الفصل الثامن: علائم الحقيقة والمجاز

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

 

الفصل الثامن: علائم الحقيقة والمجاز


وهي عدّة:

العلامة الاُولى: التبادر
والكلام فيه في اُمور:
الأمر الأوّل: أنّ هذا البحث هل له أثر في مقام العمل أم لا؟
قيل: لا أثر له في مجال العمل، لأنّ المدار في معرفة مراد المتكلّم من الكلام على ظهور الكلام في المعنى، سواء كان حقيقيّاً أو مجازيّاً؛ فإنّ الظاهر هو الحجّة بلا كلام، وأمّا مجرّد كون المعنى حقيقيّاً، وإثبات ذلك بالتبادر، فلا يجدي في الحكم بكونه مراداً من اللّفظ ما لم يكن للّفظ فيه ظهور.
نعم، تظهر الفائدة في هذا البحث فيما لو بنينا على أصالة الحقيقة تعبّداً، فإنّه لا بدّ من الالتزام حينئذ بكون المراد هو المعنى الحقيقيّ، ولو لم يكن اللّفظ ظاهراً فيه.
فتعيين المعنى الحقيقيّ بإحدى العلامات يكون ذا أثر على هذا البناء.
لكنّ التحقيق: عدم البناء على أصالة الحقيقة تعبّداً، وكون المدار في تعيين المراد على ظهور الكلام، وهو لا يرتبط بتعيين المعنى الحقيقيّ، لأنّ ما يكون الكلام ظاهراً فيه يكون متّبعاً، وإن لم يكن معنىً حقيقيّاً، وما لا يكون ظاهراً فيه، لا يبنى على إرادته، وإن كان معنىً حقيقيّاً قد وضع له اللّفظ.
وبهذا يكون البحث عن علامات الحقيقة بحثاً سطحيّاً، لأنّه لا يفيد إلّا من الناحية العلميّة والنظريّة دون العمليّة، كما هو الحال أيضاً في بعض أبواب الاُصول الاُخرى.
الأمر الثاني: أنّ التبادر علامة على الوضع لأنّه بمعنى انسباق المعنى إلى الذهن.
والأمر الثالث: أنّ التبادر الذي يصلح لأن يكون علامةً على الوضع، هل يجب فيه أن يكون من حاقّ اللّفظ، أو يكفي فيه أن يكون ناشئاً من القرينة؟!
الحقّ: أنّه يجب فيه أن يكون من حاقّ اللّفظ، لأنّه لو كان كذلك، لكشف بالكشف الإنّيّ عن كون اللّفظ موضوعاً للمعنى المتبادر. وبتقييد التبادر بكونه من حاقّ اللّفظ، يخرج التبادر الحاصل من مقدّمات الحكمة، والتبادر الحاصل من الشهرة أو كثرة الاستعمال أو بقرينة اُخرى، كانصراف (الماء) إلى (ماء الفرات) بقرينة مثل: (سكّان الكوفة).
قال صاحب الضوابط: «التبادر هو بمعنى سبق المعنى من بين المعاني إلى الذهن، لا سبق الذهن إلى المعنى، كما قاله البعض؛ لأنّ السبق أمر إضافيّ يحتاج إلى السابق والمسبوق والمسبوق إليه، فهو بالنسبة إلى المعنى الأوّل متصوّر؛ لأنّ المعنى المتبادر سابق، والمعنى الآخر مسبوق، والذهن مسبوق إليه، بخلاف المعنى الآخر؛ لعدم وجود مسبوق هناك. ولكنّ الظاهر: أنّ مراد من عبّر بتلك العبارة هو مجرّد انتقال الذهن أوّلاً إلى هذا المعنى، دون غيره من المعاني من باب التسامح»(). انتهى.
وقال أيضاً: «التبادر تارةً ينشأ من حاقّ اللّفظ، واُخرى ينشأ من القرينة ـ كالشهرة في المجاز، كلفظ الصلاة المتبادر منه: الأركان المخصوصة ـ واُخرى من الشيوع في الفرد الشائع ـ كقولنا: (أسد يرمي) ـ فالأوّل: هو التبادر الوضعيّ، والثاني هو التبادر الإطلاقيّ، والمراد في محلّ البحث: هو التبادر الأوّل». انتهى.
وعليه: فالمعتبر من أماريّة التبادر ـ كما قيل ـ إنّما هو فيما إذا كان من حاقّ اللّفظ حتى يدلّ على الحقيقة، لا من القرائن، فإذا كان انسباق المعنى إلى الذهن من حاقّ اللّفظ؛ فإنّ هذا يكشف عن علقة خاصّة بين ذلك اللّفظ والمعنى، وإلّا، فلماذا تبادر هذا المعنى من هذا اللّفظ دون غيره من المعاني؟!
فالتبادر يكشف عن الوضع والهوهويّة بين اللّفظ والمعنى، وأمّا إذا كان التبادر لا من حاقّ اللّفظ، بل بواسطة القرائن، فلا يستكشف منه ذلك.
وقال صاحب الضوابط أيضاً: «وقالوا: بحجّيّته وكاشفيّته عن الوضع باتّفاق العلماء، وإطباق أهل اللّسان، وبالدليل العقليّ».
تقرير هذا الدليل العقليّ: أنّ جميع المعاني بالنسبة إلى الألفاظ متساوية، فالداعي إلى السبق: إمّا هو القرينة، والمفروض فقدها. وإمّا هو الوضع، فالمطلوب حاصل. وإن لم يكن شيء منهما: لزم الترجيح بلا مرجّح. فظهر: أنّ التبادر معلول الوضع، فيحصل من العلم به العلم بالوضع.
ثمّ إنّه قسّم التبادر إلى قسمين:
التبادر بالمعنى الأخصّ، وهو: ما كان مركّباً من النفي والإثبات، بأن يعتبر المتبادر هذا المعنى فقط، فيظهر منه عدم كون الغير موضوعاً له ومراداً.
والتبادر بالمعنى الأعمّ، بأن يتبادر هذا المعنى لا فقط، كما في المشتركات، فإنّ تبادر أحد المعاني لا ينفي تبادر غيره، وكلّ من القسمين علامة الحقيقة.
ثمّ إنّ عدم التبادر بالمعنى الأعمّ ملازم للمجازيّة. وأمّا عدم التبادر بالمعنى الأخصّ فحيث إنّه موجود في المشتركات، فهو لا يدلّ على المجازيّة، لعدم دلالة الأعمّ على الأخصّ.
وأمّا تبادر غير الأعمّ، فأمره بالعكس، وهو لا يلازم المجازيّة، لوجوده في المشترك، وتبادر الغير بالمعنى الأخصّ ملازم للمجازيّة. وبذلك اندفع ما اُورد على عدم التبادر.
والصحيح: أنّه لا مجال للتبادر من المشتركات. ولذا قيل: بأنّه عند الاستعمال يحتاج إلى القرينة المعيّنة للمراد.
ثمّ إنّ التبادر الذي هو علامة على الوضع هو تبادر العالم للجاهل، لا الجاهل للجاهل، لأنّه مستلزم للدّور؛ ولا العالم للعالم، لأنّه من تحصيل الحاصل؛ ولا الجاهل للعالم، لأنّه تحصيل للحاصل بالنسبة إلى العالم.
ثمّ هل إنّ التبادر من شخص واحد بالنسبة إلى نفسه ممكن أم لا؟
قد يقال: بعدم الإمكان؛ لأنّه لو كان عالماً لكان تحصيلاً للحاصل، ولو كان جاهلاً، لزم الدور.
وقد أجاب عن هذا: بأنّ هذا الإشكال إنّما يأتي لو كان الشخص عالماً وجاهلاً من كلّ الجهات، وأمّا إذا كان عالماً بالإجمال وجاهلاً بالتفصيل وهو من أهل اللّسان، فلا محذور، فإنّ العلم التفصيليّ متوقّف على العلم الإجماليّ عنده، ولا عكس.
وقد اعتُرض على القول: بأنّ التبادر علامة للوضع دوريّ، لأنّ التبادر موقوف على العلم بالوضع، وهو موقوف على التبادر؛ لأنّ انسباق هذا المعنى الخاصّ إلى الذهن من بين المعاني منوط بالعلم بالوضع له، وإلّا لزم الترجّح بلا مرجّح.
وأُجيب عنه: بأنّ هناك مغايرةً بين العلمين، أي: العلم بالوضع الذي يتوقّف على التبادر، والعلم بالوضع الذي يتوقّف التبادر عليه، أو: العلم بالوضع الذي هو علّة للتبادر، والعلم بالوضع الذي هو معلول له؛ وذلك لأنّ العلم بالوضع الذي يتوقّف على التبادر هو العلم التفصيليّ، وأمّا العلم بالوضع الذي يتوقّف عليه التبادر فهو العلم الإجماليّ، فلو فرض ـ مثلاً ـ أنّ اللّفظ موضوع لأحد المعاني المتعدّدة، ثمّ حصل له النسيان ـ أي: نسيان ذلك المعنى الخاصّ ـ، فإنّ إجماليّة العلم ودورانه بين معان عدّة، وارتكازيّته باعتبار بقاء ذلك المعنى في قوّة الحافظة، وإن ذهب عن الذاكرة.
وأجاب صاحب الكفاية:
«الموقوف عليه غير الموقوف عليه، فإنّ العلم التفصيليّ بكونه موضوعاً له موقوف على التبادر، وهو موقوف على العلم الإجماليّ الارتكازيّ به، لا التفصيليّ، فلا دور. هذا إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم، وأمّا إذا كان المراد به التبادر عند أهل المحاورة، فالتغاير أوضح من أن يخفى»().
وحاصله: أنّ التبادر المفروض كونه علامةً: إمّا أن يراد به التبادر لدى نفس الشخص المستعلم، وإمّا أن يراد به التبادر لدى العالم وأهل اللّغة حتى يكون علامةً على الوضع. فعلى الأوّل: التبادر، وإن كان يتوقّف على العلم بالوضع، إلّا أن المراد به العلم الارتكازي الإجماليّ، وهو حصول صورة الشيء في النفس ارتكازاً ومن دون التفات إليها، وإنّما يلتفت إليها بموجبات. والعلم الذي يتوقّف على التبادر هو العلم التفصيليّ بالوضع والالتفات إليه، وعليه: فالتغاير بين الموقوف عليه التبادر والموقوف على التبادر بالإجمال والتفصيل، وهو كاف في رفع غائلة الدور.
وقد استشكل على هذا بوجهين:
أوّلهما: أنّ هذا الدليل أخصّ من المدّعى؛ لأنّه إنّما يتمّ فيما إذا كان عالماً بالوضع ثمّ نسي وغابت عن ذهنه تلك الصورة، ممّا يعني: أنّ ارتباط اللّفظ بالمعنى موجود في مكان ما في النفس، وحينئذ فقط يكون التبادر علامةً على الوضع.
وأمّا إذا لم يكن قد علم بالوضع أصلاً، ولم تكن تلك الصورة موجودةً في خزانة الذاكرة، فلا يحصل التبادر حينئذ أصلاً لكي يتأتّى أن يقال: التبادر علامة على الوضع.
ثانيهما: أنّ العلم الإجماليّ بكون أحد المعاني المعلومة تفصيلاً هو ما وضع له اللّفظ لا يوجب تبادر خصوص الموضوع له من بين تلك المعاني قطعاً، بل جهل السامع بالمعنى الموضوع له معيّناً بعد سماع اللّفظ، كجهله به قبل سماعه، والعلم الإجماليّ لا يؤثّر في انسباق خصوص المعنى الموضوع له، فينحصر سبب الانسباق في صورة العلم التفصيليّ بالوضع. وفي هذه الصورة لا حاجة إلى التبادر ـ كما لا يخفى ـ فكيف يكون التبادر حينئذ علامةً على الوضع؟!
ثمّ إنّ اُستاذنا الأعظم أضاف إلى ذلك قائلاً:
«ثمّ لا يخفى: أنّ تبادر المعنى من نفس اللّفظ من دون قرينة لا يثبت به إلّا وضع اللّفظ لذلك المعنى وكون استعماله فيه حقيقياً في زمان تبادره منه، وأمّا وضعه لذلك المعنى في زمان سابق عليه، فلا يثبت بالتبادر المتأخّر، فلابدّ في إثبات ذلك من التشبّث بالاستصحاب القهقرى الثابت حجّيّته في خصوص باب الظهورات بقيام السيرة العقلائيّة وبناء أهل المحاورة عليه، فإنّهم يتمسّكون بذلك الاستصحاب في موارد الحاجة ما لم تقم حجّة أقوى على خلافه، بل على ذلك الأصل تدور استنباط الأحكام الشرعية من الألفاظ الواردة في الكتاب و السنّة، ضرورة أنّه لولا اعتباره لا يثبت لنا أنّ هذه الألفاظ كانت ظاهرةً في تلك الأزمنة في المعاني التي هي ظاهرة فيها في زماننا، ولكن ببركة ذلك الاستصحاب نثبت ظهورها فيها في تلك الأزمنة أيضاً، ما لم تثبت قرينة على خلافها، وسمّي ذلك الاستصحاب ﺑ (الاستصحاب القهقرى)؛ فإنّه على عكس الاستصحاب المصطلح السائر في الألسنة، فإنّ المتيقّن فيه أمر سابق، والمشكوك فيه لاحق، على عكس الاستصحاب القهقرى، فإنّ المشكوك فيه أمر سابق، والمتيقّن لاحق»().
وحاصله: أنّ التبادر إنّما يكون كاشفاً عن الوضع وعلامةً له في ظرفه، أي: أنّه يكشف عن الوضع في زمان التبادر، أمّا قبله فلا يكشف عن الوضع.
وعليه: فتبادر المعنى فعلاً من اللّفظ المستعمل من قبل الشارع لا يجدي في إثبات أنّه هو المعنى الموضوع له سابقاً وفي حال الاستعمال كي يؤخذ به ويلتزم بأنّ الشارع أراده، فلابدّ من ضمّ أصل عقلائيّ للتبادر ينفع في المقصود، وهو الاستصحاب القهقرى، فيبنى به على ثبوت الوضع من ذلك الزمان.
وهذا الاستصحاب، وإن كان على خلاف الاستصحابات الثابتة من الشارع؛ لأنّ ملاكها اليقين السابق والشكّ اللّاحق، على العكس في هذا الاستصحاب، لأنّ الشكّ سابق واليقين لاحق، وبهذا الاعتبار سمّي ﺑ (القهقرى)، فلا يكون مشمولاً لأدلّة الاستصحاب، ولكنّه ثابت ببناء العقلاء عليه في باب الوضع والظهور، ولولاه لما قام لاستنباط الأحكام الشرعيّة من النصوص أساس؛ إذ ظهورها في معنىً في زماننا ـ بناءً على هذا ـ لا يكون دليلاً على الحكم، ما لم يثبت ظهورها فيه في زمان الاستعمال، ولا مثبت لذلك سوى هذا الاستصحاب، فعلى ثبوته تدور رحى الاستنباط. هذا.
وقد أجاب عن إشكال الدور كلّ من المحقّقين: الأصفهاني  والعراقي().
أمّا المحقّق الأصفهاني فقد ذكر:
أنّ التبادر ليس معلولاً للعلم بالوضع، بل لنفس الوضع، وهو من مقتضيات الوضع، ولذا نرى أنّه يكشف عنه إنّاً، وأمّا العلم بالوضع فإنّما هو شرط في تأثير الاقتضاء الثابت للوضع في التبادر.
ولكن، يجاب عنه ـ بما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين:ـ بأنّ هذا الجواب هو أيضاً يؤدّي إلى وقوع الدور من ناحية الشرط، لتوقّف التبادر على العلم بالوضع باعتبار كونه شرطاً، وتوقّف العلم على التبادر باعتبار كونه علامةً.
وأمّا المحقّق العراقيّ فقد أجاب عن أصل الدور بما حاصله: أنّه ولو فرض أنّ التبادر متوقّف على العلم التفصيليّ بالوضع، ولكنّه يكفي في ارتفاع الدور التغاير بين الموقوف والموقوف عليه بالشخص، ولا نحتاج إلى التغاير بالنوع، ولا بالصنف؛ لأنّ هناك مغايرةً بين العلم الشخصيّ الحاصل بالتبادر والعلم المتوقّف عليه التبادر.
ولكن يمكن أن يقال: بأنّ الإشكال على التبادر ونحوه وارد؛ لأنّ جعله طريقاً للعلم بالوضع لغو، إذ العلم بالوضع من مقدّمات التبادر، فالتوصّل به إلى العلم بالوضع ثانياً يكون لغواً. بل وهو باطل أيضاً من جهة اُخرى، لأنّه لو فرض أنّ العلم بالوضع معلول للتبادر، والتبادر هو علّة العلم بالوضع، فلا يمكن أن يكون المعلول والعلّة ـ اللّذان هما في الخارج شيء واحد ـ متعلّقين لعلمين تفصيليّين؛ إذ يكون معناه: أنّ العلم التفصيليّ بالوضع الذي هو معلول للعلم التفصيليّ بالتبادر الذي هو العلّة. وكذا العلم التفصيليّ بالتبادر والذي هو علّة للعلم التفصيليّ بالوضع.
وبعبارة اُخرى: فإنّ كلام المحقّق العراقيّ وإن كان يرفع مشكلة الدور، إلّا أنّه لا يرفع مشكلة اللّغويّة.
وبعد أن قلنا بأنّ التبادر ـ كما هو المشهور ـ من دلائل الوضع، وأنّ استماع اللّفظ موجب لتصوّر المعنى، وهذا لا يكون إلّا بسبب ارتباط ذلك اللّفظ بذلك المعنى وعلاقته به في نظر السامع، ولا حقيقة للوضع عندنا إلّا ذلك الارتباط وتلك العلاقة، فيكون هذا التبادر من آثار ذلك الارتباط في نظر السامع.
وهذا في الجملة واضح. وإنّما المهمّ إحراز كون ذلك الانسباق مستنداً إلى سماع اللّفظ بشخصه، لا ببعض القرائن، ولو أنّها لا تنفكّ غالباً عنه.
ثمّ على فرض كون التبادر علامةً على الحقيقة، فلابدّ من إحراز كون التبادر من حاقّ اللّفظ، أي: لا بدّ من العلم بذلك، وأمّا مع الشكّ في أنّ التبادر هل كان من حاقّ اللّفظ أو من جهة القرينة، فإنّ هذا التبادر لا يكون علامةً على الوضع.
فإن قلت: يمكن اكتشاف أنّ التبادر مستند إلى حاقّ اللّفظ بأصالة عدم القرينة.
قلنا: إن كان المراد من الأصل الاستصحاب العدم المحموليّ، فهو وإن كان له حالة سابقة، إلّا أنّه لا يجري، لأنّه مثبت. وإن كان المراد منه العدم النعتيّ، فلا حالة سابقة له.
مضافاً إلى أنّ هذا الأصل ـ على كلا التقديرين ـ لا دليل على حجيّته، لأنّه لا يترتّب عليه حكم شرعيّ.
وأمّا إثبات أصالة عدم القرينة ببناء العقلاء، فهو وإن ثبتت حجّيّته، إلّا أنّ الدليل ـ كما هو معلوم ـ إذا كان لبّيّاً يؤخذ بالقدر المتيقّن، ولمّا كان هذا البناء لبّيّاً، فلابدّ من الأخذ بالمتيقّن منه، وهو ما إذا كان الشكّ في مراد المتكلّم، بأن يشكّ أنّ مراده هل كان هو المعنى الحقيقيّ أو المجازيّ، فحينئذ يثبت كونه مراده بأصالة عدم القرينة. وأمّا إذا كان مراده معلوماً، وكان الشكّ في أنّ هذا المراد المعلوم هل هو المعنى الحقيقيّ أم المجازيّ، فلا يثبت بأصالة عدم القرينة كونه هو المعنى الموضوع له، ولا أنّ التبادر مستند إلى حاقّ اللّفظ.

العلامة الثانية: صحّة السلب وعدمها
والمراد من علاميّة عدم صحّة السلب هو أنّ صحّة الحمل علامة على الحقيقة، كما أنّ المراد من علاميّة صحّة السلب هو أنّ عدم صحّة الحمل علامة على المجازيّة، بلا فرق بين أن يكون تجوّزاً في الإسناد أو في الكلمة.
ثمّ إنّه، وقبل الدخول في صلب هذا البحث ـ وهو أنّ صحّة السلب هل هي علامة على الحقيقة أم لا؟ ـ فلا بدّ لنا من التعرّض لشرح قسمي الحمل، فنقول:
القسم الأوّل: هو: الحمل الأوّليّ الذاتيّ، وهو: أن يكون الموضوع والمحمول متّحدين من جهة المفهوم والموجود، ويكون التغاير بينهما من جهة الاعتبار، أي: بأن يكون الإجمال في الموضوع والتفصيل في المحمول، كقولك: (الإنسان حيوان ناطق).
وسمّي بالحمل الأوّليّ: لكونه أوّليّ الصدق، أو لأنّه أوّل مراتب الحمل. ويسمّى بالذاتيّ؛ لأنّه جار على الذاتيّات.
والقسم الثاني: هو الحمل الشائع الصناعيّ، وهو أن يكون الموضوع والمحمول متّحدين خارجاً، وإن كانا متغايرين مفهوماً، كحمل النوع على الفرد في قولك (زيد إنسان)، فإنّهما وإن كانا متّحدين في الخارج، إلّا أنّ مفهوم (زيد) الذي هو الجزئيّ، مختلف عن مفهوم (الإنسان)، الذي هو الكلّي. وتسمية هذا القسم ﺑ (الحمل الشائع): لشيوعه في الصناعات والعلوم. وقد يسمّى ﺑ (الحمل العرضيّ) لكون مناط هذا الحمل هو الاتّحاد في الوجود فقط.
وإذا عرفت ذلك: فهل مناط عدم صحّة السلب، الذي هو عين صحّة الحمل، يأتي في كلا القسمين أم لا؟
قد يقال: إنّه، وبعد أن ثبت أنّ حقيقة الوضع عبارة عن جعل الهوهويّة بين اللّفظ والمعنى، أي: جعل اللّفظ وجوداً ادّعائيّاً للمعنى، فصحّة سلب اللّفظ عن معنىً مع قبول ذلك الادّعاء، علامة على أنّه ليس هناك ادّعاء وتنزيل في البين.
وأمّا عدم صحّة السلب ـ أي: صحّة الحمل والجري ـ إذا كان بالحمل الأوّليّ الذاتيّ فيمكن أن يقال: بأنه علامة كون اللّفظ حقيقةً في ذلك المعنى، وإن كان لا يخلو عن نظر أيضاً؛ لأنّ اللّفظ لم يجعل وجوداً تنزيليّاً لذلك المعنى التفصيليّ، بل العلاقة والارتباط جعل بينه وبين الصورة البسيطة من ذلك المعنى، لا الصورة التحليليّة العقليّة المسمّاة بالحدّ التامّ مثلاً.
وأمّا إذا كان بالحمل الشائع الصناعيّ، فلا يدلّ على أزيد من اتّحاد وجوديّ بينهما.
وبعبارة اُخرى: لا يدلّ إلّا على أنّ اللّفظ الحاكي عمّا هو الموضوع مع اللّفظ الحاكي عن المحمول ـ بما لهما من المفهوم ـ متّحدان وجوداً، سواء كانا كلّيّين أو مختلفين.
نعم، إذا كان الموضوع فرداً و مصداقاً ذاتيّاً للمحمول، كقولنا: (زيد إنسان) يدلّ على أنّ المحمول تمام حقيقة الموضوع وماهيته. وهذا أيضاً شي‏ء يعلم من الخارج، لا من ناحية صرف الحمل، فظهر ممّا ذكرنا: أنّ الحمل الشائع لا أماريّة له، لا على الحقيقة ولا على المجاز.
وإنّما قلنا: بلا فرق بين أن يكون المجاز في الكلمة أو الإسناد؛ لأنّه لو فرض أنّ الرجل الشجاع فرد حقيقيّ ادّعائيّ للأسد، وأنّ المجاز في الإسناد والأمر العقلي، فصحّة السلب تكشف عن أنّ الرجل الشجاع معنى مجازيّ للأسد، وإن كان حقيقةً ادّعائيّةً عند السكّاكيّ().
ولكن مع ذلك كلّه، فإنّ إشكال الدور قد يأتي هنا أيضاً؛ لأنّ عدم صحّة السلب وصحّة الحمل تتوقّف على العلم بالوضع، فلو كان العلم بالوضع موقوفاً على عدم صحّة السلب لدار.
والجواب عن الدور بالإجمال والتفصيل هنا يرد عليه نفس ما ورد في التبادر، كما سبق.
وأمّا اُستاذنا الأعظم فقد قال:
«إنّ صحّة شي‏ء من ذينك الحملين لا تكون علامةً للحقيقة، ولا يثبت بهما المعنى الحقيقيّ. وتفصيل ذلك: أنّ الحمل الذاتيّ لا يكشف إلّا عن اتّحاد الموضوع والمحمول ذاتاً، ومغايرتهما اعتباراً، ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال وأنّه حقيقيّ أو مجازيّ. مثلاً: حمل (الحيوان الناطق) على (الإنسان) لا يدلّ إلّا على اتّحاد معنييهما حقيقةً، ولا نظر فيه إلى أنّ استعمال لفظ (الإنسان) فيما اُريد به حقيقيّ أو مجازيّ، ومن الظاهر: أنّ مجرّد الاستعمال لا يكون دليلاً على الحقيقة.
و على الجملة: فصحّة الحمل الذاتيّ بما هو، لا يكشف إلّا عن اتّحاد المعنيين ذاتاً، وأمّا أنّ استعمال اللّفظ في القضيّة استعمال حقيقيّ، فهو أمر آخر أجنبيّ عن صحّة الحمل وعدمها. نعم، بناءً على أنّ الأصل في كلّ استعمال أن يكون حقيقيّاً، كما نسب إلى السيّد المرتضى يمكن إثبات الحقيقة، إلّا أنّه لم يثبت في نفسه، كما ذكرناه غير مرّة. على أنّه لو ثبت، فهو أجنبيّ عن صحّة الحمل وعدمها.
وبكلمة اُخرى: إنّ صحّة الحمل وعدم صحّته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول، فمع اتّحاد المفهومين ذاتاً يصحّ الحمل، وإلّا فلا، وأمّا الحقيقة والمجاز، فهما يرجعان إلى عالم اللّفظ والدالّ، وبين الأمرين مسافة بعيدة»().
وملخّصه: أنّ صحّة الحمل بنوعيه: الأوّليّ الذاتيّ والشائع الصناعيّ لا تدلّ على الحقيقة والوضع.
بيان ذلك: أنّ الحمل الأوّليّ لا يكشف إلّا عن اتّحاد الموضوع والمحمول ذاتاً، ولا نظر في ذلك في حال الاستعمال إلى كونه حقيقيّاً أو مجازيّاً، فقولنا: (الحيوان الناطق إنسان) لا يدلّ إلّا على اتّحاد معنييهما حقيقةً.
وأمّا أنّ استعمال لفظ الإنسان فيما اُريد به حقيقيّ أو مجازيّ، فهو أجنبيّ عن مفاد الحمل، فلا يدلّ على الوضع، وهكذا الحال في الحمل الشائع، فإنّه لا يكشف إلّا عن اتّحاد الموضوع والمحمول وجوداً، بلا نظر إلى حال استعمال المحمول فيما اُريد وأنّه حقيقيّ أو مجازيّ. وظاهر أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز.
وفي الحقيقة: فإنّ صحّة الحمل وعدم صحّته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول، فمع اتّحاد المفهومين ذاتاً يصحّ الحمل، وإلّا، فلا، وأمّا الحقيقة والمجاز، فهما يرجعان إلى عالم اللّفظ والدالّ. وبين الأمرين مسافة بعيدة، كما لا يخفى.
ثمّ إنّ المحقّق الأصفهانيّ بعد أن أشار إلى حمل اللّفظ بما له من المعنى الارتكازيّ بلا قرينة، ذكر:
أنّ التحقيق يقتضي جعل نفس الحمل والسلب علامةً للحقيقة والمجاز فيما كان النظر إلى صحّة الحمل وعدمها عند العرف، لا جعل صحّة الحمل وصحّة السلب علامةً للحقيقة والمجاز، لأنّ العلم بصحّة الحمل يحتاج إلى سبب آخر، من تنصيص أهل اللّسان أو التبادر أو نحوهما، فيخرج عن كونه علامةً ابتدائيّةً مستقلّةً، بخلاف نفس الحمل والسلب، فإنّه بنفسه علامة الاتّحاد والمغايرة من دون توقّف على أمر آخر.

العلامة الثالثة: الاطّراد
قد ذكروا: أنّ الاطّراد علامة الحقيقة وعدمه علامة المجاز، ومعنى الاطّراد هو: كون الاستعمال مطّرداً في جميع الموارد، كاستعمال الكلّيّ في الفرد باعتبار أنّه مصداق لذلك الكلّيّ، كلفظة (الإنسان) المستعملة في (زيد) باعتبار أنّه فرد ومصداق للحيوان الناطق، فإنّ هذا المعنى مطّرد في جميع الموارد، فإذا جاز استعمال لفظ (الإنسان) في كلّ ما هو مصداق للحيوان الناطق باعتبار أنّه فرد له، يستكشف من هذا الاطّراد أنّ بين اللّفظ والمعنى علاقةً وارتباطاً، وتلك العلاقة لا تحصل إلّا بالوضع.
وبعبارة اُخرى: فإذا صحّ الإطلاق على نحو الاطّراد، كشف عن كونه من المعاني الحقيقيّة؛ لأنّ صحّة هذا الاستعمال وإطلاقه على نحو الاطّراد يكشف عن المعلوليّة لعلّة ما، وتلك العلّة: إمّا أن تكون هي الوضع أو العلاقة، وحيث لا اطّراد لأنواع العلائق المصحّحة للتجوّز، كما في استعمال لفظة (الأسد) في (زيد الشجاع) باعتبار المشابهة في الشجاعة، فإنّه ليس مطّرداً لكلّ ما يشابهه في الشجاعة؛ إذ لا يصحّ استعماله في (الهرّ الشجاع) مثلاً.
ومن هنا نستكشف أنّ لفظة (الأسد) ليس موضوعاً لكلّ ما يشبه الحيوان المفترس؛ بخلاف ما لو كان هناك اطّراد، فإنّه يعلم أنّ ذلك لم يكن مستنداً إلى العلاقة المصحّحة للتجوّز، وبالتالي: فلا مجال إلّا أن يكون الاستناد إلى الوضع، وإلّا لزم تخلّف المعلول عن العلّة، وهو المطلوب.
ولكن نوقش فيه: بأنّ الاطّراد ليس لازماً مساوياً للوضع حتّى يكون علامةً للحقيقة والوضع، وإنّما هو لازم أعمّ، فلا يكون الاطّراد دليلاً عليه، لعدم دلالة العامّ على الخاصّ؛ ووجه أعمّيّته هو: وجود الاطّراد في المجاز أيضاً، حيث إنّ علاقة المشابهة في أظهر الأوصاف ـ كشجاعة الأسد مثلاً ـ توجب جواز استعمال لفظ (الأسد) في كلّ مورد وجد فيه علاقة المشابهة، فالاطّراد حينئذ بلحاظ كلّ واحدة من العلائق الموجودة حاصل، مع أنّ استعمال اللّفظ في المعاني بلحاظ تلك العلائق مجاز. وعليه: فاطّراد الاستعمال أعمّ من أن يكون على نحو الحقيقة.
وقد أُجيب عن هذا: بأنّ الاطّراد في المجازات إنّما يكون بلحاظ أشخاص هذه العلائق، أي: خصوص العلائق المصحّحة للاستعمال، لا كلّ علاقة ولو لم تكن مصحّحةً له، كاستعمال (الأسد) في الرجل الشجاع؛ فإنّ استعماله هذا وإن كان مطّرداً، إلّا أنّ اطّراده إنّما هو باعتبار شخص هذه العلاقة الخاصّة المصحّحة للتجوّز التي هي موجودة بينه وبين الأسد خصوصاً، ولذا نرى عدم جواز استعماله في النملة الشجاعة ـ مثلاً ـ مع أنّ نوع العلاقة موجود فيها أيضاً.
وهذا بخلاف الاطّراد في الحقائق، فإنّه يكون باعتبار أنواع العلائق، لا أشخاصها، فكلّ فرد فيه الحيوانيّة والناطقيّة يصحّ إطلاق لفظ (الإنسان) عليه، وكذا لفظ (العالم) مثلاً، فإنّه بلحاظ وضعه يصحّ ويطّرد استعماله فيشمل كلّ فرد اتّصف بالإدراك وكانت له صفة العلم، من دون خصوصيّة لمن استعمل فيه، فيطرد استعماله في زيد العالم وعمرو العالم وبكر العالم، وغيرهم من الذوات المتّصفة بالإدراك.
وقد أُجيب عن الإشكال المزبور ـ أي: الإشكال بوجود الاطّراد في المجاز أيضاً : ـ بأنّ تقييد الاطّراد بكونه من غير تأويل أو على وجه الحقيقة أو بدون الادّعاء يوجب اختصاص الاطّراد الذي هو أمارة على الوضع بالحقيقة.
هذا. ولكنّ هذا القيد، وإن كان موجباً لاختصاص الاطّراد بالمعنى الحقيقيّ، لكنّه مستلزم للدّور؛ لأنّ الاطّراد على هذا الوجه موقوف على معرفة الموضوع له، والمفروض توقّف هذه المعرفة على الاطّراد، حيث إنّه علامة الوضع.
والجواب عنه بالإجمال والتفصيل لا يتأتّى هنا، لأنّه لا سبيل للجاهل إلى إحراز كون الاطّراد عند العالم لأجل الوضع وعلى وجه الحقيقة، والمفروض: أنّ علاميّته على الحقيقة منوطة بكون الاستعمال على سبيل الحقيقة، ومع العلم بكونه على هذا الوجه، لا يكون الاطّراد علامةً، لأنّه تحصيل للحاصل.
وبالجملة: فبعدما اُخذت معرفة الحقيقة في أصل الدليل والعلامة على الحقيقة والوضع، فلابدّ من حصولها تفصيلاً، وحصول الالتفات إليها يعلم بحصول الدليل والعلم بها إلى مدلولها.
وأمّا العلم الارتكازيّ الإجماليّ فهو لا يجدي في التوصّل إلى المطلوب، إذ لايعلم به ثبوت العلامة والدليل.
ولكنّ الاُستاذ الأعظم أثبت كاشفيّة الاطّراد عن الحقيقة ـ في الجملة ـ ولكن بمعنىً آخر. قال:
«والذي ينبغي أن يقال في المقام: هو أنّ الاطراد الكاشف عن الحقيقة في الجملة عبارة عن استعمال لفظ خاصّ في معنىً مخصوص في موارد مختلفة بمحمولات عديدة، مع إلغاء جميع ما يحتمل أن يكون قرينةً على إرادة المجاز، فهذا طريقة عمليّة لتعليم اللّغات الأجنبيّة، واستكشاف حقائقها العرفيّة.
توضيح ذلك: هو أنّ من جاء من بلد إلى بلد آخر لا يعرف لغاتهم، إذا تصدّى لتعليم اللّغة السائرة في هذا البلد، رأى أنّ أهل البلد يطلقون لفظاً ويريدون به معنىً، ويطلقون لفظاً آخر ويريدون به معنىً آخر، وهكذا... ولكنّه لا يعلم أنّ هذه الإطلاقات من الإطلاقات الحقيقيّة أو المجازيّة، فإذا رأى أنّهم يطلقون هذه الألفاظ ويريدون بها تلك المعاني في جميع الموارد، حصل له العلم بأنّها معان حقيقيّة؛ لأنّ جواز الاستعمال معلول لأحد أمرين: إمّا الوضع، أو القرينة، وحيث فرض انتفاء القرينة من جهة الاطّراد، فلا محالة: يكون مستنداً إلى الوضع، مثلاً: إذا رأى أحد أنّ العرب يستعملون لفظ (الماء) في معناه المعهود، ولكنّه شكّ في أنّه من المعاني الحقيقيّة، أو من المعاني المجازيّة، فمن إلغاء ما يحتمل أن يكون قرينةً من جهة الاطّراد علم بأنّه من المعاني الحقيقيّة، ولا يكون فهمه منه مستنداً إلى قرينة حاليّة أو مقاليّة.
وبهذه الطريقة ـ غالباً ـ يتعلّم الأطفال والصبيان اللّغات والألفاظ. فقد تحصّل من ذلك: أنّ الاطّراد بهذا التفسير الذي ذكرناه علامة لإثبات الحقيقة، بل أنّ هذا هو السبب الوحيد لمعرفة الحقيقة غالباً، فإنّ تصريح الواضع، وإن كان يعلم به الحقيقة، إلّا أنّه نادر جدّاً، وأمّا التبادر: فهو وإن كان يثبت به الوضع كما عرفت، إلّا أنّه لا بدّ من أن يستند إلى العلم بالوضع، إمّا من جهة تصريح الواضع، أو من جهة الاطّراد، والأوّل نادر، فيستند إلى الثاني لا محالة»().
وفي كلامه هذا مواقع للنظر:
أوّلاً: كيف له أن يتمكّن من معرفة أنّ العرب تستعمله بدون قرينة لو لم يعلم ذلك بالوضع؟!
وثانياً: أنّ المجاز المشهور ـ هو أيضاً ـ يستعمل بدون قرينة، فينبغي أن يقال ـ حينئذ ـ بأنّه حقيقة، وهو كما ترى.
وثالثاً: إنّ التبادر حجّة في إثبات الوضع والحقيقة بذاته، لا من جهة تصريح الواضع ولا الاطّراد؛ لأنّ تصريح الواضع، لو كان، فلا نحتاج معه إلى التبادر، على أنّه ليس هناك من واضع خاصّ ـ كما ذكرنا ـ، وأمّا أهل اللّغة فهم إنّما يبيّنون مواضع الاستعمال، وليسوا ـ غالباً ـ بصدد تبيان المعنى الحقيقيّ.
ثمّ إنّ الاُستاذ الأعظم في بيان كون الاطّراد من علامات الحقيقة ذكر: أنّ إطلاق لفظ باعتبار معنىً كلّيّ على فرد من الأفراد، مع القطع بعدم كون ذلك الفرد من حيث الفرديّة معنى حقيقيّاً له، إن كان مطّرداً كشف عن كونه من المعاني الحقيقيّة، وإن لم يكن مطّرداً كشف عن كونه من المعاني المجازيّة، وذلك كإطلاق لفظ (الأسد) على كلّ فرد من أفراد الحيوان المفترس، مع العلم بعدم كون الفرد بخصوصه من المعاني الحقيقيّة، لمّا كان مطّرداً، فيكشف ذلك عن أنّ (الحيوان المفترس) معنىً حقيقيّ له.
وأمّا إطلاقه على كلّ فرد من أفراد الشجاع، فلمّا لم يكن مطّرداً، فإنّه يصحّ باعتبار هذا المفهوم الكلّيّ إطلاقه على الإنسان، وعلى جملة من الحيوانات، إلّا أنّه لا يصحّ إطلاقه على كلّ فرد فرد من الحيوان، ﻛ (النملة الشجاعة) ـ مثلاً ـ، كشف ذلك عن كونه من المعاني المجازيّة().
وقد أجاب هو عن هذا():
بأنّ انطباق الكلّيّ على أفراده أمر عقليّ وأجنبيّ عن الاستعمال بالكلّيّة، فلا يمكن أن يكون المعنى كلّيّاً ومع ذلك لا يصدق على تمام أفراده ولا يصحّ إطلاقه على جميع مصاديقه.
وأمّا عدم صدق بعض المفاهيم على جميع الأفراد في بعض الموارد فإنّما هو لضيق دائرة هذا المفهوم من ناحية تخصّصه بخصوصيّة ما عرفاً. وبما أنّ المفهوم ضيّق فهو لا ينطبق إلّا على أفراد تلك الحصّة الخاصّة، دون غيرها، فإنّ سعة الانطباق وضيقه يدور مدار سعة المفهوم وضيقه.
فمثلاً: إذا لاحظنا مفهوم (الإنسان) بما له من السعة والإطلاق، نجد أنّه ـ لا محالة ـ ينطبق على كلّ فرد فرد، من دون تخصيص في البين. ولكن، إذا لاحظناه بما له من الخصوصيّة، أي: لاحظنا الحصّة الخاصّة ﻛ (الإنسان العالم)، فإنّه حينئذ لا ينطبق إلّا على أفراد تلك الحصّة.
فعدم الاطّراد بهذا المعنى، أو الاطّراد مشترك فيه بين المعنيين: الحقيقيّ والمجازيّ، ولذا نرى عدم اطّراد (الأسد) على مفهوم الشجاع، لأنّه قد اُريد منه الحصّة الخاصّة.
فمعنى الاطّراد ـ إذاً ـ هو استعمال اللّفظ الخاصّ في معنى مخصوص في موارد مختلفة مع إلغاء جميع ما هو محتمل للقرينيّة على إرادة المجاز؛ إذ إنّ هذه الإطلاقات في جميع الموارد تكون لعلّة ما، وهي: إمّا القرينة، والمفروض انتفاؤها، وإمّا من جهة الاطّراد، فكانت العلّة هي الوضع.
وإذا عرفت ذلك: فإذا فرضنا أنّنا لم نصل إلى معرفة الوضع والحقيقة لا بالتبادر ولا بغيره من هذه العلائم المذكورة، فبأيّ شيء يمكن معرفة المعنى الحقيقيّ؟! أبتنصيص من الواضع؟ والحال أنّه غير موجود؛ لأنّ عمل الواضع مقصور على بيان موارد الاستعمالات، وليس من شأنه التعرّض لبيان المعنى الحقيقيّ والمعنى المجازيّ.
نعم، لو نصّ الواضع في بعض الموارد على أنّ اللّفظ الفلانيّ حقيقة في معنى الفلانيّ، وحصل من قوله هذا العلم بالوضع، فهو، وإلّا، فليس هناك دليل على حجّيّة قوله.
قد يقال: بأنّ المعرفة منحصرة بأن يكون تبادر المعنى من اللّفظ عند العالمين.
وفيه ـ مضافاً إلى ما ذكرنا سابقاً وعلى فرض التنزّل ـ: أنّ التبادر لا بدّ وأن يحصل من حاقّ اللّفظ ونفس الوضع ومن دون القرينة، وإحرازه كذلك في غاية الإشكال.

وأمّا الثمرة من هذا البحث فقد يقال فيها
إنّها عبارة عن ظهور الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة، كلفظ (الظاهر) و(الباطن) و(الصعيد) ـ وغيرها ممّا اُخذ موضوعاً للأحكام ـ الشرعيّة في معانيها مع العلم بالأوضاع، فتحمل الألفاظ عليها، وتكون معاني هذه الألفاظ معلومةً ولا إجمال فيها، وأمّا مع الجهل بها، فينسدّ باب الاستنباط.
ولكنّ هذا الكلام غير تامّ؛ وذلك لأنّ لبعض هذه الألفاظ قدراً متيقّناً، كلفظ (الصعيد)، فإنّ القدر المتيقّن من معنى هذا اللّفظ هو (التراب الخالص)، فيحمل عليه، ويجري الأصل في المشكوك فيه؛ وأمّا بعضها الآخر، فيمكن معرفة معانيها من خلال القرائن.
وعليه: فلا حاجة إلى معرفة المعنى الحقيقيّ والعلم بالوضع، ومعه: فلا ثمرة لهذا البحث أصلاً.

 


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com