مبحث النواهي

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

مبحث النواهي


والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل: في الفرق بين صيغة الأمر وصيغة النهي:
لا يخفى: أنّ النواهي كالأوامر ترد على الطبائع الكلّيّة، والفرق بينهما فقط في أنّ المراد في الأمر هو وجود الطبيعة، وفي النهي هو الترك.
قال صاحب الكفاية: <الظاهر: أنّ النهي بمادّته وصيغته في الدلالة على الطلب مثل الأمر بمادّته وصيغته، غير أنّ متعلّق الطلب في أحدهما الوجود، وفي الآخر العدم>( ).
فعندهأنّ الاختلاف بينهما ينحصر في المتعلّق، فمتعلّق الأمر هو نفس الفعل، وأمّا متعلّق النهي فهو الترك، وإلّا، فالمستفاد من كلٍّ من النهي والأمر مادّةً وصيغة، شيء واحد، وهو الطلب. ومن هنا رأى الآخوندأنّه <يعتبر فيه [أي: في النهي] ما استظهرنا اعتباره فيه [أي: في الأمر] بلا تفاوت أصلاً>( )، فكما يعتبر في صدق الأمر لزوم صدوره من العالي، فكذلك النهي.
ولكنّ هذا الرأي لم يتّفق عليه الأعلام، بل خالفه بعضهم، فذهب إلى اختلاف النهي بمادّته وصيغته مع الأمر مفهوماً، وأنّ ما ذهب إليه صاحب الكفاية يتنافى مع الوجدان لوجهين:
الأوّل: انتقاضه ببعض الواجبات المطلوب فيها الترك، كالصوم، مع أنّها لا تعدّ من المحرّمات، بل من الواجبات.
الثاني: أنّ مراجعة الوجدان تشهد بأنّ النهي ينشأ عن مفسدة في الفعل يكون بها مبغوضاً للمولى ومتعلّقاً لكراهته فيزجر عبده عنه، فواقع النهي يختلف عن واقع الأمر، فإنّه كراهة الفعل، والأمر إرادة الفعل، كما أنّ المنشأ في النهي هو الزجر عن الفعل، والمنشأ في الأمر طلبه والبعث إليه، فيختلف الأمر والنهي مفهوماً ومادّةً وصيغةً، ومتعلّقهما واحد، وهو الفعل( ).
ولكنّ الحقّ: ما ذكرناه أوّلاً، من أنّ حقيقة النهي ليست سوى أنّه طلب الترك؛ ذلك لأنّ مفهوم النهي ليس إلّا طلب الترك وعدم الفعل، ولا تعلّق له بالفعل، وأمّا الانزجار عن الفعل فليس إلّا لازم إرادة ترك العمل التي هي حقيقة النهي الصادر عن المولى.
وليس هناك موجب للقول بأنّ النهي بمعنى الكفّ، بدعوى أنّ الترك هو العدم الأزليّ، وهو ليس اختياريّاً، فلا يمكن أن تتعلّق به المطلوبيّة؛ بل العدم الأزليّ ـ بوجهٍ من الوجوه ـ يُعدّ أمراً اختياريّاً؛ فإنّ القدرة إنّما تتعلّق بالعدم باعتبار بقائه، فنفس العدم الأزليّ وإن كان خارجاً عن الاختيار، إلّا أنّ إبقاءه أمر اختياريّ للمكلّف، لقدرته على كلا الطرفين، أعني: نقض الاستمرار وإبقاءه، فإنّه بمجرّد كونه قادراً على الأوّل يكون قادراً على الثاني لا محالة. وعلى هذا الأساس: فالإعراض عن مقولة أنّ النهي هو طلب الترك إلى مقولة أنّه ليس إلّا طلب الكفّ عن الفعل، بزعم عدم معقوليّة تعلّق الطلب بالترك في غير محلّه.

الأمر الثاني:
عرفنا أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، فكما أنّ الأمر إنّما يتعلّق بالشيء باعتبار وجود المصلحة الملزمة فيه، فباعتبار التقابل بين الأمر والنهي، فإذا ورد النهي على شيء فإنّما يرد عليه باعتبار وجود المفسدة الملزمة فيه. فالأمر ـ إذاً ـ هو النسبة الطلبيّة الوجوديّة، والنهي هو النسبة الطلبيّة العدميّة.
وأمّا ما أفاده المحقّق العراقيّ من <أنّ المادّة حاكية عن وجود تلك الماهيّة، سواء كانت في الجمل الخبريّة أو الإنشائيّة، والإنشائيّة سواء كانت في الأوامر أو النواهي، فلابدّ وأن يكون مفاد النهي معنىً قابلاً لأن يتعلّق بالوجود، وليس هو إلّا الزجر والردع، كما أنّه في الأمر يُسمّى ﺑـ <البعث>( ).
وكذا ما أفاده اُستاذنا الأعظمفي حاشيته على أجود التقريرات بقوله: <التحقيق: أنّ متعلّق النهي إنّما هو الفعل، ومعنى النهي عنه هو الزجر عنه الناشئ عن اشتماله على المفسدة، فالنزاع في كون المطلوب في النواهي هو الكفّ عن الفعل أو نفس تركه باطل من أصله. نعم، ربّما يكون الترك مطلوباً لاشتماله على المصلحة الداعية إلى طلبه، لكنّ ذلك يرجع إلى إيجاب الترك، وهو أجنبيّ عن تحريم الفعل كما هو ظاهر>( ).
ففيه: أنّه كما أنّ البـعث من لـوازم الأمـر، وليـس نفسه، فالزجر ـ أيضاً ـ يكون من لوازم ترك الشيء، وليس نفس النهي، وبالجملة: فليسا بموضوعين للبعث والزجر؛ لأنّهما اسميّان، ومفاد الهيئة معنىً حرفيّ.

الأمر الثالث:
ذكرنا أنّ مقتضى الأمر هو طلب إيجاد الطبيعة، ومقتضى النهي هو طلب ترك الطبيعة، ويحصل الأوّل بأوّل وجودات الطبيعة، بخلاف الثاني؛ فإنّه لا يحصل إلّا بترك جميع أفرادها، والحاكم بهذا الفرق بينهما هو العقل كما ذكره صاحب الكفاية، حيث قال ـ ما لفظه ـ:
<ثمّ إنّه لا دلالة لصيغته على الدوام والتكرار، كما لا دلالة لصيغة الأمر، وإن كان قضيّتهما عقلاً تختلف، ولو مع وحدة متعلّقهما، بأن يكون طبيعة واحدة بذاتها وقيدها تعلّق بها الأمر مرّةً والنهي أُخرى، ضرورة أنّ وجودها يكون بوجود فردٍ واحد، وعدمها لا يكاد يكون إلّا بعدم الجميع، كما لا يخفى>( ).
وتوضيحه: أنّ حصول الطبيعة في الأمر يكون بمجرّد إيجاد فردٍ منها، وذلك لانطباق الطبيعة عليه قهراً؛ لأنّ وجود الفرد وجودها، فإنّ وجود الكلّيّ الطبيعيّ في الخارج ما هو إلّا وجود نفس الفرد، وبمجرّد وجود الفرد يكون الغرض قد حصل، وذلك موجب لسقوط الأمر.
وأمّا في طرف النهي فإنّ عدم الطبيعة متوقّف على عدم جميع أفرادها عقلاً؛ لأنّ المطلوب هو ترك الطبيعة، ولا يحصل الترك إلّا بترك جميع أفرادها، الطوليّة منها والعرضيّة، ولذا، لو أتى بفرد واحد يكون قد عصى النهي، فيسقط بالعصيان.
هذا، ولكنّ هذا الفرض، إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ المطلوب في باب النواهي إنّما هو السلب الكلّيّ، وبنحو العامّ المجموعيّ. وأمّا لو قلنا بأنّه بنحو العامّ الاستغراقيّ، بحيث يكون لكلّ وجود عصيان بحقّه، ولكلّ فرد امتثال وعصيان مستقلّ، غير مربوط بعصيان أو امتثال سائر الأفراد، فمن الواضح حينئذٍ: أنّ النهي لا يسقط بمجرّد العصيان في أحد الأفراد.
وقد استشكل فيما ذكره صاحب الكفاية اُستاذنا الأعظم بما لفظه:
<وعلى هدي ذلك البيان الإجماليّ قد ظهر أنّه لا أصل لما هو المشهور من أنّ صرف وجود الطبيعة يتحقّق بأوّل الوجود، وصرف تركها لا يمكن إلّا بترك جميع أفرادها، والوجه في ذلك: هو أنّ صرف ترك الطبيعة كصرف وجودها، فكما أنّ صرف وجودها يتحقّق بأوّل الوجود، فكذلك صرف تركها يتحقّق بأوّل الترك، ضرورة أنّ المكلّف إذا ترك الطبيعة في آنٍ ما، لا محالة يتحقّق صرف الترك، كما أنّه لو أوجدها في ضمن فردٍ ما يتحقّق صرف الوجود، فلا فرق بينهما من هذه الناحية أصلاً، وهذا لعلّه من الواضحات الأوّليّة>. انتهى موضع الحاجة( ).
وملخّص ما أفاده: أنّ ما ذكره في الكفاية إنّما يتمّ لو كان النهي عبارة عن الزجر عن الفعل، إذ يُقال: إنّ متعلّقه صرف الوجود، وأمّا بناءً على أن النهي عبارة عن طلب الترك ـ الذي عليه صاحب الكفاية، وهو المختار ـ فلا يتمّ ما ذكر، إذ متعلّق الطلب هو صرف ترك الفعل، وهو ـ كصرف الوجود ـ يتحقّق بأوّل ترك، فلا يتوقّف امتثال النهي على ترك جميع الأفراد، لتحقّق صرف الترك بدونه.
وفيه:
أوّلاً: أنّه لا يمكن أن يقال بأنّ النهي موضوع للزجر؛ لأنّه ـ كما تقدّم ـ معنى اسميّ والهيئة معنىً حرفيّ.
وثانياً: سلّمنا أنّه يدلّ على الزجر بالملازمة، إلّا أنّ الوجدان شاهد على أنّ النهي لا يتحقّق الامتثال فيه إلّا بترك جميع الأفراد، وهذا لا يفرّق فيه بين أن نقول بأنّ النهي هو الزجر، أو بأنّ لازمه هو الزجر، فهذا الإشكال غير واردٍ أصلاً.
وقد يُتصوّر للنهي وجه آخر، وهو فرض أنّ النهي يكون متعلّقاً بمجموع الأفراد، بحيث لو ارتكب البعض لم يحصل العصيان، ولم يخالف النهي. نعم، لو ارتكب الجميع يكون عاصياً، كما يُقال: (لا تأكل كلّ رمّانة في هذا البستان)، فبما أنّ المنهيّ عنه هنا هو أكل الجميع، فلو أكل البعض فلا محذور.

الأمر الرابع:
أنّ النهي قد يتعلّق بعنوانٍ بسيط وصفة تحصل من ممارسة الفعل المنهيّ عنه، وذلك كعنوان شارب الشاي، فإنّه لا يحصل إلّا مع المعاودة والممارسة، ومثله عنوان: شارب الخمر، فلو اكتفى بشرب مقدار فقط لم يصدق عليه هذا العنوان، فيكون المقصود من قوله ـ مثلاً ـ : (لا تشرب الشاي)، أي: لا تكن ممّن تعوّد شربه، فلو شرب مقداراً لم يوجب تعوّده وحدوث مثل هذه الصفة فيه ما خالف النهي، فلو خالف النهي وأتى بالعمل بالمنهيّ عنه فهل مقتضاه الاستمرار بعد المخالفة أم لا؟
ذهب صاحب الكفاية إلى أنّه <لا دلالة النهي على إرادة الترك لو خولف، أو عدم إرادته، بل لابدّ من تعيين ذلك من دلالة، ولو كان إطلاق المتعلّق من هذه الجهة، ولا يكفي إطلاقها من سائر الجهات، فتدبّر جيّداً>( ).
يعني: التمسّك بإطلاق المتعلّق من جهة العصيان، فيقال إنّ مقتضاه ثبوت النهي له مطلقاً، عصى النهي أم لم يعصِ، ويكون مقتضى هذا الإطلاق ثبوت النهي وتعلّقه بالفعل بنحو العموم الاستغراقيّ، فينحلّ إلى أفرادٍ متعدّدة بتعدّد أفراد الفعل، فإذا عصى أحدها بقي الآخر على حاله.
ثمّ هل هناك فرق بين الأفراد الطوليّة والعرضيّة؟
لا يخفى: أنّ إطلاق الاستمرار والدوام الكاشفين عن المفسدة، على الإطلاق، أو بنحو التقييد، وأنّ الحكم بالاستمرار، سواء استفيد من الوضع أو الخارج، فإنّما هو فيما إذا تعلّق النهي بمطلق الطبيعة، حيث إنّ عدم هذه الطبيعة متوقّف على ترك جميع الأفراد، بلا فرق بين أن تكون عرضيّة أو طوليّة، وأمّا إذا كان النهي وارداً على الطبيعة المقيّدة بزمانٍ أو حال، فإنّ الاستمرار يكون منوطاً بذلك الزمان أو الحال.
وهذا ـ كما تقدّم ـ هو ما ذهب إليه صاحب الكفاية الذي رأى أنّه لا يستفاد من صيغة النهي إلّا ترك الطبيعة، سواءً كانت مطلقة أو مقيّدة. وأمّا ترك جميع الأفراد، فيفهم من العقل، لا من الصيغة، على أنّه لو عصى الفرد الأوّل فيحرم عليه الفرد الثاني والثالث، وهكذا... ولا دلالة للصيغة على عدم حرمة الفرد الثاني والثالث، وهكذا... بل لا يفهم سقوط النهي بمجرّد عصيانه أوّلاً.
والحقّ: عدم دلالة نفس الطبيعة على كلّ فرد فرد حتى يكون من العامّ الاستغراقيّ، بل إنّما يفهم ترك جميع الأفراد بحكم العقل، وأمّا الصيغة فلا دلالة لها على حرمة الجميع.
وقد يُقال: بأنّ إرادة الترك وعدمه إنّما تفهم من دليلٍ آخر، كالإجماع أو الضرورة أو غيرهما، ولو بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، ببيان أنّه لو كان متعلّق النهي مختصّاً ببعض الأفراد لنبّه عليه، وإلّا، لكان مخلّاً بالغرض، وبما أنّه في مقام البيان، لا الإجمال والإهمال، فعدم تخصيصه ببعض الأفراد دون بعض، يدلّ على أنّ مراده هو الطبيعة على نحو الوجود الساري، ومعه: يكون المطلوب هو ترك كلّ الوجودات، بحيث لو عصيت في فرد لم يسقط التكليف عن بقيّة الأفراد، بل تكون الحرمة باقية بالنسبة إلى البقيّة.
وهذا، وإن كان ينسجم مع ما ذكره صاحب الكفاية في مبحث النواهي، إلّا أنّه لا ينسجم مع ما ذكره في مبحث المطلق والمقيّد من أنّ استفادة الاستغراق وغيره إنّما تنشأ من قرينة خاصّة، وليست هي مفاد الإطلاق، فإنّ مفاد مقدّمات الحكمة ليس إلّا إرادة ذات الطبيعة من غير تقييد، فلاحظ مبحث المطلق والمقيّد من الكفاية( ).
وقد استدلّ اُستاذنا الأعظم في حاشيته على أجود التقريرات بهذا البيان: على أنّ امتثال النهي لا يكون إلّا بترك جميع الأفراد، وهذا الشيء هو الفارق بين الأمر والنهي. قال: <قد عرفت آنفاً أنّ ما تعلّق به النهي هو بعينه متعلّق الأمر، غاية الأمر: أنّ النهي عنه يكون زاجراً عنه، والأمر به يكون باعثاً إليه، فلا يبقى لدعوى أنّ متعلّق النهي هو صرف ترك الطبيعة ولذا لا يتحقّق امتثاله إلّا بترك جميع أفرادها مجال أصلاً، هذا مع أنّ صرف الوجود كما يتحقّق بأوّل وجود من الوجودات، كذلك صرف الترك، يتحقّق بأوّل ترك من التروك، فما يكون هو الفارق بين الأمر والنهي>( ).
ثمّ إنّ المحقّق النائيني فرّق بين الأفراد الطوليّة والعرضيّة، ببيان: <أنّ ترك الطبيعة تارةً يكون مطلوباً استقلالاً وملحوظاً بنحو المعنى الاسميّ، بأن يكون المطلوب خلوّ صحيفة الوجود عن تلك الطبيعة، فيكون ترك الأفراد ـ حينئذٍ ـ ملازماً للمطلوب، لا نفسه. وأُخرى: يكون مرآةً وبنحو المعنى الحرفيّ، توصّلاً به إلى طلب ترك أفرادها، فالمطلوب في الحقيقة هو ترك نفس تلك الأفراد، ويلزمه خلوّ صحيفة الوجود عن الطبيعة، ويتفرّع على الأوّل أنّه إذا عصى النهي بإيجاد فردٍ من تلك الطبيعة سقط النهي، ولا يبقى لامتثاله بعده مجال أصلاً، وأمّا على الثاني: فعصيان النهي بإيجاد بعض أفراد المنهيّ عنه لا يوجب سقوطه عن غيره من أفراد الطبيعة المنهيّ عنها؛ لأنّ النهي إذا كان انحلاليّاً، وكان كلّ فرد من أفراد المنهيّ عنه محكوماً بحكم مستقلّ، فسقوط النهي في بعض الأفراد لا يوجب سقوطه في غيره>( ).
ولكن ينبغي أن يُعلم أنّ هناك ـ كما ذكره الاُستاذ الأعظم ـ قسماً آخر، وهو تعلّق الطلب بمجموع التروك، فيكون ترك كلّ فردٍ في هذا القسم جزءاً من المطلوب، لا نفسه، ولا جزء ما يلازمه( ).
وكيف كان، فقد ذكر المحقّق النائيني أنّ <هذا القسم [يعني: القسم الثاني] هو الغالب في موارد النهي، سواء كان له موضوع خارجيّ تدور فعليّة الحكم مدار فعليّته، كما في (لا تشرب الخمر)، أم لم يكن له ذلك، بل كان المتعلّق للنهي فعل المكلّف الذي لا تعلّق له بموضوع خارجيّ، كما في (لا تكذب)؛ لأنّ الغالب أنّ النهي ينشأ عن المفسدة في متعلّقه، فلا محالة يشترك جميع الأفراد في تلك المفسدة، وذلك يستلزم انحلال النهي إلى نواهٍ متعدّدة بتعدّد أفراد الطبيعة المنهيّ عنها، من دون فرق في ذلك بين كون ترك الطبيعة مطلوباً نفسيّاً، كما في المثالين المتقدّمين، وكونه مطلوباً غيريّاً، كما في النهي عن الصلاة في النجس؛ لأنّ النهي في كلا المقامين ظاهر في الانحلال، وأنّ الطلب النفسيّ أو الغيريّ متعلّق بترك كلّ فردٍ فرد، لا بترك نفس الطبيعة بنحو المعنى الاسميّ>( ).
ثمّ إنّه فرّق بين الأفراد الطوليّة والعرضيّة، فقال:
<ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ النهي بالنسبة إلى الأفراد العرضيّة، وهي الأفراد التي يمكن للمكلّف إيجاد كلّ واحد منها فعلاً، إنّما هو بأخذ ترك الطبيعة حال تعلّق الطلب به فانياً في معنوناته، التي هي عبارة عن ترك كلّ واحدٍ واحد من الأفراد الخارجيّة، وأمّا انحلال النهي بالنسبة إلى الأفراد الطوليّة وبقاؤه في الآن الثاني بعد امتثاله في الآن الأوّل، فهو إنّما يمكن بأحد وجهين:
الأوّل: أن يؤخذ الزمان في ناحية المتعلّق، بأن يكون شرب الخمر في كلّ زمان ـ مثلاً ـ محكوماً بالحرمة، فيكون الشرب في الآن الثاني حراماً، وإن امتثل النهي في الزمان الأوّل بترك تمام أفراد الطبيعة.
الثاني: أن يؤخذ الزمان في ناحية الحكم، بأن يكون الحكم المتعلّق بترك الطبيعة باقياً في الأزمنة اللّاحقة، وبما أنّه لا دليل على أخذ الزمان في ناحية المتعلّق، ولا معنى لتحريم شيء يسقط بامتثاله آناً ما، كان دليل الحكمة مقتضياً لبقاء الحكم في الأزمنة اللاحقة أيضاً>.
ثمّ استشكل على نفسه قائلاً:
<فإن قلت: إنّ ما ذكرته من ثبوت الحكم وبقائه في الآن الثاني كثبوته في الآن الأوّل ينافي ما أفتى به الفقهاء في باب النذر من أنّه إذا تعلّق النذر بترك فعل، كشرب التتن ونحوه، فحرمته تسقط بمجرّد تحقّق العصيان آناً ما، فلا يحرم النذر وعلى الناذر شربه بعد ذلك. نعم، لو قصد الناذر ترك شربه في كلّ آنٍ، بنحوٍ يكون الزمان قيداً للموضوع، لبقي الحكم بعد تحقّق الحنث أيضاً>.
وأجاب:
<قد عرفت أنّ استمرار الحكم وبقاءه إنّما هو بدليل الحكمة، ودليل الحكمة في المقام إنّما يجري قبل تحقّق الحنث، وأمّا بعده فلا مقتضي لبقاء الحكم أصلاً؛ لأنّ المفروض أنّ الحرمة لم تنشأ عن مفسدة في شرب التتن ليشترك فيها جميع أفراده العرضيّة والطوليّة، بل الحرمة إنّما نشأت عن مفسدة في الحنث، فإذا تحقّق في الخارج لم يبقَ مقتضٍ لبقاء الحكم واستمراره بعده، وهذا هو الفارق بين موارد النذر وموارد النواهي الناشئة من المفاسد المتحقّقة في نفس متعلّقاتها>( ).
ولكن لا يخفى: أنّ في كلامه مواضع للنظر:
منها: أنّه لا فرق بين الأفراد الطوليّة والعرضيّة، فإنّ الطبيعة المنهيّ عنها إذا كانت مطلقة وغير مقيّدة بزمان خاصّ، كان مقتضى إطلاقها هو وجوب تركها في كلّ آنٍ من الآنات، وأنّها غير مختصّة بآنٍ دون آن، فتكون الأفراد الطوليّة كالعرضيّة منهيّاً عنها بلا فرق في ذلك أصلاً.
ومنها: أنّ النذر يتبع في وجوب وفائه قصد ناذره، فقد يكون مراد الناذر هو ترك الفعل بنحو العامّ الاستغراقيّ، فحينئذٍ: حتى لو حنث في بعض الأفراد، فيجب عليه الوفاء بنذره بالنسبة إلى بقيّة الأفراد، وأمّا إذا كان قصده ترك الفعل بنحو العامّ المجموعيّ، فلم يبقَ لوجوب الوفاء بعد الحنث ولو مرّةً واحدةً محلّ أصلاً، ويسقط الطلب، ولو شكّ الناذر بعد نذره في كيفيّته، فأصالة البراءة عن الزائد على وجوب واحد تقتضي جواز إيجاد الفعل بعد تحقّق الحنث بارتكاب ذلك الفعل مرّةً واحدة.
إلى غير هذين من الإشكالات، فليتأمّل.


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com