصر الأئمّة توجب كون الخبر مقطوع الصدور، وعلى الأقلّ، توجب الوثوق بصدوره.
وإذا كان كذلك، فالشاذّ الذي هو معارض له، إمّا أن يكون مقطوع العدم، أو أن يكون موثوقاً بعدمه، فلا تشمله أدلّة حجّيّة الخبر، فتكون ناظرةً إلى تمييز الحجّة عن اللّاحجّة، وقد عرفت أنّه أجنبيّ عمّا نحن فيه.
ولكنّ الحقّ: أنّ الشاذّ المقطوع العدم خارج عن المسألة يقيناً، وأمّا الموثوق بعدمه من جهة حصول الثقة الفعليّة بالمعارضة، فلا يضرّ ذلك في كونه مشمولاً لأدلّة حجّيّة الخبر، ولو لم يكن منوطاً بالوثاقة الفعليّة بخبره. وقـد مـرّ فـي محـلّه، أنـّه يكفي وثاقة الراوي في الأخذ بخبره، ولا يشترط حصول الظنّ الفعليّ به، ولا عدم الظنّ بخلافه، فيكون مشمولاً لأدلّة حجّيّة الخبر.

4) الترجيح بموافقة الكتاب:
في ذلك روايات عدّة:
منها: مقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة، حيث ورد فيها: <ينظر، فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة، فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة، قلت: جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة، والآخر مخالفاً لهم>... إلخ.
ومنها: خبر الحسن بن أبي الجهم المتقدّم ـ أيضاً ـ: فقد جاء في صدره: <قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، قال: ما جاءك عنا فقسْه على كتاب اﷲ عزّ وجل وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا>.
وقد استشكل صاحب الكفاية في ذلك ـ بما نصّه ـ:
<مع أنّ في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظراً، وجهه: قوّة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجّة، بشهادة ما ورد في أنّه زخرف وباطل وليس بشيء، أو أنّه لم نقله، أو أمر بطرحه على الجدار...>( ).
ولكنّ الحقّ: أن روايات الباب على قسمين:
فقسم منها في مقام بيان أصل حجّيّة الخبر، لا في مقام المعارضة بغيره، والتعبيرات التي ذكرها في الكفاية مختصّة بهذا القسم.
والقسم الآخر: في مقام بيان ترجيح أحد المتعارضين، وهذه لم تشتمل على مثل تلك التعبيرات التي ذكرها صاحب الكفاية)، كما في كلٍّ من المقبولة ورواية الحسن بن جهم.
والقسم الأوّل: يُحمل على المخالفة لصريح الكتاب؛ لأنّه هو الذي يصحّ أن يقال فيه: إنّه زخرف وباطل ولم نقله، ونحو ذلك.
وأمّا القسم الثاني: فيحمل على المخالفة لظاهر الكتاب، لا لنصّه، وهذه المخالفة ـ كما ورد في المقبولة ـ تكون بعد أن يكون كلّ واحدٍ من الخبرين حجّة ومشهوراً، وقد روى كلاً منهما الثقات، ثمّ فَرَض السائل موافقتهما معاً للكتاب بعد ذلك، وذلك بقوله: <إذا كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة>، وهذا لا يتصوّر إلّا أن يكون كلّ واحدٍ موافقاً للظاهر، وإلّا، لزم وجود نصّين متباينين في الكتاب.
وكذلك ورد في خبر الحسن المتقدّم: <فإن كان يشبههما فهو منّا>، فإنّ التعبير بكلمة <يشبههما> يدلّ على أنّ المقصود هو الموافقة والمخالفة للظاهر.

5) الترجيح بمخالفة العامّة:
يستفاد هذا الترجيح من المقبولة المتقدّمة، حيث إنّها ظاهرة في أنّ الترجيح بين الخبرين ـ بعد فرض حجّيّتهما في أنفسهما ـ هو بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة.

التعدّي من المرجّحات والمزايا المنصوصة:
ثمّ هل لابدّ من الاقتصار على المرجّحات المنصوصة أو يجوز التعدّي إلى غيرها؟
وجهان، بل قولان.
أقربهما: وجوب الاقتصار عليها؛ لأنّ إطلاقات باب التخيير لابدّ من الأخذ بها إلّا في مورد قام الدليل على تقييدها، وقيام الدليل على تقييدها إنّما ورد بالنسبة إلى المرجّحات المنصوصة فقط، فهي تقيّد تلك المطلقات؛ لأنّ أصالة الظهور في جانب المقيّدات تكون حاكمة على أصالة الظهور في طرف الإطلاقات، فتقدّم عليها، وتقيّد الإطلاقات بها.
وأمّا المرجّحات غير المنصوصة، فلم يقم عليها دليل حتى تقدّم على المطلقات.
نعم، ذكروا بعض الاُمور في الأخذ بالمرجّحات غير المنصوصة:
منها: الترجيح بالأصدقيّة في المقبولة، والأوثقيّة في المرفوعة، فإنّ مناط الترجيح بهما إنّما هو من جهة الأقربيّة إلى الصدور. فكلّ موردٍ يتحقّق فيه هذا المناط يكون موجباً للترجيح، سواء كان من المرجّحات المنصوصة أم من غيرها.
ولكن فيه: أنّا لا سبيل لنا إلى العلم بهذه المناطات، فليس إلّا مجرّد الظنّ بالمناط، أي: بأنّ الأقربيّة إلى الصدور ـ مثلاً ـ هو المناط، وهو لا يغني من الحقّ شيئاً.
نعم، لو كان المناط مقطوعاً، فحجّيّته معلومة بالضرورة، فنأخذ به، ولعلّ الترجيح بهما يكون لخصوصيّة فيهما، لا لمجرّد كونهما أقرب إلى الصدور من الفاقد لهاتين الصفتين.
ومنها: التعليل الوارد في الأخذ بما يخالف العامّة، وهو: أنّ الرشد في خلافهم.
ومنها: أنّ مخالفة العامّة لأحد الخبرين المتعارضين مع موافقة الآخر لهم مثل كون أحدهما موافقاً للكتاب وكان الآخر مخالفاً له ممّا يوجب الاطمئنان بصدور الموافق وعدم صدور المخالف في الموردين. فإذا حصل الاطمئنان بصدور أحدهما المعيّن مع عدم الاطمئنان بعدم صدور الآخر ـ من أيّ سببٍ حصل ـ يكون مرجّحاً؛ لأنّ الاطمئنان أمر عقلائيّ لازم الاتّباع.
نعم، إذا حصل الظنّ غير الاطمئنانيّ بالصدور، فلا يكون حجّة إذا كان من غير المزايا المنصوصة.
ومنها: قوله ـ في مقام الترجيح بالشهرة بالأخذ بالمشهور وترك الشاذّ النادر ـ: <فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه>؛ فإنّ تعليله بعدم الريب فيه يدلّ على مرجّحيّة كلّ شيء يكون موجباً للأقربيّة وعدم الريب إذا كان فيه مزيّة بالنسبة إلى مقابله، ويكون الترجيح دائراً مدار هذا التعليل، فكلّ مزيّة كانت سبباً لعدم الريب بالنسبة إلى ما ليس له مثل هذه المزيّة يكون مرجّحاً بحكم هذا التعليل.
وليس المراد به نفي الريب بقولٍ مطلق حتى يكون مساوقاً للعلم بالصدور، ليكون خارجاً عن محلّ البحث؛ لأنّه لو كان كذلك يدور الأمر بين الحجّة واللّاحجّة، ومحلّ البحث إنّما هو فيما إذا كان كلاهما حجّة، بل المراد بنفي الريب نفي أقلّيّة الريب النسبيّ، كما إذا كان أحدهما مشهوراً بين المحدّثين، فإذا كانت هذه هي العلّة يمكن التعدّي إلى المزايا والمرجّحات غير المنصوصة.
ولكنّ الحقّ: أنّ الظاهر من (لا) النافية للجنس هو نفي الريب بقولٍ مطلق، أو فقل: نفي الريب بجميع مراتبه، لا أنّه منفيّ بالنسبة، وهذا كناية عن حصول الاطمئنان بصدوره بواسطة الشهرة، ويكون هذا إشارة إلى أنّ المزايا الموجبة للاطمئنان بصدور ذي المزيّة مرجّحاً، ولو لم تكن من المزايا المنصوصة، لا أنّه يكون سبباً للتعدّي إلى كلّ المزايا ولو لم تكن كذلك، حصل الاطمئنان بها أم لم يحصل.
وخلاصة القول: أنّ مقتضى الأصل الأوّليّ وإن كان عبارة عن تقديم كلّ ذي مزيّة؛ للقطع بحجّيّته؛ لأنّه إمّا أن يكون حجّةً تخييراً أو تعييناً، بخلاف ما ليس فيه المزيّة، إلّا أنّه لمّا وردت أخبار التخيير منعت من وصول النوبة إلى هذا الأصل، فحينما يقول في مقام الجواب عن السؤال عن العمل بأيّ واحدٍ من المتعارضين: <موسّع عليك>، أو قوله: <بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك>، أو غيرهما من الروايات، فلا يبقى مجال لهذا الأصل أصلاً.
نعم، لو جاء الدليل، وكان مقيِّداً لهذه الإطلاقات، كما هو كذلك بالنسبة إلى المرجّحات المنصوصة، فتقيَّد تلك الإطلاقات؛ لأنّ أصالة الظهور في طرف القيد حاكمة على أصالة الظهور في طرف الإطلاق.
نعم، بالنسبة إلى المزايا غير المنصوصة، فليس هناك شيء في البين يكون سبباً لتقييد تلك المطلقات؛ لأنّه ليس هناك دليل على حجّيّة تلك المقيّدات، ولا يمكن التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها؛ لعدم العلم بالمناط.

أقسام المرجّحات المنصوصة:
المرجّحات المنصوصة على أقسام؛ لأنّ:
بعضها راجع إلى الصدور، ككون الرواية مشهورة بين الرواة والمحدّثين، أو كصفات الراوي، من الأوثقيّة والأعدليّة والأصدقيّة.
وبعضها راجع إلى جهة الصدور؛ ككون الإمام في مقام بيان الحكم الواقعيّ، لا أنّه في مقام التقيّة وستر الحكم الواقعيّ خوفاً من الأعداء، وذلك كمخالفة أحد المتعارضين للعامّة.
وبعضها راجع إلى جهة المضمون، ومفاده أنّه حكم اﷲ، كموافقة الكتاب.
فإذا عرفت ذلك، فهل كلّ واحدٍ من هذه الأنواع مرجّح في عرض الآخر، بحيث لو كان أحدها لخبر، وآخر في خبر آخر، فلابدّ من دخول المسألة في باب التزاحم، ويلزم الرجوع إلى مرجّحاته، وتقديم أقواهما مناطاً؟ أم لا، بل هي مترتّبة في مقام الترجيح، فبعض الأنواع مقدّم على بعض آخر؟
في ذلك خلاف بين الأعلام.
وها هنا خلافان:
الأوّل: في أنّها هل هي مترتّبة أو عرضيّة؟
والثاني: بعد الفراغ عن أنّها ليست عرضيّة، بل مترتّبة، وقع الخلاف في أنّ المرجّح الجهتيّ مقدّم على السنديّ أو العكس؟
أمّا الخلاف الأوّل: فقد ذهب صاحب الكفاية إلى أنّها عرضيّة، ولا ترتيب بينها بناءً على التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها؛ إذ بناءً على التعدّي يكون مناط الترجيح بشيءٍ هو أن يكون ذلك الشيء موجباً لأقربيّة ذي المزيّة إلى الواقع، فإذا كان لكلّ واحدٍ من المتعارضين مزيّة توجب أقربيّته إلى الواقع فيقع التزاحم بينهما، ويقدّم ما هو الأقوى مناطاً، ولو لم يكن أحدهما أقوى، فالمرجع إلى إطلاقات التخيير. وأمّا لو لم نقل بالتعدّي، فلكونها مرتّبةً وجه، وترتيبها ـ حينئذٍ ـ هو الترتيب المذكور في الروايات.
وإليك نصّ ما أفاده:
<ثمّ إنّه لا وجه لمراعاة الترتيب بين المرجّحات لو قيل بالتعدّي وإناطة الترجيح بالظنّ أو بالأقربيّة إلى الواقع؛ ضرورة أنّ قضيّة ذلك تقديم الخبر الذي ظنّ صدقه أو كان أقرب إلى الواقع منهما، والتخيير بينهما إذا تساويا، فلا وجه لإتعاب النفس في بيان أنّ أيّهما يقدّم أو يؤخّر، إلّا تعيين أنّ أيّها يكون فيه المناط في صورة مزاحمة بعضها مع الآخر. وأمّا لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة، فله وجه؛ لما يتراءى من ذكرها مرتّباً في المقبولة والمرفوعة>، انتهى موضع الحاجة( ).
وإن شئت قلت: إنّ استنباط الحكم الواقعيّ من الرواية متوقّف على اُمور ثلاثة، وهي: أصالة الصدور، وأصالة جهة الصدور، وأصالة الظهور.
والمتكفّل للأوّل هو أدلّة حجّيّة خبر الواحد، كآية النبأ وغيرها.
وأمّا المتكفّل لإثبات أصالة جهة الصدور فهو بناء العقلاء على أنّ كلّ متكلّم هو بصدد بيان مراده الواقعيّ، لا أنّه يتكلّم خوفاً أو تقيّةً.
وأمّا الثالث، فيتكفّل به ـ أيضاً ـ بناء العقلاء وسيرتهم المنعقدة على أنّ الظاهر من الكلام هو ما يكون مراد المتكلّم في مقام الفهم والتفهيم وعامّة المحاورات.
وأصالة الصدور أصل تعبّديّ، مدركه حجّيّة خبر الواحد، وإن كان المدرك له هو بناء العقلاء أيضاً وسيرتهم القائمة على قبول خبر الثقة، وقد أمضى الشارع المقدّس هذه الطريقة، فهي ـ أيضاً ـ تكون من الاُصول العقلائيّة، ولكنّ اصطلاحهم عدّ هذا الأصل من جملة الاُصول التعبّديّة.
وكيف كان، فسواء كانت من الاُصول العقلائيّة أم من الاُصول التعبّديّة غير العقلائيّة، فإنّ رتبتها تكون متقدّمة على رتبة الأصلين الآخرين، أعني: أصالة الظهور، وأصالة جهة الصدور؛ وذلك لأنّ ظهور الجملة في كونه مراداً للمتكلّم، ومثله كون المتكلّم بصدد بيان مراده الواقعيّ، لا في مقام الخوف من الأعداء والتقيّة، واقعان في الرتبة المتأخّرة عن صدور الكلام عن المتكلّم؛ لأنّ مجرى الأصلين الآخرين إنّما هو الكلام الصادر المسلّم بحجّيّته.
ثمّ هل هناك ترتيب بين أصالة الصدور وأصالة الظهور أم لا؟
الحقّ: أنّه لا ترتيب بينهما؛ لأنّ كلّ واحدةٍ منهما لغو بدون الأُخرى؛ إذ لا معنى للتعبّد بصدور ما لا ظهور له، أو ظهور ما لم يثبت صدوره.
وممّا ذكرنا ظهر الحال فيما هو منقول عن الوحيد البهبهاني من تقديم المرجّح الجهتيّ على المرجّح السنديّ( ).
كما ظهر ـ أيضاً ـ ما في الكفاية من إنكار الترتيب بين المرجّحات لو قلنا بالتعدّي من المزايا والمرجّحات المنصوصة إلى غيرها( ).
نعم، الأصل المضموني متأخّر عن المرجّح الجهتيّ، بأن يتعبّد بأنّ مضمون الكلام هو تمام المراد، لا جزؤه متأخّر عن التعبّد بجهة الصدور؛ إذ لا معنى للتعبّد بكون مضمون الكلام هو تمام المراد ما لم يحرز أنّه بصدد بيان مراده، لا في مقام الخوف من الأعداء والتقيّة.
وخلاصة البحث: أنّ الأقوال في المسألة أربعة:
الأوّل: قول صاحب الكفاية، وحاصله: أنّ المرجّحات في عرضٍ واحد، فلو كان أحد الخبرين المتعارضين واجداً لبعضها، والخبر الآخر واجداً لبعضٍ آخر، وقع التزاحم بين الخبرين، فيقدّم الأقوى مناطاً، فإن لم يكن أحدهما أقوى مناطاً يتخيّر بينهما( ).
والثاني: القول المنسوب إلى الوحيد البهبهاني، وهو أنّ المرجّح الجهتيّ مقدّم على أصل الصدور، فالمخالف للعامّة اُولى بالتقديم على الموافق لهم، ولو كان هذا الموافق مشهوراً.
والثالث: ما اختاره المحقّق النائيني( )، وهو القول بأنّها مترتّبة، ولكن على العكس من ترتيب الوحيد البهبهاني، أي: أنّه يقدّم المرجّح الصدوريّ على غيره، فيقدّم المشهور الموافق للعامّة على الشاذّ المخالف لهم.
والرابع: أنّها مترتّبة حسبما جاء في المقبولة، فالأوّل ـ كما يظهر من المقبولة ـ هو المشهور، فإن تساويا في الشهرة قُدِّم الموافق للكتاب والسنّة، فإن تساويا في الموافقة لهما، قُدِّم المخالف للعامّة.
ولكنّ الذي يظهر من الأخبار أنّه لا تفاضل في الترجيح بين هذه الاُمور المذكورة فيها، والدليل على ذلك: أنّه في جملةٍ من الأخبار جرى الاقتصار على مرجّحٍ واحد فقط، كما أنّ المقبولة والمرفوعة ـ أيضاً ـ لم تذكرا المرجّحات كلّها، مضافاً إلى أنّهما لم تتّفقا على الترتيب بينها، فالمقبولة ـ مثلاً ـ ذكرت الشهرة أوّلاً، بخلاف المرفوعة.
ولا يخفى: أنّه بعد الاقتصار على المرجّحات المنصوصة، فلابدّ من الرجوع إلى الروايات، لنرى مدى دلالتها، وكيف يمكن الجمع العرفيّ فيما بينها؛ إذ استفادة الترتيب بين المرجّحات من الأخبار والروايات مشكل.
وقد أصرّ المحقّق النائيني على أنّ مقتضى القاعدة هو تقديم المرجّح الصدوري على الجهتيّ، وبنى على ذلك كون الخبر صادراً لبيان الحكم الواقعيّ، لا لغرضٍ آخر متفرّعٍ على فرض صدوره حقيقةً أو تعبّداً؛ لأنّ جهة الصدور من شؤون الصادر، فما لا صدور له فلا معنى لأنّ يتكلّم عنه بأنّه صادر لبيان الحكم الواقعيّ أو لبيان غيره.
وعليه: فإذا كان الخبر الموافق للعامّة مشهوراً، وكان الخبر الشاذّ مخالفاً لهم، كان الترجيح للخبر المشهور، دون الشاذّ المخالف لهم؛ لأنّ مقتضى الحكم بحجّيّة المشهور هو أنّ الشاذّ غير حجّة، فلا معنى لحمله على بيان الحكم الواقعيّ ليحمل المشهور على التقيّة؛ إذ لا تعبّد بصدور الشاذّ حينئذٍ.
قال: <والمقصود في المقام بيان تقديم المرجّح الصدوريّ على المرجّح الجهتيّ؛ فإنّ القاعدة تقتضي ذلك، مضافاً إلى دلالة أدلّة الترجيح عليه>، إلى آخر ما جاء في كلامه، وهو كلام طويل، فراجعه( ).
ثمّ إنّ صاحب الكفاية أرجع جميع المرجّحات إلى المرجّح الصدوريّ، ولذلك قال بعدم الترتّب بينها إذا قلنا بالتعدّي، كما نقلنا عنه آنفاً.
وقد تبعه على ذلك المحقّق العراقي، وأفاد في وجه ذلك ما لفظه:
<أنّ موضوع الأصل الجهتيّ والدلاليّ هو الكلام الصادر من المعصوم، ولا بدّ في جريانهما من إحراز موضوعهما بالوجدان أو التعبّد، وبعد سقوط المتعارضين عن الحجّيّة الفعليّة وعدم شمول عموم السند لهما، وعدم مرجّحٍ سنديٍّ في البين حسب الفرض لذي المرجّح الجهتيّ أو المضمونيّ، لم يحرز كلام الإمام حتى ينتهي إلى ترجيح أصله العقلائيّ على غيره. وحينئذٍ: فبعد عدم كفاية مجرّد اقتضاء الحجّيّة لمثل هذا الترجيح، فلا محيص من إرجاع هذين المرجّحين إلى المرجّح الصدوريّ...>، إلى آخر كلامه( ).
وحاصله: أنّه لا معنى للتعبّد بصدور كلامٍ ليس في مقام بيان مراده الواقعيّ، بل في مقام الخوف والتقيّة، أو التعبّد بصدور كلام ليس مضمونه تمام المراد، بل يحتاج إلى دليلٍ على ذلك، أي: التعبّد بأنّ مضمونه هو تمام المراد، فالذي لم يحرز أنّه في مقام بيان مراده، أو لم يحرز أنّ مضمونه تمام مراده، فالتعبّد بصدوره لغو، وليس بحجّة.
فالمرجّح الجهتيّ ـ مثل مخالفة العامّة ـ يرجع إلى أنّ الخبر المخالف لهم أقرب إلى صدوره من الخبر الموافق لهم، فيكون مورد التعبّد بصدوره دون الموافق.
وكذا الأمر في المرجّح المضمونيّ، فإذا كان أحد المتعارضين موافقاً للكتاب، فبناءً على أن تكون موافقة الكتاب من المرجّحات المضمونيّة، يكون أقرب إلى الصدور من ذلك الخبر الآخر المخالف للكتاب، فأصالة الصدور تشمله دون ذاك.
وبالتالي: فترجع جميع أنواع المرجّحات إلى المرجّح الصدوريّ، غاية الأمر: أنّه يختلف مرجّح الصدور، فتارةً: يكون لأجل صفات الراوي التي ترجع إلى كونه أصدق من الآخر، وأُخرى: لأجل اشتهار الرواية بين المحدّثين، وثالثةً: لأجل مخالفة أحدهما للعامّة، ورابعةً: لأجل موافقة أحدهما للكتاب.
ولكنّ الحقّ: عدم إمكان إرجاع المرجّحات إلى مرجّحٍ واحد، وهو المرجّح الصدوريّ؛ فإنّ الشهرة بين الأصحاب مخصّصة لأدلّة حجّيّة خبر الواحد، وكذلك صفات الراوي الموجبة لأقربيّة صدور الرواية التي فيها هذه المزايا، بمعنى: أنّه لو لم تكن إحداهما مشهورةً، أو لم يكن راويها أصدق وأوثق، لكانت أدلّة حجّيّة الخبر الواحد تشمل الخبر الآخر ـ أيضاً ـ في عرض هذه التي لها المزايا.
ولكنّ الشهرة وصفات الراوي خصّصت الحجّيّة بهذه التي لها المزايا، وأخرجت ذلك الآخر عن تحت أدلّة حجّيّة الخبر الواحد.
وأمّا المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة فهي مخصّصة للاُصول العقلائيّة؛ أي: أصالة كون المتكلّم بصدد بيان مراده الواقعيّ، فإذا كان مخالفاً للعامّة، فالمخالفة في الخبر المخالف يمنع عن جريان أصالة كون المتكلّم بصدد بيان مراده الواقعيّ بالنسبة إلى الخبر، وكذلك الأمر في المرجّح المضمونيّ، فمثلاً: موافقة الكتاب توجب تخصيص الأصل العقلائيّ بالخبر الموافق، وإخراج الخبر المخالف عن دائرة الأصل العقلائيّ.
فهناك فرق بين المرجّحات الصدوريّة وبين المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة، فإنّ إحداهما موجبة للتصرّف في عموم أدلّة حجّيّة خبر الواحد أو إطلاقها، والأُخرى موجبة للتصرّف في الاُصول العقلائيّة.
وقد يستشكل في المقام: بأنّ مخالفة الخبر للكتاب وموافقته للعامّة توجب خروجه عن دائرة الحجّيّة؛ لما ورد في الأخبار الكثيرة من أنّ <ما خالف قول ربّنا لم نقله>، أو <باطل>، أو <زخرف> أو <اطرحه على الجدار>، ونحو ذلك( )..
وعلى هذا الأساس: فالخبر المخالف للكتاب ليس بحجّة، وكذا الخبر الموافق للعامّة مقابل الخبر المخالف لهم ليس بحجّة؛ وذلك لعدم جريان الأصل العقلائيّ، أعني: أصالة كون المتكلّم في مقام بيان مراده الواقعيّ بالنسبة إلى الخبر الموافق لهم مع وجود الخبر المخالف لهم، والذي هو بحسب المضمون ضدّ هذا الموافق أو نقيضه.
ومعه: فكيف يمكن أن يقال: إنّ كون الخبر موافقاً للكتاب أو مخالفاً للعامّة من المرجّحات؟ إذ إنّ معنى المرجّح هو أنّه يكون سبباً لترجيح إحدى الحجّتين على الأُخرى بعد شمول دليل الحجّيّة لكليهما.
وبناءً على ما ذكرنا: فإنّ الخبرين الموافق للعامّة والمخالف للكتاب ليسا بحجّة، ولا مشمولين لدليل الحجّيّة أصلاً، فلا يكون من قبيل تعارض الحجّتين، بل من قبيل تعارض الحجّة واللّاحجّة، فشيء من المخالفة للعامّة والموافقة للكتاب لا يكون من المرجّحات.
والجواب عن هذا الإشكال: أنّ مخالفة الكتاب على أقسام: الأوّل: المخالفة بالتباين، والثاني: المخالفة بالعموم والخصوص المطلق، والثالث: المخالفة بالعموم والخصوص من وجه.
ولا يخفى: أنّ المخالفة التي توجب سقوط الخبر المخالف عن الحجّيّة إنّما هي المخالفة بالتباين، ولذا جُعل عدمها شرطاً لحجّيّة الخبر، والمخالفة للكتاب التي هي من المرجّحات هي المخالفة بالعموم المطلق أو من وجه؛ للعلم بوجود رواياتٍ كثيرة نعلم بصدورها عنهممع كونها مخالفةً لعموم الكتاب، إمّا من وجهٍ أو مطلقاً.
فإن قيل: إنّ المقدار المعلوم من صدور الأخبار المخالفة تخصّص بها عمومات تلك الأخبار التي مفادها عدم صدور الخبر المخالف.
قلنا: بل لسان تلك العمومات آبٍ عن التخصيص؛ فإنّ قوله ـ مثلاً ـ: <ما خالف قول ربّنا زخرف>، أو <باطل>، أو <اطرحه عرض الجدار>، يأبى عن التخصيص، كما هو واضح. فلابدّ وأن يكون مرادهم من المخالفة خصوص نوعٍ منها، وهو الذي لم يصدر منهم، وهو المخالفة بالتباين، فإنّها لم تصدر منهم قطعاً.

فصل :في التعارض بين العامّين من وجه:
إذا وقع التعارض بين روايتين بينهما عموم وخصوص من وجه، فهل يكون المرجّح هو الأخبار العلاجيّة، فعند وجود المرجّحات الترجيح، وعند فقدها التخيير، أم لا، بل يعمل في مادّة الافتراق بكلّ واحدٍ منهما، وفي مادّة الاجتماع يحكم بالتساقط، ويكون المرجع هو الأصل الجاري في المسألة؟
وقد فرّق المحقّق النائيني بين المرجّحات الصدورية فقال بعدم جواز الرجوع إليها، بخلاف المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة، فيجوز الرجوع إليها.
وفي ذلك يقول: <الظاهر: أنّه لا يجوز الرجوع إلى المرجّحات الصدوريّة في تعارض العامّين من وجه، بل لا بدّ من الرجوع إلى المرجّحات الجهتيّة، ومع فقدها، فإلى المرجّحات المضمونيّة>( ).
ولكنّك خبير بأنّ مبنى هذا الكلام هو عدم إرجاع المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة إلى المرجّحات الصدوريّة، وإلّا، لم يبقَ مجال للفرق بينهما، كما هو ظاهر؛ لأنّه بناءً على مسلك إرجاع المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة جميعاً إلى الصدوريّة، لا يبقى موضوع للمرجّح غير المرجّحات الصدوريّة.
ولكنّ هذا المسلك غير صحيح. فيبقى هناك مجال للفرق، وذلك بأن يقال: إنّ الصدور لا يتبعّض، فالرجوع إلى المرجّحات الصدوريّة وترجيح أحدهما مستلزم لإسقاط مادّة الافتراق بلا وجه.
وأمّا المرجّحات الجهتيّة والمضمونيّة، ففي مادّة الاجتماع فيمكن الأخذ بهما، كما يمكن العمل بكليهما في مادّة الافتراق، ولا يأتي في البين أيّ محذور أصلاً.
فمثلاً: إذا ورد (أكرم السادات) وورد (لا تكرم الفسّاق)، ففي مادّتي الافتراق يعمل بكليهما، فيقال بوجوب إكرام السيّد غير الفاسق وحرمة إكرام الفاسق غير السيّد. وأمّا في مادّة الاجتماع، فإذا كان وجوب إكرام السيّد الفاسق مخالفاً للعامّة، أو كان موافقاً للكتاب، يؤخذ بهذين المرجّحين اللّذين أحدهما مرجّحٌ جهتيّ، وهو مخالفة العامّة، والثاني مرجّح مضمونيّ، وهو موافقة الكتاب، ويقال بوجوب إكرام السيد الفاسق، ويطرح الدليل الآخر، وهو (لا تكرم الفسّاق) في مادّة الاجتماع، لا من جهة التعبّد بعدم صدوره من هذه الجهة، أي: باعتبار مادّة الاجتماع، حتى يقال بأنّ السند لا يتبعّض، ولا معنى للتعبّد بصدوره بالنسبة إلى بعض المدلول، وعدم صدوره بالنسبة إلى البعض الآخر، بل يرجع إلى عدم حجّيّته وكاشفيّته عن مراده الواقعيّ بالنسبة إلى بعض مدلوله بعد الفراغ من صدوره.
ولكنّ الحقّ: أنّه يمكن العمل حتى بالمرجّح الصدوريّ أيضاً؛ لأنّ الذي لا يمكن التعبّد به هو التبعّض الحقيقيّ في السند، وأمّا المجازيّ، فلا مانع منه؛ لما نراه كثيراً من التفكيك بين اللّوازم والملزومات.
والمشهور هو التساقط والرجوع إلى الاُصول العمليّة مطلقاً في مادّة الاجتماع.
والحقّ: أنّه لابدّ من العمل بالمرجّحات في الأصل الصدوريّ، والعمل في مادّة الافتراق بكلٍّ من الجهتيّ والمضمونيّ. ولو فرضنا عدم مرجّح في البين، فالتخيير في مادّة الاجتماع.
وقد يمكن توجيه فتوى المشهور بالتساقط بأنّ التساقط هو المطابق لمقتضى القاعدة، وأمّا الأخبار العلاجيّة فهي منصرفة عن مورد المتعارضين بالعموم الوجهيّ؛ لأنّ ظاهر قوله: <يأتي عنكم الخبران المتعارضان فبأيّهما نعمل؟> إنّما هو الخبران المتعارضان بالتباين، دون التعارض بالعموم والخصوص مطلقاً أو من وجه.

في ترجيح أحد المتعارضين بالأصل:
إذا كانت إحدى الروايتين المتعارضتين موافقة للأصل، فهل صرف الموافقة للأصل تصلح لأن تكون مرجّحاً، كما إذا كانت الرواية الدالّة على نجاسة الماء الكرّ الذي تغيّر من قبل نفسه، من دون حاجةٍ إلى وصول الماء المطهّر إليه، مطابقةً للأصل، كالاستصحاب ـ مثلاً ـ، فترجّح على الرواية الأُخرى التي تدلّ على طهارته بواسطة موافقته للاستصحاب، أم لا، بل موافقة إحداهما للأصل غير كافيةٍ لترجيحها على الأُخرى؟!
الصحيح: عدم كفاية ذلك؛ لأنّ الاُصول العمليّة مطلقاً، شرعيّةً كانت أم عقليّة، تنزيليّة أم غير تنزيليّة، مجراها هو الشكّ في الحكم الواقعيّ بعد الفحص عن الدليل واليأس عن الظفر به، فموضوع هذا الأصل لا يتحقّق إلّا بعد فقد الدليل، فهو متأخّر عن وجود الدليل، ففي رتبة وجود الدليل لا موضوع للأصل، وفي رتبة عدمه، ولو بواسطة سقوطه بالمعارضة، وإن كانت النوبة تصل إلى الأصل، ولكن في هذه المرتبة يكون الأصل مرجعاً، لا مرجّحاً.
وبذلك يظهر: أنّ ما صنعه بعض الفقهاء من الحكم بكون موافقة الأصل مرجّحاً لأحد الخبرين المتعارضين في غير محلّه. ولعلّ نظرهم إلى أنّ حجّيّة الاُصول العمليّة هي من باب الظنّ ـ على خلاف ما هو المعروف والمشهور ـ، خصوصاً في مثل الاستصحاب في الأحكام.

وأمّا الترجيح بالظنون غير المعتبرة:
فإن لم نقل بالتعدّي من المرجّحات المنصوصة فحالها معلوم، كما في مثل الشهرة في الفتوى.
وإن قلنا بالتعدّي إلى كلّ مرجّح، فلا بأس بالترجيح بها، شريطة أن لا تكون من الظنون المنصوص على النهي عنها، كالقياس، وأمّا إذا كان من الظنون المنهيّ عنها، فإن كان دليل النهي عن العمل به يمنع من مطلق استعمالها، فلا يجوز الترجيح بها؛ لأنّه نوع من الاستعمال لها، وإن كان يمنع من خصوص العمل على طبقها بما أنّها حجّة، فيمكن أن يجعل مرجّحاً؛ لعدم شمول النهي ـ حينئذٍ ـ لمثل الترجيح بها.