الواجب المطلق والمشروط

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

الواجب المطلق والمشروط

ولابدّ قبل الدخول في محلّ البحث من بيان اُمور:

 

الأمرالأوّل:

في معنى الإطلاق: فالواجب المطلق هو الطلب غير المقيّد بأمر وجوديٍّ أو عدميٍّ، والمقيّد على العكس من ذلك.

 

الأمرالثاني:

الإطلاق والتقييد من الاُمور الإضافيّة، فكلّ قيدٍ قيس إليه الواجب، فإمّا أن يكون وجوبه بالنسبة إليه مشروطاً أو مقيّداً أو مطلقاً.

ولذا يصحّ أن يقال: بأنّ الواجب قد يكون بالنسبة إلى قيدٍ من القيود مشروطاً، وبالنسبة إلى آخر مطلقاً، كما أنّ الواجب ـ مطلقاً ـ يكون مقيّداً بالاُمور العامّة كالبلوغ والعقل والقدرة والاختيار، فالواجبات جميعاً مقيّدة بها، وكالالتفات الذي يكون قيداً للتنجيز والفعليّة، وأمّا العلم بالتكليف، فهو ليس من الشروط العامّة؛ لأنّ التكاليف مشتركة بين الجاهل والعالم.

نعم، العلم شرط ودخيل في استحقاق العقاب.

ومن هنا يظهر: أنّه ليس هناك وجوب مطلق بحيث لم يقيّد بشيءٍ أصلاً، حتّى بالنسبة إلى القيود العامّة، وليس هناك شيء مشروط بكلّ شيءٍ، بل كلّ واجبٍ ـ على الإطلاق ـ فإنّه يكون مشروطاً، ولكن بالإضافة.

قال صاحب الكفاية!:

«الظاهر: أنّ وصفي الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيّان، لا حقيقيّان، وإلّا، لم يكد يوجد واجب مطلق، ضرورة اشتراط وجوب  كلّ واجبٍ ببعض الاُمور، لا أقلّ من الشرائط العامّة، كالبلوغ والعقل. فالحريّ أن يقال: إنّ الواجب مع كلّ شيءٍ يلاحظ معه، إن كان وجوبه غير مشروطٍ به فهو مطلق بالإضافة إليه، وإلّا، فمشروط كذلك، وإن كانا بالقياس إلى شيءٍ آخر، كانا بالعكس»([1]).

ومحصّل كلامه): أنّ الواجب قد يكون مطلقاً بالإضافة إلى شيءٍ ومشروطاً بالإضافة إلى آخر، وأمّا الإطلاق من جميع الجهات، وبقولٍ مطلق، فهو غير متحقّقٍ في أيّ واجبٍ من الواجبات؛ إذ كلّ واجبٍ لابدّ أن يكون وجوبه مشروطاً بشرط، ولا أقلّ من اشتراطه بالشرائط العامّة من البلوغ والعقل، فعلى هذا يقال: إنّ كلّ واجبٍ لوحظ بالإضافة إلى أمرٍ ما،  فإمّا أن يكون وجوبه متقيّداً بهذا الأمر أو لا. والأوّل: هو الواجب المشروط، والثاني: هو الواجب المطلق.

ثمّ إنّ المراد من المطلق والمشروط في محلّ البحث هو: لحاظ الواجب بالنسبة إلى ما عدا شروط العامّة، فيقال ـ مثلاً ـ: إنّ وجوب الحجّ مشروط بالنسبة إلى الاستطاعة، ولكنّه بالنسبة إلى قرب الشخص من مكّة وبعده عنها فلا يكون مقيّداً.

 

الأمرالثالث:

هل هذه القيود راجعة إلى المادّة، بمعنى: أن يكون الواجب هو المشروط، أو أنّها راجعة إلى الهيئة، بمعنى: أنّ الوجوب هو الذي يكون مشروطاً؟!

المنسوب إلى الشيخ الأنصاريّ<([2]) هو القول بإرجاع القيد إلى المادّة. وملخّص كلامه): أنّ عدم إمكان إرجاعه إلى الهيئة ناشئ من أنّ مداليل الهيئات من المعاني الحرفيّة، والوضع في المعنى الحرفيّ عامّ والموضوع له فيها خاصّ، والهيئة قد وضعت لخصوصيّات أفراد الطلب، فيكون الموضوع له والمستعمل فيه كلاهما خاصّين.

وعليه: فالهيئة غير قابلةٍ للتقييد، بل إنّ المعاني الحرفيّة ليست قابلةً للّحاظ على نحو الاستقلال، وإنّما هي مغفول عنها وغير ملتفتٍ إليها، ولذا، فهي لا تقع مسنداً ولا مسنداً إليها، فلا يمكن تقييدها؛ لأنّ التقييد يحتاج إلى اللّحاظ، كالمسند والمسند إليه.

ولكن يرد عليه:

أوّلاً: أنّا نرى ـ بحسب المتفاهم العرفيّ ـ أنّ القيد راجع إلى الهيئة دون المادّة، وفائدة هذا القيد تقييد المعنى، فحينما نقول ـ مثلاً ـ: (إن جاءك زيد فأكرمه)، فيظهر من هذه الجملة: أنّ الإكرام ليس بواجبٍ مطلقاً، بل فقط إذا جاء زيد.

وثانياً: أنّ الوجدان شاهد على أنّ الإرادة والوجوب ليستا مشروطتين في شيءٍ من الموارد، بل المشروط هو المقيّد.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ القيود والشروط:

تارةً تكون غير اختياريّةٍ وغير واجبة التحصيل، كالشروط العامّة.

وأُخرى: تكون اختياريّةً، ولكن لا يجب تحصيلها كالاستطاعة وبلوغ النصاب.

وثالثةً: تكون اختياريّةً ويجب تحصيلها كبقيّة الشروط.

فإذا عرفت هذا، فإنّ العاقل إذا تصوّر شيئاً، فهو تارةً لا يرى فيه مصلحةً، بل يرى المفسدة في إيجاده، وفي هذه الصورة لا تتعلّق به إرادته؛ واُخرى: يرى فيه المصلحة وتتعلّق به إرادته، وهنا: تارةً تتعلّق الإرادة بالشيء مطلقاً، واُخرى تتعلّق به مع قيد الخصوصيّة، كما إذا وقع طلب المولى على الماء بقيد البرودة، فأقسام القيود كلّها تكون راجعةً إلى المراد والواجب دون الوجوب.

وأمّا عدم جواز رجوع القيد إلى الهيئة، دون المادّة، في الكلام المنسوب إلى الشيخ)؛ فلأنّ الهيئات تدلّ على المعاني الحرفيّة، والمعنى الحرفيّ جزئيّ لا سعة فيه، وتكون المعاني الحرفيّة ـ كما ذكرنا سابقاً ـ مرآتيّةً؛ إذ يتوصّل بها إلى ملاحظة غيرها من المعاني الاسميّة، وأمّا هي، فمغفول عنها بخصوصها في حال استعمالها تمهيداً لملاحظة غيرها، ومعه: فكيف يمكن تقييدها بقيد؟! فإنّ ذلك يستلزم ملاحظتها والالتفات إليها، وبناءً على ذلك: فالمتعيّن هو صرف القيد إلى المادّة دون الهيئة.

وفيه:

أوّلاً: أنّه لا يتمّ على مبنى صاحب الكفاية! الذي يرى أنّ الحروف لا يفرّق بينها وبين الأسماء في كون الموضوع له والمستعمل فيه في كلٍّ منهما عامّين.

وثانياً: أنّه لو فرض أنّ الهيئة مندرجة في المعنى الحرفيّ، والمعنى الحرفيّ جزئيّ غير قابلٍ للتقييد، ولكنّ الكلام هنا إنّما يتمّ لو لاحظناها بالإضافة إلى أحواله وأطواره، كما يعبّر عن هذا بالعموم الأحواليّ والإطلاقيّ، فهو قابل للتقييد.

وثالثاً: بعد أن ذكرنا أنّها إخطاريّة وليست بإيجاديّة، فلها معنىً مستقلّ قابل للتوجّه إليه وغير مغفولٍ عنها.

وقد حكي عن السيّد الشيرازي!([3]): أنّ المقرّر قد اشتبه، وأنّه لم يصل إلى مرام الشيخ! ومقصوده. وإنّما غرض الشيخ! في إنكاره رجوع الشرط إلى الهيئة أنّ الإنشاء غير قابلٍ للتقييد.

وهذا الذي ذكره تامّ؛ لأنّ الإنشاء غير قابلٍ للاشتراط والتعليق، فلذلك كان لا يتّصف بالإطلاق والتقييد، وإنّما يتّصف بالوجود والعدم.

وهناك قول ثالث في البين، اختاره المحقّق النائيني!، وحاصله:

أنّ القيد راجع إلى المادّة المنتسبة، وإليه أرجع كلام الشيخ!، لا إلى الأوّل، مدّعياً استحالة الأوّل، لرجوعه إلى الواجب المعلّق، وهو محال([4]).

وبالجملة: فلابدّ هنا من بيان أنّ القيد هل يكون راجعاً إلى المادّة أم إلى الهيئة أم إلى غيرهما؟!

 

القضيّةالخارجيّةوالقضيّةالحقيقيّة:

ولكن قبل الدخول في صلب هذا البحث لابدّ لنا أن نشرح الحال في القضايا الخارجيّة والقضايا الحقيقيّة ليتّضح الحال، فنقول:

أمّا القضايا الخارجيّة:

فهي عبارة عن ثبوت حكمٍ على شخصٍ خاصّ وموضوعٍ موجودٍ في الخارج، سواء كان هذا الموضوع شخصاً واحداً أو أشخاصاً متعدّدين، وبلا فرقٍ بين أن يكون إلقاء القضيّة في الخارج بصورةٍ جزئيّة، ﻛ (أكرم زيداً)، أو كلّيّة، كما لو قال: (قُتل من في العسكر). ووروده هنا بصورةٍ كلّيّة لا يخرج القضيّة عن كونها خارجيّةً، ولكن بما أنّ المحكوم عليه هو نفس الأشخاص في الخارج، لا ما يفرض وجودها فهو قضيّة خارجيّة.

وأمّا القضايا الحقيقيّة:

فهي ما يرد الحكم فيها على العنوان، لا بنفسه، بل بما أنّه قنطرة للخارج، بلا فرقٍ بين أن تكون الجملة خبريّةً أو إنشائيّةً، كلّيّةً أو جزئيّة، وبلا فرقٍ بين أن تكون الأفراد فعليّة الوجود في الخارج أم لا، بل يصحّ الإطلاق ولو لم يفرض له فرد في الخارج ولم يوجد أصلاً، المهمّ: أنّ جعل العنوان موضوعاً للحكم لا يكون بما هو هو؛ لأنّه ـ بحسب الفرض ـ يمتنع صدقه في الخارج، بل بما هو قنطرة ومرآة في الخارج.

 

الفرقبينهما:

والحاصل: أنّ الفرق بين القضايا الخارجيّة والحقيقيّة يكمن في اُمورٍ:

الأوّل: أنّ الاُولى منها ترد على الموجود الخارجيّ، وأمّا الثانية فهي إنّما ترد على العنوان.

والثاني: أنّ الحكم في القضايا الحقيقة يكون على مناطٍ وملاكٍ واحد، وأمّا في القضايا الخارجيّة فإنّ المناط في كلّ قضيّة يختلف عن المناط في الاُخرى.

وبعبارةٍ ثانية: فالقضايا الخارجيّة ليس لها ملاك جامع وعنوان عامّ ينطبق على الأفراد، بل إنّ لكلّ فردٍ حكماً خاصّاً بحسب ملاكه الخاصّ الذي فيه، وهو لا يتعدّاه إلى غيره.

والثالث: أنّ الحكم المنشأ في القضايا الحقيقيّة لا ينفكّ عن الإنشاء، وإنّما يكون التقدّم والتأخّر فيها بالرتبة، كالعلّة والمعلول. وأمّا الخارجيّة: فإنّ الحكم فيها لا يترتّب إلّا مع وجود الموضوع وتحقّقه في الخارج.

والرابع: أنّ القضايا الخارجيّة ليست واقعةً في طريق الاستنباط؛ لأنّها ـ كما أسلفنا ـ لم ترد على العنوان العامّ، ولذا، فقد أصبحت جزئيّةً، والجزئيّ لا يكون كاسباً ولا مكتسباً، فلذلك لا يمكن أن تقع صغرىً في قياسٍ يستنتج منه الحكم الكلّيّ الإلهيّ.

فمثلاً: لا يمكن أن يستفاد ويستنتج من القضيّة الخارجيّة التالية، وهي: (قتل كلّ من في العسكر) أنّ زيداً قد قتل إلّا بعد أن يقتل الجميع، أو بعد أن يعلم بقتل كلّ من في العسكر وزيد منهم، ولا نحتاج إلى تأليف قياس نقول فيه: (زيد في العسكر، وكلّ من في العسكر قُتل، فزيد  قد قُتل).

والخامس: أنّ الموضوع في القضايا الخارجيّة، سواء كان هو متعلّق الحكم أم متعلّق المتعلّق؛ فإنّه يكون موضوعاً بما أنّه موجود في الخارج بجميع شرائطه، فالإنسان الحرّ البالغ المستطيع يكون موضوعاً بوجوده الخارجيّ لوجوب الحجّ، لا بوجوده العلميّ.

وأمّا في القضايا الحقيقيّة، فإنّ جميع القيود وإن كانت دخيلةً في الموضوع ليترتّب الحكم عليه، إلّا أنّ ذلك بوجودها العلميّ، وإلّا، تخرج القضيّة عن كونها قضيّةً حقيقيّة؛ فإذا قال: (يا زيد ادخل داري)، معتقداً أنّه صديقه فهنا يجوز له الدخول في الدار، وإن لم يكن صديقه، وعلم أنّ الآمر قد أخطأ في الأمر.

وأمّا لو قال: (كلّ من كان صديقي فليدخل)، فإنّ القضيّة حينئذٍ تكون حقيقيّةً، فكلّ من رأى نفسه صديقاً له فيجوز له الدخول.

والسادس: أنّ الشرط المتأخّر معقول بناءً على أن تكون القضايا حقيقيّةً؛ لأنّ الشيء بوجوده العلميّ يكون دخيلاً.

وأمّا في القضايا الخارجيّة فإنّ الشرط يكون دخيلاً بوجوده الخارجيّ، ولمّا لم يتحقّق الموضوع في الخارج بجميع شروطه، فلا يتعلّق به الحكم، وعليه: فلا يمكن فرض الشرط المتأخّر فيها، لأنّه يستوجب الخلف.

والسابع: أنّه لا يتأتّى النزاع بناءً على القضايا الحقيقيّة في أنّ الخطاب هل هو مختصّ بالمشافهين والحاضرين في مجلس الخطاب، أم أنّه يشمل الغائبين والمعدومين أيضاً؟! لأنّ الحكم في الحقيقيّة ليس متوجّهاً إلى الأشخاص حتّى يرد هذا البحث، بل إنّما يرد على عنوانٍ كلّيٍّ مفروض الوجود، فكلّ من ينطبق عليه هذا العنوان فإنّ الحكم يشمله.

والثامن: أنّه لا يأتي البحث في أنّه هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه أو لا؟ بناءً على كون جعل الأحكام من قبيل القضايا الحقيقيّة، وعلى ذلك النهج؛ لأنّه لا دخل لعلم الآمر أو جهله بوجود الشرط فيها أصلاً؛ لأنّ جميع القيود تلاحظ على نحوٍ تكون مفروضة الوجود في الخارج، فلا دخل للعلم فيها أصلاً، والوجود العلميّ أجنبيّ عنها.

 

قضاياالأحكامحقيقيّةأمخارجيّة؟

إذا عرفت هذا، فهل الأحكام الشرعيّة، وضعيّةً كانت أم تكليفيّة، من القضايا الحقيقيّة أم الخارجيّة؟

الصحيح: أنّها من القضايا الحقيقيّة لا الخارجيّة؛ لأنّها لو كانت من القسم الثاني، لكان لابدّ من إنشاءاتٍ متعدّدةٍ بتعدّد الأشخاص لما يرد عليه الحكم بخصوصه، لا بعنوان انطباق عنوانٍ كلّيٍّ عليه إذا ورد الحكم عليه كذلك، فهو، مع غضّ النظر عن أيّ شخصٍ آخر، يكون موضوعاً للحكم، والخطاب الموجّه إليه لا يغني عن الخطاب الموجّه إلى سائر الأشخاص، فلابدّ أن يكون لكلّ شخصٍ خطاب خاصّ به متوجّه إليه، فنتيجته ـ إذاً ـ هي الاحتياج إلى تعدّد الخطاب، وهو خلاف البديهة.

كما لابدّ أن يكون هذا التعدّد في زمان الحضور، مع أنّ هناك أشخاصاً غائبين أو معدومين، وهؤلاء لا يمكن توجّه الخطاب إليهم، فعدم إمكان تعدّده كاشف عن أنّ الأحكام قد وردت على نحو القضايا الحقيقيّة.

وقد يُدفع هذا الإشكال ـ أي: إشكال لزوم تعدّد الخطاب ـ: بأنّه يمكن أن يكون الخطاب على نحو القضايا الخارجيّة وأن يرد على عنوانٍ كلّيٍّ منتزع، كقولك: (كلّ من في العسكر قتل)، فالموضوع هو نفس الأشخاص من دون أن يكون هناك تعدّد في الوضع والخطاب.

ولكن فيه:

أوّلاً: أنّ القضايا الخارجيّة منها ما هو جزئيّ ومنها ما يكون كلّيّاً، ولو فرض كفاية هذا النوع من الوضع والخطاب، فإنّ هذا يكفي بالنسبة إلى الحكم الكلّيّ، وأمّا الجزئيّ فالإشكال فيه.

وثانياً: أنّ الموضوع في القضايا الخارجيّة لابدّ وأن يكون موجوداً في الخارج حين الإنشاء، والمشار إليه حقيقةً إنّما هي الأفراد الموجودة، دون المقدّرة؛ لأنّ تقدير الوجود مختصّ بالقضايا الحقيقيّة، والعنوان الكلّيّ ـ بعنوانه المشير إلى الأفراد ـ إنّما يتصوّر في صورة وجودها، فلا يمكن توجيه الخطاب إلى المعدوم، ولا يمكن إنشاء الحكم بالنسبة إليهم إلّا بنحو القضايا الحقيقيّة.

فإذا اتّضح ذلك، فينبغي أن يعلم:

أنّ الأحكام ترد على نهج القضايا الحقيقيّة لاُمورٍ:

الأوّل: ما عرفت من الفرق بين القضايا الحقيقيّة والخارجيّة، فإنّ كلّ قضيّة لوحظ فيها ترتّب المحمول على موضوعها على نحو تقدير الوجود تكون قضيّةً حقيقيّة، سواء كان الموضوع فيها كلّيّاً أو جزئيّاً، فكلّ قضيّةٍ يترتّب فيها المحمول على الموضوع لا على سبيل التقدير، بل على نحو وجود الموضوع، فإنّها تكون قضيّةً خارجيّة.

والثاني: أنّ الشارع لم يتخطّ عمّا يسلكه العرف في عمليّة جعلهم للقوانين؛ فإنّ العرف، أو المتصدّين لاُمور الدول، لو أرادوا وضع قانونٍ ما، فإنّهم يضعونه بدون ملاحظة خصوصيّة الأفراد، وإنّما يفرضون وجود كلّ من يصلح لأن يشمله القانون، ثمّ يضعون القانون له، فيمكن أن يكون الشارع المقدّس قد جرى في وضعه للقانون على نفس هذا المنوال.

بل إنّ الذي يظهر من مثل قوله تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ([5])، وقوله: ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ([6])، هو أنّه لم يتخطّ عمّا هو السائد في وضع القوانين العرفيّة من إيراد الحكم على الموضوع المفروض الوجود.

والثالث: أنّا نرى ثبوت الاستمراريّة للأحكام، كما ورد في الخبر: «حلال محمّد ـ - ـ حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره»([7])، وأنّها غير قابلةٍ للنسخ، ولا تختصّ بالحاضرين في مجلس التشريع، بل تشمل الغائبين والمعدومين، وهذا كاشف عن أنّ الأحكام إنّما وردت على نحو القضايا الحقيقيّة.

ورابعاً: أنّه لو كانت الأحكام مجعولةً على نحو القضايا الخارجيّة، للزم ـ كما مرّ ـ تعدّد الجعل، مع أنّ المفروض عدم التعدّد فيه.

 

عودةإلىأصلالبحث:

ولنرجع هنا إلى صلب الموضوع، وهو: أنّ القيود هل هي راجعة إلى المادّة أم إلى الهيئة أم إلى المجموع؟

وقد قلنا سابقاً: إنّه قد نسب إلى الشيخ! رجوعه إلى المادّة، ومرّ كلامه وجوابه، فعلى أيّ حال: فإن فرضنا عدم إمكان رجوع القيد إلى الهيئة، فلابدّ من رجوعه: إمّا إلى المادّة ـ كما عليه الشيخ الأعظم! ـ أو إلى المادّة المنتسبة ـ كما عليه المحقّق النائيني! ـ.

وإذا وصل الكلام إلى هذا المقام فلابدّ من بيان مقدّمةٍ حاصلها:

أنّه بعدما عرفنا أنّ الأحكام الشرعيّة تكون على نحو القضايا الحقيقيّة، وليست من القضايا الخارجيّة، فتكون تلك الأحكام مشروطةً بوجود موضوعاتها؛ لأنّ نسبة الحكم إلى الموضوع هي نسبة العرض إلى المعروض، أو العلّة إلى المعلول، كما تقدّم، فالبحث يقع تارةً في مقام الثبوت، واُخرى في مقام الإثبات.

أمّا في مقام الثبوت: فبعدما بيّنّا أنّ الحكم في القضايا الحقيقيّة عبارة عن ترتّبه على عنوانٍ كلّيٍّ أُخذ قنطرةً إلى الخارج، ويكون هذا العنوان مرآةً لأفراده المقدّرة الوجود، فلا يكاد يمكن جعل الحكم إلّا بعد فرض موضوعٍ له، فالحكم في عالم الثبوت مشروط بالموضوع، كما أنّ المعلول يكون مشروطاً بالعلّة، وكما أنّ العرض يكون مشروطاً بالمعروض.

وأمّا في مقام الإثبات ـ أي: مرحلة الإبراز ـ: فإنّ القضيّة تارةً تكون مصدّرةً بأداة الشرط، كقولك: (إن استطعت فحجّ)، واُخرى لا تكون كذلك، كقولك: (يجب الحجّ على المستطيع). ولكنّ مآل الموضوعين في كلا الموردين إلى واحدٍ؛ إذ بعد أن نرجع القيود في القضيّة الشرطيّة إلى الموضوع، فيكون مآلها إلى أن تتّحد النتيجة.

نعم، تختلف بالنسبة إلى أهل العربيّة؛ فإنّ الفارق بين القضيّة الشرطيّة والحمليّة عندهم في أنّ القضيّة إذا لم تكن مصدّرةً بأداة الشرط فهي تسمّى: حمليّةً، وإلّا، فتسمّى: شرطيّةً. وإن كان مآل الحمليّة ـ أيضاً ـ في نظرهم إلى الشرطيّة، فمثلاً: إذا قيل: (الجسم هو ما له أبعاد ثلاثة)، فمعناه عندهم: (كلّما وجد في العالم شيء وكان ذلك الشيء جسماً فإنّه يكون ذا أبعادٍ ثلاثة)، فهذه القضيّة ـ إذاً ـ تنحلّ إلى شرطيّةٍ مقدّمها وجود الموضوع وتاليها عنوان المحمول.

وإذا عرفت هذه المقدّمة، وأنّه لا فرق بين القضايا الشرطيّة والحمليّة، فنقول:

القيد الموجود يتصوّر على وجوهٍ، فإنّه:

تارةً: يرجع إلى الموضوع والمادّة، أي: يرجع إليهما في المرتبة السابقة على الحكم. وهذا هو المراد من رجوع القيد إلى المادّة، أي: أن يفرض الموضوع والمتعلّق مقيّداً قبل ورود الحكم عليه، كما ذكرنا، بأن يلاحظ الصلاة مقيّدةً بالطهارة، ثمّ بعد ذلك يرد عليه الوجوب، وعليه: فالوجوب مطلق وغير مقيّدٍ بشيء، وإنّما الذي يكون مقيّداً هو الصلاة، كما عليه الشيخ الأنصاريّ!.

وثانيةً: يفرض القيد راجعاً إلى المفهوم التركيبيّ، أي: أنّ النسبة التركيبيّة تكون هي المقيّدة بذلك القيد، وبعبارةٍ أُخرى: فالنسبة الإيقاعيّة التي تتكفّلها الهيئة تكون هي المقيّدة.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني!، التزم ـ كما أشرنا ـ برجوع القيد إلى المادّة المنتسبة، ففي نظره الشريف: أنّ القيد يرجع إلى المادّة، ولكن لا بمعنى: كون القيد من قيود الواجب، وأنّ الوجوب يكون فعليّاً؛ لأنّ مآل هذا الكلام هو الرجوع إلى الواجب المعلّق الذي التزم به صاحب الفصول!([8])، بل القيد يطرأ على المادّة بعد ورود النسبة عليها. وذلك بتقريب: أنّ الشيء قد يكون متعلّقاً للنّسبة الطلبيّة مطلقاً، أي: من غير تقييد، وقد يكون متعلّقاً لها حين اتّصافه بقيدٍ في الخارج، فمثلاً: الحجّ مقيّد بالاستطاعة الخارجيّة، فما لم يوجد هذا القيد، فيستحيل تعلّق الطلب به، ويستحيل كونه طرفاً للنسبة الطلبيّة، فالقيد راجع إلى المادّة، لكن لا بما هي هي، بل بما هي منتسبة إلى الفاعل.

وثالثةً: يمكن أن يكون القيد راجعاً إلى الطلب الذي يستفاد من الهيئة، كما عليه المشهور.

ورابعةً: أن يرجع القيد إلى المحمول المنتسب.

فعلى أيٍّ: فإذا أرجعنا القيد إلى الطلب، فمعناه: رجوعه إلى المعنى الحرفيّ، بخلاف ما لو أرجعناه إلى المحمول المنتسب؛ فإنّ رجوعه يكون إلى المعنى الاسميّ.

ثمّ إنّ رجوعه إلى المحمول المنتسب: تارةً يكون في رتبة الانتساب، واُخرى في المرتبة المتأخّرة عنه رتبةً أو زماناً.

وإذا عرفت هذا، فلا يخفى: أنّ أداة الشرط تارةً تكون وظيفتها الربط بين الجملتين والمعنيين المتحصّلين، لا الفردين، فيكون التعليق بين الجملتين، ففي مثل: (إذا طلعت الشمس فالنهار موجود) فإنّ المعنى المتحصّل من الجزاء هو وجود النهار؛ لأنّ الأخبار بعد العلم بها أوصاف، فالمادّة التي في حيّز الطلب نحو: (إن استطعت فحجّ)، ليست مقيّدةً فحسب، بل المادّة بعد اتّصافها بالطلب؛ فإنّ الجزاء هو الحجّ المقيّد بالاستطاعة، وفي قولك: (إن جاءك زيد فأكرمه)، هو الإكرام الواجب، أعني به: المادّة بعد الانتساب، وهذه البعديّة بمعنى التأخّر رتبةً لا زماناً.

إذاً: فاتّصاف المادّة بالطلب والوجوب فرع ورود النسبة الطلبيّة عليها، كقولك: (أكرمه)، وبعد تحقّق النسبة الطلبيّة وورودها على المادّة تكون مقيّدةً للجملة الطلبيّة، وهو الإكرام الواجب.

وبعبارةٍ اُخرى: فإنّ التقييد متأخّر عن الاتّصاف الثابت في النسبة الطلبيّة، ولكن رتبةً لا زماناً.

وقد يرد على ذلك: أنّه يوجب النسخ، حيث إنّ المادّة قبل الاتّصاف تقع في حيّز الطلب، فالمطلوب ـ حينئذٍ ـ هو نفس المادّة، ثمّ يرفع اليد عن نفس هذا الطلب المطلق وتقيّد المادّة الواجبة بقيدٍ، فالوجوب المطلق الثابت للمادّة بقوله: (أكرم زيداً) ـ بناءً على هذا ـ يكون منسوخاً، وقد شرّع وجوب آخر لمادّةٍ تكون مقيّدةً بوجود زيد.

ولكن فيه: أنّ هذا الإشكال إنّما يتمّ لو كان تأخّر الجملة الإنشائيّة الجزائيّة عن اتّصاف المادّة بالطلب هو التأخّر الزمانيّ لا الرتبيّ، وأمّا إذا كان رتبيّاً، فإنّه لا يلزم النسخ.

إذا عرفت هذا فنقول:

لو قيل ـ مثلاً ـ : (إن بنيت المسجد فصلّ)، فهنا اُمور ثلاثة: المادّة، وهي المسجد، والهيئة، وهي تدلّ على إنشاء النسبة بين الفعل وفاعله، والتعليق المستفاد من قوله: (إن بنيت).

فأمّا الإنشاء: فإنّه لا معنى لتعليقه.

وعلى هذا حملوا كلام الشيخ! من أنّ المراد من الهيئة هو الجملة الإنشائيّة التي هي غير قابلةٍ للتعليق؛ لأنّه إمّا موجود أو معدوم، فاذا أنشأ الضرب بقوله: (اضرب زيداً)؛ فإنّ هذا الضرب الخارجيّ الواقع على شخصٍ يقع بلا فرقٍ بين أن يكون المضروب زيداً أو عمراً، ولو علّق على كونه زيداً، فإذاً: لا معنى لتعليق الإنشاء على شيء.

وأمّا المنشأ: وهو النسبة بين الفعل والفاعل، فغير قابلٍ للتعليق والتقييد؛ لأنّ الهيئة لا تدلّ إلّا على مصداق النسبة، ولا دلالة لها على مفهوم النسبة.

وأيضاً ـ وكما قلنا ـ: فإنّ الهيئة من المعاني الحرفيّة وليس لها مفهوم عامّ حتّى يكون قابلاً للتقييد، بل تحق المعاني الحرفيّة التي منها الهيئة يكون في مواطن الاستعمال، فعلى القول بإيجاديّة المعاني الحرفيّة: فالنسبة غير قابلةٍ للتقييد، فلابدّ أن نقول بأنّ المادّة لابدّ أن تكون معلّقةً، وأنّ القيد لابدّ أن يرجع إلى المادّة.

ولكنّ هذا مخالف للقواعد العربيّة، فقولك: (إن بني المسجد فصلّ فيه)، لو كان قيداً للمادّة، فإنّ بناء المسجد يكون قيداً للواجب، فيجب تحصيله؛ فإنّ الظاهر من الجملة ـ طبقاً لقواعد العربيّة ـ هو: توقّف الصلاة في المسجد على بنائه، فيفهم منه وجوب البناء، ثمّ الصلاة فيه بعد ذلك.

وليس التعليق هنا كالتعليق في الطهارة التي هي شرط للصلاة حيث يجب هذا الشرط وهو الموضوع، ومع ذلك، لا يمكن أن يكون الشرط عائداً للنسبة الطلبيّة كما عرفت. فلا محالة: لابدّ أن يقال برجوعه إلى المادّة المنتسبة التي تدلّ عليها (صلّ)، فتكون الصلاة المنتسبة قد علّقت على بناء المسجد.

وبعبارةٍ أُخرى: تكون الصلاة الواجبة قد علّقت على بناء المسجد، ومع عدم البناء لا تفيد الصلاة، ونتيجته: أن يكون الوجوب مشروطاً، لا بمعنى إنشاء المنشأ كما مرّ ذكره.

ولكن يرد عليه الإشكال: بأنّه لو قلنا بأنّ النسبة من المعاني الحرفيّة فلا يمكن تصوّرها لذلك؛ فإنّ النسبة في المحمول المنتسب مغفول عنها، فكيف يمكن تصوّرها، مع أنّه لابدّ من تصوّر المعلّق عليه، وهو المحمول والنسبة أوّلاً ثمّ تعليقه بعد ذلك؟ ونحن نرى أنّ المعلّق ليس هو المادّة فقط، بل هو المادّة مع قيد الانتساب، فلابدّ ـ إذاً ـ من تصوّر الهيئة أوّلاً، وهذا خلف؛ لأنّه يرجع المعنى الحرفيّ إلى المعنى الاسميّ.

ولكنّ الحقّ: هو ما ذكرناه، من أنّ الهيئة إخطاريّة، كما في جميع المعاني الحرفيّة، خلافاً للمحقّق النائيني!، فيتحصّل: أنّه يمكن تقييدها.

وقد ظهر من جميع ما ذكرنا اُمور:

الأوّل: عدم إمكان تقييد الهيئة بناءً على مبنى الميرزا النائيني!؛ لأنّ معاني الحروف في نظره الشريف معانٍ إيجاديّة.

والثاني: لا يمكن توصيف المادّة بما علّقت عليها؛ فإنّ المجيء ليس قيداً للإكرام؛ لأنّ المادّة لا يمكن وصفها بالتعليق، فلا يوصف بالإكرام الذي هو فعل لعمروٍ لدى مجيء زيد، حتّى يقال: إن كان قيداً للمادّة فيجب تحصيله، بل المعلّق هو الإكرام الواجب.

والثالث: عدم إمكان رجوع القيد إلى المادّة المنتسبة؛ لأنّه يستلزم الخلف، كما مرّ.

وقد مرّ الإشكال عليه: بأنّ الحكم لو ورد على المحمول المنتسب لورد الإشكال أيضاً، فإنّه لابدّ من تصوّر الانتساب، وهو معنىً حرفيّ.

ولكن أُجيب عنه: بأنّه إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ المعلّق عليه هي المادّة المتّصفة بالانتساب، وأمّا لو لاحظنا الموضوع، وهو المادّة، لا بنحو الاتّصاف بالنسبة، بل بحيث تقارن النسبة، وفي حال اقترانها بها، فلا يكون المعنى جزئيّاً حينئذٍ، ولا يكون المعنى جزءاً للمعلّق عليه الشرط، فلا يأتي المحذور أصلاً.

ولكن مع ذلك، يرد الإشكال: لأنّه يصبح الواجب معلّقاً.

فظهر ممّا ذكرنا: أنّ الهيئة قابلة للتقييد، وأنّ المعنى الحرفيّ، ولو لم يكن مستقلّاً باللّحاظ، إلّا أنّه ملحوظ تبعاً لملاحظة غيره من المعاني الاسميّة، ولو قلنا بأنّ المعنى الحرفيّ يكون جزئيّاً وغير قابلٍ للتقييد في حدّ ذاته، إلّا أنّه بالنسبة إلى أحواله وأطواره قابل للتقييد حتماً، فالقيد ـ إذاً ـ راجع إلى الهيئة.

نعم، يتوجّه الإشكال على ما نسب إلى الشيخ! من أنّه لو كان قيداً للمادّة وأنّه لو قلنا برجوعه إليها طرّاً، فلابدّ أن لا يفرّق بين قيد الوجوب وقيد الواجب، فلابدّ أن ترجع القيود طرّاً إلى الواجب، مع أنّ هناك فرقاً بينهما، ولو كان شرط الوجوب راجعاً إلى الواجب فلا معنى لعقد البحث في عنوانين، مع أنّهم عدّوا مثل: البلوغ والعقل والحريّة من شرائط الوجوب، وأمّا شرائط الواجب في الصلاة ـ مثلاً ـ فهي الاستقبال والطهارة وغيرها.

إذا عرفت هذا، فالفرق بين الواجب المشروط والواجب المطلق هو: أنّ الوجوب المطلق إذا علم به المكلّف المنقاد لأمر المولى، شرع فوراً بالامتثال من دون انتظارٍ لشيءٍ آخر؛ لأنّه قد علم بأنّ التكليف تمّ في حقّه ووصل إليه من ناحية المولى.

وأمّا لو علم بأنّ الوجوب معلّق أو مشروط، وكان تعلّقه على وجود شيءٍ آخر، فلا يسعى لامتثاله بنحو من السعي؛ لأنّه يرى نفسه قبل تحقّق شرط الوجوب غير مكلّفٍ بشيء ليهتمّ ويسعى بامتثاله.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ معنى وجوب المطلق وحقيقته: إرادة الفعل من المكلّف على أيّ تقدير، وكان من آثاره انبعاث المكلّف المنقاد، إذا علم به، نحو الفعل بلا انتظار لشيءٍ أصلاً.

وأمّا الوجوب المشروط: فإنّه لمّا كانت حقيقته إرادة الفعل من المكلّف على تقديرٍ خاصّ، لا على كلّ تقدير، كان من آثاره ـ إذا علم به قبل تحقّق الشرط المعلّق عليه لو كان منقاداً ـ عدم الانبعاث نحو الفعل مباشرةً، بل ينتظر حصول الشرط المعلّق عليه ذلك الوجوب الذي بواسطته صار نوعاً خاصّاً مبايناً لنوع الوجوب المطلق.

وليس معنى الوجوب المشروط: أنّه إنشائيّ، بل هو كالوجوب المطلق فعليّ، غاية الأمر: يختلف الفعليّان لاختلاف آثارهما واختلاف حقيقتهما، ولو كان وجوبه مشروطاً فإنّه يكون فعليّاً، ولكنّ الانبعاث غير مطلوبٍ منه؛ لأنّه لا يكون هناك انبعاث إلّا بعد حصول الشرط، ونظير هذا كثير، ففي صورة الجهل بالحكم يكون الحكم فعليّاً، وكذا في صورة العلم مع التمرّد، فالحكم فعليّ وباقٍ على فعليّته.

وبعدما عرفت من الفرق بين شرط الوجوب وشرط الواجب، فقد ذكر المحقّق العراقيّ!([9]) في الفرق بينهما ما توضيحه:

أنّ الشرط تارةً تكون علّة لاتّصاف شيءٍ بالمصلحة، واُخرى يكون علّةً لوجود المصلحة في الخارج، فالأوّل: شرط الوجوب، والثاني: شرط الواجب.

وبعبارةٍ أُخرى: فإنّ شرط الوجوب من مبادئ الإرادة وعللها، ولذا، لا تتعلّق به الإرادة، لأنّه من التقسيمات الأوّليّة، كالاستطاعة التي هي شرط للوجوب. نعم، إذا تحقّق توجد الإرادة.

وأمّا شرط الواجب، فهو معلول للإرادة، ولذا، يجب تحصيله، فشرط الوجوب ـ إذاً ـ لا تتعلّق به الإرادة، ولذا، يمكن أخذه في المادّة، ومعنى أخذه فيها: أنّه معلول للإرادة، مع أنّه علّة للإرادة، ويلزم بناءً على هذا: اجتماع النقيضين؛ لأنّه يلزم تعلّق الإرادة به إذا كان من قيود الواجب وعدم جواز تعلّقها به لكونه علّةً للوجوب ومن مقدّمات الإرادة.

ولكن لا يخفى: أنّ ما ذكره! لا يعدو أن يكون شرحاً لشرط الوجوب وشرط الواجب، ولا يزيد شيئاً عمّا ذكرناه.

وبعدما ذكرنا من إمكان رجوع القيد إلى الهيئة، فنقول:

إنّ كلّ ما يلاحظ مع الواجب، فإمّا أن يكون له دخل فيه وجوداً، وإمّا أن لا يكون له دخل فيه. فعلى الثاني: يسمّى ﺑ «المطلق»، وأمّا على الأوّل: فإن كان القيد من القيود التي لا يمكن تحصيلها، فحينئذٍ: يكون الوجوب منوطاً به بعد صحّة كونه قيداً للمادّة؛ لأنّه لو صحّ أن يكون قيداً لها، فلابدّ أن يقع تحت الطلب؛ لأنّه غير قابلٍ لتعلّق الطلب به لعدم القدرة عليه؛ فإنّ العبد لا يقدر على إيجاده، فالخطاب بالنسبة إليه يكون قبيحاً. وأمّا إذا كان العبد قادراً على إيجاده: فتارةً يكون الخطاب بلسان الجملة الشرطيّة، كقولك: (إن استطعت فحجّ)، واُخرى بلسان الجملة الحمليّة، كقولك: (الصلاة في المسجد واجبة)، أو (الحجّ واجب عند الاستطاعة). فإن كانت القضيّة شرطيّةً: فظاهرها أنّ الشرط للوجوب، وأنّ الوجوب مشروط به، وإن كانت حمليّةً: فظاهرها كون القيد قيداً للمادّة، وهذا إنّما يتمّ فيما لو استبان من الظهور الذي لا يمكن رفع اليد عنه إلّا مع القرينة على الخلاف.

وأمّا لو شكّ في رجوع القيد إلى المادّة أو الهيئة، ولم يعلم بأنّه قيد للمادّة أو الهيئة، أي: لم يكن ظهور في البين حتّى يعلم بأنّه قيد للمادّة فيجب تحصيله، أو قيد للهيئة حتّى لا يجب تحصيله، فهنا اُمور:

الأوّل: أنّه تارةً يشكّ بأنّ القيد قيد للوجوب أم لا؟ فإن كان هناك إطلاق فيؤخذ به، وأمّا إذا لم يكن هناك إطلاق، فمقتضى أصالة البراءة عدمه.

والثاني: إذا كان الشكّ في تقييد الواجب، فمقتضى الإطلاق المقاميّ عدم الوجوب، وكذا مقتضى الأصل هو البراءة.

والثالث: لو علم كون الوجوب مقيّداً، ولكن لم يعلم بأنّ هذا القيد كان على نحوٍ لو حصل وتحقّق بطبعه حتّى يصبح الواجب معلّقاً، أو أنّه اعتبر على نحو الإطلاق بحيث يجب تحصيله، فلا يمكن حينئذٍ التمسّك بالإطلاق أو الأصل لنفي تقييده، والمفروض حصول العلم بالتقييد ووقوع الشكّ في كيفية التقييد، فيمكن لذلك التمسّك بالبراءة لنفي الوجوب المستلزم لتحصيل القيد.

والرابع: إن شكّ في أنّ القيد قيد للواجب أم للوجوب، بنحو التخيير، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق، إذ لم يمكن هناك ظهور يفهم منه أنّه قيد للمادّة أو للهيئة، حتّى يجب تحصيله في الأوّل دون الثاني. أمّا عدم إمكان التمسّك بالإطلاق: فلأنّ القيد إمّا أن يكون متّصلاً أو منفصلاً، ففي حال الاتّصال لا يمكن التمسّك به للإجمال، وفي حال الانفصال للتعارض. فالمرجع ـ إذاً ـ إلى الاُصول العمليّة، والمآل هو البراءة؛ لكون الشكّ فيه شكّاً التكليف؛ لأنّه لو كان قيداً للمادّة لوجب، أو للهيئة فلا يجب، فعند الشكّ تجري البراءة.

والخامس: لو دار أمر القيد بين أن يكون قيداً للواجب أو الوجوب على نحو المعلّق، فلا إشكال في عدم الوجوب.

ولا بأس هنا بذكر بعض الاُمور المرتبطة بمحلّ البحث:

الأوّل: أنّ وجوب المقدّمة بما أنّه مترشّح عن وجوب ذيها، فهو تابع في الإطلاق والاشتراط لوجوب ذيها، فإذا كان وجوب ذي المقدّمة مشروطاً بشرطٍ، كان وجوبها كذلك، كما عليه صاحب الكفاية!([10]).

والثاني: فيما يتعلّق بالثمرة، وقد تعرّض لها صاحب الكفاية!، مبيّناً الثمرة بين القولين، أعني: ما اختاره هو في الواجب المشروط وما اختاره الشيخ!.

قال): «وأمّا الشرط المعلّق عليه الإيجاب في ظاهر الخطاب، فخروجه ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب. أمّا على ما هو ظاهر المشهور والمنصور: لكونه مقدّمةً وجوبيّة. وأمّا على المختار لشيخنا العلّامة<: فلأنّه، وإن كان من المقدّمات الوجوديّة للواجب، إلّا أنّه أخذ على نحوٍ لا يكاد يترشّح عليه الوجوب منه، فإنّه جعل الشيء واجباً على تقدير حصول ذاك الشرط. فمعه: كيف يترشّح عليه الوجوب ويتعلّق به الطلب، وهل هو إلّا طلب الحاصل؟!»([11]).

ومحصّل ما أفاده): أنّ الشرط الذي يعلّق عليه الوجوب في الخطاب يكون خارجاً عن محلّ النزاع، بناءً على ما هو المختار من رجوعه إلى الوجوب؛ لأنّه يكون مقدّمة وجوبيّةً، وقد عرفت عدم تأتّي النزاع فيها، فلا نعيده.

وأمّا على مختار الشيخ!: فهو، وإن كان من قيود الواجب، إلّا أنّه قد أخذ بنحوٍ لا يكون قابلاً لترشّح الوجوب عليه؛ وذلك لأنّ الواجب هو الشيء على ذلك التقدير، فالوجوب متعلّق بذلك الشيء على تقدير الشرط، فتعلّق الوجوب به يكون من باب طلب الحاصل.

والثالث: ما تعرّض له صاحب الكفاية) بقوله:

«لا يخفى: أنّ إطلاق الواجب على الواجب المشروط بلحاظ حال حصول الشرط على الحقيقة مطلقاً، وأمّا بلحاظ حالٍ قبل حصوله، فكذلك على الحقيقة، على مختاره!([12])[أي: الشيخ)] في الواجب المشروط؛ لأنّ الواجب، وإن كان أمراً استقباليّاً عليه، إلّا أنّ تلبّسه بالوجوب عليه قبله»([13]).


[1]     كفاية الاُصول: ص 95.

[2]    نسبه إليه في مطارح الأنظار، قال): <والألفاظإنّماتتّصفبالإطلاقوالتقييدباعتبارالمعنى،وبعدمافرضنامنأنّالمعنىالمقصودبالهيئةهوخصوصيّاتالطلبوأفراد،فلاوجهلأنيُقال: إنّالهيئةمطلقةأومقيّدة،بلالمطلقوالمقيّدهوالفعلالذيتعلّقبهالطلب؛فإنّمعنىالضربفيحدّذاتهمعنىًكلّيّ،واللّفظالكاشفعنهمطلق،والضربالواقعفيالدارمقيّد. فظهرمنذلك: أنّمعنىالهيئةممّالايختلفباختلافالمطلوب،وإنكانلهذهالاختلافاتمدخلفيتعدّدأفرادالطلبكمالايخفى،إلّاأنّهلادخللهبمانحنبصدده. ولاخفاءأيضاًفيأنّالشرطأيضاًمنالاُمورالراجعةإلىالمطلوب؛فإنّالفعل: تارةً: يكونمتعلّقاًللطلبعلىجميعتقاديرهـمنقيامعمروٍوقعودبكرٍوحياةزيدوموتخالد،ونحوذلكـ. وتارةً: يكونمتعلّقاًللطلبعلىتقديرٍخاصّ؛فلااختلاففيحقيقةالطلب،كمالااختلاففيهاعنداختلافسائرقيودالفعل،منالزمانوالمكان. وإذقدتحقّقتذلكعرت: أنّهلاوجهللقولبكونهيئةالأمرحقيقةًفيالوجوبالمطلقمجازاًفيالمشروط؛فإنّذلكممّالايرجعإلىطائل،بلالتحقيق: أنّهاموضوعةبالوضعالعامّوالموضوعلهالخاصّللأعمّمنالطلبالواقععلىالماهيّةالمطلقةأوالمقيّدة...> إلىآخركلامه). انظر: مطارحالأنظار 1: 236 ـ 237.

[3]    نقل الحكاية عنه في فوائد الاُصول 1: 181.

[4]    راجع: أجود التقريرات 1: 132.

[5]    البقرة: 185.

[6]    آل عمران: 97.

[7]    الكافي: 1: 58، كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقاييس، ح19.

[8]    انظر: الفصول الغرويّة: 79. قال!: «وينقسم [أي: الواجب] باعتبارٍ آخر إلى ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له، كالمعرفة، وليُسَمّ: منجّزاً، أو إلى ما يتعلّق وجوبه به، ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له، وليُسَمّ: معلّقاً، كالحجّ؛ فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة، ويتوقّف فعله على مجيء وقته، وهو غير مقدور له» إلى آخر كلامه!.

[9]    انظر في ذلك: منتهى الدراية 2: 172.

[10]    كفاية الاُصول: ص 99. قال!: «ثمّ الظاهر دخول المقدّمات الوجوديّة للواجب المشروط في محلّ النزاع أيضاً، فلا وجه لتخصيصه بمقدّمات الواجب المطلق، غاية الأمر: تكون في الإطلاق والاشتراط تابعةً لذي المقدّمة، كأصل الوجوب، بناءً على وجوبها من باب الملازمة».

[11]    كفاية الاُصول: ص 99.

[12]    كفاية الاُصول: ص 100.

[13]    مطارح الأنظار: 1: 236 ـ 237.


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com