الواجب المعلّق والمنجّز

تقييم المستخدم: 1 / 5

تفعيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

الواجب المعلّق والمنجّز


لا يخفى: أنّ الواجب المشروط بعد حصول شرطه:
قد يكون وجوبه فعليّاً، كالواجب المطلق، فيتوجّه التكليف فعلاً إلى المكلّف بعد حصول شرطه.
وقد لا يكون وجوبه فعليّاً، بل تكون فعليّة الوجوب مقارنةً لفعليّة الواجب، بمعنى: أن يكون زمان الوجوب متّحداً مع زمان الواجب، ويسمّى هذا القسم ﺑ «الواجب المنجّز»، كالصلاة بعد دخول وقتها، فإذا دخل الوقت، فكما أنّ الواجب يكون فعليّاً، فإنّ الوجوب ـ هو أيضاً ـ يكون فعليّاً.
أمّا إذا كان الوجوب فعليّاً، ولكنّ الواجب ليس بفعليّ، بل يكون مقيّداً بزمان متأخّر؛ فإنّ فعليّة الوجوب فيه تكون سابقةً على فعليّة الواجب، ويتأخّر بذلك زمان الواجب عن زمان الوجوب، ويسمّى هذا القسم ﺑ «الواجب المعلّق»؛ لتعليق وجوب الفعل على زمان وهو بعد غير حاصل، كالحجّ؛ فإنّ الوجوب يكون فعليّاً عند الاستطاعة أو في أشهر الحجّ، ولكنّ الواجب يكون معلّقاً على زمان الموسم.
وقد يُعبّر عنه بوجه آخر، بأن يقال:
الواجب تارةً يكون مقيّداً بقيد متأخّر خارج عن اختيار المكلّف من زمان أو زمانيّ، وأُخرى: لا يكون مقيّداً كذلك، فعلى الأوّل: يسمّى بالمعلّق، وعلى الثاني بالمنجّز، لأنّ كليهما يكونان فعليّين.
فبناءً على التعريف الأوّل: يدخل الواجب المشروط بشرط متأخّر في هذا الفرض؛ لأنّ الوجوب فيه يكون حاليّاً، والواجب استقباليّاً.
وبناءً على الثاني: فهو يكون منجّزاً؛ لأنّ كليهما يكون حاليّاً.
قال في الفصول:
«و[الواجب] ينقسم باعتبار آخر إلى: ما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة، وليسمّ منجّزاً، أو إلى ما يتعلّق وجوبه به، ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له، وليسمّ معلّقاً، كالحجّ، فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرّفقة، ويتوقّف فعله على مجيء وقته وهو غير مقدور له، والفرق بين هذا النوع وبين الواجب المشروط هو أنّ التوقّف هناك للوجوب، وهنا للفعل»( ).

الكلام في إمكان الواجب المعلّق وعدمه:
قد اختلفوا في إمكان الواجب المعلّق وعدمه. ونسب إلى صاحب الفصول القول بإمكانه، بل وقوعه، ونسب إلى الأكثر القول باستحالته.
وأمّا الشيخ الأنصاريّ، فقد أنكر الواجب المعلّق، فقال:
«بأنّا لا نعقل للواجب ما عدا المطلق والمشروط قسماً ثالثاً يكون هو المعلّق»( ).
ولكنّ ما ذكره إنّما يتمّ لو التزمنا بالواجب المشروط عند المشهور، وأنّ إطلاق الواجب عليه قبل حصول الشرط يكون مجازاً؛ لأنّ الشرط قيد للوجوب، وهو مفاد الهيئة، وأنّه لا وجوب حقيقةً قبل حصول الشرط، فلا محالة: يكون إطلاق الواجب عليه مجازاً بلحاظ الأول والمشارفة.
وأمّا الشيخ، فالواجب المشروط عنده هو عين الواجب المعلّق؛ لأنّه إذا قلنا بأنّ القيد يرجع إلى المادّة في الواجب المشروط، فمعناه: أنّ الوجوب يكون فعليّاً وأنّ الواجب يكون استقباليّاً.
والذي دفع بصاحب الفصول إلى القول بذلك هو وجوب تحصيل المقدّمات قبل مجيء الواجب كمقدّمات الحجّ وغيرها من المقدّمات.
وأمّا الشيخفهو إنّما أنكر الواجب المعلّق الذي ذكره صاحب الفصول؛ لأنّ الواجب المعلّق ـ بالمعنى الذي اختاره هو ـ هو بعينه الواجب المشروط، كما بيّنه صاحب الكفاية. فحينئذٍ: لا يكون للمعلّق ـ بناءً على هذا ـ معنىً معقول في قبال المشروط.
وقد ذكر صاحب الكفاية: أنّ إنكار الشيخ يرجع في الحقيقة إلى إنكار الواجب المشروط بالمعنى المشهور له والذي اختاره صاحب الكفاية، لا إلى إنكار الواجب المعلّق بالمعنى الذي فرضه صاحب الفصول.
وبتعبيرٍ آخر: فهو لم ينكر واقع الواجب المعلّق الذي فرضه صاحب الفصول، وإنّما أنكر تسميته بالمعلّق وهو الاسم الذي أطلقه عليه المشهور( ).
وعلى أيّ حال: فقد يقال باستحالة هذا النوع من الواجب، إذ لا فرق هناك بين الإرادة التشريعيّة والإرادة التكوينيّة في أنّ الإرادتين تتوقّفان على العلم والتصديق بالغاية والميل.
وأيضاً: فهما تتوقّفان على تحريك العضلات وحصول الفعل بعده. ولا فرق بينهما من هذه الجهات والنواحي، وإنّما الفرق بينهما من جهة أُخرى، وهي أنّ الإرادة التشريعيّة تتعلّق بفعل الغير، والتكوينيّة تتعلّق بفعل نفس المريد. كما أنّه لا فرق بينهما ـ أيضاً ـ من جهة عدم جواز انفكاك الإرادة من المراد، فكما أنّ المراد التكوينيّ غير قابل لأن ينفكّ عن الإرادة التكوينيّة، فكذلك المراد التشريعيّ هو غير قابل لأن ينفكّ عن الإرادة التشريعيّة. نعم، بينهما تأخّر رتبي.
فإذا عرفت هذا: فالواجب المعلّق مستحيل، بعدما بيّنّا من أنّ المراد لا يمكن أن يكون متأخّراً عن الإرادة، ولازم عدم جواز انفكاك الإيجاد عن التحريك وعن المتعلّق، هو استحالة الواجب المعلّق؛ لأنّ المفروض: أنّ الوجوب فيه يكون فعليّاً، وأنّ ظرف الواجب فيه هو الاستقبال، فيلزم تخلّف المعلول عن العلّة زماناً.
وبعبارة أُخرى: فكما أنّ الإيجاب، وهو الإرادة، لا ينفكّ عن المراد التكوينيّ، فكذلك الإرادة هنا فهي لا تنفكّ عمّا تتعلّق به.
ولكن قد أجاب عن هذا صاحب الكفاية بأنّ الإرادة قابلة لأن تنفكّ عن المراد، ونمنع من امتناع انفكاك الإرادة التكوينيّة عن المراد؛ فإنّ الإرادة كما تتعلّق بأمر حاليّ، فهي ـ كذلك ـ تتعلّق بأمر استقباليّ إذا كان المراد بعيد المسافة.
فمثلاً: إذا فُرض أنّ الشخص يريد السفر لأجل حصول المال، وأنّ هذا السفر يتوقّف على مقدّمات كثيرة محتاجة إلى زمان طويل، فحينما يهيّئ المسافر نفسه لتحصيل هذه المقدّمات، فتكون الإرادة قد تعلّقت بشيء غير قابل للتحصيل إلّا بعد حصول تلك المقدّمات، فإنّ السفر المتوقّف على تلك المقدّمات أيضاً إنّما هو لحصول ذي المقدّمة أي: المال. فهنا، تكون الإرادة منفكّةً عن المراد بعد ما كانت منوطةً بتحصيل المقدّمات ومضيّ الزمان.
وبعبارة أُخرى: فإنّ المقصود من تعريف الإرادة بأنّها عبارة عن: «الشوق المؤكّد المستتبع لتحريك العضلات نحو المراد» ـ الموهِم لامتناع تعلّقها بالمتأخّر زماناً؛ لامتناع تحريك العضلات نحوه ـ ليس ما هو الظاهر من إرادة التحريك الفعليّ، بل المراد منه تحديد مرتبة الشوق الذي يسمّى ﺑ «الإرادة»، وأنّه هو الحدّ الخاصّ الذي يستتبع التحريك شأناً، لا فعلاً؛ لإمكان أن يتعلّق الشوق فعلاً بأمر استقباليّ غير محتاج إلى تمهيد مقدّمة، ويكون الشوق المتعلّق به أقوى وآكد ممّا تعلّق بأمر فعليّ، بحيث يستتبع التحريك فعلاً.
وأيضاً: فلو سلّم عدم إمكان انفكاك الإرادة التكوينيّة عن المراد، فحال الإرادة التشريعيّة لا يختلف عن التكوينيّة؛ إذ الطلب لابدّ وإن يتعلّق بما هو متأخّر، وذلك لأنّ الطلب والأمر إنّما يكون لجعل الداعي وإحداثه في نفس المكلّف نحو المأمور به.
ولا يخفى: أنّ حدوث الداعي يتوقّف على بعض المقدّمات، كتصوّر العمل بما يترتّب على الإتيان به من مثوبة، وعلى مخالفته من عقوبة، وهذا ممّا لا يمكن أن يتحقّق إلّا بعد البعث بزمان، ولو كان قليلاً جدّاً، فالبعث يتعلّق بالأمر بالمتأخّر عنه دائماً، وإذا لم يستحل ذلك مع قِصَر الزمان، فلا يستحيل ـ أيضاً ـ مع طوله؛ وذلك لأنّ ملاك الاستحالة والإمكان لا يتخلّف فيه الحال بين قِصَر المدّة وطولها بعد انطباق الموضوع عليها، وهو انفكاك المراد عن الإرادة التشريعيّة، فإذا فرض أنّ الانفكاك ممكن، ولم ير العقل مانعاً فيه، فطول الزمان وقصره لا يوجب اختلاف الحال فيه، فتدبّر( ).
وأمّا ما قيل: من ظهور تعريف الإرادة في أنّها: عبارة عن «الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات»، وبناءً على هذا: فيمتنع انفكاك الإرادة عن المراد؛ إذ يمتنع تحريك العضلات نحو ما هو متأخّر زماناً.
ففيه: أنّه لو سلّمنا والتزمنا بعدم جواز انفكاك الإرادة عن المراد، ولكنّ حركة العضلات: تارةً تكون مقصودةً بالأصالة كشرب الماء ونحوه، وأُخرى تكون مرادةً تبعاً، بعدما كانت هناك مقدّمات خارجيّة للمراد، وإنّما لا تنفكّ الإرادة عن المراد لو كان المراد منحصراً في المقصود الأصليّ، فيكون التحريك هناك فعليّاً، وأمّا إذا كان المراد هو التبعيّ، فلا يجب التحريك الفعليّ هناك، ونمنع ـ حينئذٍ ـ من صحّة تعريف الإرادة بالتحريك الفعليّ للعضلات.
نعم، الإرادة عبارة عن التحريك الفعليّ للعضلات في ظرفه، وحين إيجاد المراد. وأمّا الإرادة فإنّما لا توجب التحريك إلى الشيء بالفعل، لا لقصورٍ فيها، بل من جهة الموضوع، فكما يمكن أن تتعلّق الإرادة بالأمر الفعليّ، فكذلك يمكن أن تتعلّق بأمر متأخّر.
ثمّ إنّه لا محالة: ينفكّ الوجوب عن متعلّقه زماناً، فإذا فرضنا أنّ الغرض من الحثّ هو إحداث الداعي، وأنّ الداعي إلى إيجاده يتوقّف على تصوّر الأمر وما يتوقّف عليه، وهذا يحتاج إلى زمانٍ ما، ولو كان في غاية القِصَر، مع أنّه لا تخصيص للدليل العقليّ، فإذا قلنا بعدم جواز الانفكاك، فلا فرق بين قِصَر الزمان وطوله، وكذا إذا قلنا بجواز الانفكاك؛ فإنّه لا فرق ـ أيضاً ـ بين قِصَر الزمان وطوله؛ لعدم الفرق بينهما فيما هو ملاك الاستحالة والإمكان، كما تقدّم.
وبعبارة أُخرى: فإنّ زمان الواجب وامتثاله متأخّر عن نفس زمان الوجوب، ولا يمكن الانبعاث في آن زمان البعث؛ لأنّ زمان الامتثال ينفكّ عن زمان الإنشاء بالضرورة، فجميع الواجبات ـ إذاً ـ معلّقة، بمعنى: كون ظرف امتثالها متأخّراً عن زمان فعليّة الوجوب، ففي التشريعيّات، كالمركّبات الارتباطيّة، تتخلّل الآنات بين الوجوب والواجب؛ فإنّ وجوب الشيء فعليّ وحاليّ، والواجب يكون استقباليّاً.
وبكلمةٍ: فإنّ تأخّر زمان الواجب والامتثال عن نفس الوجوب ضروريّ، فلا يمكن الانبعاث في زمان البعث وفي آن الخطاب.
ولكن بناءً على هذا القول: فلابدّ أن نقول بعدم مشروعيّة الواجبات المضيّقة ـ بناءً على قول المدّعي لجواز تأخّر زمان الامتثال عن نفس الوجوب ـ مع أنّا نرى أنّ زمان الامتثال وزمان الوجوب فعليّ، ولابدّ للواجب أن يقع في تمام الظرف المضروب له، فإذا فُرِض تأخّر زمان الامتثال عن الخطاب، ولو بآنٍ ولحظة، فإنّه يلزم عدم وقوع المقيّد في تمام وقته المحدّد له، وهذا خلف؛ لأنّ الواجب المضيّق هو أن يكون زمان الواجب بمقدار زمان الوجوب، فإذا قلنا بأنّ زمان الامتثال يجوز أن يتأخّر عن زمان الوجوب، يلزم خلوّ آنٍ من النهار عن الصوم؛ لأنّه ـ على الفرض ـ لم يتحقّق الصوم في آن طلوع الفجر، ومن المعلوم: أنّ خلوّ آنٍ من النهار عن نيّة الصوم مبطل له، والالتزام بهذا الكلام موجب للغويّة تشريع الحكم في المضيّقات، وحينئذٍ: فلا مناص من القول بوحدة زمان الواجب والوجوب؛ فإنّ فعليّة الوجوب يتوقّف على جميع ما أُنيط به من القيود.
وبعدما عرفنا أنّ الأحكام الشرعيّة مجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة، وأنّ معنى القضيّة الحقيقيّة ـ كما سبق مراراً ـ هو أخذ العنوان المأخوذ مرآةً لمصاديقه المفروض وجودها موضوعاً للحكم، فيكون كلّ حكم مشروطاً بوجود الموضوع بما له من القيود، بلا فرق بين القيود الاختياريّة وغيرها، كالبلوغ والعقل والزمان والقدرة، وإنشاء هذه القضيّة يكون أزليّاً، وأمّا فعليّتها فتكون مقيّدةً بوجود الموضوع مع جميع قيودها؛ إذ إنّ نسبة الموضوع إلى الحكم هي كنسبة العلّة إلى المعلول، فكما لا يمكن تخلّف المعلول عن علّته، فكذلك الحكم لا يمكن تخلّفه عن موضوعه، بلا فرق بين أن يكون تكليفيّاً، كوجود الصلاة المترتّبة على البلوغ والعقل وغيرهما، أم وضعيّاً، كالملكيّة المترتّبة على الإيجاب والقبول.
إذاً: فكما أنّه يشترط وجود باقي القيود ـ غير الوقت ـ قبل فعليّة الواجب، فكذلك بالنسبة إلى الوقت، فلا يمكن أن يتقدّم الوجوب عليه ـ هو أيضاً ـ ؛ لأنّه لا فرق بين القيود، فالكلّ مشترك في أخذه قيداً للموضوع كما قلنا في الحجّ؛ فإنّ القيود كلّها ترجع إلى الموضوع، وهو (حجّ أيّها المستطيع)؛ لأنّ الملاك في جميعها واحد.
فمثلاً: لو قلنا بأنّ الاستطاعة شرط في وجوب الحجّ، لمكان أنّ الموضوع مقيّد بها، فالوقت ـ أيضاً ـ يكون شرطاً فيه، لوجود نفس الملاك فيه، وإذا فرضناه كذلك فلا يمكن أن يقيّد الواجب به؛ لعدم إمكان تعلّق الخطاب به؛ لأنّه من البديهيّ اعتبار القدرة في متعلّق الخطاب، فلابدّ ـ لذلك ـ من أن يكون مقيّداً للوجوب، وأن يكون منوطاً ومشروطاً به.
وبعبارة أُخرى: فلا مائز بين الوقت وسائر القيود حتّى يفرض بأنّ التكليف بالنسبة إلى سائر قيود الموضوع يكون مشروطاً بها، وبالنسبة إلى الزمان يكون مطلقاً.
فإن كان لمكان تقدّم الإنشاء عليه؛ فإنّ الإنشاء متقدّم على جميع القيود؛ لأنّه أزليّ.
وإن كان لجهة عدم دخله في مصلحة الوجوب، وإنّما يكون له دخل في مصلحة الواجب، ففيه: أنّه بعدما أُخذ الموضوع مفروض الوجود، كما هو الشأن في القضايا الحقيقيّة، فهذا ـ أي: دخله في مصلحة الوجوب ـ ممّا لا يضرّ بالمقام، فلا يعقل أن يتقدّم التكليف عليه؛ لأنّ معناه: أنّ التكليف بالنسبة إليه مطلق، وهذا مستلزم للمحال؛ لأنّه يلزم تخلّف الحكم عن موضوعه، وقد ذكرنا أنّ تخلّف المعلول عن العلّة، كتخلّف الحكم عن موضوعه، محال، فلا يمكن أن يتقدّم الحكم على الموضوع، ولا أن يتأخّر عنه، بل لابدّ أن يكون زمان الوجوب والواجب واحداً.
وقد استشكل في ذلك بعض المحقّقين المعاصرين، بقوله:
«وظنّي: أنّ الذي أوقعه في الاشتباه هو تخيّل أنّ الأمر بالمقيّد أمر بنفس القيد، فتخيّل أنّ الشيء الخارج عن تحت الاختيار والحاصل بنفسه كالوقت كيف يكون واجباً ويقع تحت البعث؟! وقد مرّ أنّ الأمر بالمقيّد ليس أمراً بنفس القيد، وإلّا، لم يبقَ فرق بين الجزء والشرط، بل أمر بالتقيّد، وقد تقدّم أنّ البعث إلى الشيء لا يتجاوز عمّا تعلّق به، وذات القيد خارج، والتقيّد داخل، وإيجاد القيد، وإن كان أمراً غير اختياريّ، كالزمان والسماء، إلّا أنّ إيجاد الصلاة تحت السماء مقدور، وإتيانها في وقته المزبور، لا قبله ولا بعده، أمر ممكن، فلو فرضنا أنّ القيد سيوجد في ظرفه، أو يمكن له الإيجاد في وعائه، يصير الواجب بالنسبة إليه مطلقاً، لا مشروطاً. فاتّضح: صحّة تقسيم الواجب المطلق إلى المعلّق والمنجّز»( ).
وفيما ذكره مواضع للنظر، إذ نقول:
أوّلاً: إنّ الأمر يَرِد على نفس المشروط؛ لأنّ الأوامر تابعة للمصالح والمفاسد، والتقييد ليس بشيء حتّى يرد الأمر عليه، فبما أنّ الزمان ظرف، ففيه المصلحة، ولذا، فلو جيء بالحجّ في غير وقته فليس فيه أيّ مصلحة. فالمقيّد ـ إذاً ـ يرد تحت الأمر.
وثانياً: ما قاله: من أنّ هناك فرقاً بين الجزء والشرط، وأنّه إذا قلنا بذلك لم يبقَ فرق بين الجزء والشرط، فنقول: إذا ورد ذلك فليكن، وهو كما ورد من أنّ «الصلاة ثلاثة أثلاثٍ: ثلث طهور، وثلث ركوع، وثلث سجود»( )، وأمّا تفريقهم بين الشرط والجزء، فما أنزل اﷲ به من سلطان، بل نقول: الجزء قسمان: جزء خارجيّ وجزء داخليّ.
وثالثاً: ما مثّل به من الزمان والسماء، في غير محلّه؛ فإنّ إيجاد الصلاة تحت السماء لا تكون السماء معه دخيلةً في المصلحة، وأمّا الزمان، فإذا كان دخيلاً، فالكلام هو الكلام. ثمّ ما قاله من أنّ إتيانه في وقته المزبور، لا قبله ولا بعده، أمر ممكن، فلو فرضنا أنّ القيد سيوجد في ظرفه أو يمكن له الإيجاد في وعائه، فيصير الواجب بالنسبة إليه مطلقاً، لا مشروطاً، فأنت ترى أنّه إذا لم يمكن الإتيان به إلّا في ذلك الزمان فكيف يصبح مطلقاً بالنسبة إليه، إذاً: فما ذكره من أنّ تقسيم الواجب إلى المعلّق والمنجّز صحيح، فغير تامّ.
وقد استدلّ ـ أوّلاً ـ على الواجب المعلّق:
بأنّه لابدّ من الالتزام بالواجب المعلّق في الواجبات الارتباطيّة، كالصلاة والصوم؛ فإنّ وجوب الجزء الأوّل من الصلاة يكون معلّقاً على حصول سائر الأجزاء، مع أنّ وجوب الجزء الأوّل فعليّ، وشرطه ـ وهو الجزء الوسط والأخير ـ متأخّر، والالتزام بأنّ الواجبات التدريجيّة تصير فعليّةً تدريجيّاً، خلاف الوجدان.
ولكنّ الحقّ: أنّه بعدما ذكرناه من أنّ أجزاء الواجبات استقلاليّة ضمنيّة، فتكون الواجبات التدريجيّة تدريجيّة الحصول، بل يمكن ورود الإشكال بالنسبة إلى جميع الواجبات؛ بداهة أنّ كلّ خطاب مشروط بحياة المأمور إلى وقت إكمال العمل، وإلّا، فمجرّد إدراك جزء من الوقت غير كافٍ في تحقّق الوجوب، وفعليّة صلاة الظهر ـ مثلاً ـ منوطة بأن يدرك المكلّف أربع ركعات من أوّل الوقت بالنسبة إلى زمان يصبح وجوب العصر فعليّاً «إلاّ أنّ هذه قبل هذه».
والجواب عن هذا ـ بعد فرض محاليّة الواجب المعلّق، والقول باستحالة الواجب المشروط والشرط المتأخّر ـ: أنّ الدخيل في الفعليّة هو عنوان التعقّب الذي هو مقارن للوجوب، لا نفس ما ينتزع عنه عنوان التعقّب.
وأمّا ما ذكره الاُستاذ المحقّق بقوله:
«ولكن يمكن أن يقال: أمّا بالنسبة إلى الاُمور التدريجيّة: فالإرادة المحرّكة للعضلات نحو أوّل جزء منها ليست محرّكةً نحو الجزء باعتبار أنّه جزء المراد، بل باعتبار أنّه أوّل وجود المراد، والشروع في إيجاد المراد»( ).
فغير تامّ، بعد ما ذكرناه من أنّها واجبات استقلاليّة ضمنيّة، وليس وجوبها ـ أي: وجوب الأجزاء ـ باعتبار أنّه أوّل وجود المراد والشروع في المراد كما ذكره.
وقد استدلّ له ثانياً:
بأنّه: لو لم يمكن هذا القسم من الواجب، فيلزم جواز تفويت المقدّمات، والنتيجة هي: تفويت الواجب الذي هومتوقّف عليها، أي: لا يجب إتيانه قبل الموسم في الحجّ ـ مثلاً ـ؛ فإنّ الحجّ لو لم يكن واجباً بغير الوجوب المعلّق لم يكن وجه لوجوب المسير؛ إذ إنّ وجوب المقدّمة متوقّف على وجوب ذيها، والمفروض: عدم وجوب ذي المقدّمة قبل الوقت، فيلزم عدم وجوب المقدّمات المفوّتة وأنّه يجوز تركها، وهذا يؤدّي إلى ترك الواجب، مع أنّه لا يجوز تفويت الواجب.
فالنتيجة: أنّ التالي باطل والمقدّم مثله، فمع عدم جواز ترك المقدّمات يكشف عن فعليّة وجوب ذيها قبل الوقت، وهذا هو معنى الواجب المعلّق.
واستدلّ له ثالثاً:
بأنّه: لو لم نقل بالواجب المعلّق، ففي مثل وجوب الغسل على المكلّف ليلاً لصوم يوم غد؛ فإنّه لولا القول بالوجوب فعلاً، فكيف يمكن الالتزام بوجوب الغسل في اللّيل، مع أنّ الصوم غير واجب عليه إلّا بعد طلوع الفجر؟!
واستدلّ له رابعاً:
بأنّه: لولا فعليّة الوجوب، فكيف ـ إذاً ـ يحكم بوجوب التعلّم قبل دخول وقت الواجب، كوجوب تعلّم أحكام الصلاة قبل حصول وقتها، فإنّ الصلاة ـ مثلاً ـ إذا لم تكن واجبةً قبل دخول وقتها، لم يكن تعلّم أحكامها واجباً.
واستدلّ له خامساً:
بأنّه: لولا وجوب الواجب المعلّق، فكيف يجب إبقاء الاستطاعة بعد أشهر الحجّ؟!
واستدلّ له سادساً:
بأنّ استحالة الواجب المعلّق لو كانت، فإنّما هي من جهة انفكاك الفعليّة عن الانبعاث، فبناءً على هذا: لابدّ من إنكار الواجب الموسّع؛ لأنّه يجوز إتيانه في آخر الوقت، فتنفكّ الفعليّة عن الانبعاث في أوّل الوقت ووسطه.
واستدلّ له سابعاً:
بأنّه: كيف يجب الحكم بحفظ الماء قبل الوقت وبعدم جواز إراقته إذا علم عدم تمكّنه من الطهارة المائيّة بعد دخول الوقت؟!
ولكن بالنسبة إلى الدليل السادس نقول: لو فرضنا عدم إمكان الواجب المعلّق، فلا يلزم من ذلك عدم إمكان الواجب الموسّع، فإنّ الصلاة في أوّل الوقت تكون مصداقاً للواجب، ولكنّ الترخيص في بعض أجزاء الوقت جائز، والإتيان به في الجزء الأخير عقليّ، نظير التخيير الشرعيّ.
وقد تصدّى صاحب الكفاية إلى تصحيح الفتوى بالوجوب هنا بوجوه ثلاثة:
الوجه الأوّل: الالتزام بالواجب المعلّق في هذه الموارد. فيصحّ أن نحكم بوجوب المقدّمة المفوّتة قبل الوقت، وقبل فعليّة وجوب ذي المقدّمة.
والوجه الثاني: الالتزام بالوجوب المشروط بالشرط المتأخّر، فإذا علم بحصوله في وقته وظرفه يعلم بفعليّة الحكم فعلاً قبل حصول الشرط، فيترشّح الوجوب من ذي المقدّمة.
فبناءً على كلا الوجهين: لا يكون وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها، بل يلزم الإتيان بالمقدّمة قبل الإتيان بذيها، وهذا ليس بمحذور.
والوجه الثالث: الالتزام بهذه المقدّمات بالوجوب النفسيّ التهيّئيّ، وذلك بعدما عُلِم من عدم سبق وجوب ذي المقدّمة؛ إمّا لعدم إمكانه وعدم تصوّره ثبوتاً، أو لعدم مساعدة الدليل عليه؛ فإنّه لا محيص عن الالتزام بذلك؛ إذ الوجوب الغيريّ محال؛ لعدم وجوب ذي المقدّمة، فيلتزم بالوجوب النفسيّ، غاية الأمر: أنّه ليس لغرضٍ في نفس المقدّمة، بل لتحصيل غرض الواجب والتهيّؤ للإتيان به في ظرفه( ).
وقد استشكل المحقّق الأصفهانيّ في الوجه الثاني الذي ذكره صاحب الكفاية في جواب الإشكال:
بأنّ التخلّص منه ليس بالالتزام بالواجب المعلّق؛ لأنّه لا فائدة في الالتزام بالشرط المتأخّر ما لم يلتزم بتأخّر زمان الواجب، وذلك ببيان: أنّ الغرض تصحيح وجوب المقدّمة قبل زمان ذيها، فلابدّ من فرض تأخّر زمان الواجب وتقيّده بوقت معيّن متأخّر، فالالتزام بالشرط المتأخّر الملازم لفعليّة الوجوب المصحّح لوجوب المقدّمة فعلاً إنّما يتعقّل بناءً على الالتزام بالواجب المعلّق، فحاليّة الوجوب وفعليّته لتحقّق شرطه في ظرفه لا تكفي ما لم يلتزم بالواجب المعلّق، لكون المفروض تأخّر زمان الواجب عن زمان وجوبه( ).
وبالجملة: فالواجب بحسب الفرض مقيّد بزمان معيّن، فالالتزام بفعليّة الوجوب قبله لتصحيح وجوب مقدّماته التزام بالواجب المعلّق أيضاً؛ لأنّه التزام بانفكاك زمان الوجوب عن الواجب، فلا محيص عن الالتزام به، وان التزم باشتراط الوجوب بالشرط المتأخّر وحصول الشرط في ظرفه.
وقد يمكن المناقشة فيه: بأنّ دفع الإشكال المزبور عن تلك الموارد وما هو على شاكلتها لا يتوقّف على الالتزام بالواجب التعليقيّ؛ إذ كما يمكن دفعها بالالتزام به، يمكن دفعه ـ كذلك ـ بالقول بوجوبها وجوباً نفسيّاً، لكن لا لأجل مصلحة في نفسها، بل لأجل مصلحة كامنة في غيرها، فيكون وجوبها للغير، لا بالغير( ).
ولكن يردّ عليه: بتعدّد العقاب، لو قلنا بالشرط المتأخّر، أي: أنّ الوجوب يكون مشروطاً بالشرط المتأخّر، أو الوجوب الكاشف عن تماميّة الملاك بعدما حكم العقل بوجوب تحصيل القدرة قبل حصول الشرط وقبل مجيء زمانه، وبوجوب حفظها بعد دخول الوقت؛ لعدم القدرة بعد ذلك على تحصيلها، ونستكشف من هذا: الوجوب الشرعيّ بقاعدة الملازمة، وهذا الوجوب، وإن كان نفسيّاً، إلّا أنّه لا يمكن أن يكون ترشّحيّاً، لعدم وجوب ذي المقدّمة بعد على الفرض.
ولكنّ هذا الجعل ليس لملاك في نفسه، بل لملاك في الغير، أي: في ذي المقدّمة، بمعنى: أنّ ملاك ذي المقدّمة لا يمكن تحصيله إلّا بجعلين، لا بجعلٍ واحد، وهذان الجعلان مسبّبان عن ملاك واحد، ويسمّى ﺑ «متمّم الجعل».
فيمكن القول: بوجوب هذه المقدّمات مع عدم وجوب ذيها فعلاً، ومع الإغماض عن ذلك، فيمكن الالتزام بحكم العقل بلزوم الإتيان بها؛ فإنّ العقل حاكم بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه، كحكمه بقبح المخالفة الفعليّة، فبعد العلم بأنّ الحجّ في ظرفه ذو ملاك ملزم، وأنّه لو لم يأتِ بمقدّماته بالفعل لفات ذلك الملاك، فالعقل يستقلّ بلزوم الإتيان بتلك المقدّمات، ولو قبل شهر أو أكثر.
ثمّ إنّه فرّق بين الواجبات:
ففي بعضها: أيّد ما التزم به صاحب الفصول من كون الوجوب فيه فعليّاً والواجب استقباليّاً، كمسألة الحجّ والصوم( )، فإنّ الظاهر من آيتيهما ـ ﴿وَلــِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾( )، و﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾( ) ـ هو فعليّة وجوب الحجّ عند فعليّة الاستطاعة، وفعليّة وجوب الصوم عند حضور الشهر.
وأمّا بالنسبة إلى الصلوات الخمس، فقد ذكر أنّ الأدلّة لا تساعد على ذلك؛ فإنّ الظاهر من قوله: «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة»( )، هو تحقّق الوجوب بعد الزوال.
ولكنّ الحق: أنّه لا مجال لهذا التفصيل؛ لأنّه لو قلنا بالاستحالة عقلاً فهي غير قابلةٍ للتفكيك، وبعبارة اُخرى: فإن أمكن القول بوجوب الواجب المعلّق، فبها، وأمّا لو قلنا بالاستحالة، فلابدّ من رفع اليد عن ظواهر الأدلّة التي دلّت على ذلك، ولكن مع ذلك، يمكن المساعدة عليه بالدليل.
فلندخل هنا في صلب الموضوع، وهو أنّ المقدّمات هل يمكن أن تتّصف بالوجوب الغيريّ قبل وجود شرط الواجب، مع أنّ الواجب مشروط بالنسبة إليه أم لا؟
بعد الفراغ من لزوم الإتيان بهذه المقدّمات قبل الإتيان بالواجب في وقته بحيث لو لم يأتِ بها لفات الواجب في ظرفه.
وبعبارة أُخرى: فإنّ النتيجة هي لزوم الإتيان بتمام مقدّمات الواجب المعلّق قبل زمانه أو التحفّظ عليها إذا حصلت قبل وقت الواجب مع علم المكلّف بعدم تمكّنه منها في وقته. ولكن بعدما فرضنا أنّ هذه المقدّمات لا يمكن أن تتّصف بالوجوب الغيريّ قبل وجوب الشرط الذي يكون الواجب مشروطاً بالنسبة إليه، وإلّا، يلزم تحقّق المعلول قبل تحقّق علّته.
وأمّا لو فرضنا إمكان الواجب المعلّق ولكن لم يساعد الدليل على وقوعه، كوجوب تعلّم الصبيان أحكام الصلاة ونحوها قبل البلوغ، فلو قلنا بعدم وجوبه شرعاً عليهم ـ كما هو الصحيح ـ فلازمه: جواز تفويت الصلاة أوّل بلوغهم مقداراً من الزمن أو وجوب التعلّم قبل البلوغ بمقدار من الزمن يتمكّنون من التعلّم فيه.
ولا يمكن أن نقول: بأنّ التعلّم واجب في ذلك الظرف؛ لأنّه لابدّ من القول بسبق وجوب الصلاة على البلوغ، حتى لو فرضنا إمكان الالتزام بالواجب المعلّق؛ فإنّه غير مفيد هنا؛ لأنّه لا تكليف على الصبيان قبل البلوغ.
والحاصل: أنّه يمكن رفع الإشكال عن المقدّمات المفوّتة عن أمثال تلك الموارد ـ بعد بيان الأقوال في المسألة ـ بما بيّنّاه من أنّه على فرض عدم إمكان الواجب المعلّق يمكن الالتزام بوجوب تلك المقدّمات، ولا ملازمة بين المسألتين.
وإنّما يقع الكلام في كيفيّة ذلك الواجب وأنّه عقليّ أو شرعيّ؟!
ويقع الكلام هنا: تارةً في وجوب التعلّم، واُخرى في غيره.

أمّا الكلام في وجوب التعلّم:
فقد يقال: بوجوب التعلّم؛ لأنّه بعد العلم بتماميّة ملاك الواجب في ظرفه، وبأنّ ترك المقدّمة موجب لترك الواجب في ظرفه، فلابدّ من الإتيان بالمقدّمة في أوّل أزمنة الإمكان، لغرض تحصيل القدرة على إتيان الواجب في ظرفه، وهذا الوجوب ليس من قبيل الفعليّ الترشّحي؛ لأنّ ذا المقدّمة لم يكن واجباً بالفعل ـ لعدم حصول شرطه ـ حتّى يترشّح الوجوب منه إلى المقدّمة، بل إنّما هو من ناحية أنّ ترك المقدّمة موجب لترك الملاك الملزم في ظرفه.
وبعبارة أُخرى: فإنّ ترك المقدّمة يوجب العجز عن امتثال الأحكام في ظرفه.
ولكنّ هذا الكلام إنّما يتمّ بالنسبة إلى التعلّم بناءً على إمكان دخول هذه المسألة في المقدّمات المفوّتة حتّى تكون من المقدّمات الوجوديّة للواجب، أي: من المقدّمات التي يتوقّف عليها وجود الواجب.
وأمّا إذا قلنا بأنّه، وإن لم يتعلّم وبقي على جهله، ولكن مع ذلك، فيمكنه الاحتياط حال الجهل، وقلنا بصحّة الاحتياط مع إمكان الامتثال التفصيليّ، فلا يكون الجهل سبباً موجباً لعجزه حينئذٍ.
وبعبارة أُخرى: يمكن أن يقال: بعدم إمكان إرجاع هذه المسألة إلى مسألة المقدّمات المفوّتة؛ لأنّ مرجع تلك المسألة إلى مسألة القدرة، وباب التعلّم أجنبيّ عن ذلك؛ لأنّه وإن فرِض جهله بالحكم، إلّا أنّ ذلك لا يستلزم سلب قدرته؛ حيث إنّ الأحكام مشتركة بين الجاهل والعالم. فلا يكون تركه ـ أي: ترك وجوب التعلّم ـ، من باب المقدّمات المفوّتة حتّى يدخل في قاعدة: «أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار»، وحتّى يكون ملاكه ملاك تلك القاعدة.
بل الملاك في وجوب التعلّم هو عين ملاك الوجوب في الشبهات الحكميّة، فكما أنّ لكلّ من المولى والعبد وظيفةً هناك ولابدّ لكلٍّ منهما من العمل بها، ووظيفة المولى: إرسال الرسال وإنزال الكتب وجعل الأحكام، ووظيفة العبد: الفحص عمّا يريده المولى منه؛ لأنّ العقل يحكم بلزوم العقاب عليه عند تركه للوظيفة وإخلاله بها، كما أنّ العقل يحكم بلزوم النظر في معجزة من يدّعي النبوّة، فإذا لم يكن النظر واجباً لم يكن للنبيّ أن يحتجّ عليه لعدم تصديقه إيّاه؛ لأنّه يمكن للعبد ـ حينئذٍ ـ أن يحتجّ ويقول: ما كنت أعلم بأنّك نبيّ، وما كان النظر واجباً عليّ.
فتحصّل: أنّه في كلا الموردين يحكم العقل بالعمل بالوظيفة، أي: وجوب النظر في المعجزة وتعلّم أحكام الشرع، كما أنّه مع عدم التمكّن من الاحتياط، أو مع القول بأنّ التمييز شرط في العبادات وعدم صحّة الاحتياط مع إمكان العلم التفصيليّ فيدخل في المقدّمات المفوّتة، فيجب التعلّم بحكم العقل بعد علمه الإجماليّ بالأحكام الموجب للفحص عنها حتّى يحصّل المؤمّن من تبعاتها.
مضافاً إلى ما ورد من الروايات الآمرة بوجوب التعلّم بقوله: «إنّ اﷲ تعالى يقول للعبد يوم القيامة: أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟! وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلّمت حتّى تعمل؟!»( ).
ولذا، احتمل بعض المحقّقين وجوب التعلّم نفسيّاً، كما عن المدارك( ).
ومن هنا استشكل المحقّق النائيني في التفصّي بهما؛ لما عرفت من التزامه باستحالة كلٍّ من الواجب المعلّق والشرط المتأخّر، كما أضاف إلى وجه الاستشكال:
أنّ الالتزام بهما لا ينفع في إثبات إيجاب التعلّم قبل البلوغ وقبل الاستطاعة؛ لعدم تحقّق التكليف بذي المقدّمة قبلهما جزماً، مع أنّه لو التزم بتحقّق الوجوب قبلهما فلازمه: إيجاب سائر المقدّمات لا خصوص التعلّم، مع أنّه لا يقول أحد بلزوم المسير إلى الحجّ على من يعلم بتحقّق الاستطاعة فيما بعد. فما هو الفرق بينه وبين سائر المقدّمات الوجوديّة؟( ).
قد يقال: يجب التعلّم بحكم العقل حتّى بالنسبة إلى الصبيّ المميّز؛ لأنّه لولا وجوب التعلّم عليه عقلاً، لفاته العمل في أوائل بلوغه، ولا إشكال في وجوب الصلاة عليه أوّل البلوغ، إذاً: فيجب عليه تعلّم أحكامها قبله.
وما يقال: من أنّ الأحكام مشروطة بالبلوغ، فليس المراد أنّ جميع هذه الأحكام مشروطة به، حتى أمثال هذه الأحكام التي يستقلّ العقل بها؛ فإنّ هذه غير مشروطةٍ بالبلوغ، بل يكفي فيها التمييز، فيجب تعلّم المسائل قبل البلوغ بحكم العقل.
ثمّ هل يمكن استكشاف الحكم الشرعيّ، نفسيّاً كان أو غيره، من هذا الحكم وبقاعدة الملازمة أم لا؟
اختار المحقّق النائيني ذلك( )، بدعوى: أنّ حكم العقل بوجوب المقدّمة ـ بقاعدة الملازمة ـ دليل على أنّ الشارع أيضاً أوجب ذلك حفظاً للغرض، فيكون ذلك الجعل متمّماً للجعل الأوّل.
والصحيح: أنّه لا يمكن استكشاف الحكم الشرعيّ منه؛ فإنّ العقل بنفسه يحكم باستحقاق العقوبة على تقدير المخالفة، حيث يرى عدم جواز تفويت الغرض في وقته، فحكم العقل كافٍ في لزوم حركة العضلات، ومن هذا الحكم ينبعث لزوم الإتيان بالمقدّمات، كما هو الحال في مطلق موارد حكمه بذلك.
وفي مقام الإثبات أيضاً، إنّما تكون تلك الملازمة إذا كان العقل مدركاً لملاك الحكم، من المصلحة والمفسدة، ومن أين له السبيل إلى ذلك؟!
فلا تحتاج المسألة إلى مورد الأمر المولويّ، ولو فرِض وروده من الشارع، فهو إنّما يكون إرشاداً إلى حكم العقل، وعليه: فالتعلّم واجبٌ بحكم العقل، و يقبح العقاب على تركه إلّا إذا كان هناك مؤمّن شرعيّ أو عقليّ، وليس وجوبه نفسيّاً ـ خلافاً لصاحب المدارك ـ؛ لأنّه بحاجةٍ إلى دليلٍ حتّى يكون العقاب على تركه شرعاً.
والعجب من الشيخ فإنّه وإن كان يبني على وجوب التعلّم عقلاً لا شرعاً، ومع ذلك، فقد حكم بفسق تارك تعلّم مسائل الشكّ والسهو ولو لم يتّفق الشكّ والسهو وفيها.
ثمّ إنّه لو ترك التعلّم وعلم، أو اطمأنّ، بالابتلاء وعدم التمكّن من التعلّم في ظرفه، أو احتمل الابتلاء، ففي هذه الصورة: تارةً تكون المسألة ممّا يبتلى بها غالباً كمسائل الشكّ في الصلاة، فلا إشكال في وجوب التعلّم في هذه الصورة بعد علمه بتوجّه التكليف إليه في ظرفه، بلا فرق بين أن تكون المسألة ممّا تعمّ بها البلوى أم لا.
وكذا في صورة الاحتمال بالابتلاء؛ لأنّه يكفي في حكم العقل بذلك كون الشخص واقعاً في معرض الابتلاء، ولو لم يعلم بذلك؛ لأنّ العقل حينما يأمر العبد بأنّ يعمل بالوظيفة، فيكفي في حكمه مجرّد الاحتمال بأنّه يقع في معرض ذلك، ومن هنا حكم العقل بوجوب تعلّم مسائل الشكّ والسهو، ولو لم يعلم المكلّف بابتلائه بهما.
نعم، في صورة العلم بعدم الابتلاء، فلا يجب.
وأمّا في الصورة الثالثة، أي: فيما لم تكن المسألة عامّة البلوى، فلا تجب، ولعلّه لجريان أصالة عدم الابتلاء؛ فإنّ هذا الأصل يكون سبباً لدفع احتمال الابتلاء الذي هو موضوع وجوب التعلّم؛ فإنّ المكلّف في هذا الفرض ليس في محلّ الابتلاء، وإن كان يحتمله، ولكن هذا الابتلاء يُدفع بالأصل أي: استصحاب عدم الابتلاء.
وأمّا إذا فرض بأنّ المسألة ممّا يبتلى بها غالباً، وحكم العقل بلزوم التعلّم، فلا تصل النوبة إلى الاُصول العمليّة؛ إذ ليس موضوع حكمه الابتلاء الواقعيّ حتّى يدفع بالأصل.
بل يمكن أن يقال: بعدم جريان العلم الإجماليّ بانتقاض الحالة السابقة في بعض الموارد جزماً، أي: في الموارد التي يكثر فيها الابتلاء، إذاً: فموضوع حكم العقل هو كونه في معرض الابتلاء كثيراً، ولا يمكن ارتفاعه باستصحاب عدم الابتلاء.
أمّا عدم كونه نفسيّاً مستقلّاً، وهو وجود الملاك في التعلّم ووجوبه نفسيّاً، ففيه: أنّه ليس في التعلّم أيّ ملاك، نعم، الملاك الموجود فيه هو الوصول إلى ملاكات الخطابات الواقعيّة.
وأمّا عدم كونه نفسيّاً بالمعنى الآخر، أي: لجهة كونه طريقاً إلى تحصيل الواجبات الواقعيّة، فإنّه مع ذلك لا نحتاج إلى القول بالوجوب النفسيّ في التعلّم مع حكم العقل بوجوبه. ولو فُرِض وضع حكمٍ من الشارع، فإنّما يكون إرشاديّاً.
إن قلت: إنّه بقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع يمكن إثبات الحكم الشرعيّ للتعلّم.
قلنا: إنّ استكشاف الحكم الشرعيّ من العقل إنّما يتمّ فيما إذا كان الحكم العقليّ واقعاً في سلسلة علل الأحكام، أي: بأن يكون كاشفاً عن المصالح والمفاسد، لا ما إذا كان في سلسلة المعلولات كما فيما نحن فيه، بل مقامنا من باب: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾( )، وهو حكم إرشاديّ محض.
ثمّ إنّ وجوب التعلّم على نحو الطريقيّة إنّما يتمّ فيما إذا كان مؤدّى الواجب عين الواقع عند المصادفة، فقولنا ـ مثلاً ـ : (قبول خبر الثقة لازم) فهو طريقيّ، ومعناه: أن مؤدّاه عين الواقع عند المصادفة. بخلاف المقام؛ فإنّ وجوب تعلّم أجزاء الصلاة ليس عين الصلاة؛ فإنّ تعلّم الشيء ليس نفس الشيء.
وأيضاً: فلو كان وجوبه شرعيّاً لكان جواب العبد حينما يقول له الباري: هلّا عملت، جواباً صحيحاً، إلّا أن يقال: بأنّ الوجوب وجوب نفسيّ تهيّئيّ، وقد مرّ أنّ الوجوب هنا ليس إلّا إرشاديّاً محضاً.

وأمّا الكلام في غير التعلّم
وهو المقدّمات المفوّتة التي لو جيء بها لكان المكلّف قادراً على إتيان الواجب في ظرفه، والتي يكون المكلّف غير قادر على الإتيان لولاها، كتحصيل الماء أو حفظ القدرة الذي يتوقّف الواجب عليها.
وقبل الدخول في البحث لابدّ من بيان امور:

الأمر الأوّل: الفرق بين القدرة العقليّة والشرعيّة:
وذلك من وجهين:
أوّلهما: أنّ القدرة العقليّة هي التي لم تؤخذ في لسان الدليل، بل العقل يحكم بقبح تكليف العاجز من دون أن يعتبرها الشارع. وأمّا القدرة الشرعيّة، فهي ما اُخذت في لسان الدليل.
والثاني: أنّ للقدرة الشرعيّة دخلاً في ملاك الحكم، دون العقليّة، فإنّها دخيلة في حسن الخطاب.

الأمر الثاني: في بيان قاعدة> الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار:<
لا يخفى: أنّ قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً، وأمّا خطاباً، فلا؛ لأنّ الخطاب يتعلّق بالمقدور، والفعل غير مقدور للمكلّف وخارج عن اختياره، فالخطاب إليه لغو محض.
أمّا عقابه بعد أن أجبر نفسه باختياره وسلب قدرته عليه، فلا مانع منه، فلا قبح فيه؛ لأنّ هذا الاضطرار منتهٍ إلى اختياره، فلا يحكم العقل بقبح هذا العقاب أبداً، فلو ألقى نفسه من شاهق، أو دخل الأرض المغصوبة ولم يتمكّن من الخروج، فإنّ الخطاب والتكليف عنه ساقط حيث كان خارجاً عن اختياره، وأمّا عقابه، فلا.
إذا عرفت هذا، فنقول:
كيف يمكن أن يقال بوجوب المقدّمات المفوّتة قبل حصول الواجب النفسيّ، كالغسل قبل الفجر على من وجب عليه صوم ذلك اليوم؟
وبعبارةٍ أُخرى: فكيف يعقل وجوب المقدّمة قبل ذيها، مع أنّ وجوبها إنّما يكون من آثار وجوب ذيها؟!
وقد اُجيب عن هذا السؤال:
بقاعدة «أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار»؛ حيث إنّ المصلحة تكون للواجب النفسيّ، وإن لم يتّصف بها الواجب فعلاً، وقبل تحقّق شرطه، ومع ذلك، إذا علم المكلّف بأنّ شرطه يتحقّق في المستقبل، ويتّصف الفعل بالمصلحة، فهذا الاتّصاف يلزمه ـ عقلاً ـ بحفظ قدرته إلى وقت الامتثال، وتحصيل القدرة عليه، حيث لو لم يحفظ قدرته بالفعل لم يكن قادراً على إتيان الواجب في ظرفه، فعدم حفظها موجب لتفويت الواجب.
وهذا هو ديدن العقلاء؛ فإنّهم إذا علموا بأنّه يأتي عليهم زمان تكون فيه مصلحة لهم بإتيان بعض الاُمور، فإنّهم يحتفظون بتلك الوسائل التي يتمكّنون معها من تحصيل تلك المصلحة في ظرفها، حتّى إذا لم يكونوا واجدين لشيء منها قبل مجيء ذلك الزمان، سعوا في تحصيل ذلك.
وهكذا بالنسبة إلى المفاسد، فإنّهم يعملون على دفعها بتهيئة الأسباب لذلك، إذا علموا بأنّهم سوف يبتلون بها في المستقبل لدى تهاونهم في دفعها فعلاً.
فإذا كان شأن العقلاء كذلك بالنسبة إلى المصالح والمفاسد، فليكن، هو أيضاً، شأن المكلّفين ـ وهم من العقلاء أيضاً ـ في المصالح التي يريد الشارع تحصيلها في ظرفه، بقاعدة الامتناع بالاختيار، وبقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع.
وقد يقال في ردّ الإشكال:
إنّ وجوب المقدّمة هنا وجوب نفسيّ تهيّئيّ، لأجل إمكان الامتثال لواجبٍ آخر في ظرفه، فلو أهمل المكلّف تهيئة المقدّمات وتعذّر عليه امتثال الواجب عليه في ظرفه، فإنّه يستحقّ العقاب؛ لأنّه في تقصيره فيما سبق، أوجب عدم تمكّنه من إتيان الواجب في ظرفه.
ولكن قد أُجيب عن هذه القاعدة:
بأنّها إنّما تتم فيما إذا كان التفويت عن تقصير، أي: فيما إذا تحقّق التكليف في حقّ المكلّف مع اجتماع الشرائط، ولكن قصّر المكلّف في تهيئة مقدّمات امتثاله حتّى امتنع عليه الامتثال فيما بعد؛ فإنّ امتناع امتثاله في ثاني أزمنته، وإن أوجب سقوط الخطاب بالنسبة إليه، لكن بما أنّه عصى ذلك الخطاب، وكان هذا العصيان باختياره، فهو يستحقّ العقاب.
وأمّا قبل وقت وجوب الواجب وفعليّته، فلو قصّر عن تحصيل المقدّمات التي لو قام بتحصيلها قبل تحقّق وقت الخطاب لتمكّن من امتثال الواجب في ذاته، ولكن لو تساهل ولم يحصّلها حتّى عجز عن امتثال الواجب في ظرفه، فلا يكون المكلّف بتساهله هذا في تحصيل هذه المقدّمات مقصّراً من امتثال التكليف أصلاً.
أمّا بالنسبة إلى ذي المقدّمة: فلأنّه لم يتوجّه إليه خطابٌ في ظرفه؛ لعدم قدرته على الامتثال إلّا في ظرفه.
وأمّا المقدّمة: فلأنّه لم يتحقّق تكليفٌ بها؛ لأنّه لم يرد تكليف بها، لا شرعاً؛ لأنّه معلوم، ولا عقلاً؛ لعدم وجود ملاكٍ فيها.
وقد يقال: بوجوب حفظ المقدّمات وتحصيلها؛ إذ قبح التكليف والخطاب إنّما يكون إذا كان المكلّف عاجزاً، والمفروض أنّه لم يكن بعاجزٍ، بل هو قادر، ولو بحفظ قدرته.
ولكن نقول: ما الدليل على وجوب حفظ هذه القدرة؟ فهل للعقل إيجاب حفظ المقدّمة وقبح تفويتها؟!
لا مجال للالتزام بذلك؛ لأنّ حفظ المقدّمات وتحصيلها وقبح تفويتها وحرمتها إنّما هو للتوصّل إلى ذي المقدّمة، والمفروض عدم الدليل على وجوب هذا الحفظ أو تحصيلها قبل الوقت.
فقبح التفويت أو وجوب التحصيل، إنّما يكون إذا كانت الإرادة والفعليّة والبعث إلى ذي المقدّمة موجودة، فحينئذ: يجب تحصيل المقدّمات؛ لأنّ المقدور بالواسطة مقدور، ولا دليل ـ حينئذٍ ـ على وجوب المقدّمة، لا شرعاً، كما هو المعلوم، ولا عقلاً، إلّا من جهة حكم العقل بحفظ المقدّمة بعد وجوب ذي المقدّمة.

مسلك صاحب الكفاية  في حلّ الإشكال:
سلك صاحب الكفاية طرقاً ثلاثة لدفع الإشكال المزبور:
الأوّل: هو ما ذكرناه، وهو قاعدة الامتناع بالاختيار.
والثاني: أنّ العقل يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى الملزم إذا لم يتمكّن من إيجاد الأمر على طبقه؛ لعدم التفاته، أو لغير ذلك، كما لو رأى العبد ابن سيّده في الحوض، بحيث لو تركه لغرق، ولم يكن سيّده حاضراً، فإنّه يجب إنقاذه، تحصيلاً لغرض مولاه؛ لأنّه يعلم أنّه لو كان سيّده حاضراً، لأوجب عليه إنقاذ ابنه.
نعم، لو كان المولى متمكّناً من الأمر، ولم يأمر، لم يجب على العبد تحصيل غرضه في هذه الحال؛ لأنّ عدم أمره مع تمكّنه منه، يكشف عن عدم إرادته تحصيل هذا الغرض، ولو كان ملزماً في نفسه.
ولكن قد عرفت أنّ الكلام في أنّ العقل هل يحكم في مسألتنا أم لا؟
والثالث: أنّ القدرة على العمل:
تارةً: لا تكون دخيلة في الملاك، بل تكون شرطاً عقليّاً لتصحيح التكليف، وإلّا، فالملاك بدونها حاصل.
وأُخرى: تكون دخيلة في الملاك، فتكون شرطاً شرعيّاً، وهي في هذا الفرض، تارةً: تكون دخيلة في الملاك مطلقاً، في أيّ ظرفٍ تحقّقت، وأُخرى: تكون دخيلة على تقديرٍ خاصّ وظرفٍ معيّن، لا مطلقاً. والثانية: تارةً: تكون دخيلة فيه بعد حصول شرط الوجوب، ولو قبل تحقّق زمان الواجب، وأُخرى: تكون دخيلة فيه بعد تحقّق زمان الواجب، فالقدرة الحاصلة قبل ذلك غير محصّلة للملاك أصلاً.
فالاحتمالات أربعة:
أمّا الأوّل والثاني: فيلزم على تقديرهما وجوب تحصيل المقدّمات في أوّل أزمنة الإمكان.
وأمّا الثالث: فيفرّق فيه بين المقدّمات المفوّتة قبل حصول شرط الوجوب، والمقدّمات المفوّتة بعد حصوله، فلا يحرم تفويتها على الأوّل، دون الثاني.
وأمّا الرابع، فلا يجب الإتيان بالمقدّمات المفوّتة قبل وقت الواجب( ).
وفيه: أنّ هذه التقسيمات إنّما هي في مقام الثبوت والإمكان، والكلام إنّما هو في مقام الإثبات.
وأمّا الجواب عمّا قيل من أنّ الوجوب هنا نفسيّ تهيّئيّ، فنقول:
إنّ المصلحة الموجودة فيها نفسيّاً: هل هي مصلحة التهيّؤ لواجب آخر أم لا؟
فإن كانت كذلك فهي عين مصلحة الوجوب الغيريّ، ويرد الإشكال فيه كما سبق.
وإن كانت مصلحة شيءٍ آخر فلا تكون مقدّمةً لها حينئذٍ.
إن قلت: مصلحته لشيء آخر، وإن استلزمت تلك المصلحة التهيّؤ.
قلنا: هذا، وإن كان أمراً ممكناً في مرحلة الثبوت، إلّا أنّه خلاف الظاهر في مرحلة الإثبات.
مع أنّه لا جدوى لهذا البحث إذا فرض أنّ المقدّمة قد ورد عليها الأمر من الشارع؛ فإنّه لابدّ من الإتيان بها حينئذٍ، ولا فرق بين أن تكون واجبةً بالوجوب النفسيّ أم الغيريّ. والكلام إنّما هو فيما إذا لم يرد دليل من الشارع، ولم يأتِ ظرف ذي المقدّمة حتّى يقال: بأنّه لابدّ من تحصيل المقدّمة؛ لأنّك تتمكّن من إتيان ذي المقدّمة بعد تحصيل المقدّمة قبله، والمقدور بالواسطة مقدور.
نعم، في صورةٍ واحدة يجب تحصيل المقدّمة حتّى لو لم يأتِ زمان امتثال ذي المقدّمة، وهي: ما إذا كان الملاك في الواجب تامّاً، وتكون القدرة المأخوذة هي القدرة العقليّة، وغير دخيلة في الملاك، كما في حفظ بيضة الإسلام، فإنّه يعلم أنّه لو لم يقم بتحصيل المقدّمات، أو لم يحافظ على قدرته كذلك، لما تمكّن فيما بعد، فالعقل يحكم حينئذٍ بوجوب تحصيل المقدّمات أو حفظها لئلّا يفوت الملاك الملزم في ظرفه.
ولكن يمكن أن نلتزم بوجوب المقدّمة عقلاً على الإطلاق؛ لأنّ ترك المقدّمة يكون مؤدّىاً لتعجيز المكلّف عن التكليف في ظرفه، مع أنّ المقتضي موجود، والعقل يحكم بعدم جواز هذا الترك وقبحه، إذاً ـ لا محالة ـ يحكم العقل بلزوم إتيان المقدّمة في أوّل أزمنة الإمكان لكي يتمكّن من الإتيان بالواجب في ظرفه وحصول القدرة عليه، وليس هذا الوجوب لأجل أنّ الترك يؤدّي إلى تفويت الغرض الملزم.
ومن هنا عرفت ما فيما ذكره الاُستاذ الأعظم من أنّ «ترك هذه المقدّمات، وإن استلزم ترك الواجب في موطنه، إلّا أنّه لا قبح فيه، وذلك لأنّ القبيح أحد أمرين: إمّا مخالفة التكليف الفعليّ، والمفروض عدمه، أو تفويت الغرض الملزم، والفرض خلافه، فإذاً ما هو الموجب لقبحه؟!»( ).
وبعبارة أُخرى: فقد عرفت حكم العقل بقبح ترك المقدّمة، لا من ناحية أنّ تركها يؤدّي إلى ترك الواجب الفعليّ؛ لأنّ الواجب ليس بفعليّ، لا قبل الوقت، كما هو معلوم، ولا بعد الوقت، لعدم القدرة عليه حينئذٍ.
فإن قلت: إنّ الوضوء قبل الوقت غير واجب، بل قيل: إنّه غير مشروع، فمقدّماته، كتحصيل الماء، لابدّ أن لا تكون واجبةً هي أيضاً.
قلنا: إنّ وجوب المقدّمات كان من جهة التعجيز لو تركها، ولذا أفتى بعض الفقهاء بوجوب حفظ الماء الحاصل قبل الوقت ووجوب تحصيله لو لم يحصل بعد الوقت، ولا يلتزمون بوجوب الوضوء قبل الوقت للصلاة، بل يلتزمون بعدم مشروعيّته.
والفرق واضحٌ؛ لأنّ الوضوء قبل الوقت لا يتّصف بالمصلحة الغيريّة، فلا يمكن أن يؤتى به بعنوان الواجب الغيريّ، كما أنّ نفس الصلاة لا تتّصف بالمصلحة النفسيّة إلّا بعد دخول الوقت.
وقد يُستشكل ـ بناءً على هذا ـ بأنّه لو توضأ قبل الوقت لغير الصلاة ولم ينقضه، فكيف تقولون بصحّة الصلاة بهذا الوضوء بعد الوقت؟!
ولكن يُردّ هذا الإشكال: بأنّنا نستكشف من اتفاق العلماء على عدم مشروعيّة الوضوء للصلاة قبل الوقت، والاتّفاق على صحّة الصلاة مع الوضوء الذي جيء به قبل الوقت لأجل غايةٍ أُخرى، نستكشف أنّ الذي لا يتصف بالغيريّة هو الأول.
أمّا الوضوء الذي يؤتى به لغاية مشروعة، فإذا استمرّت الطهارة إلى دخول الوقت، فإنّه يتصف بالمصلحة الغيريّة.
ولو كنّا نحن والقاعدة، لقلنا بالفرق الذي ذكره المحقّق النائيني بين تفويت القدرة قبل الوقت بجعل نفسه محدثاً اختياراً، بجماعٍ أو نحوه، مع عدم تمكّنه من الماء بعد الوقت، وبين تفويتها بإهراق الماء، فاختيار الجواز في الأول دون الثاني في غير محلّه.
إلاّ أنّه اختار ذلك من جهة استناده إلى رواية صحيحة.
ولكنّ اُستاذنا الأعظم ادّعى أنّا لا نرى ورود أيّ رواية في هذا الموضوع، فضلاً عن الرواية الصحيحة( ).
وممّا ذكرناه ظهر الحال فيما ذكره الاُستاذ الأعظم من أنّه لا يجب حفظ القدرة قبل الوقت، ولا تحصيلها، تبعاً للمحقّق النائيني، في أنّ مورد قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار هو فيما إذا كان الخطاب موجّهاً إليه من قبل المولى، ففي فرض أنّ الامتثال يكون فعليّاً وواجباً، فلو أعجز العبد نفسه بسوء اختياره ولم يحصل على القدرة في ظرف لزوم الامتثال بسبب تعجيزه نفسه، فالقاعدة تشمله، وأمّا قبل وجود الخطاب وفعليّة التكليف فلا يجب تحصيل المقدّمة ولا حفظها ولا تشمله القاعدة المزبورة( ).
ولكنّ الحق: بما أنّه لا فرق في نظر العقل بين هاتين الحالتين ـ أي: بين كون الخطاب موجوداً فعلاً، أو كون وجوده في المستقبل ـ إذ في كلتا الحالتين يحكم بلزوم التحصيل أو حفظ القدرة، كما مثّل اُستاذنا المحقّق للمورد بما إذا نزل ضيفاً عند شخص وكان واجب الإكرام بنظر العقل إمّا بملاك شكر المنعم، أو الأمن من العقاب أو بأيّ ملاكٍ آخر في نظره، فكذلك في المقام، فإنّه لو علم بأنّ نزول الضيف عليه سيكون في الغد، ولكنّ الأسواق ستكون معطّلة في الغد لا يمكنه فيه تهيئة شيء من أسباب الإكرام، فإنّ العقل يحكم عليه بلزوم دخول السوق الآن وتهيئة أسباب الإكرام، كما أنّه إذا كانت الأسباب موجودة عنده بالفعل، فاللّازم عليه حفظها إذا لم يمكن تحصيلها في الغد، فلو لم يفعل يعدّ في نظر العقل من الذين يجعلون امتناع امتثال التكليف عليهم بسوء الاختيار، ولا يقبح عقابهم حينئذ.
ثمّ فرّق بين القدرة العقليّة والشرعيّة، ففصّل بينهما، بأنّ القدرة الشرعيّة:
إن أُخذت مطلقة، فحكمها حكم القدرة العقليّة من وجوب حفظها، ولا يعذر عند العقل لو تركها، أي: لو لم يحفظها أو لم يحصلها قبل ظرف وجوب الواجب.
وأمّا إذا اعتبرت القدرة خاصّة فلابدّ أن يرجع إلى دليل اعتبارها:
فتارةً: يظهر من الدليل أنّ القدرة أُخذت في خصوص زمان امتثال الواجب، فحينئذ: لا يجب تحصيلها أو حفظها.
وأُخرى: تتصوّر القدرة قبل حصول ذلك الأمر وفعليّة الواجب، فحينئذٍ: يجب تحصيلها بعد ورود الأمر، وإن لم يأتِ زمان الإتيان بالواجب. نعم، لا يجب تحصيلها أو حفظها قبل زمان الأمر( ).


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com