رد دعوى من زعم أن التقية أصل من اصول الدين

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

ثمّ إنّ البعض ادعى أنّ التقية من أصل الدين مستدلاً بقول الأمام(ع): (التقية ديني ودين آبائي، ولادين لمن لاتقية له) كما مرّ الحديث، وقوله(ع): (لاخير فيمن لاتقية له، ولا ايمان لمن لاتقية له).
ولا يخفى أنّ الدين يأتي على معانٍ في اللغة، وكذا في التفاسير كما في قوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أي لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني.
وفي الحديث القدسي: ابن آدم كن كيف شئت كما تدين تدان، أي كما تجازي تُجازى، وبفعلك وبحسب ما عملت قال الطريحي في مجمعه: سمي الأوّل جزاءً للازدواج. والثاني: لكم كفركم بالله ولي ديني التوحيد والاخلاص. والثالث: الدين الجزاء، لكم جزاؤكم ولي جزائي.
قال الشاعر:
ودناهم مثل ما يقرضون          اذا ما لقونا لقيناهم
قال تعالى: (مالِكِ يَوْمِ الدّينِ) ومالكيته تعالى للأشياء ليس كمالكية المُلاّك لأملاكهم، ولا كمالكية الملوك لممالكهم، ولا كمالكية النفوس لأعضائها، بل كمالكية النفوس لقواها وصورها العلمية الحاصلة الحاضرة عندها، يفني ما شاء منها، ويوجد ما شاء، ويمحو ويثبت، وتخصيص مالكيته تعالى بيوم الدين للاشارة إلى الارتقاء الذي ذكرنا، فإنّ الانسان ما بقي في عالم الطبع والبشرية لم يظهر عليه مالكيته تعالى، وإذا ارتقى إلى أول عالم الجزاء وهو عالم المثال ظهر عليه أنّه تعالى مالك للأشياء كمالكيته لصوره العلمية وقواه النفسية، فالمعنى ظاهر مالكيته يوم الدين، سواء كان المراد ظاهر مالكيته للأشياء أو لنفس يوم الدين، ولما كان الواصل إلى يوم الجزاء حاضراً بوجهٍ عند مالكه قال تعالى بطريق التعليم: (إِيّاكَ نَعْبُدُ).
ويأتي بمعنى الحكم كما في قوله تعالى: (لاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ) أي حكمه الذي حكم به على الزاني. ويأتي أيضاً بمعنى القهر والاستعلاء كما يأتي بمعنى يوم القيامة والطاعة والعادة.
قال المثقب العبدي ـ وهو يذكر ناقته ـ:
تقول اذا درات لها وضينی    اهذا دينه ابدا وديني
وفي حديث عن أمير المؤمنين(ع): (محبة العالم دين يدان به).
ومعنى قوله(ع): التقية ديني و دين آبائي، يعني ديدني وديدن آبائي، أو عادتي وعادة آبائي.
وقوله(ع): (لا إيمان لمن لاتقية له) فنحن إذا اردنا ان نبين معنى الايمان وحقيقته والفرق بينه وبين الاسلام فهذا يحتاج إلى مبحث كلامي دقيق، وخصوصاً إذا أردنا أن نبيّن مراتب ودرجات الايمان حيث تأتي على مراتب مختلفة، فالأحسن أن نذكر الرواية الواردة عن أمير المؤمنين(ع) لكي يعرف مَن لا اطلاع له بالكتب العقائدية معنى وحقيقة الايمان، وليس معنى عدم الايمان الكفر، كما ورد بالنسبة إلى الصلاة حيث يقول جابر بن عبدالله الانصاري: قال رسول الله(ص): mما بين الكفر والايمان إلاّ ترك الصلاةn. وقوله(ع) في حديث زرارة عن أبي جعفر(ع): (إنّ تارك الفريضة كافر) وفي حديث آخر عنه(ع): (فإنّ من تركها متعمداً فقد برئت منه ذمة الاسلام) وغيرها من الأخبار بالنسبة إلى بعض العبادات، حيث ورد في بعضها أنّ من تركها يموت إمّا يهودياً أو نصرانياً كترك الحج، فهل من ترك هذه الفروع ولو متعمداً يصبح كافراً حقيقياً أم لابد من تأويل هذه الروايات؟ فتدبر.
وأمّا الرواية فقد سئل أمير المؤمنين(ع) عن الايمان فقال(ع): (إنّ الله تبارك وتعالى جعل الايمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد. والصبر من ذلك على أربع شعب: على الشوق والاشفاق والزهد والترقّب، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب، ومن راقب الموت سارع إلى الخيرات. واليقين على أربع شعب: تبصرة الفطنة وتأوّل الحكمة ومعرفة العبرة وسنّة الأوّلين، فمن أبصر الفطنة عرف الحكمة، ومن تأوّل الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة عرف السنّة، ومن عرف السنّة فكأنّما كان مع الأولين، واهتدى للتي هي أقوم، ونظر إلى من نجا بما نجى، وإلى من هلك بما هلك، فأنّما أهلك الله من أهلك بمعصيته، وأنجى من أنجى بطاعته. والعدل على أربع شعب: غامض الفهم وغمر العلم وزهرة الحكم وروضة الحلم، فمن فهم فسَّر جميع العلم، ومن علم عرف شرائع الحكم، ومن حلم لم يفرِّط في أمره وعاش في الناس حميداً. والجهاد على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شدَّ ظهر المؤمن، ومن عفى عن المنكر أرغم أنف المنافقين وأمن كيده، ومن صدق في المواطن قضى الذي عليه، ومن شنأ الفاسقين غضب لله، ومن غضب لله غضب الله تعالى له فذلك الايمان ودعائمه وشعبه).
وقد ورد في الحديث أيضاً: (أنّه لا إيمان لمن لا أمانة له).
ومن المعلوم أنّ من يخون الأمانة ليس بكافر، ولايراد من كلمة _ لا إيمان _ الحقيقة، وإنّما يقصد بها الزجر والردع ونفي الفضيلة دون الحقيقة في رفع الايمان وإبطاله، كما ورد في الحديث: (لاصلاة لجار المسجد إلاّ في مسجده).
اذن: أين معنى لا إيمان أنّه كافر.
وإذا كانت التقية خلاف الايمان والكفر، فكيف أمر بها النبي(ص) وأقرها بقوله لعمار وقد تقدم؟! وإذا كانت كفراً فكيف أمر بذلك أئمة المسلمين من السنة والشيعة؟! وقد ذكرنا قسطاً لابأس به من أقوال أئمة السنّة فراجع وللمزيد نقول: إنّ الشاطبي أنكر على الخوارج قولهم: إنّ التقية لاتجوز في قولٍ ولا فعل على الاطلاق والعموم، ووصف ذلك بأنّه مخالف لكليات الشريعة أصلية وعملية.
وقد اتقى الشعبي عندما أنكر على أحد القصاصين في الشام فضربوه حتى قال برأي شيخهم نجاة لنفسه. واتقى أحمد بن حنبل في قضية خلق القرآن؛ لأنّه يعتقد بقدمه، وكان ذلك في مجلس المأمون العباسي.
وقال ابن كثير في تفسيره للتقية: إلاّ من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، وسنوافيك بالمزيد في ضمن الحديث.
وأمّا نحن الطائفة فإنّ المنكرين إنّما وصمونا بها وجعلوها شعارنا ودثارنا، وانّا لنفتخر أن نمضي على كتاب الله سبحانه وسنّة نبيه(ص) وسيرة آل محمّد(ص)، ومن والاهم وتبعهم باحسان الى يوم الدين.
وفي هذا الصدد يقول السيد الطباطبائي في الميزان: وبالجملة الكتاب والسنّة متطابقان في جوازها بالجملة والاعتبار العقلي يؤيّده، إذ لابغية للدين ولا همَّ لشارعه إلاّ ظهور الحق وحياته، وربما يترتّب على التقية، والمجاراة مع اعداء الدين ومخالفي الحق حفظ مصلحة الدين، وحياة الحق ما لايترتّب على تركها، وانكار ذلك مكابرة وتعسف.
وقال الجنابذي في تفسيره: فإن التقية المشروعة المأمور بها أن تكون على خوف من معاشرك إن اطلع على ما في قلبك فتظهر الموافقة له بما هو خلاف ما في قلبك، ولا اختصاص بها بالكافر، فإنّه ذكر في حديث أنّه ذكر التقية عند علي بن  الحسين(ع) فقال: لو علم أبوذر ما في قلب سلمان لكفره.
ويقول شيخنا الطبرسي: التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقال اصحابنا: انها جائزة في الأحوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح، وليس تجوز في الافعال في قتل المؤمن ولافيما يعلم أو يغلب على الظن أنه استفساد في الدين.
سؤال: هل التقية لازمة في كلّ عصر ومصر أم لا؟
فنقول: بأنّ الحكم تابع للموضوع فمتى وجد الموضوع فالحكم يأتي، فلاموضوع للتقية في عصرنا هذا ولاموجب للعمل بها بعد أن ولّى عهد الخوف والاضطهاد في العصر الحاضر، ونؤكد القول بأنّه لو حصل ووُجِد الموضوع في عصرنا أو في غيره فلاشك أنّ الحكم يأتي. نعم التقية المداراتية موجودة، ولابد من العمل بها كما أمرنا أئمتناF بذلك.
قد يُقال: إنّه لابد من الاستمرار في التقية ويستدل بالروايات الواردة عن الأئمةF حيث استفادوا منها عدم القيام، ولو استبيحت بيضة الدين بقيام العدو لإستئصاله وتفرق شمل المسلمين، بل يقول البعض: لابد من الصبر وعدم القيام في وجه العدو إلى ظهور الحجة(عج)، فلابد من إخفاء الحق إلى قيام القائم(عج) فيأخذون أمثال هذه الروايات التي نذكرها وذكرنا بعضها ذريعة للفرار من المسؤولية، حتى أن قسماً منهم يقول: لابد أن يُخلَّى الناس سبيلهم حتى يكثر الفساد ليظهر الامام(عج)، وقسم آخر يجعلها سبباً للراحة أو ابقاءً لسلطته، فاليك بعض الروايات التي استدلوا بها على مزاعمهم.
فعن الا مام علي بن موسى الرضا(ع) أنّه قال: (لادين لمن لاورع له، ولا ايمان لمن لاتقية له، وأنّ أكرمكم عندالله أعملكم بالتقية، قيل: يابن رسول الله إلى متى؟
قال: إلى قيام القائم(عج)، فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منا).
وعن حبيب بن بشير قال: (قال أبو عبدالله(ع): سمعت أبي يقول: لا والله ما على وجه الأرض شيء أحب اليّ من التقية، يا حبيب إنّه من كانت له تقية رفعه الله، يا حبيب من لم يكن لن تقية وضعه الله ...) الخ، وقد مر الحديث وغيرهما من الروايات.
وفي الواقع أنّ هؤلاء لم يفهموا حقيقة التقية؛ لأنّهم لم يتدبّروا جميع الأخبار الواردة في هذا الباب، ولم يرعوا الزمان والمكان، حيث بيّنا أنّ الحكم تابع للموضوع، ففي عصرنا حيث لاخوف فلامعنى للتقية. نعم إن وُجِد الموضوع في أي لحظة وجد حكمه، كما يمكن أن يريد(ع) بالتقية المداراتية وهي موجودة كما ذكرنا.
ثم إنّه كيف يمكن ترك الواجب العظيم _ ونخلّي سبيلهم _ وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيف يقبل ذلك العقل السليم؟ ولذا نرى الأمام(ع) يقول: (إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فاذا بلغ الدم فليس تقية).
وفي حديث: انّ الرضا(ع) جفى جماعة من الشيعة وحجبهم، فقالوا: يابن رسول الله ما هذا الجفاء العظيم والاستخفاف بعد الحجاب الصعب؟ قال (ع): بدعواكم أنّكم شيعة أمير المؤمنين(ع) وأنتم في أكثر أعمالكم مخالفون ومقصّرون في كثير من الفرائض، وتتهاونون بعظيم حقوق أخوانكم في الله، وتتقون حيث لاتجب التقية، وتتركون التقية حيث لابد من التقية.
فالذي يظهر من هذا الحديث أنّه لاتجب التقية في كلّ عصر ومصر، بل حيث يقول الامام(ع): (تتقون حيث لاتجب التقية، وتتركون حيث لابد من التقية) فمعرفة موضوع التقية مهم جداً، ولذا فالعمل بالتقية حيث لامورد لها قد يكون سبباً لتضييع الحكم، وعلى العكس تماماً قد يكون تركها سبباً لهلاك النفس، ولكن كما ذكرنا أنّه قد تحرم التقية إذاكان هناك شيء أهم من حفظ النفس وهو حفظ بيضة الاسلام، وبما أنّ الأمر يدور بين الأخذ بالأهم أو المهم فالعقل حاكم بتقديم الأهم والأخذ به والعمل على ضوئه وهو الدفاع عن بيضة الدين، وترك المهم وهو التقية، كما أنّ العقل يحكم بالأخذ بالتقية التي هي أهم من الكذب؛ لأنّها تكون سبباً لحفظ النفس بواسطة العمل بالكذب المحرم الذي هو المهم. نعم العمل بالقاعدة _ دوران الأمر بين الأهم والمهم _ إنّما يمكن الأخذ بها إذا كان الأهم من الأمور الخطيرة، وهو حفظ الدين ومضافاً إلى ذلك فإنّه يظهر في كثير من الأحاديث وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فعن أبي جعفر وأبي عبد الله(ع) قالا: (ويل لقوم لايدينون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
وعن محمد بن عرفة قال أبو الحسن الرضا(ع): (لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر، أو ليستعملَنَّ  عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلايستجاب لهم).
وبالاسناد عن الرضا(ع) أنّه ـ أي الراوي ـ سمعه يقول: (كان رسول الله(ص) يقول: إذا أُمّتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاعٍ من الله(.
وعن أبي جعفر(ع) أنّه قال: يكون في آخر الزمان قوم ينبع فيهم قوم  مراؤون ـ إلى أن قال: ولو أنّ الصلاة أضرت بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوا كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تُقام الفرائض، هناك يتم غضب الله عزّوجلّ عليهم فيعمهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الأشرار، والصغار في دار الكبار، أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومناهجٍ الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب وتحلُّ المكاسب، وتُردُّ المظالم، وتُعمَّرُ الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر.
وعن حسن قال: (خطب أمير المؤمنين(ع) فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حيث عملوا بالمعاصي ولم ينهاهم الربانيون والأحبار في ذلك، وانّهم لمّا تمادّوا في المعاصي ولم ينهاهم الربانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، واعلموا أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقربا أجلاً ولن يقطعا رزقاً).
اذن: كيف نخلّي سبيلهم مع أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان من فرائض الله تعالى؟ ونؤكّد القول أنّ التقية تحرم إذا كانت سبباً لزوال الدين، فإذا كان أصل الدين في خطر هناك لاتجوز التقية، كما أكدنا أنّه متى توفر موضوعها وجبت.
وخلاصة البحث: لاشكّ ولاشبهة في وجوب التقية على الاطلاق، ولكن كما ذكرنا من تبعة الحكم للموضوع، فهي تجب في حالات الشدة والضرورة والخطر على النفس كما كانت موجودة مع الضرورة في العصور الماضية، خصوصاً أبّان الخلافة الأموية والعباسية الذين كانوا يتبعون الشيعة تحت كلّ حجر ومدر، وكذلك في بعض فترات عصرنا الحاضر باختلاف في بعض الأساليب، لا لشيء إلاّ لأنّهم يمثلون الاسلام المحمدي الأصيل، ويدعون الأمة إلى الأصالة الاسلامية، ويتبعون ما أمرهم به الرسول(ص) من اتباع الكتاب الشريف وآل البيتE الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، ومن أجل رفضهم لكلّ أنواع الظلم والاستعباد، ولم يتبعوا غيرهم من المسلمين الذين داهنوا الظلمة مع الأسف، إتباعاً منهم للقرآن الحكيم وخوفاً من النار، فقال جل وعلا: (وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسّكُمْ النّارُ)  ولم يقولوا: لكلّ فاسق وفاجر أمير المؤمنين، بل إمرة المؤمنين عندهم لائقة لشخص اتبع الحق وحذى حذو الرسول(ص) وعمل بما أمره(ص) به وانتهى عما نهاه عنه.
وحينما نقول: بعدم وجود التقية في عصرنا هذا لا لأنَّ التقية مختصة بعصر دون عصر، بل لعدم وجود الموضوع وهو الخوف والاضطهاد، ولأنّه ما عُرفت الشيعة في الماضي بأنّهم يمثلون أكبر عدد من المسلمين، ولايخفى أنّه إذا تحقق الموضوع تحقق الحكم كما ذكرنا.
أو حينما نقول بأنّه لاتجوز التقية إنّما هو فيما إذا كان هناك شيء أهم من حفظ النفس وهو حفظ بيضة الدين، وعندما كانت في خطر وخوف الاضمحلال والاندثار كان لابد من التضحية والفداء والدفاع عنها ببذل كل غال ونفيس ولذا نرى أنّ كثيراً من رجالات الطائفة قدّموا كلّ شيء حتى نفوسهم الطاهرة قرابين للحق، كسيد الشهداء(ع) حينما رأى أنّ الحق لايعمل به، وأنّ الباطل لايتناهي عنه، وأنّ الدين إذا بقيت الأمور على شاكلتها يضمحل فقال: ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً ولذا قدّم كل ما لديه لوجه الله عزّ وجلّ، وكذا بقية رجالاتنا، فمنهم حجر بن عدي، وميثم التمار، ورشيد الهجري، وغيرهم من ممن سلك مسلكهم رضوان الله عليهم أجمعين.
وإنّ للامام الخمينيR كلاماً في المقام ننقله بنصه حتى يقف القارئ على أنّ للتقية أحكاماً خاصة، وربما تحرم لمصالح عالية، قالR: تحرم التقية في بعض المحرمات والواجبات التي تمثل في نظر الشارع والمتشرعة مكانة بالغة، مثل هدم الكعبة والمشاهد المشرفة والرد على الاسلام والقرآن والتفسير بما يفسر المذاهب ويطابق الألحاد وغيرها من عظائم المحرمات، ولاتعمها أدلّة التقية ولا الاضطرار ولا الاكراه. وتدل على ذلك معتبرة مسعدة بن صدقة وفيها: mفكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لايؤدي الى الفساد في الدين فإنّه جائزn، ومن هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرمات تقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعد موهناً للمذهب وهاتكاً لحرمه، كما لو أكره على شرب المسكر والزنا ـ مثلاً ـ فأنّ جواز التقية في مثله متمسكاً بحكومة دليل الرفع وأدلة التقية مشكل بل ممنوع. وأولى من ذلك كلّه في عدم جواز التقية، وفيه ما لو كان أصل من أصول الاسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير، كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الارث والطلاق والصلاة والحج وغيرها من اُصول الأحكام فضلاً عن اُصول الدين أو المذهب، فإنّ التقية في مثلها غير جائزة، ضرورة أنّ تشريعها لبقاء المذهب وحفظ الأصول وجمع شتات المسلمين لأقامة الدين وأصوله، فاذا بلغ الأمر إلى هدمها، فلاتجوز التقية، وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة.
وأمّا ما ورد عن الامام(ع): (إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فاذا بلغت الدم فلاتقية) وقوله(ع): (أيم الله لو دعيتم لتنصرونا لقلتم لانفعل انما نتقى) فقد أشرنا أنّ التقية موجودة عند كلّ ثوري يريد أن يحرر بلاده، ففي  ابتداء حركته يعمل بالتقية إذا رأى أنّه لانتيجة للأظهار عندما يكون أعداء الثورة كثيرين، ويصبح فاشلاً لو لم يعمل بالتقية.
إذن: اصل التقية أمر عقلائي، نعم لايجوز الافراط فيه كما يتمسك البعض بالروايات التي ذكرنا قسماً منها ويجعلها ذريعة للفرار من الوظيفة، وليس استعمالهم لها إلاّ للنفاق أو الرياء أو التخلي عن الوظيفة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو بالفرار من النضال والكفاح أو الجهاد ضد الكفار والظلمة، بل ولو أنّ الشيعة تستعمل التقية ولكننا نراها قامت بثورات عظيمة حينما رأت الوظيفة وخصوصاً في عصر الغيبة بعد ورود الحكم من الفقهاء ضد الجور والظلم أو طرد الكفار عن بلادهم، ونراهم صمدوا وقاوموا بكل بسالة ووقفوا في وجه العدو كالبنيان المرصوص، ولازالت الشيعة في كلّ مكان أصلب عوداً ضد هؤلاء، وهم الذين يساندون اخوانهم في كلّ مكان، وهم الذين يكونون دعاة لتقريب المذاهب ويجعلون شعارهم؛ لقوله تعالى: (إِنّ هذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً).
وقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَتَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ) وقوله (إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) وغيرها من الآيات التي تحثّ المسلمين على التآلف والتحابب والوحدة، وما أحوج المسلمون اليوم إلى وحدة الكلمة وكلمة الوحدة، خصوصاً في هذا العصر حيث نرى الكفار يغزون البلاد الاسلامية بمرأى ومسمع من المسلمين وغيرهم ويهتكون الأعراض ويقتلون الصغار والكبار، ومن ليس له القدرة على الدفاع عن نفسه ويسلبون الخيرات، بل على العكس هناك طائفة من المسلمين يبثون الفرقة بين المسلمين، وتكون النتيجة التضارب والأحقاد فيما بينهم وتضعيف القوى، مع أنّه لايمكن دفع الغزاة إلاّ بالوقوف أمامهم مع وحدة الصف وصف الوحدة كالبنيان المرصوص، ولذا فقد أصرّت آية الطاعة لله ورسوله على ضرورة عدم التنازع ووجوب الاتحاد والوقوف أمام العدو لبقاء الصولة والقوة للمسلمين وانتصارهم وحفظ بلادهم.
سؤال: لماذا نسبت التقية إلى الشيعة؟
إن قلت: إن كانت التقية واجبة بالأدلّة الأربعة عند المسلمين كافة فلماذا نسبت إلى الشيعة فقط؟ ولماذا جاء التشنيع من بعض علماء السنّة على الشيعة ونسبوهم إلى البدع؟
قلنا: إنّ التقية غير مختصة بالشيعة، بل هي غير مختصة بالمسلمين أيضاً، فهي موجودة عند جميع الأديان والمذاهب كما اسلفنا، وأنّ التشنيع من البعض قد يكون من جهة الجهل بعقائد الشيعة وعدم المعرفة بها، كما أنّهم كانوا ولا زالوا ينسبون إلى الشيعة من الامور العقائدية الفاسدة ما هم منها براء، ويتهمونهم بكثير من الاتهامات، وهذا واضح لمن راجع كتبهم الأصولية وغيرها، ولاشك أنّهم يريدون بهذه النسبة إليهم إهانتهم والتنكيل بهم. واما نسبتهم التقية الى الشيعة فقط لأنّ الشيعة كانوا مضطرين للعمل بها أكثر من غيرهم، خصوصاً في العصرين الأموي والعباسي بعد اضطهاد أئمتهمF.
ولذا نرى أنّ نفس الامام(ع) يعمل بالتقية لحفظ نفس زرارة حيث يذمه ويلعنه مع أنّه من خلّص أصحابه وأصحاب أبيه(ع) فيقول: (كذب عليّ، لعن الله زرارة( مع إنّنا نرى بأنّه ورد عنه(ع) بسند صحيح في عدة موارد أنّه (ع) يمدحه ويشير إلى الناس بالرجوع إليه والى غيره من الثقات في المسائل بقوله: أوتاد الأرض وأعلام أربعة: محمد بن مسلم بريد بن معاوية ليث البحتري المرادي، وزرارة بن أعين. وفي رواية اُخرى: بشر المخبتين بالجنة: بريد بن معاوية العجلي وأبو بصير ليث بن البحتري المرادي، ومحمد بن مسلم وزرارة، أربعة نجباء اُمناء الله على حلاله وحرامه، ولولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست، وغيرها من الروايات. وقد تقدمت الرواية في مدح زرارة.
مزاعم باطلة
وقال بعض من لم يدرك معنى التقية ومواردها ويحمل حملة شديدة على من يعمل بها بقوله: كيف تدّعي الشيعة بأنّها من أنصار الامام الحسين سيد الشهداء وامام الثائرين وهي تعمل بالتقية ويعتقدون بها وترثيها لنفسها، ثمّ قال: لست أدري ما هذا التناقض الغريب في معتقدات الشيعة وحسب الصورة التي رسمتها لهم زعاماتهم عبر القرون.
ولم يفهم بأنّ التقية غير جائزة عند محوالدين، والامام السبط الشهيد(ع) إنّما قام حينما رأى الدين سيضمحل بقوله (ع): )ألا ترون إلى الحق لايعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً، فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة ـ وفي نص آخر إلاّ شهادة ـ والحياة مع الظالمين إلاّ برماً(.
اذن: أي تضاد بين أقوال الشيعة، قال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاءS في هذا الصدد: من الأمور التي يشّنع بها بعض الناس على الشيعة ويزدري عليهم بها قولهم (بالتقية) جهلاً منهم أيضاً بمعناها وبموقعها وحقيقة مغزاها، ولو تثبتوا في الأمر وتريثوا في الحكم وصبروا وتصبّروا لعرفوا أنّ التقية التي تقول بها الشيعة لاتختص بهم ولم ينفردوا بها، بل هو أمر قضت به ضرورة العقول، وعليه جبلت الطباع وغرائز البشر وشريعة الاسلام في اُسس أحكامها وجوهريات مشروعياتها تماشي العقل والعلم جنباً إلى جنب، ومن ضرورة العقول وغرائز النفوس أنّ كل إنسان مجبول على الدفاع عن نفسه والمحافظة على حياته وهي أعزّ الاشياء عليه وأحبها إليه، وقصة عمار وأبويه، وتعذيب المشركين لجماعة من الصحابة وحملهم لهم على الشر وإظهارهم الكفر مشهورة، والعمل بالتقية له أحكامه الثلاث. فتارة يجب كما إذا كان تركها يستوجب تلف النفس من غير فائدة. واُخرى يكون رخصة كما لو تركها، والتظاهر بالحق نوع تقوية له، فله أن يضحّي بنفسه، وله أن يحافظ عليها. وثالثة يحرم العمل بها، كما لو كان ذلك موجباً لرواج الباطل، واضمحلال الحق، واحياء الظلم والجور، ومن هنا تنصاع لك شمس الحقيقة وتعرف أنّ اللوم والتعبير بالتقية ليس على الشيعة، بل على من سلبهم موهبة الحرية، وألجأهم إلى العمل بالتقية.
وقال الآخر  _السالوس _: غالوا في قيمة التقية، مع أنّها رخصة لايقدم عليها المؤمن إلاّ اضطراراً، وهذا شيء عجيب منه بعد قوله بأنّ التقية تارة تجب كما إذا كان تركها يوجب تلف النفس من غير فائدة. واُخرى رخصة كما لو كان في تركها، والتظاهر بالحق نوع تقوية. وثالثة يحرم العمل بها، كما لو كان ذلك موجباً لرواج الباطل واذلال الحق واحياء الظلم والجور، وهو مع ذلك يؤكد أنّ هذا القول لاتنفرد به الامامية، فلماذا اذن اختصوا بهذا المبدأ وهوجموا من أجله، أرى أنّ ذلك يرجع إلى الأسباب الآتية انّهم غالوا في قيمة التقية مع أنّها رخصة لايقدم عليها المؤمن إلاّ اضطراراً .... الخ.
فكيف يتأتى منه هذا القول، وتعليقاً على ذلك نذكر  ما أورده العلامة الشهرستاني: إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية، إنّ الشعية قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها؛ لأنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أي اُمة اُخرى، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة كله، وفي عهد العباسيين على طوله، وفي أكثر أيام الدولة العثمانية، ولاجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أي قوم، ولما كانت الشيعة تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في اُصول الدين وفي كثير من الأحكام الفقهية، والمخالفة تستجلب بالطبع رقابة وحزازة في النفس، وقد يجرّ إلى اضطهاد أقوى الحزبين لأضعفه، أو أخراج الأعز منهما الاذل كما يتلوه علينا التاريخ وتصدّقه التجارب، لذلك أصبحت شيعة الائمة من آل البيتF تضطر في أكثر الاحيان إلى الكتمان والمحافظة على الوداد والاُخوة مع سائر اخوانهم المسلمين لئلا تنشق عصا الطاعة، ولكيلا يحسّ الكفار بوجود اختلاف ما في الجامعة الاسلامية فيوسعوا الخلاف بين الأمة المحمدية، لهذه الغايات النزيهة كان الشيعة تستعمل التقية وتحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الاُخرى، متبعة في ذلك سيرة الائمة من آل محمّد (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين) وأحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل mالتقية ديني و دين آبائيn إذ أنّ دين الله يمشي على سنّة التقية لمسلوبي الحرية، دلت على ذلك آيات من القرآن العظيم. وروي عن صادق آل البيتF في الأثر الصحيح: mالتقية ديني ودين آبائيn وmمن لاتقية له لادين لهn وعن اتباعهم، وحقناً لدمائهم، واستصلاحاً لحال المسلمين، وجمعاً لكلمتهم، ولمّاً لشعثهم وما زالت سمة تعرف بها الامامية دون غيرها من الطوائف والاُمم، وكلّ انسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه أو ماله بسبب نشر معتقده أو التظاهر به لابد أن يتكتم ويتقي مواضع الخطر، وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول. ومن المعلوم أنّ الامامية وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أيّة طائفة أو اُمة اُخرى فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم وترك مظاهرتهم وستر عقائدهم وأعمالهم المختصة بهم عنهم لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا، ولهذا امتازوا بالتقية وعرفوا بها دون سواهم، وللتقية أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهية.