الفصل الحادي عشر: الصحيح والأعمّ

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

الفصل الحادي عشر: الصحيح والأعمّ


لا يخفى: أنّه قد وقع الخلاف بينهم: في أنّ ألفاظ العبادات هل هي أسام لخصوص الصحيحة منها أو للأعمّ؟؟
وقبل الدخول في البحث لا بدّ من بيان اُمور:

الأمر الأوّل: في تصوير النزاع:
فنقول: النزاع هنا ليس متوقّفاً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة، وليس منحصراً على القول بها، وإن كان القدر المتيقّن من هذا البحث هو ذلك. وإلّا، فبناءً على ثبوت الحقائق العرفيّة مع إمضاء الشارع لها يأتي البحث أيضاً في أنّ ألفاظ العبادات هل استعملت في خصوص الماهيّة الصحيحة أو فيما يعمّ الفاسد منها؟
ومن هنا ظهر ما في كلام صاحب الكفاية من «أنّه لا شبهة في تأتّي الخلاف على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة، وفي جريانه على القول بالعدم إشكال»()، إذ لا وضع لكي يقال بأنّ الموضوع له هو الصحيح أو الأعمّ.
وكذا يرد الإشكال على ما ذكره بعض المحقّقين المعاصرين بقوله:
«لا يخفى: أنّه لو لم يمكن تصويره على القول بعدم ثبوتها واختصاص النزاع بالقول بثبوتها، لا يكون هذا المبحث مبحثاً مستقلّاً في مقابل المبحث السابق ـ أعني مبحث الحقيقة الشرعيّة ـ بل يكون من فروعه ومترتّباً عليه؛ لأنّه نتيجة أحد القولين في تلك المسألة، إذ لا يجري الكلام في هذه المسألة على كلا تقديري تلك المسألة. والذي ذهب إليه صاحب الكفاية عدم إمكان تصوير النزاع بنحو يوجب استقلال هذا المبحث عن سابقه، وبصورة تتناسب مع علميّة المبحث والنزاع، إذ ادّعى أنّ تصويره في غاية الإشكال»().
وأمّا على القول بعدمهما، وأنّ الألفاظ المزبورة مستعملة في المعاني المذكورة مجازاً، فقد استشكل البعض في عدم جريان النزاع فيها.
ولكنّ الحقّ: أنّ النزاع جارٍ هنا أيضاً؛ لأنّ المعنى الذي استعمل لفظ (الصلاة) فيه ويحمل اللّفظ عليه عند وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقيّ، هل هو خصوص التامّ أم الأعمّ منه ومن الناقص؟ وبعبارة اُخرى: فأيّ المعنيين هو الذي اعتبرت العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقيّ، هل هو الصحيح من أفراد المعنى الشرعيّ أم هو الأعمّ منه ومن الفاسد؟
وكذا يأتي النزاع على ما هو منسوب إلى الباقلّاني()، من أنّ هذه الألفاظ قد استعملت في لسان الشارع في معانيها اللّغويّة، ولكنّه أراد المعاني الشرعيّة بنصبه للقرائن، على سبيل تعدّد الدالّ والمدلول، أي: أنّ أصل المعنى قد استفيد من هذه الألفاظ أنفسها، وعرفت إرادة الخصوصيّات من دوالّ اُخرى، وهي القرائن.
وتصوير النزاع على هذا القول بأن يقال:
إنّ هذه القرائن الدالّة على الخصوصيّات الزائدة على أصل المعنى اللّغويّ، هل اُريد بها الخصوصيّات الصحيحة أم الأعمّ منها؟
أي ـ وبعبارة اُخرى ـ: فإنّ الصلاة والزكاة والحجّ ليست اُموراً مخترعة ومستحدثة، لا في شرعنا ولا في الشرائع السابقة، وإنّما هي معان لغويّة قديمة، وهي: (الدعاء) و(النموّ) و(القصد)، ونحو ذلك..
غاية الأمر: أنّ الشارع قد أضاف إليها أجزاءً وشرائط، فتلك الألفاظ مستعملة في لسان الشارع في معانيها اللّغويّة، وأمّا الأجزاء والشرائط الزائدة فهي إنّما تستفاد من قرينة مضبوطة في كلامه.
ثمّ إنّه قد يقال: لا يجري هذا النزاع هنا؛ لأنّ مورد بحثنا هو ألفاظ العبادات خاصّةً، كما يقال في عنوان هذا البحث: هل وضعت ألفاظ العبادات للصّحيح أم للأعمّ؟
ولكنّ الحقّ: أنّ النزاع غير مختصّ بالعبادات، بل هو يأتي في المعاملات أيضاً، كما فعل صاحب الكفاية الذي عنون النزاع في باب المعاملات أيضاً().
بل ذكر في التقريرات أنّ هذا البحث يعمّ المعاملات أيضاً؛ إذ قال فيه ما لفظه: «هل النزاع مخصوص بألفاظ العبادات، كما هو المأخوذ في العنوان، أو يعمّ ألفاظ المعاملات؟؟ ظاهر جماعة منهم: الشهيدان، هو الثاني وارتضاه بعض الأجلّة»().

الأمر الثاني:
أنّ البحث يمكن أن يتصوّر بناءً على القول بعدم ثبوت الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ، وأمّا إذا قلنا: بثبوت ذلك، فمعناه: أنّ الصلاة موضوعة لخصوص تامّ الأجزاء والشرائط، والتي هي صلاة المختار، فالواضع حين الوضع تصوّر ذلك المعنى التامّ، وأمّا الصلوات الناقصة جزءاً أو شرطاً، وصلوات ذوي الأعذار كلّها، فهي أبدال ومسقطات لها، لا أنّها صلاة.
فلم يبقَ فرد مختلف فيه حتّى يبحث في أنّ الموضوع له هل هو الجامع للأفراد الصحيحة خاصّة أو للأعمّ منها ومن الفاسدة؟
ولكن يرد الإشكال في أنّه: ما هو ذلك المعنى التامّ للمصلّي المختار؟ فإنّه تارةً يكون في أربع ركعات، إذا كان المصلّي حاضراً، واُخرى يكون في ركعتين، كما لو كان مسافراً... وتارةً يكون في ركعة واحدة، من دون أن تكون ناقصةً أو لذوي الأعذار، كصلاة الوتر، فإنّها تامّة في الركعة الواحدة للمصلّي المختار.
وظاهر: أنّه لا يمكن تصوير الجامع بين اﻟ (بشرط شيء) واﻟ (بشرط لا) ـ والأوّل كصلاة الرباعيّة، والثاني كصلاة الثنائيّة ـ إلّا بالجامع الذي فرضه المحقّق الخراساني وهو: «معراج المؤمن»، ونحوه().
هذا مع الإغماض عن الأخبار الواردة.
وأمّا الأخبار: فإنّ بعضها يجعل الأصل أربعةً، بدليل أنّه يعوّض للمسافر عن الركعتين الساقطتين بثلاثين من التسبيحات الأربعة(). وبعضها الآخر() يجعل أصل الصلاة مثنى، ويقول: إنّ ما فرضه الله هو الاثنتان الأوليان، وأمّا الركعتان الأخيرتان، فهما ممّا فرضه النبيّ، ولذا كانتا تقبلان الشكّ، بخلاف ما فرضه الله تعالى، فإنّ الشكّ يبطله.

الأمر الثالث: ما المراد من الصحّة؟
ما المراد من الصحّة إذا عرفنا بأنّ التقابل بين الصحّة والفساد هو تقابل العدم والملكة، لا تقابل التضادّ ولا السلب والإيجاب؟
لا يخفى: أنّ الفقهاء عرّفوا الصحّة: ﺑ (إسقاط الإعادة أو القضاء)، وعرّفها المتكلّمون بتعريف آخر، وهو: (موافقة الأمر أو الشريعة).
قال صاحب التقريرات: «قد تقدّم منّا الإشارة إلى ما هو المراد بلفظ الصحيح، ونزيد توضيحاً في المقام، فنقول: ليس المراد به ما هو المنسوب إلى الفقهاء: من أنّ الصحيح هو ما أسقط القضاء، أو إلى المتكلّمين: من أنّه ما وافق الشريعة...
إلى أن قال: بل المراد به الماهيّة الجعليّة الجامعة للأجزاء والشرائط التي لها مدخل في ترتّب ما هو الباعث على الأمر بها عليها، ويعبر عنه بالفارسيّة ﺑ «درست»، وهو معناه لغةً. وقد ذكرنا في محلّه: أنّ الفقهاء والمتكلّمين أيضاً لم يصطلحوا على إبداع معنىً جديد غير ما هو المعهود منه في اللّغة»(). انتهى.
والصواب: أنّ الصحّة إنّما هي بمعنى التماميّة تكويناً أو تشريعاً، وليس هذا الاختلاف بين الفقهاء والمتكلّمين هنا من باب الاختلاف فيما هو مفهوم الصحّة، بل من باب الاختلاف في الأغراض، وكلا التعبيرين من باب التفسير باللّازم؛ لأنّ كلاً من إسقاط الإعادة والقضاء وموافقة الشريعة لازم من التماميّة، وليس نفس التماميّة، وإنّما حينما كان غرض الفقيه البحث عن أفعال المكلّفين عرّفهما بإسقاط القضاء أو الإعادة وعدم إسقاطهما.
وأمّا المتكلّمون فلمّا كان غرضهم الحديث عمّا يرجع إلى المبدأ والمعاد وأفعاله وصفاته تعالى، والتي منها أوامره ونواهيه، بحيث إنّ موافقة هذه الأوامر وامتثالها تكون سبباً لاستحقاق المثوبة، ومخالفتها سبباً لاستحقاق العقوبة، فلذلك عرّفوا الصحّة بموافقة الأمر والشريعة، والفساد بمخالفتهما.
ومعلوم أنّ الاختلاف في النظر إلى اللّازم لا يوجب اختلافاً في حقيقة الملزوم، وإلّا، فالصحّة عند الكلّ بمعنى واحد، وهو التماميّة.
ولكنّ المحقّق الأصفهاني ادّعى: أنّ مثل موافقة الأمر وإسقاط الإعادة هما من مقوّمات التماميّة، حيث لا واقع للتماميّة إلّا التماميّة من حيث موافقة الأمر أو إسقاط الإعادة والقضاء أو ترتّب الأمر المطلوب.
ولا يخفى: أنّه يمتنع أن يكون الأثر من لوازم التماميّة، لأنّ ما يكون من مقوّمات الشيء لا يكون من لوازمه وآثاره، ونسبة اللّازم إلى الملزوم والأثر إلى المؤثر نسبة العلّة والمعلول، وهو خلف فرض كونه مقوّماً. قال:
«إلّا أنّ حيثيّة إسقاط القضاء وموافقة الشريعة وغيرهما ليست من لوازم التماميّة بالدقّة، بل من الحيثيّات التي يتمّ بها حقيقة التماميّة، حيث لا واقع للتماميّة إلّا التماميّة من حيث إسقاط القضاء، أو من حيث موافقة الأمر، أو من حيث ترتّب الأثر، إلى غير ذلك، واللّازم ليس من متمّمات معنى ملزومه، فتدبّر»().
وردّه الاُستاذ الأعظم بأنّ الصحّة بمعنى التماميّة، والتماميّة على قسمين:
الأوّل: أن يلاحظ بلحاظ نفسه، وهو معنى تامّ الأجزاء والشرائط.
الثاني: أن يلاحظ بلحاظ مرحلة الامتثال والإجزاء؛ وهذه التماميّة لا واقع لها مع قطع النظر عن الآثار واللّوازم، بل كونه تامّاً في مقام الامتثال والإجزاء لا يعني به إلّا كونه مسقطاً للإعادة والقضاء وموافقاً للأمر، فقد خلط المحقّق الأصفهانيّ بيّن تماميّة الشيء في نفسه ـ أي: جامعيّة الأجزاء والشرائط ـ وبين وتماميّته بلحاظ مرحلة الامتثال والإجزاء، فإنّ هذه التماميّة هي ـ كما بيّنّا ـ التماميّة التي لا واقع لها مع قطع النظر عن هذه الآثار واللّوازم.
أو يمكن أن يقال: بأنّه قد خلط بين واقع التماميّة وعنوانها، فإنّ عنوان التماميّة عنوان انتزاعيّ ينتزع من الشيء بلحاظ أثره، فحيثيّة ترتّب الآثار من متمّمات حقيقة ذلك العنوان، ولا واقع له إلّا الواقعيّة من حيث ترتّب الآثار، ولكنّه خارج عن محلّ الكلام؛ فإنّ كلمة (الصلاة) ـ مثلاً ـ لم توضع بإزاء ذلك العنوان ضرورةً، بل وضعت بإزاء واقعه ومعنونه، وهو الأجزاء والشرائط، ومن الظاهر: أنّ حيثيّة ترتّب الآثار ليست من متمّمات حقيقة تماميّة هذه الأجزاء والشرائط().
ولكنّ الحقّ: أنّ الصحّة هي بمعنى إسقاط القضاء والإعادة وموافقة الأمر، ولذا يقال: الصلاة صحيحة، أي: هي موجبة لإسقاط الإعادة والقضاء أو موافقة الأمر.
ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الفرق بين الصحّة والفساد وبين النقص والتمام هو أنّ التقابل هو التضادّ في الأوّل وعدم الملكة في الثاني.
وقد يقال هنا: إنّ الصحّـة والفسـاد مـن الاُمـور الإضـافيّة، فالصـلاة ـ مثلاً ـ تارةً تكون صحيحةً باعتبار اشتمالها على تمام ما لها من الأجزاء، وإن كانت فاسدةً باعتبار فقدها للشرائط، وقد يكون الأمر بالعكس، أي: فتكون صحيحةً باعتبار اشتمالها على الشرائط وإن كانت فاسدةً باعتبار أنّها فاقدة للأجزاء، ومن هنا ذهب بعض إلى القول بأنّ وضع ألفاظ العبادات للصّحيح بالنسبة إلى الأجزاء، وللأعمّ بالنسبة إلى الشرائط().
ولكنّ الحقّ ـ كما ذكرنا ـ أنّ المراد من الصحيح هو تامّ الأجزاء والشرائط، غاية الأمر: أنّ الشرائط تكون دخيلةً في الصحّة دخول التقيّد وخروج ذات القيد.
وإذ عرفت أنّ المراد من الصحيح هو تامّ الأجزاء والشرائط فنقول: يأتي البحث هنا في أنّ المراد من الشرائط التي تكون دخيلةً في الصحّة هل هي مطلق الشرائط ـ التي تأتي بعد الطلب ـ أم لا؟
وذلك أنّ الشروط على قسمين:
أ ـ الشروط التي تكون ملحوظةً في مرحلة الجعل وتعيين المسمّى، كالطهارة والاستقبال والستر، وغير ذلك من الشروط التي تكون سابقةً على الطلب.
ب ـ الشروط التي تأتي بعد تعلّق الطلب، كقصد الأمر والوجه. وهذه، لا يمكن اعتبارها دخيلةً في الصحّة، كما لا يعقل فيها أن تكون دخيلةً في المسمّى، كيف؟ وهي متأخّرة عن المسمّى بمرتبتين، وبديهيّ: أنّه لا يمكن أخذ ما هو المتأخّر في المتقدّم.
ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ اختلاف حالات المكلّفين بالنسبة إلى السفر والحضر والصحّة والمرض والقدرة والعجز والخوف والأمن وغير ذلك لا يكون سبباً لاختلاف الصحّة، فالصلاة في السفر ـ مثلاً ـ ركعتان، وفي الحضر أربعة، وهي في حال الاختيار ـ مثلاً ـ مع الوضوء وعند الاضطرار مع التيمّم. والصحّة في الكلّ بمعنىً واحد.
ولا يخفى ـ أيضاً ـ: أنّ الاُمور المترتّبة على الأمر، من الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة، بما أنّها متقدّمة على الأمر والجعل ـ كما مرّ ـ فهي تكون دخيلةً في الصحّة.
وأمّا الاُمور المتأخّرة ـ كقصد الأمر والقربة وعدم المزاحم ـ فهي وإن كانت دخيلةً في الملاك، ولكن مع ذلك لا يمكن أخذها في المتعلّق؛ ضرورة أنّه لا يجوز أخذ ما هو المتأخّر في المتقدّم.
وأمّا ما قيل: من أنّ شرطيّة شيء لشيء، هو أن يكون الشرط خارجاً عن المشروط، غاية الأمر: أنّ المشروط إذا أراد أن يكون مؤثّراً، فإنّ تأثيره منوط بوجود الشرط وعدم المانع، فإذا قلنا: بأنّ الصلاة ـ مثلاً ـ مشروطة بالطهارة، فهذا يعني ـ لا محالة ـ: أنّ هذا الشرط خارج عن حقيقة الصلاة.
فيردّه: أنّه ليس المراد من دخل الشرط في الصحّة وفي وجود المسمّى ـ بناءً على قول الصحيحي ـ أنّها داخلة في مفهوم الصلاة، بل المراد أنّ المسمّى ليس هو ذوات الأجزاء مطلقاً وكيفما اتّفق، بل المراد أنّ هذه الأجزاء مقيّدة بوجود أو عدم شيء معه أو قبله أو بعده، على أن يكون التقيّد داخلاً والقيد خارجاً.

الأمر الرابع: في تصوير الجامع:
اعلم أنّه لا بدّ من تصوير جامع بناءً على كلا قولي: الصحيحي والأعمّي، مثلاً نقول: بأنّ الصلاة الصحيحة على اختلاف أجزائها وشرائطها كلّها أفراد للكلّيّ والجامع الواحد الذي ينطبق على كلّ أفرادها مع تباينها، ويكون هذا الجامع الكلّيّ هو الموضوع له لفظ (الصلاة)، وهو الجامع لشتات تلك الحقّائق المختلفة. وعلى القول بالأعمّ لا بدّ أن يكون كذلك أيضاً، غاية الأمر: أنّ الجامع في الأعمّ أوسع منه في الصحيح.
ويمكن كشف هذا الجامع:
أوّلاً: من جهة الوجدان، بأنّا نرى بأنّ الوضع في عبادات ليس من قبيل الوضع في باب المشترك اللّفظيّ حتّى تكون هناك أوضاع متعدّدة، ولكي يكون لفظ (الصلاة) ـ مثلاً ـ موضوعاً لكلّ فرد فرد، بل المتسالم عليه بينهم أنّه من قبيل الاشتراك المعنويّ، ففي جميع الموارد يكون الموضوع له هو الكلّيّ المنطبق على أفراده، وهذا الكلّيّ والقدر الجامع هو المسمّى ﺑ (الصلاة).
وثانياً: أنّه بعد الفراغ من البحث في (الصلاة) وهل أنّها قد وضعت للصّحيح منها أو للأعمّ؟ فيقع البحث حينئذ في تعيين الموضوع له، ممّا يعني: أنّه لا بدّ من قدر جامع يكون هو الموضوع له. فإذا قلنا: بأنّ الموضوع هو الكلّيّ الذي ينطبق على الأفراد، فيكون الوضع هنا من قبيل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، ومن هنا ذكرنا: أنّه لا بدّ من تصوير الجامع على كلا القولين.
وثالثاً: أنّ المستفاد من الروايات هو ترتيب الأثر الواحد على كلّ فرد فرد من الصلوات الصحيحة من حيث الكمّيّة والكيفيّة، وهذا يستلزم وحدة المؤثّر، بناءً على ما قرّره أهل المعقول: من القاعدة القائلة بعدم إمكان صدور الواحد إلّا من الواحد، وأنّ الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد، فلا العلّة الواحدة يمكن أن يكون لها معلولات متعدّدة، ولا المعلول الواحد يمكن أن يكون له علل متعدّدة، وإلّا، لأمكن أن يكون كلّ شيء علّةً لكلّ شيء؛ لأنّ المعلولين المتباينين لابدّ وأن يكون بين علّتيهما تباين، بعدما كان بين العلّة والمعلول نوع من السنخيّة، فعلّة هذا المعلول لا يمكن أن تكون علّةً لمعلول آخر، وبما أنّ ذات الباري بسيطة من جميع الجهات، فلا يمكن أن يكون له معلولات متعدّدة، وبما أنّهم رأوا الاختلاف في الموجودات. فلذلك قالوا: بالنسبة إلى خلق العالم لابدّ من اختيار أحد المسلكين:
إمّا المسلك الأفلاطونيّ القائل بالعقل الطوليّ، فالذي يصدر من الواجب هو العقل الأوّل، الذي له وجود وماهيّة، فمن وجوده صدر العقل الثاني ومن ماهيّته الفلك الأوّل، ومن وجود العقل الثاني، العقل الثالث ومن ماهيّته الفلك الثاني، وهكذا... إلى العقل التاسع.
أو اختيار مذهب أرسطو، القائل بالعقول العرضيّة، وأنّه يصدر من الواجب العقل الأوّل، ومن جهة وجوده يحصل عقل واحد، ومن جهة كسبه ونوارانيّته يصدر العقل الثاني، وهكذا فمن جهة وجودهما يصدر عقل، ومن جهة استشراقهما عقل، كما في وضع المرآة أمام الشمس، ولو وضعت مرآةً اُخرى تقابل ذلك النور أو الشمس لظهر منه نوران اثنان.
ولكنّ هاتين القاعدتين إنّما تكونان صحيحتين بالنسبة إلى الفاعل الموجب، وأمّا الفاعل المختار الذي هو قادر وفاعل للأشياء فالتمسّك بهما فيه ليس بصحيح، فإنّنا نرى الشمس ـ مثلاً ـ يخرج منها نور وحرارة، فالتمسّك بهذه القاعدة ليس بصحيح، ولا يمكن أن يكون هناك معلول واحد صدر من علل متعدّدة.
وفي المقام، بما أنّ هناك أثراً واحداً فالمؤثّر والعلّة يكون واحداً، وهو الجامع، وإلّا، فلو كان الأثر الوحدانيّ مستنداً إلى خصوصيّة كلّ فرد، للزم أن يكون هناك علل متعدّدة تؤثّر في معلول واحد، وهو ممتنع.
ولكن قد بيّنّا في محلّه أنّ مورد هذه القاعدة إنّما هو الواحد الشخصيّ، دون النوعيّ، وإن كان جريانها هناك أيضاً محلّ تأمّل.
وفي مقامنا، بما أنّه من الواحد النوعيّ، فلا يضرّ أن يكون المؤثّر متعدّداً بعدما كان لهذا الأثر مراتب متفاوتة بالشدّة والضعف. نعم، لو كان الواحد شخصيّاً فإنّه يأتي هذا الإشكال الذي ذكروه.
ثمّ على فرض التنزّل والتسليم بجريان القاعدة في الواحد النوعيّ أيضاً، لكن إنّما هو فيما إذا كان المؤثّر من قبيل العلّة التامّة، لا من قبيل المعدّات، وما نحن فيه من قبيل الثاني، لا الأوّل، أي: فتصير الصلاة سبباً لكمال النفس، ممّا يجعلها بمثابة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وما إلى ذلك من الآثار...
ورابعاً: إنّا نرى صحّة استناد الصلاة إلى كلّ واحد من المصلّين مع اختلافهم من جهة الصنف أو الفرد، كما لو كان هناك جماعة يصلّون معاً، ولكنّ أحدهم يصلّي الظهر وآخر يصلّي العصر وثالث يصلّي للزلزلة وآخر للكسوف، وهكذا... فإنّه مع هذا، يصحّ أن تسند الصلاة إلى كلّ واحد منهم، فيقال: إنّ هؤلاء يصلّون...
وبما أنّ الثابت لدينا هو عدم جواز استعمال اللّفظ المشترك في أكثر من معنى، وحيث صحّ الإسناد إلى كلّ واحد من المصلّين، فنستكشف بذلك أنّ هناك جامعاً وسيعاً يصحّ انطباقه على كلّ واحد من الأفراد، وهو المطلوب.
وهنا إشكال معروف لصاحب التقريرات()، وحاصله: أنّ الجامع بين الأفراد الصحيحة الذي قد وضع له لفظ الصلاة لا يكاد يكون أمراً مركّباً، لأنّه إن كان مركّباً من أجزاء خاصّة، فهذا باطل جدّاً؛ إذ ليس لنا أجزاء مخصوصة معيّنة تكون ملاكاً للصّحّة، بحيث كلّما وجدت هي صحّت الصلاة، وكلّما انتفت هي بطلت الصلاة؛ إذ كلّ ما فرض جامعاً من الأجزاء كان صحيحاً في حال وفاسداً في الآخر؛ هذا إذا كان الجامع مركّباً من أجزاء. فلابدّ ـ لذلك ـ من أن يكون الجامع بسيطاً.
وقد يستشكل في ذلك: بأنّ الجامع لا بدّ أن يكون انتزاعيّاً، كعنوان (الناهي عن الفحشاء والمنكر)؛ إذ لا يمكن أن يفرض جامع حقيقيّ بين ذوات تلك الحقائق المختلفة المتّصفة بالصحّة؛ لأنّه فرض الجامع الحقّيقيّ يستدعي إلقاء الخصوصيّات بين أفراد الصلاة ـ مثلاً ـ والأخذ بما هو المشترك والساري بين جميع الأفراد، والمفروض: أنّ لتلك الخصوصيّات دخلاً في الصحّة، فمثلاً: صحّة الصلاة للمختار متقوّمة بالقيام، بخلاف المريض غير المتمكّن منه.
فلو فرض كون الجامع هو الصلاة التي يكون القيام دخيلاً في موضوعها لم يمكن أن يصدق على الصلاة التي لا قيام فيها، بل المراد من الجامع: الجامع البسيط الذي يتّحد مع أفراده، ويمكن نسبته إلى كلّ فرد فرد منها.
وبعبارة اُخرى: هو الجامع الذي يتّحد مع الصلاة الواجدة لجميع الخصوصيّات والفاقدة لها على حدّ سواء.
وقد استُشكل على هذا بأنّه لو فرض أنّ الصلاة موضوعة للعنوان البسيط وكان الماُمور به هو العبادة المعنونة بهذا العنوان المعلوم، فمتعلّق التكليف معلوم، ويكون الشكّ في حصول هذا العنوان بإتيان الأقلّ، فبناءً على هذا: لا يمكن إجراء البراءة عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة؛ لرجوع هذا الشكّ هنا إلى الشكّ في السقوط، لا الشكّ في أصل الثبوت، ومعلوم: أنّ مجرى البراءة إنّما هو الشكّ في الثبوت، وأمّا الشكّ في السقوط بعد الفراغ عن الثبوت فهو مجرىً لقاعدة الاشتغال.
إلّا أن نقول: بأنّ الجامع ليس نفس العنوان الانتزاعيّ، بل هو المحكيّ عنه بذلك العنوان المتّحد مع جميع الأفراد، فيرجع الشكّ في شرطيّة شيء أو جزئيّته لذلك المركّب إلى الشكّ في نفس ذلك الكلّيّ باعتبار سعته أو ضيقه، أو فقل: إلى الشكّ في الثبوت.
ثمّ إنّه إنّما يجري الاحتياط في الشكّ في المحصّل، إذا كان المحصّل عقليّاً، وأمّا لو كان شرعيّاً فهو مجرىً للبراءة.
ثمّ يرد الإشكال على أصل هذا الكلام بأنّه إذا كان الموضوع نفس المعنون فكيف يمكن أن يتصوّر جامع بين اﻟ (بشرط شيء) واﻟ (بشرط لا)؟ وكيف له أن يكون بسيطاً؟! فلابدّ لذلك من بيان الأقوال في كيفيّة تصويرهم للجامع:
الأقوال في كيفيّة تصوير الجامع:
القول الأوّل:
ما ذكره المحقّق النائينيّ ـ تبعاً للشيخ الأنصاريّ() ـ: ونصّ كلامه: «أنّ لفظة (الصلاة) موضوعة بإزاء الصلاة التامّة، ويكون إطلاقها على الفاسد أو الصحيح الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط بحسب اختلاف حال المكلّف بالعناية والتنزيل وادّعاء أنّها هي، إذا كان هناك مصحّح للادّعاء، بأن لا تكون فاقدةً لمعظم الأجزاء والشرائط، وإن لم يكن هناك مصحّح الادّعاء، فيدور إطلاق الصلاة عليه مدار إطلاق الشارع، وبعد الإطلاق الشرعيّ يمكن التنزيل والادّعاء بالنسبة إلى ما يكون فاقد البعض وما هو فاسد من تلك الحقيقة التي أطلق عليها الشارع (الصلاة)، وحينئذ: لا يلزم هناك مجاز ولا سبك من المجاز، بل يكون الإطلاق على نحو الحقيقة، غايته: أنّه لا حقيقة، بل ادّعاء»().
وتوضيحه: أنّ لفظ (الصلاة) ـ مثلاً ـ موضوع للصّلاة التي تكون جامعةً لجميع الأجزاء والشرائط، وهو الصحيح التامّ للمختار، ويكون إطلاقها على الفاقد من أفراد الصحيح بالعناية والتنزيل ـ نظير ما ادّعاه السكّاكيّ من أنّ الرجل الشجاع فرد من أفراد الأسد ادّعاءً ـ والحقّيقيّ الادّعائيّ يشترط فيه أن يكون هناك مصحّح لهذا الادّعاء.
فلو لم يكن هناك مصحّح له ـ كصلاة الغرقى ـ التي يطلق عليها اسم (الصلاة)؛ فإنّ إطلاق الصلاة عليه يدور مدار إطلاق الشارع، وبما أنّ الشارع أطلق عليه الصلاة فيمكن التنزيل والادّعاء.
ولكنّنا حينما نتفحّص الروايات نجد أنّ الشارع لم يطلق عليها اسم الصلاة، وإنّما عرف صدق (الصلاة) على صلاة الغرقى من لسان العلماء. وأمّا الصلاة الفاسدة، فلا يطلق عليها الصلاة إلّا من جهة المشابهة، ولذلك، فنحن لا نحتاج هناك إلى تصوير للجامع.
ولكنّ هذا الكلام لا يخلو عن إشكال؛ لأنّ لازمه أن يطلق لفظ (الصلاة) على سائر الأفراد بالعناية والتنزيل، وأن يجوز سلب الصلاتيّة عنها.
وممّا ذكرنا ظهر الحال فيما ذكره بعض الأساتيذ() من عدم صدق (الصلاة) حقيقةً على الصلوات الاضطراريّة، وإنّما هي مسقطات وأبدال مع كونها صلوات حقيقةً.
وعلى فرض التنزّل، فإنّما يتمّ ذلك بالنسبة إلى كلّ صلاة مع ناقصتها، كالظهر التامّ مع ناقصه.
وأمّا بالنسبة إلى الأفراد التامّة كالمسافر والحاضر والظهر والعصر والصبح والمغرب والعشاء فلا؛ لأنّ الرباعيّات أخذت الركعتان فيها (بشرط شيء) وفي الصبح ـ مثلاً ـ (بشرط لا). فكيف يمكن حينئذ تصوير الجامع بين اشتراط وجود الركعتين واشتراط عدمهما؟!
وقد يجاب عن هذا: بأنّ الجامع هو وجود الركعتين، غاية الأمر: أنّهما قد قيّدتا في المسافر بشرط العدم، وفي الحاضر بشرط انضمام الركعتين الاُخريين إليهما، فالجامع هو ذات الركعتين.
ولكن قد ذكرنا: أنّه لا يمكن وجود الجامع بين الواجد والفاقد وبين اﻟ (بشرط لا) و اﻟ (بشرط شيء).
وأيضاً: فلابدّ من القول: بتعدّد الوضع والاشتراك اللّفظي هنا، ولكنّ ما استفدناه من الروايات عكس ذلك، وأنّ الأصل في الصلوات هي الأربع، وإنّما لأجل التسهيل على المسافر سقط منها ركعتان.
وعليه: فلابدّ أن نقول: بأنّ الجامع هو الركعات الأربع لا الركعتان. ولكن في بعض الأخبار: أنّ أصل الصلاة مثنى؛ إلّا أن نحملها على المستحبّات، ويمكن أن يكون الجامع هو (اللّا بشرط المقسمي) الذي يندرج تحته كلّ من: اﻟ (بشرط لا) واﻟ (بشرط شيء) و(اللّا بشرط القسمي).
القول الثاني:
ما اختاره المحقّق الأصفهاني()، وهو: أنّ الماهيّة إذا كانت مؤتلفةً من مقولات متباينة واُمور عديدة، بحيث تزيد وتنقص من جهة الكمّيّة والكيفيّة، فمقتضى الوضع لها ـ بحيث يعمّ كلّ تلك الموارد مع تفرّقها وتشتّتها ـ أن تلاحظ على نحو مبهم غاية الإبهام، بل تعرف بمعرفيّة بعض العناوين غير المنفكّة عنها ـ كعنوان الناهي عن الفحشاء والمنكر مثلاً ـ فيوضع اللّفظ لها.
وقد شبّه ذلك بالخمر، فإنّها مبهمة من جهات عديدة، فهي مبهمة ـ مثلاً ـ من حيث اتّخاذها من العنب أو التمر أو الشعير أو غير ذلك، ومن حيث الإسكار شدّةً وضعفاً، ومن حيث الطعم واللّون والرائحة؛ وكذلك الحال في مثل (الصلاة)، فإنّها كالخمر في أنّها موضوعة لماهيّة مبهمة من حيث قلّة الأجزاء وكثرتها ودخول البعض في حالة وخروج بعضها الآخر في حالة اُخرى.
وفيه: أنّه إن كان المراد من الإبهام إبهام الماهيّة من حيث ذاتيّاتها، فهو غير ممكن؛ لعدم إمكان التخلّف والاختلاف في الذاتيّات. بل إنّ أسامي العبادات والمعاملات هي كأسماء الأجناس لا إبهام فيها من حيث المفهوم والماهيّة، وإنّما يكون إبهامها بحسب الوجود.
وإن كان المراد من الماهيّة المبهمة عنده المفهوم الانتزاعيّ من أحد هذه المركّبات التي صارت متعلّقةً للأوامر الشرعيّة، ففيه: أنّه على خلاف الوجدان؛ لأنّ أسامي العبادات ـ كالمعاملات أيضاً ـ تحكي عن عناوين تفصيليّة حقيقيّة، ويكون الإبهام في منشأ الانتزاع، وإلّا، فلا معنى للإبهام في المفهوم الانتزاعيّ مع معلوميّة منشأ الانتزاع.
وأمّا قياسه على الخمر فهو قياس مع الفارق، إذ الخمر ـ كبقيّة أسماء الأجناس ـ لا إبهام فيها أصلاً من ناحية الماهيّة، بل إبهامها من جهة أنّه لم تؤخذ في التسمية فيها مادّة خاصّة، كما أنّه لم تلاحظ جهة خاصّة، كالسكّر أو الطعم أو اللّون، بل هي مأخوذة فيها بنحو اﻟ (لا بشرط).
وبكلمة: فإنّ الملاك في التسمية هو وجود الصورة الخمريّة، ولو في ضمن أيّة مادّة من الموادّ، لا أنّها مختصّة بما يؤخذ من العنب، كما هو الحال في (الباب) ـ مثلاً ـ فإنّه ما دامت صورته موجودةً يطلق عليه اسم (الباب)، بلا فرق بين أن يكون مصنوعاً من الحديد والخشب أو غير ذلك، فهي من هذه الجهة (لا بشرط).
وأمّا الصلاة فمنشأ الانتزاع فيها اُمور خارجيّة، والإبهام فيها بمعنى قلّة الأجزاء وكثرتها، وخروج بعض الأشياء في حالة أو حين من الأحيان عنها، ودخول ذلك البعض في حالة اُخرى أو حين آخر فيها. فلذلك لا يمكن أن يكون هو جامعاً لها، وكيف يتصوّر الجامع أصلاً مع هذا الاختلاف في الماهيّة بحيث يشمل الماهيّة (بشرط شيء) و(بشرط لا)؟!
القول الثالث:
أن يفهم الجامع من عنوان المسقطيّة، فإنّ الصلوات بجميع أقسامها ـ أي: الصلوات التامّة الاختياريّة والناقصة ـ كلّها تكون مجزئةً ومسقطةً للأمر، فالموضوع لتلك الأفراد هو ذلك العنوان المبهم الذي يفهم من عنوان المسقطيّة.
وبعبارة أُخرى: فإنّ جميع الأفراد الصحيحة كمّاً وكيفاً، فالجامع لها هو ما تدلّ عليه المسقطيّة والمفرّغ لما في الذمّة. وحينما نرى أنّ هناك أثراً واحداً وهو الإجزاء وإسقاط الأمر بالنسبة إلى جميع الأفراد الصحيحة، فإنّنا نستكشف من هذا الأثر الواحد أنّه لا بدّ أن يكون هناك شيء وحدانيّ يوثّر في مسقطيّة تلك الأفراد الصحيحة، وإلّا، يلزم أن تكون العلل المتعدّدة المختلفة المتباينة مؤثّراً في الواحد، وقد مرّ عدم إمكان تأثير العلل المتعدّدة في المعلول الواحد.
والفرق بين هذا القول والقول الذي اختاره صاحب الكفاية أنّ هذا الجامع وقع في سلسلة المعلولات المترتّبة على الحكم، وذلك الجامع وقع في سلسلة العلل وهو الاستكشاف، حيث هو الأثر وهو النهي عن الفحشاء واحد. فنستكشف بأنّ المؤثّر ـ وهو العنوان الكلّيّ ـ أيضاً واحد، أي الجامع المنطبق على جميع الأفراد.
وقد استُشكل فيه:
أوّلاً: بأنّ هذا لا يكشف عن وجود جامع؛ لإمكان أن تكون المصلحتان: الاضطراريّة والاختياريّة مختلفتين، ولو أنّ المصلحة الثابتة في الاختياريّ توجب السقوط، وكذا في الاضطراري، وأنّ المقام نظير المقام في الحجّ والصوم، فإنّ لكلّ واحد منهما مصلحةً مغايرةً لمصلحة الاُخرى. فلا يمكن تصوير جامع يكشف عن مصلحة واحدة في جميع الأفراد الاختياريّة والاضطراريّة.
وثانياً: إذا وضع الصلاة للجامع فالجامع لا بدّ أن يكون مبيّناً بحيث يمكن إلقاؤه إلى المكلّف، ولا جامع المذكور مجهول ومبهم.
وثالثاً: أنّ سقوط الأمر مترتّب على الإتيان، وهو متوقّف على وجود المصلحة المقتضية للسّقوط، وتكون التسمية في المرتبة السابقة على الأمر والسقوط.
ورابعاً: ينسدّ باب البراءة؛ إذ ـ حينئذ ـ ومع عدم معرفة الجامع، يكون الشكّ شكّاً في المحصّل، فتخضع لقانون الاحتياط، لا البراءة، دائماً.
ولكن لا يخفى: أنّ الاحتياط إنّما يجري في الشكّ في المحصّل إذا كان عقليّاً، وأمّا إذا كان شرعيّاً فشكّه يكون خاضعاً لقانون البراءة.
القول الرابع:
ما ذكره المحقّق العراقيّ(): من أنّ المقولات، وإن كانت متباينةً من حيث الذات، بحيث لا يمكن تصوير جامع بين هذه المقولات، ولكن بما أنّ كلّ مقولة حاوية لمرتبة من الوجود غير المرتبة الاُخرى الحاوية لها، فإنّ الجامع بين الأفراد هو مرتبة من الوجود سارية في جميع وجودات الأفراد، وتلك المرتبة المشتركة بين جميع المقولات المتباينة ـ التي تتركّب منها حقيقة الصلاة ـ قد اُخذت موضوعاً ووضع لها لفظ (الصلاة)، وهي غير محدودة بحدّ خاصّ من حيث الزيادة والنقيصة والقوّة والضعف، بل هي مأخوذة على سبيل التشكيك.
وليس المراد من تلك المرتبة هو حقيقة الوجود الواسعة المشتركة بين جميع الوجودات الممكنة والواجبة؛ لأنّه بناءً على هذا يكون بين لفظي: (الصلاة) و(الوجود) ترادف، كما هي الحال بين لفظي: (الإنسان) و(البشر)، ولازم هذا: صدق الصلاة على كلّ موجود، بل المراد: أنّ لكلّ عبادة مرتبةً خاصّةً من الوجود ساريةً في جميع وجودات أفرادها، وتكون مشتركة بين تلك الأفراد فقط، بحيث تشمل جميع الأفراد من تلك المرتبة، ولا يخرج منها حتّى فرد واحد، كما أنّها لا تنطبق على أفراد عبادة اُخرى؛ لأنّها ليست داخلةً في تلك المرتبة، فلا تكون جامعةً لها.
وبعبارة أُخرى: فلكلّ واحد من هذه العبادات وجود سعيّ بمقدار سعة أفرادها، فقهراً لا يخرج فرد من تلك العبادة عن دائرة انطباقه، ولا يدخل فرد آخر من عبادة اُخرى في في تلك الدائرة.
ويمكن أن ينظّر للمقام بالكلمة والكلام، ولكن من حيث الجامع الوجوديّ والوجود السعيّ لا الذاتيّ الماهويّ؛ لأنّه من جهة النقصان والزيادة قابل للتشكيك؛ لأنّه يصدق على الزائد والناقص أيضاً.
ولكن قد يرد عليه الإشكال:
بأنّه بعد أن كان الوجود مساوقاً للتشخّص، فإن كان المراد بالوجود السعي: عموم الوجود والانطباق على كثير فإنّه غير معقول؛ لأنّ معناه أن ينطبق على جميع العبادات.
وإن كان المراد مرتبةً من الوجود: فلا يمكن أن تكون ساريةً في جميع وجودات الطبيعة، بحيث يكون له عموم انطباق وسعة في الصدق حتّى يكون جامعاً بين الأفراد الكثيرة ومنطبقاً عليها.
وبعبارة اُخرى: فإنّ كون الشيء وجوداً ومرتبةً منه ينافي كونه جامعاً.
ولكنّ الحقّ: أنّه وإن كان الشيء بمعنى المرتبة، ولكن بعد أن فرضنا التشكيك بين أفرادها فمن الممكن أن تكون جامعةً لتلك الأفراد التي تكون تحت تلك المرتبة.
أو فقل: إنّ بين أفراد كلّ نوع من الأنواع سنخيّةً وجوديّةً، وهذه السنخيّة لا تكون بين أفراد نوع آخر، بل هي معنى مشترك بين جميع أفراد ذلك النوع، فالسنخيّة الموجودة بين زيد وعمرو ـ مثلاً ـ ليس نفس السنخيّة الموجوده بينه وبين الفرس.
ولعلّ المراد من قوله: «الوجود السعي» هو هذا المعنى، وهذا مقول بالتشكيك من حيث الزيادة والنقيصة والشدّة والضعف.
فليس المراد من الوجود الوجود الخارجيّ؛ لأنّه لا يتلاءم مع الكثرة والعدد والضعف والقوّة، فالسنخيّة الموجودة بين أفراد الصلاة هي غير السنخيّة الموجودة بين أفراد الصوم.
وقد ظهر ممّا ذكرنا: أنّ الجامع هو السنخيّة وقد وضع لفظ الصلاة لها.

الجامع بين الأعمّ والصحيح والفاسد:
ثمّ لو فرضنا عدم إمكان وجود جامع بين الأفراد الصحيحة فقط، فهل يمكن فرض جامع بين الأعمّ من الصحيح والفاسد أم لا؟
والجواب: أنّه قد صوّر العلماء الجامع بين الصحيح والأعمّ بوجوه:
منها:
ما عن صاحب القوانين (): من أنّه عبارة عن الأركان، وأمّا ما عداها من الشروط والشطور فهي دخيلة في الماُمور به لا المسمى، فمع فقدانها وعدم إتيانها من غير عذر يوجب انتفاء الماُمور به لا المسمّى.
ويرد عليه:
أوّلاً: أنّه لا تصدق الصلاة قطعاً مع وجود الأركان دون سائر الأجزاء والشرائط، وتصدق مع وجود بعض الأركان ووجود سائر الأجزاء والشرائط.
وثانياً: أنّه يصحّ السلب عن الأركان الفاقدة لجميع الأجزاء والشرائط.
وثالثاً: لا أثر للفاسد أصلاً حتّى تجري قاعدة أنّ الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد.
ورابعاً: يلزم المجاز عند استعمال لفظ الصلاة في جميع الأركان مع سائر الأجزاء والشرائط؛ لأنّه يكون من باب استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ.
وخامساً: بناءً على ذلك فالطهارة ليست داخلةً في التسمية، مع أنّه لولاها لم يصدق عليها الصلاة، مع أنّه قد ورد عن أبي عبد الله في مقام تحديد الصلاة قوله: «الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث طهور، وثلث ركوع وثلث سجود»().
وأورد عليه المحقّق النائيني() بما حاصله:
أنّه إن اُريد عدم دخولها في المسمّى دائماً فيرد عليه الإشكال المتقدّم، وهو أنّه يلزم عند استعمالها في الصحيح أن يكون مجازاً، من باب استعمال لفظ الجزء في الكلّ.
وإن اُريد أنّها دخيلة عند وجودها وليست بدخيلة عند عدمها، فهذا أيضاً غير تامّ، إذ لا يمكن أن تكون الماهيّة (بشرط شيء) في زمان و(بشرط لا) في زمان آخر، ولا يمكن أن يكون الشيء جزءاً للماهيّة مرّةً وخارجاً عنها اُخرى.
ثمّ استشكل على نفسه بقوله:
«إن قلت: ألستم تقولون بالتشكيك في الوجود وفي بعض الماهيّات كالبياض والسواد، وأنّ المعنى الواحد يصدق على الواجد والفاقد، فالوجود يصدق على وجود الواجب ووجود الممكن على اختلاف مراتبه، وكذا السواد يصدق على الضعيف والقويّ، وليكن الصلاة أيضاً صادقةً على التامّ من جميع الجهات وعلى الناقص أيضاً».
وأجاب عنه: بما حاصله: أنّه إن أرادوا التشكيك في حقيقة الوجود فإنّه مجهول لدينا، ولا يعلم إلّا بالكشف من جهة المجاهدة، وأمّا الماهيّات، فإنّه يجري فيها التشكيك، لكن لا مطلقاً، بل إذا كانت الماهيّة بسيطةً من جميع الجهات، وأمّا إذا كانت مركّبةً من جنس وفصل ومادّة وصورة، فلا، وبما أنّ الصلاة ـ أيضاً ـ مركّبة من مقولات وأركان، فلا يتصوّر فيها التشكيك.
ثمّ على فرض التنزّل، فلا يمكن تصوّر جامع لها؛ لأنّها تختلف باختلاف الأشخاص من المسافر والحاضر والقادر والعاجز حتّى الغريق، فإنّ الركوع والسجود لهما مراتب باختلاف الحالات، فكيف يمكن تصوير جامع بينها خصوصاً مع فرض الإيماء أيضاً من الركوع والسجود؟!
وقد أورد اُستاذنا الأعظم() على الإشكال الذي ذكر ـ من عدم إمكان أخذ الشيء جزء للماهيّة تارةً وخارجةً اُخرى ـ بأنّ هذا إنّما يتمّ بالنسبة إلى المركّبات الحقّيقيّة التي تتركّب من الجنس والفصل والمادّة والصورة بحيث لا يمكن وجودها بدون الأجزاء، ولا يمكن تبديل الأجزاء بغيرها، من جهة احتياج كلّ جزء إلى الآخر، فإذا كان شيء واحد جنساً أو فصلاً لماهيّة فلا يمكن أن يكون جنساً وفصلاً لآخر، أو أن يكون جزءاً مرّةً وغير جزء مرّةً اُخرى، أو يختلف باختلاف الأزمنة من حيث دخول جزء وخروجه.
وأمّا المركّبات الاعتباريّة التي تتركّب من أمرين مختلفين أو أكثر، ولا ربط حقيقةً بين أجزائه، فلا؛ لأنّه لا افتقار ولا ارتباط بينها، بل كلّ واحد منها موجود مستقلّ في قبال الآخر، ومباين للآخر في التحصّل والفعليّة، وليست الوحدة العارضة عليها وحدةً حقيقيّةً، بل اعتباريّة، فحينئذٍ: لا مانع في كون الشيء داخلاً في المركّب تارةً وخارجاً عنه تارةً اُخرى.
ثمّ ذكر أنّ مقامنا من قبيل لفظ (الدار) فإنّه موضوع لمعنىً مركّب، وهو ما اشتمل على الحيطان والساحة والغرفة، وهي الأجزاء الرئيسيّة، ولولاها لما صدق عليها عنوان (الدار)، فهذه الأجزاء تدور مدار صدق الاسم عليها، وحينئذ: فإذا أضيف إليها أشياء اُخر فهي داخلة في المسمّى كالسرداب والحوض والبئر، وإلّا فلا.
وبالجملة: فإنّ الواضع للفظ (الدار) قد تصوّر معنىً مركّباً من أجزاء معيّنة ووضع له لفظ (الدار).
وأمّا بالنسبة إلى الأجزاء الاُخرى فهي مأخوذة لا بشرط، بل بالنسبة إلى الموادّ التي تتشكّل منها (الدار) أو الشكّل كذلك أيضاً، ومعنى (اللّا بشرط): أنّ هذه الأشياء إذا وجدت فتكون دخيلةً في المسمّى، وإلّا فلا. وكذا الحال في الكلمة والكلام أيضاً، فإنّهما قد وضعتا للحرفين والكلمتين فصاعداً، فمن جانب القلّة هما محدودتان، وأمّا من جانب الكثرة فغير محدودتين، فيصدقان على أكثر من حرفين وكلمتين أيضاً.
وهناك اُمور اُخرى لوحظ لها كثرة معيّنة في الطرفين: القلّة والكثرة، وذلك كالعدد، فإنّ الخمسة ـ مثلاً ـ محدودة بحدّ خاصّ من قلّةً وكثرةً، بحيث زاد عليها واحد أو نقص واحد لم يصدق عليها هذا العدد لا محالة.
ثمّ قال: «ولمّا كانت الصلاة من الاُمور الاعتباريّة، فإنّك عرفت أنّها مركّبة من مقولات متعدّدة، كمقولة الوضع، ومقولة الكيف، ونحوها، وقد برهن في محلّه: أنّ المقولات أجناس عاليات ومتباينات بالذات، فلا تندرج تحت مقولة واحد، لاستحالة تحقّق الاتّحاد الحقيقيّ بين مقولتين، بل لا يمكن بين أفراد مقولة واحدة، فما ظنّك بالمقولات؟ فلا مانع من الالتزام بكونها موضوعة للأركان فصاعداً. والوجه في ذلك هو: أنّ معنى كلّ مركّب اعتباريّ لا بدّ أن يعرف من قبل مخترعه، سواء كان ذلك المخترع هو الشارع المقدّس أم غيره، وعليه: فقد استفدنا من النصوص الكثيرة أنّ حقيقة الصلاة التي يدور صدق عنوان (الصلاة) مدارها وجوداً وعدماً عبارة عن التكبيرة والركوع والسجود والطهارة من الحدث... وأمّا بقيّة الأجزاء والشرائط فهي عند وجودها داخلة في المسمّى وعند عدمها خارجة عنه وغير مضرّ بصدقه».
ولا يخفى: أنّ الاُستاذ الأعظم قد خرج بذلك عن فرض المحقّق القمّيّ: من أنّ المراد بالأركان هو النيّة والركوع والسجود. كما أنّه زاد الطهارة وهي خارجة عن فرضيّة المحقّق القمّيّ.
ثمّ قال: «إنّ المركّبات الاعتباريّة أمرها سعةً وضيقاً بيد المعتبر، فقد يعتبر التركيب بين أمرين أو اُمور بشرط لا، كما في الأعداد، وقد يعتبر التركيب بين أمرين أو أزيد لا بشرط بالإضافة إلى دخول الزائد، كما هو الحال في كثير من تلك المركّبات، فالصلاة من هذا القبيل، فإنّها موضوعة للأركان فصاعداً».
ثمّ رأى: أنّ الأركان قد يصدق عليها الصلاة الصحيحة، فكيف يمنع عن صدق الصلاة عليها، حتّى على الأعمّ، كما استشكل على المحقّق القمّيّ؟! فلو كبّر المصلّي ونسي جميع الأجزاء والشرائط غير الأركان والوقت والقبلة حتّى فرغ من الصلاة، فإنّه يحكم بصحّة صلاته بلا إشكال.
وفيه: أنّ ما ذكره إنّما هو في صدق الماُمور به، وأنّه لو أتى بهما في هذه الحالة فقد امتثل، أمّا أنّه يصدق عليها عرفاً عنوان (الصلاة) بدون الأجزاء الاُخرى، فلا، حتّى عند الأعمّيّ.
فصدق الماُمور به شيء وصدق المسمّى شيء آخر، والنسبة بينهما عموم من وجه، فقد يصدق المسمّى بدون الماُمور به ـ كالصلاة التامّة من جميع الجهات إلّا الطهارة ـ وقد يكون بالعكس ـ كالمتطهّر الذي نسي من الصلاة كلّ أجزائها من الأركان ـ، ومادّة الاجتماع بينهما هي: الصلاة التامّة الأجزاء والشرائط حتّى في نظر العرف، فإذا فقدت بعض الأركان وكان الباقي من الأجزاء موجوداً، فإنّه يصدق عليها حينئذ عنوان (الصلاة)، وأمّا الأركان خاصّةً، فلا.
والرواية التي ذكرها مشيرة إلى أنّها دخيلة في الماُمور به، كصحيحة زرارة قال: «سألت أبا جعفر عن الرجل ينسى تكبيرة الافتتاح، قال: يعيد»(). وهي تشير إلى أنّها ليست بماُمور بها بدون التكبيرة.
وكذا موثّقة عبيد الله بن زرارة قال: «سألت أبا عبد الله عن رجل أقام الصلاة فنسي أن يكبّر حتّى افتتح الصلاة، قال: يعيد الصلاة»().
ومنها: صحيحة ابن يقطين قال: «سألت أبا الحسن عن الرجل ينسى أن يفتتح الصلاة حتّى يركع، قال: يعيد الصلاة»().
فلو لاحظنا هذه الروايات الثلاث لوجدناها ناظرةً إلى الماُمور به من صحّة الصلاة وبطلانه، دون صدق الاسم وعدمه.
نعم، ما ذكره من رواية أنّ الصلاة ثلاثة أثلاث: ثلث طهور وثلث ركوع وثلث سجود()، فيمكن أن يصرف أيضاً إلى الصلاة الماُمور بها.
وأمّا ما ذكره من مضمرة عليّ بن أسباط فهي تدلّ على أنّ التسليم أيضاً دخيل في المسمّى؛ حيث ورد فيها: «افتتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم»()، وكذا ما ورد في موثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله: «... فإنّ آخر الصلاة التسليم»(). فيجب ـ بناءً عليه ـ أن تكون التسليمة من الأركان، مع أنّه لم يقل به أحد.
وقد أجاب عن هذا الإشكال الاُستاذ الأعظم(): بأنّها ليست بركن؛ لأنّها لم تذكر في حديث (لا تعاد)()، ولذا، لو تركت التسليمة، وكان الترك عن نسيان، لم تجب الإعادة في الوقت والقضاء خارجه.
ومنها:
أن يفرض الموضوع معظم الأجزاء، بلا فرق بين أن تكون هي الأركان أم لا، أم كان مركّباً منها، فالمسمّى هو معظم الأجزاء انضمّت إليه اُمور اُخرى أم لا.
ولا يخفى: أنّ المراد من (المعظم) هو المصداق، لا المفهوم؛ ضرورة أنّ المصداق هو الذي يترتّب عليه الأثر، كأن يكون جنّةً من النار ومعراجاً للمؤمن، وما إلى ذلك...
وهذا القول لا يرد عليه الإشكال السابق من عدم صدق الصلاة عرفاً وصحّة السلب عنه؛ فإنّ المعظم لا ينفكّ عن الصدق العرفيّ.
ولكن يمكن أن يناقش فيه: بأنّه لو استعمل في الكلّ حينئذ لأصبح مجازاً، ولكان من باب استعمال لفظ الموضوع للجزء في الكلّ.
فإن قلت: إذا أخذ اللّفظ الموضوع في المعظم (لا بشرط)، فلا يكون استعماله في الزائد مجازاً.
قلت: إنّ لفظ (الإنسان) موضوع للماهيّة (لا بشرط)، ومع ذلك فإنّه يكون مجازاً إذا استعمل في زيد بخصوصه.
وأيضاً: فإنّ المعظم يختلف بحسب حالات المكلّفين، ففي صلاة المختار هو النيّة وتكبيرة الإحرام والركوع والسجود والقيام والتشهّد، وفي صلاة العاجز عن القيام هي تلك الاُمور مجرّدةً عن القيام.
وبعبارة اُخرى: فقد يكون المعظم ستّة أجزاء مثلاً، وقد يكون أكثر من ذلك أو أقلّ، فالشيء الواحد يدخل في المعظم تارةً ويخرج عنه اُخرى، فمصداق معظم الأجزاء يختلف ويتبدّل بحسب حالات المكلّفين، مع أنّ الذاتيّ لا يختلف ولا يتخلّف.
وأيضاً: فلا يعلم أنّ التشهّد داخل في المعظم أو غير داخل، ممّا يجعل المسمّى يصبح مجهولاً.
ومنها:
أنّ مقامنا كالأعلام الشخصيّة في أنّه لا يضرّ تبادل الحالات في التسمية؛ فإنّ لفظة (زيد) ـ مثلاً ـ قد وضعت لشخص، فلا يضرّ في تسميته بذلك اختلاف حالاته ـ كصغره وكبره وبياضه وسواده وفقره وغناه وصحّته ومرضه وعجميّته وعربيّته ـ وكذلك ألفاظ العبادات بالنسبة إلى مسمّياتها، فالمسمّى بلفظ (الصلاة) كالمسمّى بلفظ (زيد)، فلا يقدح في التسمية اختلاف حالاتها من الاختيار والاضطرار والسفر والحضر والصحّة والمرض.
ولكنّ هذا أيضاً غير تامّ؛ إذ لا يمكن قياسها على الأعلام الشخصيّة؛ لأنّ العلم الشخصيّ موضوع لحصّة خاصّة من الطبيعة المتعيّنه بوجود خاصّ، وهذا الوجود الواحد لا يتعدّد بتعدّد العوارض المختلفة الواردة عليه.
وهذا بخلاف المقام؛ فإنّ الماهيّات المخترعة مختلفة كمّاً وكيفاً، وليس لها وجود واحد محفوظ في ضمن جميع الأفراد الصحيحة وغيرها. فهذا القياس في غير محلّه.
وبعبارة اُخرى: فإنّ الموضوع له في العلم الشخصيّ ـ ﻛ (زيد) ـ هو الحصّة الخاصّة من الطبيعة المتشخّصة بوجودها الخاصّ، فما دام هذا الوجود باقياً فيصدق عليه (زيد) وإن تغيّرت العوارض الطارئة عليه من جهة الكمّ أو الكيف أو الأين، ككونه في مكان كذا، أو غير ذلك.. فكما أنّ هذه العوارض لا تضرّ عند طروّها عليها، ولا تكون سبباً لخروجها عن المسمّى والموضوع له، فهي لا تضرّ كذلك بالتسمية.
وأمّا العبادات: فإنّ ألفاظها موضوعة لنفس المركّبات المؤلّفة من الأشياء المختلفة بحسب الكمّ والكيف، وبحسب حالات المكلّف، فليس هناك من جامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة.
وعلى فرض التنزّل، فلا يكون هناك أثر للأعمّ حتّى نستكشف منه الجامع بين الأفراد الصحيحة والفاسدة.
ومنها:
أنّ الجامع هو ما قد وضعت له الألفاظ ابتداءً، أي: التامّ الواجد للأجزاء والشرائط، ولكنّ العرف، لبنائهم على المسامحة، يستعملون اللّفظ في الفاقد لبعض الأجزاء الناقصة أيضاً، بعد تنزيل الفاقد لبعض الأجزاء منزلة الواجد له، وادّعاء أنّ الموضوع له جامع بين الفاقد والواجد، وليس هذا من باب المجاز في الكلمة لكي يكون استعمالاً مجازيّا للّفظ في غير ما وضع له، أي: استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ، بل هو فرد من الأفراد، غاية الأمر: أنّه ادّعاء.
فاستعماله للفاقد ـ إذاً ـ يكون استعمالاً فيما وضع له، وإنّما يكون التجوّز في الإسناد، فلو فرض أنّ للصّلاة عشرة أجزاء وقد وضع لفظ (الصلاة) لها ـ لأنّها تامّة الأجزاء والشرائط ـ إلّا أنّ استعماله في الناقص بجزء أو جزأين يكون من باب تنزيل الناقص منزلة الكامل. فمقامنا من قبيل المعاجين المركّبة من عشرة أجزاء ـ مثلاً ـ وقد وضعت الأسماء لتلك المعاجين أوّلاً، ثمّ استعملت في الفاقد لبعض الأجزاء المتشابهة شكلاً، ومن جهة اشتراكهما في الأثر المهمّ، تنزيلاً أو حقيقةً.
وفيه:
أوّلاً: أنّ المسامحة العرفيّة إنّما تصحّ في مقام التطبيق، وأمّا في مقام الوضع، بأن يراد إثباته بهذه المسامحة، فغير صحيح. والمراد من التطبيق هو: استنباط المفاهيم من الألفاظ، لا تطبيق المفاهيم على المصاديق.
وتوضيحه: أنّ في البين مراحل ثلاث: الاُولى: وضع اللّفظ للمعنى، والثانية: استنباط المعنى من الألفاظ، كما تقول: «إنّ الصاع 300 غراماً، والثالثة: تطبيق المعنى على المصداق، كما لو قال: «هذه الحنطة صاع» وهي أقلّ من الصاع (غرام).
والمسامحة العرفيّة إنّما تصحّ في المرحلة الثانية دون الاُولى والثالثة، ولذا، لا يجزي إعطاء تلك الحنطة لزكاة الفطرة، وإن كان العرف يحكم بأنّها صاع.
وثانياً: أنّه قياس مع الفارق.
وثالثاً: أنّ الصحيح في أفراد المعاجين موجود، وهو التامّ المشتمل على جميع ما له دخل فيه من الأجزاء والشرائط، ثمّ أطلق على الفاقد لبعض الأجزاء تنزيلاً لها منزلة الواجد، للاشتراك في الأثر أو المشابهة في الصورة، وهذا بخلاف لفظة (الصلاة) ـ مثلاً ـ فإنّه ليس لصحيحها أجزاء معيّنة مضبوطة، وإنّما هي مختلفة بحسب حالات المكلّف، من السفر والحضر والقدرة والعجز، فالركعات الأربع تكون صحيحةً في حقّ الحاضر دون المسافر، وصلاة الجالس صحيحة في حقّ العاجز دون القادر، وهكذا.. فليس في العبادات ما يكون صحيحاً مطلقاً وفي جميع حالات المكلّف، إلّا في صلاة الصبح والمغرب، فإنّها صحيحة ركعتين لكلّ من المسافر والحاضر، لتكون هي الموضوع له، وتستعمل في الفاقد ـ ثانياً ـ بعد تنزيله منزلة الواجد، ويكون الاستعمال من باب الاستعمال الحقيقيّ، دون المجازيّ، وهذه كالمعاجين.
ومنها:
أنّ الجامع أمر عرضيّ، والمراد من المسمّى في الصلاة هي: الصورة العرضيّة، من جهة الإتيان بها بالترتيب، كالهيئة الطارئة للقطار بسبب اتّصال أجزائه وتبعيّة بعضها للبعض، وهذه الصورة الاتّصاليّة العرفيّة محفوظة بين جميع أفراد الصلاة التي هي أعمّ من الصحيح والفاسد، فمثلاً: إذا استدبر آناً ما في الصلاة، فإنّ الصورة العرفيّة باقية، وإن كانت صورتها الشرعيّة قد انقطعت.
وعليه: فيمكن تصوير جامع صوريّ بين الصلوات المختلفة باختلاف حالات المكلّفين. وهذه الصورة هي ـ كما ذكرنا ـ ناشئة عن توالي الأجزاء، وليست بالصورة الحقيقيّة المستفادة من أدلّة القواطع، كما استكشفها الشيخ؛ لأنّها مبنيّة على التركيب الحقيقيّ، وهذا لا يمكن في الماهيّات المختلفة.
إلّا أن يقال: بأنّ مراد الشيخ هو أنّ الوحدة الاعتباريّة كافية لتحقّق وحدةً اعتباريّة. نعم، بما أنّ الصورة عرضيّة فهي تستفاد من الأمر بها.
وفيه:
أنّ الأثر مترتّب على نفس الأجزاء، لا على الصورة؛ لأنّ الصلاة التي هي «قربان كلّ تقيّ»، هي ـ في الحقيقة ـ نفس أجزائها إذا جيء بها تامّةً، لا صورتها.
ثمّ إنّ الصورة ـ أيضاً ـ تختلف باختلاف الصلوات من حيث الزيادة والنقيصة، فإنّ الصلاة التامّة للحاضر، والتي هي (بشرط شيء)، صورتها مغايرة لصورة الصلاة التامّة للمسافر، والتي هي (بشرط لا)، وكذا الصلاة التي تتركّب من عشرة أجزاء غير صورة الصلاة المركّبة من خمسة أجزاء.
فإذاً: لا جامع صوريّ بين الفاقد والواجد، إلّا إذا فرضنا أنّ الصورة هي مجرّد حالة التتابع والقطاريّة، فإنّها موجودة في القطار الطويل والقصير على حدّ سواء؛ لأنّ التبعيّة موجودة، ولو بين جزأين فقط. نعم، لا وجود لها في الجزء الواحد كما سنشير.
مضافاً: إلى أنّ هذه الصورة ليست موجودةً في جميع أفراد الصلاة، فإنّ صلاة المستلقي والغريق ـ مثلاً ـ لا صورة فيهما؛ لعدم وجود الموادّ الصلاتيّة فيهما حتّى تترتّب عليها الصورة.
إلاّ أن يقال: إنّ الصورة أعمّ من صورة الأجزاء الصلاتيّة وأبدالها، وعلى هذا التقدير: فليس المطلوب أيّة صورة كانت، بل خصوص تتابع الأجزاء، وهذا متوقّف على تعدّد الأجزاء، فالصلاة التي ليس لها أجزاء باستثناء جزء واحد ـ كالتسبيحة في الصلاة الغرقى ـ لا يتحقّق فيها هذا التتابع، فلا تتحقّق فيها هذه الصورة.
مضافاً: إلى أنّ هذا القول ليس إلّا مجرّد تصوّر، ولم يدلّ دليل على أنّ الواضع قد تصوّر صورةً أوّلاً، ثمّ وضع لها اللّفظ، بل ظاهر الأدلّة كون الصلاة موضوعةً لنفس الأجزاء.
ومنها:
أنّ الجامع هو ما يحصل من اندكاك الأجزاء بعضها في بعض ويتحصّل من هذا الاندكاك صورة وخاصّيّة مغايرة لخاصّيّة كلّ واحد من الأجزاء، كما في تركيب المعاجين، فإنّ الأجزاء فيها تندكّ بعضها في بعض بشكل يسلب عن الأجزاء خصوصيّتها وأثرها الخاصّ الذي كان لها قبل التركيب ـ فمثلاً: الجوز لوحده داء، والجبن لوحده داء أيضاً، ولكنّهما إذا اجتمعا صارا دواء ـ ويحصل للمجموع خاصّيّة مغايرة لخاصّيّة كلّ واحد من الأجزاء؛ والصلاة أيضاً كذلك، فباندكاك الركوع والسجود والقراءة وسائر الأذكار بعضها في بعض يتحقّق شيء مغاير لكلّ واحد من الأجزاء، فالماهيّة المتحصّلة من تلك الاُمور هي الصلاة. ومن المعلوم: أنّ تلك الماهيّة موجودة في كلتا الحالتين حال الوجدان والفقدان.
وفيه:
أوّلاً: أنّ أجزاء المركّبات الخارجيّة لها خاصّيّة مع قطع النظر عن المركّب، ولكنّ أجزاء الصلاة ليست كذلك، فالقراءة مع قطع النظر عن وجودها في المركّب ليست واجبة. اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ المدّعي لم يدّع أنّ الخاصّيّة قبل التركيب لا بدّ أن تكون هي الوجوب، وإنّما ادّعى أنّ الخاصّيّة السابقة ـ أيّة خاصّيّة كانت ـ قد استبدلت بخاصّيّة اُخرى، فيمكن أن يدّعى: انّها ذات خاصّيّة موجبة لاستحبابها قبل التركيب، ثمّ تبدّلت بعد التركيب بخاصّيّة اُخرى يجب استيفاؤها، كالمعاجين، التي كانت لأجزائها خاصّيّة مع قطع النظر عن المركّب.
وثانياً: أنّ الأمر هنا متعلّق بالأجزاء، لا بالماهيّة ككلّ، ولو أنّ الأمر ورد بالجميع، ولكنّ كلّ واحد من الأجزاء ماُمور به بأمر استقلاليّ ضمنيّ.
وثالثاً: أنّ حصول المزج والاندكاك في المركّبات الخارجيّة صحيح، دون الاعتباريّة؛ لأنّ الصورة النوعيّة للرّكوع والسجود باقية، ولذا تجري فيها قاعدة التجاوز، ولو أنّها كانت من المركّبات الحقيقيّة فما هو معنى القول: بجريان هذه القاعدة فيها؟! إذ بعد فرض الاندكاك بين الأجزاء فلا يوجد شيء يشكّ فيه حتّى تجري القاعدة المزبورة.
ومنها:
أنّ الجامع هو الذي يسمّيه العرف، فلفظ (الصلاة) ـ مثلاً ـ موضوع للمعنى الذي تدور مداره التسمية عرفاً.
وفيه:
أنّه يرجع إلى معظم الأجزاء، فقد ذكرنا: أنّ معظم الأجزاء لا ينفكّ عن الصدق العرفي. وحينئذ: فيرد على هذا القول نفس ما ورد من الإشكالات هناك.
وممّا ذكرنا ظهر: أنّـه لا يمـكن تصـوير جامـع بين الصحيح ولا الأعمّ.

ثمرة هذا البحث
هل هناك ثمرة لهذه المسألة أم لا؟
قد يقال: بناءً على الأعمّ: يمكن التمسّك بالبراءة في مورد الشكّ في الأجزاء والشرائط، وأمّا بناءً على الصحيح: فلا، بل لا بدّ من جريان قاعدة الاشتغال؛ لأنّه بناءً على الأعمّ: فإذا شككنا في جزئيّة شيء أو شرطيّتة نتمسّك بالإطلاق، وحيث إنّ الطبيعة متساوية الأقدام بالنسبة إلى جميع الخصوصيّات والحالات الواردة، فإذا أجرينا الإطلاق فمعناه: انحفاظ نفس المتعلّق وإحراز وجوده، وإنّما يكون الشكّ في الخارج عن المتعلّق.
وأمّا بناء على الصحيح: فإنّ الشكّ في الجزئيّة معناه الشكّ في شيء يحتمل أن يكون دخيلاً في قوام الذات، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق؛ لأنّ شرط الإطلاق هو انحفاظ الذات.
أو فقل: إذا بنينا على الصحيح: فبما أنّ المتعلّق هو العنوان البسيط فالشكّ في جزئيّة شيء يرجع إلى الشكّ في المحصّل؛ لأنّه المقصود، كما يقوله الشيخ: «تحصيل عنوان يشكّ في حصوله إذا اُوتي بذلك المركّب بدون ذلك الجزء المشكوك، كما إذا أمر بمعجون وعلم أنّ المقصود منه إسهال الصفراء بحيث كان هو الماُمور به في الحقيقة، أو علم أنّه الغرض من الماُمور به، فإنّ تحصيل العلم بإتيان الماُمور به لازم»(). فيصبح الشكّ فيه من قبيل الشكّ في المحصّل، فلابدّ من الاحتياط.
وأمّا بناءً على الأعمّ: فقد قلنا: إنّ الشكّ في شيء معناه الشكّ في شيء خارج عن الذات مع انحفاظ الذات، ولكن مع ذلك، إنّما يجري الإطلاق بناءً على الأعمّ ـ كما ذكرنا ـ فيما إذا كانت الذات محفوظةً وكان الشكّ فيما هو محتمل الدخول في الماُمور به، لا المسمّى، زائداً على الشروط المعتبرة للتمسّك بالإطلاق، المصطلح عليها ﺑ (مقدّمات الحكمة).
نعم، بدون اجتماع الشرائط نرجع إلى ما هو المرجع من أنّ العلم الإجماليّ هل ينحلّ في مقام الدوران بين الأقلّ والأكثر ويرجع في الأكثر إلى البراءة أم لا؟ فإن قلنا: بالانحلال هناك فنلتزم به هنا أيضاً.
ومن هنا ظهر: أنّ ما أفاده الاُستاذ الأعظم() من أنّ الرجوع إلى البراءة مبنيّ على القول بالانحلال رأساً، لا يمكن المساعدة عليه، وذلك لما ذكرناه من أنّه مع عدم اجتماع الشرائط إنّما يرجع إلى البراءة على القول بالانحلال في الأقلّ والأكثر، لا مطلقاً. هذا.
وقد يقال هنا: كما أنّه لا يمكن التمسّك بالإطلاق بناءً على الصحيح، فكذلك لا يمكن التمسّك به بناءً على الأعمّ أيضاً؛ لأنّ التمسّك بالإطلاق إنّما يصحّ لو كان المتكلّم في مقام البيان.
ولكن فيه:
أوّلاً: أنّ من شرائط التمسّك بالإطلاق كون المتكلّم في مقام البيان، لا في مقام الإجمال أو أصل التشريع مع عدم وجود قرينة وما يصلح للقرينيّة، بحيث يكون سبباً للانصراف ومانعاً عن الظهور، وإلّا، فإنّ الحكم لا يكون متعلّقاً بالحصّة الخاصّة، بل يكون وارداً على مطلق الطبيعة.
وثانياً: أنّه ليس جميع الإطلاقات كذلك. نعم، يمكن الإجمال فيها وعدم فهم شيء منها قبل صدور البيان، وأمّا بعد صدور بيان من قبله بالنسبة إلى عدّة من الأجزاء والشرائط والموانع، بحيث يقال عليه لفظة (الصلاة)، فإنّه يمكن التمسّك بالإطلاق بالنسبة إلى الأعمّ.
فإذا عرفت هذا، فقد يقال:
بناءً على الأعمّ فيمكن الرجوع إلى البراءة؛ لأنّه حينما نرى أنّ الأمر ورد على الطبيعة، ولم يكن هناك قرينة تدلّ على التقييد وكان المولى في مقام البيان، فيمكن التمسّك بالإطلاق ـ حينئذ ـ. وأمّا بناءً على الصحيح: فحيث إنّ الأمر قد ورد على الحصّة الخاصّة، وهي خصوص الصحيح منها، فعند الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّتة لا بدّ من إتيانها لكي نحرز موضوع الخطاب، وهو الصحيح.
ولكن:
أوّلاً: أنّ الحقّ هنا إمكان التمسّك بالبراءة، وعدم إمكان التمسّك إنّما يفرض إذا كان الماُمور به من المسبّبات التوليديّة لفعل المكلّف به، ويكون فعل المكلّف سبباً له، بحيث يكون الماُمور به عنواناً بسيطاً، والأجزاء والشرائط التي يأتي بها المكلّف تكون خارجةً عنها، وأنّ العنوان يكون هو المسبّب، وتكون الأجزاء هي السبب، وكلاهما موجود بوجود مستقلّ، كالقتل المسبّب عن المقدّمات الخارجيّة. وأمّا إذا كان المسبّب في الخارج هو عين وجود أفراده وليس شيئاً مستقلّاً بحذاء تلك الأجزاء والشرائط ـ خصوصاً بعد ما قلناه من أنّ الماُمور به هو نفس الأجزاء ـ فحينئذ: تجري البراءة بناءً على الانحلال، وبناءً على الصحيح أيضاً.
ومن هنا ظهر الحال فيما ذكره المحقّق النائيني(): من أنّه بناء على الصحيح لا مناص من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال، كما أنّه بناءً على الأعمّي لا مناص من الرجوع إلى البراءة.
بتقريب: أنّ تصوير الجامع للصحيح لا يمكن إلّا بتقييد المسمّى بالعنوان البسيط الخاصّ، إمّا من ناحية علل الأحكام أو من ناحية معلولاتها، وأنّ هذا العنوان خارج عن المأتيّ به ومأخوذ في الماُمور به، وعليه: فالشكّ في اعتبار شيء جزءاً أو شرطاً يوجب ـ لا محالة ـ الشكّ في حصول العنوان المزبور، فيرجع إلى الشكّ في المحصّل، والمرجع فيه ـ حينئذ ـ قاعدة الاشتغال.
وثانياً: أنّه لو سلّمنا كون الشكّ في الصحيح شكّاً في المحصّل، فإنّ من المسلّم من عدم جريان البراءة إنّما هو المحصّل العقلي؛ لفقد شرطها فيه، وهو كون المجعول فيه من الاُمور الشرعيّة، وأمّا المحصّل الشرعي فتجري فيه البراءة لوجود شرطه.
قد يقال: تظهر الثمرة في النذر، كما إذا نذر شخص إعطاء درهم لمن يصلّي، فأعطاه درهماً، فعلى القول بالأعمّ، تبرأ ذمّته وإن علم بفساد صلاته، وأمّا على القول بالصحيح، فلا، إلّا مع إحراز صحّة صلاته.
ولكن قد يرد على هذا: أنّ هذا يخرج البحث عن مسألة الصحيح والأعمّ؛ لأنّها ليست مسألةً اُصوليّة، والمسألة الاُصوليّة هي التي تقع نتيجتها كبرىً لقياس يستنتج منه الحكم الكلّيّ الإلهيّ، وهذه المسألة، بعد ضمّها إلى صغراها، لا يستنتج منها إلّا برء النذر وعدمه، وهو حكم جزئيّ، وليس بحكم كلّي.
هذا. مضافاً إلى أنّ البراءة تابعة لكيفيّة نذر الناذر، فإذا كان مقصوده من نذره إعطاء من يصلّي مطلقاً، تبرأ ذمّته، ولو كانت الصلاة باطلة، لو فرض لفظ (الصلاة) للصّحيح، ولكن بشرط أن يكون متعلّق النذر راجحاً وبقيّة شروطه موجودةً، وإن نذر الإعطاء لمن يصلّي الصلاة الصحيحة، ولو فرض وضع الصلاة للأعمّ، فلا تحصل البراءة.
قال الشيخ: «فالذي ينبغي أن يقال في ثمرة الخلاف بين الصحيحي والأعمّي هو لزوم الإجمال على القول بالصحيح، وحكم المجمل مبنيّ على الخلاف في وجوب الاحتياط أو جريان أصالة البراءة وإمكان البيان والحكم بعدم الجزئيّة ـ لأصالة عدم التقييد ـ على القول بالأعمّ»().
وقد ذكروا من جملة الثمرات التي تترتّب على القولين:
أنّ الحكم الوارد على عنوان الصلاة يختلف باختلاف القولين؛ لأنّه قد ورد النهي عن صلاة الرجل الواقف بحذاء المرأة المصلّية قبل الرجل، فبناءً على القول بالصحيح: لو كانت صلاة المرأة فاسدةً فلا نهي عن صلاة الرجل ولا تكون صلاته باطلة؛ لعدم صدق الصلاة على عمل المرأة، وأمّا على القول بالأعمّ: فصلاته منهيّ عنها، وتكون باطلة.
وفيه: أنّ هذه ليست من المسائل الاُصوليّة؛ لأنّها من المسائل الجزئيّة، وأيضاً: فالصحّة تارةً تصدق على ما عليه العرف ـ أي: الصحّة المأخوذة في المسمّى ـ وتارةً يكون المراد منها الصحّة في الماُمور به، أي: التي تكون جامعةً للأجزاء والشرائط.
فالصحّة بالمعنى الثاني غير الصحّة التي يتنازع فيها من جهة دخلها في المسمّى، فيمكن أن لا يصدق عليها الصحيح هناك من جهة عدم الصدق العرفيّ، وإن صدق عليه عنوان الصحّة بمعنى: تامّ الأجزاء والشرائط. وعليه: فهو وإن لم يصدق عليه الصلاة عرفاً، ولكن بما أنّها جامعة للأجزاء والشرائط، فإذا صلّى الرجل بعدها تقع صلاته باطلة، فهذه الثمرة إذاً ليست بثمرة.

الكلام في المعاملات
وأمّا المعاملات: فهل هي أسامٍ لخصوص الصحيح منها أو الأعمّ؟
لا بدّ قبل الدخول في البحث من بيان اُمور:
الأمر الأوّل:
قد يقال: إنّ الصحّة التي هي محلّ البحث ليست بمعنىً واحد في نظر الشارع والعرف، إذ قد يكون البيع الصحيح عند العرف غير صحيح عند الشارع، كبيع الصبيّ، الذي هو صحيح عند العرف دون الشرع، فيتخيّل من هذا: أنّ الصحيح في نظر الشارع هو غير الصحيح في نظر العرف.
وقد اُورد عليه: بأنّ الصحيح في نظر كليهما بمعنىً واحد، والاختلاف بينهما ليس في المعنى، بل الاختلاف في تحقّق الصحيح ومصداقه، فالشارع يخطّىء العرف، حيث لا يرى البلوغ دخيلاً في الصحّة، ويلتزم الشارع بدخله فيها، والعقد المؤثّر لا بدّ أن يكون صادراً عن البالغ.
ولكنّ الحقّ: أنّ الاختلاف بينهما في نفس المعنى، لا في المصداق، فإنّ العرف حينما يلتزم بصحّة بيع الصبي، فإنّه يرى عدم دخل البلوغ في مفهوم البيع، وعلى العكس، فالشارع يرى دخله فيه، وبعد مراجعة اللّغة المفسّرة للبيع بمبادلة مال بمال، وأمثاله، يظهر: أنّ مفهوم البيع هو المبادلة الخاصّة فقط، وأمّا البلوغ وغيره فليس داخلاً في المفهوم، وإنّما يحقّق المصداق الخارجيّ، أي: فهو معتبر في تحقّقه، فكلاهما يتّفقان على أنّ البيع هي المبادلة من المالكين، ولكنّ الشارع يقول: هذا العمل ليس مبادلة واقعيّة لقيام الصبي به، وأمّا العرف فيقول: هي مبادلة واقعيّة.
فيكون بين البيع العرفيّ وبين البيع الشرعيّ عموم مطلق؛ لأنّه بناء على الصحيح فكلّ ما يكون صحيحاً بنظر الشرع يكون صحيحاً في نظر العرف، لا العكس.
والأمر الثاني:
قد يقال: هذا البحث إنّما يجري بناءً على كون هذه الألفاظ موضوعةً للأسباب، وأمّا لو فرضنا أنّها قد وضعت للمسبّبات، فلا.
قال الاُستاذ المحقّق:
«أمّا لو قلنا: بوضعها للمسبّبات ـ كما هو كذلك ـ فلم يبق مجال للنزاع أصلاً، وذلك من جهة ما بيّنا: أنّ الصحّة والفساد متقابلان تقابل العدم والملكة، والفساد عبارة عن عدم التماميّة في موضوع قابل للتماميّة، والمسبّبات عناوين واعتبارات بسيطة أمرها دائر بين الوجود والعدم، لا أنّه هناك شيء موجود تارةً يكون غير تامّ، فيقال: بأنّه بيع فاسد أو صلح فاسد ـ مثلاً ـ واُخرى تامّ، فيقال: إنّه صحيح.
وبعبارة اُخرى: المتّصف بالصحّة والفساد لا بدّ أن يكون مركّباً حتّى يقال ـ عند وجود جميع أجزائه وشرائطه وفقد جميع موانعه بحيث يكون مؤثّراً في وجود أثره ـ: إنّه صحيح وتامّ، وعند فقد جزء أو شرط أو وجود مانع: إنّه فاسد غير تامّ. وأمّا الشيء البسيط الذي لا جزء له ولا شرط ولا مانع له، بل إنّما تكون هذه الاشياء من أسبابه، وليس هو إلّا أثراً لما هو السبب التامّ ، فإذا تحقّق السبب التامّ يوجد بلا تصوير نقص وعدم التماميّة فيه، وإذا لم يتحقّق، لا يوجد شيء أصلاً، لا أنّه يوجد ناقصاً وغير تامّ»().
ولكنّ هذا الذي ذكره إنّما يتمّ فيما لو أخذ الموضوع شرعاً، وأمّا الموضوع العرفيّ فإنّه يمكن أن يقال: بأنّ العرف قد يساعد على تحقّقه ولو مع عدم ترتيب الآثار عليها في نظر الشرع.
والحقّ: أنّه ما دام قد فرض بساطته فلا فرق بين الشرعيّ والعرفيّ، ولكنّ الصحّة، ولو كانت بمعنى التماميّة، فالتماميّة تكون نسبيّة، أي أنّها من بعض الجهات تامّة ومن بعضها ناقصة، كالخلّ ـ مثلاً ـ إذا فرضت صحّته من ناحية الطعم وفساده من ناحية الرائحة، فنقول: هذا المسبّب وهذا الانتقال صحيح بالنسبة إلى اللّيل دون النهار. وبعبارة اُخرى: فإنّ الانتقال إذا تصوّرناه بالنسبة إلى الأزمنة والأمكنة يصبح كالمركّب في أنّه يوجد الانتقال نهاراً وإن لم يوجد ليلاً.
والأمر الثالث:
أنّ كلّ فعل ـ بالنسبة إلى النتيجة الحاصلة منه ـ ينقسم إلى قسمين:
الأوّل: أن يكون من قبيل المعدّ.
والثاني: أن يكون فعلاً مباشراً للفاعل.
أمّا الأوّل: كما إذا أمر شخصاً بأن يقتل آخر، فإنّ الأمر يكون معدّاً بالنسبة إلى فعل زيد، فالقاتل في الحقيقة هو المباشر لا الآمر.
وأمّا الثاني: وهو المباشر، فهو:
تارةً يكون بلا واسطة شيء بين الفعل والنتيجة ولا بتوسّط إرادة فاعل مختار بينهما، بل تترتّب النتيجة عليه مباشرةً، مثلاً: لو ألقي شخص في النار، فإنّ الإلقاء مقتض للإلحراق، إلّا لمانع كالرطوبة أو كالأمر الذي في قوله تعالى: ﴿قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم﴾() ـ إلّا أن يقال: إنّ ظاهر الآية المباركة انّ الأمر أثّر في رفع المقتضي لا إيجاد المانع ـ ويسمّى هذا القسم ﺑ (المسبّب التوليديّ).
واُخرى: يكون فعلاً مباشراً للفاعل صادراً بآلة، والآلة تارةً من أعضاء البدن كالضرب باليد، واُخرى من الاُمور الخارجيّة كالضرب بالعصا . مثلاً: لو كتب بالقلم، فإنّ الكتابة في الحقيقة صادرة منه لا من القلم.
والفرق بين المسبّبات التوليديّة والمباشريّة: أنّ الأوّل ناتج من أفعال الواسطة التي تفعل الشيء بلا اختيار وشعور وإرادة، فإنّ الإلقاء في النار مقتض للإحراق، وهذا بخلاف الفعل المباشريّ، فإنّ وضع القلم على القرطاس غير مقتضٍ للكتابة، وإنّما تنسب الكتابة في الحقيقة إلى الشخص لا إلى القلم.
فإذا عرفت هذا، فنسأل: هل النقل والانتقال من الأسباب التوليديّة أم من الاُمور المباشريّة؟
فنقول: ليس باب العقود من قبيل الأسباب والمسبّبات التوليديّة، بل هو من قبيل الفعل المباشريّ والإيجاد بالآلة. فإنّ المسبّب في باب الأسباب والمسبّبات لم يكن بنفسه فعلاً اختياريّاً للفاعل، بل يصدر منه بدون اختيار، كالإحراق للنّار، فلا يمكن أن تتعلّق الإرادة به بنفسه.
نعم، الفعل الاختياريّ وما تتعلّق به الإرادة هو السبب، وأمّا الفعل المباشريّ ـ كالإيجاد بالآلة، مثل الكتابة ـ فهو بنفسه فعل اختياريّ للفاعل ومتعلّق للإرادة ويصدر عنه أوّلاً وبالذات؛ فإنّ الكتابة ليست مجرّد وضع القلم على القرطاس، بل وضع القلم مع إرادة خاصّة، فهو بنفسه فعل اختياريّ صادر عن المكلّف مع الإرادة والقصد، وأمّا الإحراق فإنّ الذي هو فعل اختياريّ للمكلّف هو محض الإلقاء في النار، لا الإحراق بنفسه.
وقد اتّضح: أنّ البيع من الأفعال المباشريّة، وهو إمضائيّ، وليس تأسيسيّاً، بمعنى: أنّ الشارع المقدس قد أمضى البيع العرفيّ العقلائيّ، وأنّه اسم للمسبّبات، وبما أنّ المسبّب أمر بسيط، والانتقال عبارة عن إضافة الملكيّة بلفظ أو فعل، فهذه الإضافة: إمّا أن توجد بهذا اللّفظ كما أمضى الشارع له، أو لا توجد، كبيع الصبيّ الذي لم يمضه الشارع.
وليست هذه العقود من الاُمور المخترعة الشرعيّة حتّى يبحث عن أنّها قد وضعت للصّحيح أو للأعمّ.
وكذا بناءً على التأثير والتأثّر، حيث قلنا: بأنّ بالمسبّبات اُمور بسيطة ـ وهي الأثر البسيط الذي يترتّب على الأسباب ـ فلا تتّصف أيضاً بالصحّة والفساد، وإنّما تتصف بالوجود والعدم؛ لأنّ ملاك الصحّة هو ترتّب الأثر على الصحيح، والمسبّبات في المعاملات هي آثار صحيحة، فإذا وضع الاسم لنفس الأثر، فلا معنى لأن ينازع في أنّ المسمّى بذلك الاسم هل هو الصحيح أو الأعمّ من الصحيح والفاسد.
ولكن لا يخفى أنّه:
أوّلاً: أنّه لو فرض بأنّ البيع هو المسبّب فتارةً يتصوّر على أنّه أمر حقيقيّ واقعيّ يتحقّق في الواقع عند تحقّق بعض أسبابه، فحينئذ: يكون النهي عنه من الشارع تخطئةً للعرف الذي يرى وقوعه بالسبب الذي أوجده وتخيّل أنّه يتوصّل به إليه، فبهذا المعنى لا مجال للنّزاع؛ لأنّه إمّا أن يوجد بهذا السبب أو لا يوجد، والصحيح عند الشارع والعرف بمعنىً واحد، وإنّما تخيّل العرف أنّه إذا أوجد البيع بهذه الأسباب فإنّه يتحقّق ويكون الانتقال صحيحاً، وقد خطّأه الشارع في ذلك، فنهي الشارع حينئذ يكون تخطئةً للعرف الذي يرى وقوعه بالسبب الذي تخيّله.
وثانياً: أنّ البيع، وإن كان أمراً واقعيّاً، إلّا أنّه يتحقّق بأمرين، وبنحوين من الأسباب، كإلقاء المال إلى المشتري أو إجراء الصيغة، إلّا أنّ الشارع قد اشترط في تحقّق أحكام البيع وصحّة تصرّف المشتري ووجوب تسليم البائع له، أن يكون البيع متحقّقاً بسبب مخصوص، وإن اشترك السببان أو الأسباب في إيجاده وتحقّقه، والشارع يرى أنّ ترتّب آثار الملكيّة وأحكامها إنّما يتحقّق عند إجراء بعض هذه الأسباب ـ كالبيع بالصيغة ـ دون البعض الآخر، كإلقاء المال إلى المشتري ـ مثلاً ـ.
وثالثاً: أنّ البيع، بما أنّه أمر اعتباريّ، فمفهومه، وإن كان بنظر العرف والشارع واحداً، إلّا أنّ مصاديقه تختلف باختلاف الاعتبار؛ وذلك لأنّ الشارع يعتبر من مصاديقه المحقّقة عند العرف مصداقاً خاصّاً، وهو: البيع الصادر من البالغ ـ مثلاً ـ باعتبار أنّ البلوغ يكون دخيلاً في تحقّق ما لا يعتبره العرف كذلك، ولذلك يرى العرف أنّ بيع الصبيّ صحيح.
وقد ظهر على ضوء ما مرّ: أنّ البحث يجري في القسمين الأخيرين حتّى لو قلنا: بأنّ البيع قد وضع للمسبّب، فيمكن حينئذ أن يقال: بأنّ لفظ البيع هل وضع للصّحيح أو للأعمّ منه ومن الفاسد؟ وأنّ ما ذكره المحقّق المذكور من عدم تأتّي البحث بناءً على أن يكون البيع اسماً للمسبّب مطلقاً، في غير محلّه.
نعم، لو قلنا: بأنّ البيع بمعنى التأثير والتأثّر، وأنّ ألفاظ المعاملات موضوعة للمسبّبات ـ وهي الآثار المترتّبة على الأسباب كالنقل والانتقال ـ فلا يتصوّر جريان النزاع فيه؛ لما ذكرنا من أنّها اُمور بسيطة، فلا تتّصف بالصحّة والفساد، بل بالوجود والعدم. إلّا أن نقول بإمكانه بالنسبة إلى الأمكنة أو الأزمنة، كما مرّ.