أدلّة وجوب التقية

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

وأمّا الاستدلال على أصل وجوب التقية فقد استدلوا على الجواز بالمعنى الأعم بوجوه:

الأول: الاجماع
ولايخفى كما ذكرنا في الأصول بأنّ أمثال هذه الاجماعات لّما كانت محتملة المدركية فهي اذن ليست بحجة، مضافاً إلى  أنّها اجماعات منقولة.
الثاني: الكتاب الشريف
والآيات فيه كثيرة فمنها:
أولاً: قوله تعالى: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالْإِيمَانِ وَلكِن مّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) اي من اُكره واُجبر على التظاهر بالكفر والجحود بالله سبحانه و تعالى مع كون قلبه مطمئناً بالايمان بالعلي الأعلى تبارك وتعالى، وهذه الآية الكريمة كما تعلمون نزلت في صدر الاسلام حينما كان المسلمون مستضعفين يعانون أشد المعاناة من الكفار والمشركين، ويُعذبون منهم أشد التعذيب، إلاّ أنّ قسماً من هولاء كفر بالله تعالى بعد ايمانه ممن أسلم من أهل مكة فقد فتنوا وارتدوا عن الاسلام طوعاً. وبعضهم أعطاهم بلسانه فقط كلمة الكفر وبقي مطمئن القلب ثابت الجنان، كعمار بن ياسر أبي اليقظان، وقد نجى منهم عندما أعطاهم ما أرادوا. فدلّت الآية المباركة على جواز التقية للقسم الثاني دون الأوّل.
ولايخفى بأنّ كلمة الكفر لو خليت وطبعها لكانت كاشفة عن الجحود والارتداد، ولذا فهم حينما سمعوا من عمار ذلك أخلّوا سبيله، كما أنَّ كلمة الايمان تكون كاشفة عن ايمانه العميق واعتقاده الراسخ، وإنّما كان المراد من الكفر هو كلمته والتلفظ به فقط دون الاعتقاد به بقرينة الاستثناء الوارد في نفس الآية: (إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالْإِيمَانِ).
وخلاصة الكلام: في معنى الآية الشريفة: _ مَن كَفَرَ بِاللّهِ _  إمّا أن يكون مكرهاً عليه بواسطة التعذيب والتهديد بالقتل فيعطيهم بشفتيه ما لايعطيهم بقلبه، وإمّا أن يكون منشرح الصدر والفؤاد، إذ يكون فرحاً مسروراً بما يعطي، كما حصل ذلك لجماعة من مسلمة مكة حيث ارتدوا عن الاسلام طوعاً واختياراً كما تقدم، وبعضهم كالقسم الأوّل اُجبروا واضطروا كما وقع ذلك لعمار وبلال الحبشي وصهيب الرومي وخباب بن الأرت وياسر وسمية وغيرهم. فأمّا ياسر وزوجته فقد صمدا وثبتا ولم يعطيا إلى مشركي مكة ما أرادوا، فسمية ربطت بين بعيرين ووجيء في قلبها بحربة، وقيل: بل ضرب في موضع عفّتها، وقيل لها: إنّكِ أسلمت طلباً للرجال، فقتلت ومضت أوّل شهيدة في الاسلام، وقتل ياسر معها، وصمد آخرون ممن ذكرنا واستطاعوا الخلاص من عذاب قريش، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه فنجى، ثمّ اُخبر رسول الله(ص) بذلك فقال قوم من المسلمين: إن عماراً كفر، فقال النبي(ص): كلاّ أنّ عماراً ملئ ايماناً من قرنه الى قدمه، واختلط الايمان بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول الله(ص) وهو يبكي فجعل رسول الله(ص) يمسح عينيه ويقول: مالك إن عادوا فعد لهم بما قلت. وفي نص آخر: قال له النبي(ص): كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالايمان، قال(ص): إن عادوا فعد لهم بما قلت.
وأمّا القسم الثالث: فهم الذين يخوضون مع الخائضين يتلفظون بها ـ أي بكلمة الاسلام ـ لهواً ولعباً، وأشار كتاب الله عزّ وجلّ إلى القسمين الأوّلين بقول: _ من كفر _ وهذا معنى عام شامل للثلاثة _ إلاّ من اكره _ خرج منه الأوّل _ ولكن من شرح بالكفر صدراً _ هو القسم الثاني، وداخلاً تحت العموم وهو من كفر بالله، ولم تشر الآية الشريفة إلى القسم الثالث لا من جهة البيان ولا من جهة الحكم، لأنه من آثار النفاق. وهذا أحد الردود على من زعم أنّ التقية قسم من أقسام النفاق، وتشير عليهم الآية المباركة: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ) وقوله تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا).
اذن الذي يظهر من آية البحث الكريمة هو الرخصة بكلمة الكفر كما مر وهل التقية أفضل أم الثبات؟ قيل: الثاني أفضل كما فعل أبوا عمار؛ لأنّ في ترك التقية يكون اعزازاً للدين وتشييداً له، كما عن عوالي اللآلئ: روي أنّ مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من المسلمين وقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، فقال: وما تقول فيّ؟ قال: أنت أيضاً، فخلاّه، وقال للآخر: ما تقول في محمّد؟ فقال: رسول الله، قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنا أصم، فأعاد عليه ثلاثاً فأعاد جوابه الأوّل، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله(ص) فقال(ص): أمّا الأوّل فقد أخذ برخصة الله، وأمّا الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له.
لكن الحق أنّ التقية دين الله عزّوجلّ فمن تركها فكأنّما قتل نفساً معصومة، ويؤيّد ذلك قوله تعالى: (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ) . وأمّا عن الرواية فيمكن حملها على عدم علم الرجل الثاني بالتقية، ويحتمل أنّ أبوي عمار كانا لايعرفانها أيضاً.
هذا، ويمكن الاستفادة من هذه الآية الشريفة التعدي الى غير الكفار والمشركين الذين لهم السعي لحرف المؤمنين عن دينهم ومعتقدهم، من جهة وحدة الملاك والمناط، والرخصة في الموردين إنّما هي منّة من الله تبارك و تعالى لحفظ النفس، كما جوّز سبحانه أكل الميتة في صورة الاضطرار لأجل حفظ النفس وبقائها كما في قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنّ رَبّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ثانياً: قوله تعالى: (لاَ يَتّخِدِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِيْ شَيْ‏ءٍ إِلّا أَنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ) فقد نهت هذه الآية بأن يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء لهم بحيث يأتمرون بأوامرهم وينتهون بنواهيهم بعد ما كان الله سبحانه ولي المؤمنين، حيث يخرجهم من الظلمات إلى النور، والكافرون أولياؤهم الطغاة يخرجون من في ولايتهم من النور إلى الظلمات.
اذن لا يمكن اجتماع ولايتين على شخصٍ واحدٍ (إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة) والظاهر من هذا الاستثناء هو الرخصة في الدخول في ولايتهم حقناً لدمائهم وابقاء على أنفسهم وأموالهم.
وقال الطبري في تفسيره: (إلاّ أن تتقوا منهم تقاة) إلاّ أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، تظهروا لهم الولاية بألسنتكم وتضمروا لهم العداوة.
واحتج الفقيه السرخسي الحنفي بهذه الآية على جواز  التقية، ونقل قول الحسن البصري: انّ التقية جائزة إلى يوم القيامة فالدخول في ولايتهم لابد وأن يكون عند حصول الاضطرار والاكراه، أمّا مع الاختيار فلا يجوز (ويحذركم الله نفسه) إذا خرجوا من ولايته سبحانه ودخلوا في ولاية الكفار.
وببيان آخر: أي إذا جعلوا الكافرين أولياء أمرهم من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فالله بريء منهم، وليسوا في ولاية الله ورعايته، إلاّ أن تتقوا منهم تقاة أي تتقون ضررهم وسوء العاقبة، لا بأس أن يُظهروا مودتهم، ويحذركم الله نفسه، أي ينبهكم ويخوفكم مغبة توليكم، وهذا العمل يكون موجباً لسخط الله بعد ما كان وليَّ المؤمنين، يخرجهم من الظلمات إلى النور، والكافرون أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات.
اذن: لايمكن اجتمع الولايتين على شخصٍ واحدٍ، كما عبّر سبحانه وتعالى في آية اُخرى بقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
وهناك آيات اُخرى يظهر منها جواز التقية كقوله تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّيَ اللّهُ). وقوله تعالى: (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ).
قال في مجمع البيان في ذيل هذه الآية: (أي فرأت أخاها موسى عن جنب أي بعد عن مجاهد، وقيل: عن جانب تنظر إليه كأنّها لاتريده عن قتادة، وتقديره عن مكان جنب (وهم لايشعرون) أي وآل فرعون لايشعرون أنّها اُخته عن قتادة، وقيل: معناه (وهم لايشعرون) أنّها جاءت متعرفة عن خبره، ويمكن أن يكون سبحانه كرر هذا القول تنبيهاً على أنّ فرعون لو كان إلهاً لكان يشعر بهذه الاُمور).
كما أنّ هناك آيات كثيرة أشارت إلى دلالة التقية فيها جملة من الروايات، فإليك منها قوله تعالى: (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَرّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) ففي حسنة هشام بن سالم وغيره عن أبي عبدالله(ع) في قول الله عزّوجلّ ـ المتقدم ـ قال(ع): (بما صبروا( على التقية (ويدرؤون بالحسنة السيئة)، قال(ع): (الحسنة التقية، والسيئة الاذاعة).
وعنه(ع) في قول الله عزّوجلّ: (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ الْسّيّئَةُ)، قال(ع): الحسنة التقيّة، والسيئة الاذاعة، وقوله  عزّوجلّ: (ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ) قال(ع): التي هي أحسن التقية (فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي  حميم).
وعن أبي الحسن(ع) في قول الله عزّوجلّ: (إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ) قال: أشدكم تقية.
وعن حذيفة عن أبي عبدالله(ع) قال: (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ) قال: هذا في التقية.
ومنها: قوله تعالى: (تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) هو التقية، كما في خبر جابر عن أبي عبدالله(ع).
ومنها: قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّاءَ) قال: رفع التقية عند الكشف فانتقم من أعداء الله.
وفي قوله تعالى: (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) قال: التقية، (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً) إذا عملت بالتقية لم يقدروا لك على حيلة، وهو الحصن الحصين، وصار بينك وبين أعداء الله سداً لا يستطيعون له نقباً.
وفي قوله تعالى: (أَيّتُهَا الْعِيرُ إِنّكُمْ لَسَارِقُونَ) روي عن أبي عبدالله(ع) بأنّه قال: قال رسول الله(ص): لاكذب على مصلح، ثمّ تلا: (أَيّتُهَا الْعِيرُ إِنّكُمْ لَسَارِقُونَ) فقال: والله ما سرقوا وما كذب، ثمّ تلا: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) ثمّ قال: والله ما فعلوه وما كذب.
وروي عن الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبدالله(ع): إنّا قد روينا عن أبي جعفر(ع) في قول يوسف(ع): (أَيّتُهَا الْعِيرُ إِنّكُمْ لَسَارِقُونَ) فقال: والله ما سرقوا وما كذب، فقال أبو عبدالله(ع): إنّ الله أحب اثنين وأبغض اثنين، أحب الخطر فيما بين الصفين، وأحب الكذب في الاصلاح، وأبغض الخطر في الطرقات، وأبغض الكذب في غير الاصلاح، أنّ ابراهيم(ع) قال: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا) إرادة الاصلاح، ودلالة على أنّهم لايفعلون، وقال يوسف(ع): ارادة الاصلاح.
وقد ورد في قوله: (فَقَالَ إِنّي سَقِيمٌ) قال أبو عبدالله: والله ما كان سقيماً وما كذب وإنّما عنى سقيماً في دينه مرتاداً... .
وتشير بعض الروايات الاُخرى عن الصادق(ع) في قول يوسف(ع): إنّما عنى سرقتهم يوسف من أبيه.
وبالنسبة إلى قول ابراهيم(ع): (إِنّي سَقِيمٌ) فقد قال في مجمع البحرين: أي سأسقم، ويقال: هو من معاريض الكلام، وإنّما نوى به من كان آخره الموت سقيم، وقيل: استدلال بالنظر في النجوم على وقت حمى كانت تأتيه، وكان زمانه زمان نجوم، وقيل: إنّ ملكهم أرسل إليهم إنّ غداً عيدنا أخرج معنا، فأراد التخلف عنهم، فنظر إلى نجم فقال: هذا النجم لم يطلع إلاّ أسقم، وقيل: أراد (إِنّي سَقِيمٌ)برؤية عبادتكم غير الله، وفي الدعاء _ أعوذ بك من السقم _  وحيث أراد الواقع وتكلّم بما هو الظاهر.
فالحق: إنّ كلّ هذه المعاني تشير إلى التقية.
الثالث: السنّة:
وقد دلّت الروايات الكثيرة جداً على الرخصة في التقية، وقد تقدم جزء هام منها، وإليك جزءً آخر.
فمنها: عن هشام بن سالم عن أبي عمر الأعجمي قال: )قال لي أبو عبدالله(ع): يا أبا عمر إنَّ تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له(.
ومنها عن معمر بن خلاّد قال: )سألت أبالحسن(ع) عن القيام للولاة، فقال: قال أبو جعفر(ع): التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له(.
وعن محمّد بن مروان عن أبي عبدالله(ع) قال: )كان أبي(ع) يقول: وأي شيء أقر لعيني من التقية، انّ التقية جنة المؤمن(.
وعن عبدالله بن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبدالله(ع) يقول: )التقية ترس المؤمن، والتقية حرز المؤمن، ولا إيمان لمن لا تقية له(.
وبنفس السند قال(ع): )اتقوا على دينكم، واحجبوه بالتقية، فإنّه لا ايمان لمن لا تقية له، إنّما أنتم في الناس كالنحل في الطير، ولو أنّ الطير يعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شيء إلاّ أكلته، ولو أنّ الناس علموا ما في أجوافكم أنّكم تحبّونا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم، ولنحلوكم في السر والعلانية، رحم الله عبداً كان على ولايتنا(.
وعن حبيب بن بشير قال: قال ابو عبدالله(ع): سمعت أبي يقول: لا والله ما على وجه الأرض شيء أحب إليّ من التقية، يا حبيب انّه من كانت له تقية رفعه الله، يا حبيب من لم تكن له تقية وضعه الله، يا حبيب إنّ الناس إنّما هم في هدنة فلو قد كان ذلك كان هذا.
وروى الصدوق باسناده عن أبي عبدالله(ع) قال: (قال رسول الله(ص): رفع عن اُمتي تسعة : الخطأ، النسيان، وما أكرهوا عليه، وما لايطيقون، وما لايعلمون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة).
ولايخفى أنّ مورد التقية أحد المصاديق لما أضطروا إليه. هذا وغيره من طرقنا.
وأمّا من طرق القوم فيكفي أن نروي عنهم بعض الروايات كما سيأتي البعض الآخر منها في مضانّ البحث إن شاء الله تعالى.
فمنها: عن اُم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنّها سمعت رسول الله(ص) يقول: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً).
ومن هذا يظهر صحة ما قاله السيد محمّد بن عقيل العلوي بقوله: اتفق أصحابنا على جواز الكذب عند الضرورة بل وللمصلحة، وهو عين التقية، لكن إن عبّرتَ عنه بلفظ التقية منعه كثير منهم؛ لكونه من تعبيرات الشيعة، فالخلاف فيما يظهر لفظي والله أعلم.
وعن رسول الله(ص): (رفع عن اُمتي النسيان، والخطأ، وما اضطروا عليه، وما استكرهوا عليه).
وعنه(ص): (اُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله، فمن قال: لا إله إلاّ الله فقد عصم منّي ماله ونفسه إلاّ بحقه وحسابه على الله).
وروى السيوطي عن النبي(ص) قال: (بئس القوم قوم يمشي المؤمن فيهم بالتقية والكتاب).
وأخرج المحدثون عن علي(ع) وابن عباس ومعاذ بن جبل وعمر بن الخطاب عن النبي(ص) أنّه قال: (استعينوا على نجاح حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود).
وروى البخاري في صحيحه عن رسول الله(ص): (إنّا نكشر في وجوه القوم وقلوبنا تلعنهم) ويلخص البخاري: (mليس الكذاب الذي يصلح بين الناس).
وللتفصيل أكثر نرجعك إلى مسند أحمد بن حنبل، والحلبي في السيرة، وتاريخ دمشق لابن عساكر، والجصاص في أحكام القرآن، وسيأتي بأذن الله سبحانه تفصيل الكلام لبعض من ذكرنا ومن لم نذكر فانتظر فالحديث أمامك.
الرابع: العقل:
وهناك قاعدة تقول: _ إذا دار الأمر بين الأهم والمهم يؤخذ بالأهم _ وهي من المستقلاّت العقلية، ففي باب التزاحم بين الصلاة في المسجد وازالة النجاسة منه تقدم الازالة على الصلاة؛ لأنّها أهم إن قلنا بأنّ الصلاة أهم؛ لأنّها عمود الدين.
قلنا: المراد بالأهم هو الفورية، وقد فصّل هذا البحث في الاُصول في باب التزاحم فراجع، ومثلاً لو فرض أنّ في الصدق هلاك المؤمن أو الأمام فهنا يجب الكذب وترك الصدق، هلاك المؤمن أو الامام فهنا يجب الكذب وترك الصدق، كما هو في كلّ صورةٍ من صور المزاحمة يؤخذ بالأهم ويترك المهم، فقد عمل بالتقية الامام الصادق(ع) بالنسبة إلى زرارة لحفظ نفسه، وقصته(ع) معه كالتالي:
فعن حمدويه بن نصير عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبدالرحمن عن عبدالله بن زرارة ومحمد بن قولويه والحسين بن الحسن عن سعد بن عبدالله عن هارون بن الحسن بن محبوب عن محمد بن عبدالله بن زرارة وابنيه الحسن والحسين عن عبدالله بن زرارة قال: (قال لي أبو عبدالله(ع) اقرأ منّي على والدك السلام وقل لـه: إنّي إنّما أعيبك دفاعاً منّي عنك، فإنّ الناس والعدو يسارعون إلى كلّ من قربناه وحمدنا مكانه بادخال الأذى فيمن نحبّه ونقرّبه، ويذمونه لمحبتنا له، وقربه ودنوه منّا، ويرون ادخال الأذى عليه وقتله، يحمدون كلّ من عبناه نحن، وأن يحمد أمره وإنّما أعيبك لأنّك قد اشتهرت بنا ولميلك إلينا، وأنت في ذلك مذموم عند الناس، محمود الأثر بمودّتك لنا، فأحببت أن اُعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك، ونكون بذلك منّا دافع شرهم عنك، يقول الله عزّوجلّ: أَمّا السّفينة فكانت لمساكين يعملون فِي البحر فاردت ان اعيبها وكان وراءهم ملكٌ يأْخذ كلّ سفينة ـ صالحة ـ غصباً، هذا التنزيل من عندالله صالحة، لا والله ما عابها إلاّ لكي تسلم من الملك، ولا تعطب على يديه، ولقد كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ والحمد لله، فافهم المثل يرحمك الله، فإنّك والله أحب الناس إليّ، وأحبّ أصحاب أبي(ع) حياً وميتاً، فإنّك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر، وأنّه من وراءك ملكاً  ظلوماً غصوباً، يرقب عبور كلّ سفينة صالحة ترد من بحر الهدى ليأخذها غصباً ثمّ يغصبها وأهلها، فرحمة الله عليك حياً ورضوان الله عليك ميتاً).
ومن صورها ما رواه علي بن أسباط عن الحسين بن زرارة قال: (قلت لأبي عبدالله(ع): إنّ أبي يقرأ عليك السلام ويقول لك: جعلني الله فداك، أنّه لايزال الرجل والرجلان يقدمان فيذكران أنّك ذكرتني وقلت فيَّ، فقال(ع): إقرأ أباك السلام وقل له: أنا والله أحبّ لك الخير في الدنيا، وأحب لك الخير في الآخرة، وأنا والله عنك راض، فما تبالي ما قال الناس بعد هذا).
ومنها عن عبدالرحمن بن الحجاج عن حمزة قال: قلت لأبي عبدالله(ع): بلغني أنّك برئت من عمي ـ يعني زرارة ـ قال: فقال: أنا لم أتبرا من زرارة، لكنهم يجيئون ويذكرون ويروون عنه، فلو سكت عنه ألزموني فأقول من قال هذا، فأنا إلى الله منه بريء.
ومنها عن الهيثم بن حفص العطار قال: (سمعت حمزة بن حمران يقول حينما قدم من اليمن لقيت أبا عبدالله(ع) فقلت له: بلغني أنّك لعنت عمي زرارة، فقال: فرفع يده حتى صك بها صدره، ثمّ قال: لا والله ما قلت ولكنهم يأتون عنه بالفتيا فأقول من قال هذا فأنا منه بريء) الحديث ولا يخفى أنّ هذه الفكرة ـ أعني فكرة التقية ـ ليس من مختصات الطائفة الامامية كما ادعى ذلك البعض، بل كلّ ذي مبدأ وعقيدة إذا لم يجد مبرراً لنشر عقيدته، بل يرى الضرر حيث ليس الوقت وقت الابراز، فلايظهر عقيدته بل يداريهم بالقول ومع عدم الكفاية فبالفعل أيضاً.
وإذا كان نشر العقيدة والعمل على خلاف التقية ليس فيه أي ثمرة، بل على العكس يعرض نفسه أو ماله أو بقية المؤمنين للخطر، فإذا عمل والحال هذه يكون عمله مخالفاً للعقل، وعليه فمع وجود الثمرة ولو لاظهار كلمة الحق فَلِمَ عمل الامام بالتقية عندما سُئل.
نعم التضحية والفداء تكونان من الاُمور الحسنة عند العقل إذا حصل على النتيجة ووصل إلى الهدف، وأمّا بدون ذلك فلاشك أنّ الأمر يكون إلقاءً للنفس في التهلكة.
نعم لو كان الدين في خطر فلا معنى للتقية، ولا معنى للسكوت، كما وقع ذلك بالنسبة لأبي الأحرار وسيد الشهداء(ع).
هذا وقد نسب صاحب التفسير الجديد إلى شيخ الأعلام والأعاظم الشيخ الطوسيR بالنسبة إلى قتال الحسين(ع) وحده. أنّ أمره يحتمل وجهين: أحدهما أنّه(ع) ظن أنّهم لايقاتلونه لمكانه من رسول الله(ص)، والآخر: أنّه غلب على ظنه أنّه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبراً، كما فعل بابن عمه مسلماً، فكان القتل مع عز النفس وجهاد الظالم أهون عليه... .
أمّا قوله رحمه الله: (أنّه ظن أنّهم لايقاتلونه) فغير مقبول؛ لأنّ الامام(ع) كان عالماً بأنّه سوف يقتل مع أنّ الرسول(ص) أخبره بقتله في المنام، بل كان عالماً بمحل قتله (وكأنّي بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء) بل أنّه لو كان ينتظر أمر الحج لقتله بنو اُمية، ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة كما ورد عن لسانه(ص)، فمن راجع المصادر يقطع بأنّه كان عالماً بمقتله.
وأمّا ما قاله من (أنّه غلب على ظنه أنّهم لايقاتلونه لمكانه من رسول الله(ص)) فانه على العكس، إذ كان قاطعاً بأنّ القوم يقتلونه كما ذكرنا.
اذن: الحق ما قاله الحجّة السبزواري على كلام الشيخ، فقد قال: لكن مقالتنا في نهضته _ أرواحنا فداه _ أنّ قضيته أمر سماوي، وعقيدتنا أنّه مفترض الطاعة عالماً بما كان و يكون وما هو كائن بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وتعلّمه منه عزّوجلّ فهو أعلم بما فعل، والكلام حول نهضته خارج عن وظيفتنا هنا، ولا سيما مع شتات الروايات و مختلف الأقوال، فتفويض الأمر وعلمه إليهمF أحسن.
وما جرى من الامام زين العابدين(ع) في عدم تقيته في خطبه بالكوفة والشام، وكذا ما صنعه عبدالله بن عفيف الازديS في رده على ابن زياد، وقبله ما جرى على ميثم التمار ورشيد الهجري وغيرهم.
إن قلت: لماذا لم يستعمل هؤلاء التقية، مع أنّ التقية تكون سبباً لحفظ أنفسهم ـ وما لايتعلق بهم ـ من الهلاك والفناء؟
قلنا: عدم التقية أرجح، واختيار القتل أولى من حفظ النفس في هذه الموارد، حيث رأوا أعداء الدين كبني اُمية، يريدون أن يضمحل الدين، ويشير إلى أرجحية عدم التقية ما قاله رسول الله(ص) لعمار بن ياسر: لكن أبويك قد سبقاك إلى الجنة، بعد تحسينه فعل عمار في سبه إياه.
وهذا الذي ذكرناه يجري في كلّ زمان ومكان بالنسبة إلى كلّ من بيده زمام الأمور ومجاريها كفقهائنا العظام.


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com