مسألة اجتماع الأمر والنهي

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

مسألة اجتماع الأمر والنهي


يقع الكلام في هذه المسألة في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد وامتناعه، وقبل الدخول في البحث ينبغي التنبيه على اُمور:

الأمر الأوّل:
لا يخفى: أنّ النزاع هنا صغرويّ وليس بكبرويّ، وإن أوهم العنوان ذلك؛ إذ من المسلّم والمفروغ عنه أنّ الأحكام متضادّة فيما بينها، وبعد فرض تضادّ الأحكام، فلا معنى للقول بالجواز، بل هو غير قابل للنزاع.
فما عنون به القوم النزاع بأنّه هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في واحد ذي وجهين أو لا، تبعاً لغيرهم من المتقدّمين، ليس على ما ينبغي، وإنّما النزاع في أنّه هل يلزم من تعلّق النهي والأمر المطلقين بطبيعتين متضادّتين في مورد واحد اجتماع الأمر والنهي، حتى يجب تقييد أحد المطلقين بالآخر؟ أو لا يلزم ذلك، بل يمكن أن يتعقّل للأمر محلّ وللنهي محلّ، ولو اجتمعا في مصداق واحد وكان بينهما عموم وخصوص من وجه؟
وبعبارة أُخرى: النزاع صغرويّ، وهو أنّه هل أنّ المسألة من صغريات باب التعارض باعتبار اجتماع الضدّين في مورد واحد، حتى لا يمكن مثل هذا الجعل والتشريع، أو لا يلزم ذلك، حتى يكون من باب التزاحم ويكون حكمه حكم المتلازمين المختلفين في الحكم إذا كان التلازم اتّفاقيّاً؟

الأمر الثاني:
المراد بالواحد الذي وقع في عنوان هذا البحث أعمّ من أن يكون واحداً شخصيّاً، كما إذا اجتمع العنوانان: الصلاة والغصب في خصوص صلاة زيد في المغصوب؛ فإنّ هذه الحركات الخاصّة تكون ـ حينئذٍ ـ تصرّفاً في المغصوب؛ لامتناع صدق هذه الحركة الشخصيّة على كثيرين فتكون ـ لا محالة ـ جزئيّة، ويصحّ حمل كلّ من الصلاة والغصب عليها أيضاً، أم كلّيّاً، كالصلاة في المكان المغصوب، حيث إنّها مصداق لطبيعتين، وهما: الصلاة والغصب، بحيث يصحّ حمل كلٍّ منهما على الحركات الصلاتيّة الواقعة في المغصوب.
ومن المعلوم: أنّ الصلاة في المغصوب كلّيّ ينطبق على أفراد كثيرة، كصلاة زيدٍ وعمرو وغيرهما فيه، فهذه الحركات من حيث إنّها مصداق للصلاة تكون محبوبة، ومن حيث إنّها مصداق للغصب تكون منهيّاً عنها.
قال في الكفاية: <المراد من الواحد مطلق ما كان ذا وجهين ومندرجاً تحت عنوانين، بأحدهما كان مورداً للأمر وبالآخر للنهي، وإن كان كلّيّاً مقولاً على كثيرين، كالصلاة في المغصوب، وإنّما ذكر لإخراج ما إذا تعدّد متعلّق الأمر والنهي ولم يجتمعا وجوداً، ولو جمعهما واحد مفهوماً، كالسجود للّه تعالى والسجود للصنم ـ مثلاً ـ، لا لإخراج الواحد الجنسيّ أو النوعيّ كالحركة والسكون الكلّيّين المعنونين بالصلاتيّة والغصبيّة>( ).
وقد يستشكل فيما ذكره صاحب الكفاية بما حاصله:
أنّه لا معنى لأن يفرض الواحد في موضوع النزاع هو الواحد في الوجود، إذ إنّ القول بالامتناع يبتني على وحدة الوجود، والقول بالجواز يبتني على تعدّده، فكيف يفرض إرادة الواحد في الوجود في العنوان الذي يكون موضوع النفي والإثبات وموضوع القول بالجواز والقول بعدمه؟
وقد التزم المحقّق النائيني بأنّ المراد بالواحد هو الواحد بالإيجاد، لا الواحد بالوجود، وهو لا يستلزم وحدة الوجود، إذ يمكن تحقّق وجودين بإيجادٍ واحد، كإيجاد الحركة الغصبيّة الصلاتيّة، فإنّه يحقّق وجود الصلاة ووجود الغصب، فيقع البحث في أنّه في موردٍ يوجد متعلّق الأمر والنهي بإيجاد واحد، هل الوجود واحد فيمتنع الاجتماع، أو متعدّد فيجوز( )؟
ولكنّ ما ذكره إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ الإيجاد والوجود مختلفان ذاتاً، وأمّا بناءً على ما قرّر في محلّه من أنّهما متّحدان ذاتاً مختلفان مفهوماً واعتباراً، فيمتنع أن يفرض وحدة الإيجاد وتعدّد الوجود.
وممّا ذكرنا يظهر: فساد ما صنعه صاحب الفصول، حيث خصّ المورد بالواحد الشخصيّ، فقال:
<الوحدة قد تكون بالجنس، وهذا ممّا لا ريب في جواز الاجتماع فيه في الجملة، كالسجود، حيث اجتمع فيه الأمر والنهي باعتبار إيقاعه له تعالى وللصنم.. إلى أن يقول: وقد تكون الوحدة بالشخص، وحينئذٍ: فإن اتّحدت الجهتان، أعني: الطبيعة المأمور بها والطبيعة المنهيّ عنها، أو تغايرتا وانحصرت أفراد النوع الأوّل في الثاني ولو اتّفاقاً، أو تعلّقتا بجزئيٍّ ابتداء، وما جرى مجرى ذلك، فلا ريب في عدم جواز الاجتماع فيه.. إلى قوله: وإن اختلفت الجهتان وكان للمكلّف مندوحة في الامتثال، فهو موضع النزاع>.. هذا موضع الحاجة من كلامه( ).
وجه الفساد: أنّ خروج هذه المسألة، وهي السجود ﷲ تعالى والسجود للصنم، عن محلّ البحث تخصّصيّ؛ إذ لا تصادق ـ أصلاً ـ بين السجود للّه والسجود للصنم، ومحلّ البحث إنّما هو ما إذا كان هناك فرد واحد وقد أصبح هذا الفرد مصداقاً لعنوانين، فلو لم يكن كذلك، كان خارجاً عن محلّ النزاع تخصّصاً وموضوعاً، وهنا كذلك، فحيث لم يتصادق السجودان على فردٍ واحد، كان بينهما تمام التباين، وكانا غير قابلين للاتّحاد. نعم، هما يتّحدان بحسب المفهوم، ولكنّ هذا غير مفيد، إذ المفيد إنّما هو الاتّحاد من ناحية المصداق.

الأمر الثالث:
ما الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي في العبادة؟
الحقّ: أنّ هناك فرقاً بينهما، فإنّ مسألة الاجتماع يبحث فيها عن أنّ متعلّق النهي هل هو عين متعلّق الأمر أم لا؟ أي: هل تعدّد الجهة يوجب تعدّد المتعلّق حتى تخرج المسألة عن الواحد الذي يمتنع الاجتماع فيه، فإذا ورد الأمر على طبيعة الصلاة والنهي على طبيعة الغصب، فهل موردهما واحد، فيسري كلّ منهما من متعلّقه إلى متعلّق الآخر أم لا؟
وأمّا مسألة النهي في العبادة فالمبحوث عنه فيها هو أنّ النهي في العبادة هل هو موجب للفساد أم لا؟ بعد الفراغ عن أنّ متعلّق الأمر والنهي واحد.
وأمّا ما قد يُقال: من أنّ الفرق بين المسألتين هو أنّ النزاع في مسألة الاجتماع عقليّ، وأمّا في تلك المسألة فلفظيّ.
ففيه: أنّ هذا لا يصلح لأن يكون فارقاً؛ بل إنّما يكون هناك فرق بينهما فيما إذا رجع البحث إلى تعدّد الجهة وعدمه، وأمّا إذا لم يرجع إلى ذلك فلا يكون هناك فارق، بل لا يكون هذا إلّا من التفصيل في حيّز المسألة الواحدة، كأن يقال: بأنّه إمّا أن يجوز الاجتماع عقلاً وإمّا أن لا يجوز؛ وإمّا أن يدلّ النهي لفظاً على الحرمة أو الفساد، أو أن يدلّ الأمر لفظاً على الصحّة والوجوب، وإما أن لا يدلّ.
أضف إلى ذلك: أنّ مسألة اقتضاء النهي للفساد ليست مختصّة بالدلالة اللّفظيّة، بل يمكن استفادتها من الإجماع وغيره، بأنّ يقال ـ مثلاً ـ: الحرمة المستفادة من الإجماع هل تقتضي الفساد أم لا؟

الأمر الرابع:
هل هذه المسألة اُصوليّة أم أنّها من المبادئ الأحكاميّة أم المسائل الكلاميّة أم المبادئ التصديقيّة أم من المسائل الفرعيّة؟
ذكر المحقّق النائيني أنّه <يمكن أن تكون المسألة كلاميّة باعتبار أنّها يبحث فيها عن استحالة اجتماع الحكمين في موردٍ واحد وجوازه، وبما أنّ الأمر والنهي من الاُمور الواقعيّة، يصحّ البحث عن امتناع اجتماعهما وجوازه>( ).
وفيه:
أوّلاً: ما أفاده الاُستاذ الأعظممن أنّ <المسائل الكلاميّة وإن كانت مسائل عقليّة، إلّا أنّه ليس كلّ مسألة عقليّة يتكلّم فيها عن الاستحالة والإمكان مسألة كلاميّة، وذلك ظاهر لا يكاد يخفى>( ).
وثانياً: أنّ المسائل الكلاميّة ليست عقليّة بأجمعها، بل قسم منها عقليّ، وقسم منها ضروريّ، إمّا من ضروريّات الدين أو المذهب، وقسم منها يثبت بنصّ كتاب أو بنصٍّ متواتر أو بإجماع قطعيّ أو بخبر الواحد المحفوف بالقرائن القطعيّة.
وثالثاً: على فرض التنزّل، فنقول: ليس كلّ مسألة يبحث فيها عن الاستحالة والإمكان وتكون مسألة عقليّة تخرج عن كونها من المسائل الاُصوليّة.
ثمّ قال المحقّق النائيني: <ويمكن أن تكون المسألة فرعيّة باعتبار أنّه يُبحث فيها عن صحّة الإتيان بالمجمع وحصول الامتثال به وعدمها>( ).
وفيه: أنّ البحث عن صحّة عبادة أو معاملة، كالبحث عن صحّة الصلاة في المغصوب ـ مثلاً ـ وعدمها، أو عن وجوب إعادتها أم لا، وإن كان من الأبحاث الفقهيّة، إلّا أنّ البحث في المقام ليس بحثاً عن صحّة العبادة وفسادها؛ لأنّ البحث في محلّ الكلام متمحّض في لزوم اجتماع الحكمين في فعلٍ واحد وعدم لزومه، وأمّا الحكم بصحّة العبادة على القول بالجواز فهو ثمرة من ثمراته، لا أنّه بنفسه هو محلّ الكلام في المقام.
ثمّ قال المحقّق النائيني: <ويمكن أن تكون المسألة من المبادئ الأحكاميّة باعتبار أنّه يبحث فيها عن استلزام حرمة الشيء ووجوبه لعدم الآخر وعدم استلزامه له، فيكون البحث فيها نظير البحث عن استلزام وجوب الشيء لوجوب مقدّمته أو لحرمة ضدّه، غاية الأمر: أنّ البحث فيهما عن لازم حكمٍ واحد، وفيما نحن فيه عن لازم حكمين>( ).
وفيه: أنّه بعد أن ثبت أنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادّة قطعاً، فكلّ واحد من هذه الأحكام يستلزم عدم غيره، وليس ذلك محلّ الكلام هنا أصلاً، وإنّما البحث هنا ـ كما عرفنا ـ في لزوم اجتماع الحكمين في فعلٍ واحد وعدم لزومه.
ثمّ خلص المحقّق النائينيّ إلى القول بأنّ <التحقيق: أنّ المسألة من المبادئ التصديقيّة [والمراد بها ـ كما هو معلوم ـ المسائل التي تبتني عليها المسائل الاُصوليّة] ضرورة أنّه لا يترتّب فساد العبادة على القول بالامتناع، بل القول به يوجب دخول دليلي الوجوب والحرمة في باب التعارض وإجراء أحكامه عليهما ليستنبط من ذلك حكم فرعيّ، وقد عرفت فيما تقدّم: أنّ الميزان في كون المسألة اُصوليّة هو ترتّب نتيجة فرعيّة عليها بعد ضمّ صغرى نتيجة تلك المسألة إليها، وليس ذلك متحقّقاً فيما نحن فيه قطعاً، وعليه: فالنزاع في الجهة الأُولى يدخل في مبادئ بحث التعارض، كما أنّ النزاع في الجهة الثانية يدخل في مبادئ بحث التزاحم>( ).
ولكنّ الصحيح: أنّ هذه المسألة اُصوليّة؛ لأنّ المسألة الاُصوليّة إنّما هي المسألة التي تقع كبرى لقياس يستنتج منه الحكم الكلّيّ الشرعيّ، وهو ما ينطبق على المقام، والبحث فيها بحث عن كفاية تعدّد الجهة أو عدم كفايتها.
ومن هنا ظهر الحال في ما ذكره صاحب الكفاية بقوله: <أنّه حيث كانت نتيجة هذه المسألة ممّا تقع في طريق الاستنباط، كانت المسألة من المسائل الاُصوليّة، لا من مبادئها الأحكاميّة ولا التصديقيّة ولا من المسائل الكلاميّة ولا من المسائل الفرعيّة، وإن كانت فيها جهاتها كما لا يخفى، ضرورة أنّ مجرّد ذلك لا يوجب كونها منها إذا كانت فيها جهة أُخرى يمكن عقدها معها من المسائل، إذ لا مجال ـ حينئذٍ ـ لتوهّم عقدها من غيرها في الاُصول، وإن عقدت كلاميّة في علم الكلام، وصحّ عقدها فرعيّةً أو غيرها بلا كلام، وقد عرفت في أوّل الكتاب أنّه لا ضير في كون مسألة واحدة يبحث فيها عن جهةٍ خاصّة من مسائل علمين، لانطباق جهتين عامّتين على تلك الجهة، كانت بإحداهما من مسائل علم، وبالأُخرى من آخر، فتذكّر>( ).
فإنّ البحث فيها ليس عن جهاتٍ متعدّدة، كما أنّ ضابطة المسألة الاُصوليّة، وهي وقوعها كبرى لقياسٍ يستنتج منه الحكم الكلّيّ الشرعيّ، متوفّرة فيها.
ثمّ هل تُعدّ هذه المسألة من المسائل العقليّة أم لا؟
الظاهر: أنّها من المسائل العقليّة؛ لأنّ الحاكم فيها إنّما هو العقل، فإنّه هو الذي يحكم بالاستحالة إذا رأى أنّ المجمع في مورد التصادق واحد. وقد يحكم بالجواز، إذا رأى التعدّد، وإن كان العرف يرى الوحدة؛ لأنّ بناء العرف غالباً ـ كما هو معلوم ـ على المسامحة، وإلّا، فبالمداقّة العقليّة قد يرى العقل التعدّد؛ لأنّ متعلّق الأمر في نظره يكون طبيعةً مغايرةً للطبيعة التي هي متعلّق النهي.
وبما أنّ الحاكم في مسألة الاجتماع هو العقل، فلا يُفَرّق فيها بين أن يكون الدليل الدالّ عليهما، هو اللّفظ، أو غيره، كالإجماع والضرورة، فإنّ هذا لا يُغيّر من واقع كون المسألة العقليّة شيئاً.
ومن هنا ظهر: فساد القول المنسوب إلى المحقّق الأردبيليّ في شرح الإرشاد( )، وهو التفصيل بالجواز عقلاً والامتناع عرفاً، بمعنى: أنّ اللّفظ يدلّ عرفاً على الامتناع، وهذه الدلالة تكشف عن كون النزاع في دلالة الأمر والنهي على الجواز وعدمه، وهما ظاهران في الطلب بالقول، فتكون المسألة لفظيّةً أيضاً، إذ لو كانت عقليّة محضة، لم يكن وجه للامتناع العرفيّ الذي مرجعه إلى ظهور اللّفظ في الامتناع.
إذ فيه:
أوّلاً: أنّ المقام ليس من الموارد التي يناط فهمها إلى العرف؛ فإنّ نظر العرف إنّما يكون متّبعاً في تعيين سعة المفهوم وضيقه، وأمّا في محلّ البحث، وهو كفاية تعدّد الجهة وعدمها، بحيث يسري النهي من متعلّقه إلى ما تعلّق به الأمر أو لا يسري، فهذا ليس من شأن العرف، بل الحاكم به إنّما هو العقل.
وثانياً: على فرض التنزّل، فليس فهم العرف من جهة دلالة اللّفظ حتى تكون المسألة لفظيّة.
نعم، يمكن أن توجّه دعوى التفصيل بالتوجيه التالي، وهو أن يُقال: بما أنّ فهم العرف مبنيّ على المسامحة غالباً ـ بل دائماً ـ فهو يرى الواحد ذو الجهتين، كالصلاة في المغصوب، شيئاً واحداً، وأمّا العقل فبما أنّه مبنيّ على المداقّة، فهو يراه شيئين؛ لأنّ ما تعلّق به الأمر ـ في نظره ـ مغاير لما تعلّق به النهي، فيجوز الاجتماع في نظره، دون نظر العرف.
وبعبارة أُخرى: فالواحد ذو الوجهين بالنظر العقليّ اثنان، وأمّا بالنظرالعرفيّ فهو واحد، ومن هنا يُحكم بالامتناع عرفاً.
فإن لم يكن مراد المفصّل ما ذكرناه من الامتناع العرفيّ، الذي مرجعه إلى كون الواحد ذي الوجهين واحداً بنظر العرف، لم يكن للامتناع العرفيّ معنىً محصّل؛ لأنّ امتناع اجتماع الضدّين حكم عقليّ، فلا معنى لجوازه عقلاً وامتناعه عرفاً.
ولكن يمكن أن يقال: بأنّ معناه المحصّل دلالة كلٍّ من الأمر والنهي على عدم صاحبه، فالأمر يدلّ على اتّصاف متعلّقه بالمحبوبيّة المحضة، والنهي يدلّ على اتّصاف مبغوضيّة متعلّقه كذلك، ومن المعلوم: امتناع اجتماعهما في واحد؛ لاستلزامه اجتماع النقيضين، وهما المطلوبيّة وعدمها، والمبغوضيّة وعدمها.
وخلاصة الكلام: أنّ مسألتنا هذه تعدّ من المستقلّات غير العقليّة، شأنها في ذلك شأن بقيّة المسائل التي تكون من هذا القبيل، كمسألة مقدّمة الواجب، والمراد بغير المستقلّات العقليّة المسائل التي تكون إحدى مقدّمتيها غير عقليّة والأُخرى عقليّة، في قبال المستقلّات، وهي التي تكون كلتا مقدّمتيها عقليّة، كحكم العقل بحسن الشيء أو قبحه، ثمّ حكمه بأنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.
فالثاني هو الذي يحكم العقل بوجوبه، كحكمه بوجوب المقدّمة عند وجوب ذيها، فهذه مقدّمة عقليّة صرفة، ولكن ينضمّ إليها حكم الشرع بوجوب ذي المقدّمة، وإنّما عبّر عنها بالمقدّمة العقليّة تغليباً لجانب العقل. فالعقل هنا مستقلّ بالحكم، والحاكم هو وحده؛ لأنّه هو الذي يدرك الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، وهو ـ أيضاً ـ الذي يحكم بالاستحالة.
وليس المراد من كون المسألة من غير المستقلّات أنّ العقل لا يحكم على نحو الاستقلال، بل المراد أنّه يحتاج إلى ضمّ مقدّمة أُخرى غير المقدّمة العقليّة التي حكم بها هو باستقلاله حتى تحصل النتيجة.

الأمر الخامس:
لا يخفى: أنّ النزاع هنا يشمل جميع موارد الأمر والنهي، بلا فرق بين أن يكون الأمر والنهي نفسيّين أو غيريّين.
وقد ذكر ذلك صاحب الكفاية، كما تعرّض إلى أنّه قد يدّعى انصراف لفظ الأمر والنهي المأخوذين في عنوان المبحث إلى خصوص النفسيّين التعيينيّين العينيّين. ثمّ حكم عليها بأنّها دعوى تعسّفيّة في مادّة الأمر والنهي. نعم، هي غير بعيدة في صيغة الأمر والنهي، ثمّ منعها فيها أيضاً، وذكر أنّ الثابت ظهور الصيغة في ذلك بالإطلاق، وهو غير منعقد هنا؛ لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة، إذ القرينة على العموم ثابتة، وهي عموم الملاك وجريان النقض والإبرام في جميع الأقسام.
وإليك نصّ كلامه:
<لا يخفى: أنّ ملاك النزاع في جواز الاجتماع والامتناع يعمّ جميع أقسام الإيجاب والتحريم، كما هو قضيّة إطلاق لفظ الأمر والنهي، ودعوى الانصراف إلى النفسيّين التعيينيّين العينيّين في مادّتهما غير خالية من الاعتساف، وإن سُلّم في صيغتهما. مع أنّه فيها ممنوع.
نعم، لا يبعد دعوى الظهور والانسباق من الإطلاق بمقدّمات الحكمة الغير الجارية في المقام، لما عرفت من عموم الملاك لجميع الأقسام، وكذا ما وقع في البين من النقض والإبرام...> إلى آخر كلامه( ).
وبالجملة: فإذا قلنا باستحالة الاجتماع، وبلزوم اجتماع الضدّين بعد التسليم بفرض وحدة المجمع، فكما أنّه لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم النفسيّين فيه، فكذلك لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم الغيريّين، فكما أنّه لا يمكن أن يكون شيء واحد واجباً نفسيّاً وحراماً نفسيّاً إذا كان المتعلّق واحداً؛ لامتناع أن يكون الشيء الواحد مصداقاً للمأمور به والمنهيّ عنه معاً، فكذلك لا يمكن أن يكون شيء واحد واجباً غيريّاً وحراماً غيريّاً؛ لأنّ تعلّق الأمر الغيريّ به يعني وجوب إتيانه مقدّمة للغير، وتعلّق النهي الغيريّ به يعني النهي عن فعله مقدّمة للغير، فيلزم أن يكون شيء واحد محبوباً باعتبار أنّه مقدّمة لشيء، ومبغوضاً باعتبار أنّه مقدّمة لذلك الشيء، ومحال أن يكون شيء واحد مصداقاً للمأمور به والمنهيّ عنه معاً، ولو كانا غيريّين.
وبعبارةٍ أُخرى: إنّ كون شيءٍ مقدّمة لواجب يقتضي محبوبيّته، كما أنّ كونه مقدّمة لحرام يقتضي مبغوضيّته، ومن المعلوم أنّه لا يمكن تأثير كلٍّ منهما في مقتضاه، كما أنّه لا يمكن تأثير المصلحة والمفسدة في تحريم شيء واحد وحرمته معاً.
وأيضاً: لا يفرّق بين أن يكون الوجوب والحرمة على نحو العينيّة أو على نحو الكفائيّة، فإنّه لا يمكن اجتماع الوجوب والتحريم الكفائيّين؛ لوضوح أنّه لا يمكن أن يكون في فعلٍ واحد ما يقتضي وجوبه وما يقتضي تحريمه ويؤثّر كلّ منهما في مقتضاه، من دون فرق بين أن يكون المكلّف بهما آحاد المكلّفين، كما في التكاليف العينيّة، أو الطبيعيّ الجامع للأفراد كما في التكاليف الكفائيّة.
وأمّا لو كان الوجوب والحرمة تعيينيّين فعدم إمكان الاجتماع واضح، وكذا لو كانا تخييريّين، فقد ذكرنا أنّه لا فرق بين الواجب التعيينيّ والتخييريّ، وإنّما الكلام في التخييريّ في أنّ الواجب ليس واحداً على نحو التخيير، أي الواحد المردّد، بل يكون كلّ واحد من الأفراد واجباً بخصوصه، فإذا أتيت بأحدهما يسقط الأمر، لعدم بقاء الموضوع.
ذكر اُستاذنا الأعظم أنّه لا يمكن <اجتماع الوجوب والحرمة التخييريّين في شيءٍ واحد ليقع التنافي بينهما. والوجه فيه هو: أنّ الحرمة التخييريّة تمتاز عن الوجوب التخييريّ في نقطة واحدة، وتلك النقطة تمنع عن اجتماعهما في شيء واحد، وهي: أنّ مردّ الحرمة التخييريّة إلى حرمة الجمع بين فعلين باعتبار قيام مفسدة ملزمة بالمجموع، لا بالجامع بينهما، وإلّا، لكان كلّ من الفعلين محرّماً تعييناً، لفرض أنّ النهي المتعلّق بالجامع ينحلّ بانحلال أفراده، فيثبت لكلّ فرد منه نهي مستقلّ>...
إلى أن يقول:
<ومردّ الوجوب التخييريّ إلى إيجاب الجامع بين شيئين أو أشياء، لا إلى إيجاب كلٍّ منهما بخصوصه، كما تقدّم بيان ذلك في بحث الواجب التخييريّ بشكلٍ واضح، وبعد ذلك نقول: إنّه لا تنافي بين إيجاب الجامع بين شيئين وحرمة الجمع بينهما، لا بحسب المبدأ ولا بحسب المنتهى>( ).
أمّا بحسب المبدأ؛ فلأنّه لا مانع من أن يكون لكلّ واحد منهما مصلحة ملزمة قائمة به، بحيث لو أتى بأحدهما لاستوفى تلك المصلحة، ولم يبقَ بعد ذلك مصلحة وحكم حتى يمكن استيفاؤها بالإتيان الآخر، وأن يكون هناك مفسدة ملزمة قائمة بالمجموع منهما؛ فإنّ المصلحة الملزمة حينئذٍ تكون قائمة بالجامع بينهما، والمفسدة الملزمة تكون قائمة بالمجموع منهما، ومعلوم أنّ المانع إنّما هو قيام كلتيهما في شيءٍ واحد، لا قيام إحداهما بشيء والأُخرى بشيءٍ آخر، وهذا واضح.
وأمّا بحسب المنتهى؛ فلفرض أنّ المكلّف قادر على امتثال كلا التكليفين معاً؛ لأنّه إذا أتى بأحدهما وترك الآخر، فقد امتثل كلّاً من الوجوب والحرمة.
والحاصل: أنّنا نفهم من عموم الملاك وإطلاق الأمر والنهي في العنوان أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي تشمل جميع أقسام الإيجاب والتحريم، باستثناء الواجب والحرام التخييريّين؛ خلافاً لصاحب الكفاية الذي رأى أنّ البحث يأتي حتى فيهما.
ثمّ إنّه قد يُدّعى الانصراف إلى النفسيّين والعينيّين والتعيينيّين، وأنّ هذا يفهم من الإطلاق بمقدّمات الحكمة؛ لأنّ غير هذه الثلاثة يحتاج إلى مؤونة زائدة، كما هو مقرّر في محلّه، فعدم البيان يكون كاشفاً عن عدم إرادة غيرها.
ولكن قد عرفنا أنّ هناك قرينة، وهي عموم الملاك، فتكون هذه القرينة مانعة من الأخذ بالإطلاق؛ لأنّها بيان، ومعلوم أنّ الأخذ بالإطلاق منوط بعدم البيان.
ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الحكم الذي يرد على الطبيعة إنّما يرد عليها لا باعتبار أنّها موجودة، أي مقيّدة بالقيد الذهنيّ؛ لأنّ الذي يكون كذلك من المحال أن يوجد في الخارج، بل يكون من قبيل الكلّيّ العقليّ الذي لا موطن له إلّا العقل، ولا ينطبق على الخارج، بل لو أوجد هذه الطبيعة في الذهن مرّتين فبما أنّها مقيّدة بالوجود الذهنيّ فهي في كلّ مرّة مباينة للأُخرى، بلا فرق بين أن تكون من المفاهيم المتأصّلة، أي: التي لها ما بإزاء في الخارج، كمفهوم الإنسان، أو من المفاهيم الاعتباريّة، كالملكيّة، أو الانتزاعيّة، كالفوقيّة والتحتيّة.

هل تتعلّق الأحكام بالطبائع أم بالأفراد؟
فإذا عرفت هذا، يقع الكلام في أنّ الأحكام هل تتعلّق بالطبائع أم بالأفراد؟
وقبل الدخول في البحث نتكلّم في أنّ الكلّيّ الطبيعي هل هو قابل للوجود في الخارج أم لا؟ وعلى هذا هل هو وجوده عين وجود أفراده أو أنّه يوجد بوجود أفراده؟ فالنزاع في وجود الطبيعيّ في الخارج أو عدم وجوده فيه إنّما هو في هذه النقطة، ضرورة أنّه ـ وكما أفاده الاُستاذ الأعظم ـ:
<لم يدّعِ أحد أنّه موجود في الخارج بوجود مباين لوجود فرد، كما أنّ القول بأنّه موجود بوجود واحد لا بعينه باطل من رأسه، ضرورة أنّ الواحد بعينه لا مصداق له في الخارج ولا تعيّن له، والوجود له تعيّن ومصداق فيه، ففرض وجوده خارجاً يناقض فرض عدم تعيّنه فيه، فلا يجتمعان>( ).
فإذا عرفت هذا، فالنزاع الذي وقع بينهم في أنّ الأمر تعلّق بالطبيعة، ليس المراد منها الطبيعة المقيّدة بالقيد الذهنيّ، أي: الصرفة، مع قطع النظر عن أن تكون قنطرة إلى الخارج؛ لأنّ مثل هذه الطبيعة محال أن توجد في الخارج، فلا يتعلّق بها الأمر. كما أنّ من قال بأنّ الأمر ورد على الأفراد ليس مراده أنّ الأمر قد تعلّق بالموجودات الخارجيّة؛ لأنّ تعلّق الطلب بما هو موجود في الخارج فعلاً يسلزم طلب حصول الحاصل، كما أنّ الموجود الخارجيّ مسقط للأمر، فلا يمكن أن يتعلّق به الأمر، وإلّا، كان ظرف سقوط الأمر هو نفس ظرف تعلّق الأمر.
فإذا عرفت أنّ وجود الكلّيّ عين وجود أفراده في الخارج، فالنزاع في تعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد يدور ـ في الحقيقة ـ مدار أنّ الطبيعة، أي: الكلّيّ الطبيعيّ، هل هي موجودة في الخارج أم لا؟ فعلى الأوّل: يتعلّق الأمر بالطبيعة، وعلى الثاني يتعلّق بالفرد.
فإنّ القائل بوجود الكلّيّ الطبيعيّ خارجاً يقول بجواز نسبة الوجود إلى الطبيعة حقيقةً، على اعتبار أنّ للوجود في الخارج نسبتين: نسبةً للفرد، ونسبةً للطبيعة.
وأمّا المنكر لوجوده، فيدّعي أنّه لا يصحّ نسبة الوجود إليها حقيقةً.
فإذا اتّضح هذا، فالقائل بالجواز يرى أنّ الأحكام تتعلّق بالطبيعة، وانّ المتعلّق متعدّد ماهيّةً، وإن اتّحد وجوداً، لكونه عبارة عن طبيعتين متغايرتين ماهيّةً، فلا مانع من اجتماع الحكمين، والقائل بالامتناع يرى اتّحادهما وجوداً وماهيّةً، والواحد لا يتحمّل حكمين متضادّين. هذا بناءً على تعلّق الأحكام بالطبائع.
وأمّا بناءً على تعلّقها بالأفراد، فلا محيص عن القول بالامتناع، ولا وجه للجواز على هذا القول أصلاً؛ لأنّه موجب لاجتماع الضدّين في مورد واحد. ومن هنا قد يُقال: بأنّ نزاع الجواز وعدمه مبنيّ على تعلّق الأحكام بالطبائع دون الأفراد.

ثمّ إنّه هل لابدّ من اعتبار مندوحة في محلّ البحث أم لا؟
ذكر صاحب الكفاية أنّ البعض قيّد عنوان النزاع بوجود المندوحة، إذ مع عدم المندوحة في مقام الامتثال لا إشكال في الامتناع ولا خلاف، ومحلّ الخلاف مورد وجود المندوحة.
وذكر أنّه ربّما قيل بأنّ إطلاق العنوان وعدم تقييده إنّما هو لأجل وضوح ذلك.
قال: <السادس: أنّه ربّما يؤخذ في محلّ النزاع قيد المندوحة في مقام الامتثال، بل ربّما قيل بأنّ الإطلاق إنّما هو للاتّكال على الوضوح، إذ بدونها يلزم التكليف بالمحال>( ).
وقد مرّ أنّه لابدّ أن يكون المتعلّق مقدوراً، وكذلك مرّ أنّه لا يمكن توجيه الخطاب إلى العاجز، لحكم العقل بقبح تكليف العاجز.
وبعبارة أُخرى: فإنّه بناءً على أنّ حقيقة الأمر هي عبارة عن البعث إلى أحد طرفي المقدور بحيث تكون القدرة مأخوذة في ماهيّة الأمر وحقيقته، فالمحذور يرجع إلى مرتبة الجعل.
وأمّا بناءً على أنّ اشتراطه بها من جهة حكم العقل بقبح تكليف العاجز، فالمحذور يرجع إلى مرتبة الامتثال.
فإن كان وجه الاشتراط هو الأوّل: فلأنّ نفس الخطاب والتكليف يوجب ذلك؛ لأنّ المتعلّق يكون هو الحصّة المقدورة دون الأعمّ منها ومن غيرها، فلا ينطبق على غير المقدور؛ لأنّ المقيّد بقيد لا يمكن انطباقه على فاقده.
وأمّا إن كان الوجه هو الثاني: فليس في نفس الأمر ومقام توجّه الخطاب أيّ قصور، ولا يجيء من قبله تضييق وتقييد في جانب المتعلّق بكونه مقدوراً، فالأمر إنّما يتعلّق بالطبيعة المجرّدة عن هذا القيد. نعم، العقل يحكم بعدم شموله لغير المقدور، وخروج الفرد غير المقدور عن تحت الأمر بحكم العقل لا يوجب تقييداً في المتعلّق بكونه مقدوراً، بل المأمور به هو نفس الطبيعة من دون أيّ قيد، فينطبق على المجمع كانطباقه على سائر الأفراد.
وقد يقال هنا: إنّ الخلاف في جواز الاجتماع وعدمه يختصّ بصورة وجود المندوحة حتى يكون للمكلّف القدرة على الطبيعة، وأن يكون متمكّناً من فعل الصلاة ـ مثلاً ـ في غير المكان المغصوب، لأنّه بناءً على كلا المسلكين، فإذا فرض وجود المندوحة، فإنّه يمكن توجّه الأمر إلى الصلاة باعتبار أنّ طبيعتها تكون مقدورة للمكلّف، وليس هناك من تكليف بالمحال، ثمّ بعد إمكان توجّه الخطاب يُبحث عن جواز الاجتماع وعدمه، فبناءً على عدم جواز الاجتماع يُتعامل معهما معاملة المتعارضين، فلو فرض ترجيح جانب الأمر فلا نهي في البين حتّى يقال بعدم إمكان الإتيان بالمجمع وعدم وقوع الامتثال؛ لأنّ المورد مثل الموارد التي لا نهي فيها.
وأمّا لو فرض ترجيح جانب النهي، فلا يكون هناك أمر؛ إذ لا ملاك فيه؛ لأنّ الجمع حرام، فلو أتيت بالصلاة لم يقع الامتثال، فلا يسقط الأمر المفروض وروده على الطبيعة.
وأمّا بناءً على جواز الاجتماع، فعلى القول بعدم إمكان توجّه الخطاب إلى غير المقدور، تكون القدرة مأخوذة في المتعلّق، بل في ماهيّة الأمر، فلابدّ أن يكون الفرد مقدوراً، فلو أتيت بالمجمع لم يكن مفيداً؛ لأنّ المأمور به ـ بناءً على هذا الوجه ـ إنّما هو الحصّة المقدورة، فلا ينطبق على غير المقدور؛ لما ذكرناه آنفاً من أنّ المقيّد بقيد لا يمكن أن ينطبق على فاقده.
وأمّا على الوجه الثاني، وهو أنّه لا يشترط في الأمر أن يتوجّه إلى الحصّة المقدورة، بل العقل هو من يحكم بعدم شموله لغير المقدور، فليس هناك قصور من جانب الخطاب، بل الأمر يتعلّق بالطبيعة غير المقيّدة بهذا القيد، فخروج الفرد المقدور عن تحت الأمر بحكم العقل لا يوجب تقييداً في المتعلّق بكونه مقدوراً، بل المأمور به هو نفس الطبيعة من دون أيّ قيد، فعلى القول بالجواز: ينطبق على المجمع كانطباقه على سائر الأفراد كما عرفنا فيما مرّ.
ولكنّ صاحب الكفاية لم يشترط وجود المندوحة، حيث قال ـ ما نصّه ـ: <ولكنّ التحقيق مع ذلك عدم اعتبارها فيما هو المهمّ في محلّ النزاع من لزوم المحال، وهو اجتماع الحكمين المتضادّين، وعدم الجدوى في كون موردهما موجّهاً بوجهين في رفع غائلة اجتماع الضدّين أو عدم لزومه، وأنّ تعدّد الوجه يجدي في رفعها، ولا يتفاوت في ذلك أصلاً وجود المندوحة وعدمها. ولزوم التكليف بالمحال بدونها محذور آخر لا دخل له بهذا النزاع>( ).
وملخّص كلامه: أنّ الكلام في عدم جواز اجتماع الأمر والنهي ـ كما مرّ ـ تارةً يتصوّر في مرحلة الجعل، وأُخرى في مرحلة الامتثال. فالنظر في الأُولى إلى أنّه هل يمتنع تعلّق حكمين متضادّين في أنفسهما ـ مع قطع النظر عن مقام الامتثال ـ بشيء واحد ذي وجهين أم لا؟ والنظر في الثانية إلى أنّه هل يصحّ التكليف بأمر غير مقدور للمكلّف أم لا؟
والعمدة والغرض الأصليّ من البحث في مسألة الاجتماع هو المقام الأوّل؛ لأنّ محطّ النزاع هو كون تعدّد الموجّه مجدياً في تعدّد المتعلّق حتى يجوز اجتماع حكمين متضادّين، ويرتفع به غائلة اجتماع الضدّين، أو عدم كونه مجدياً في ذلك وأنّه كوحدة الجهة في لزوم اجتماع الضدّين؟
وبالجملة: فمركز البحث مقام الجعل دون الامتثال، والمندوحة أجنبيّة عن محلّ الكلام.
وأمّا اُستاذنا الأعظم فقد ذكر أنّه لا دخل في هذه المسألة بمسألة المندوحة، <والوجه في ذلك: ما تقدّم من أنّ النزاع في المسألة إنّما هو في سراية النهي من متعلّقه إلى ما تعلّق به الأمر وبالعكس، وعدم سرايته. وقد سبق أنّ القول بالامتناع يرتكز على أحد أمرين: الأوّل: كون المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحداً. الثاني: الالتزام بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر. كما أنّ القول بالجواز يرتكز على أمرين هما: تعدّد المجمع، وعدم سراية الحكم من أحدهما إلى الآخر، كما هو الصحيح، ومن الواضح جدّاً أنّه لا دخل لوجود المندوحة في ذلك أبداً>.
ثمّ قال: <هذا من ناحية. ومن ناحية أُخرى: قد ذكرنا أنّه يترتّب على القول بالامتناع والسراية وقوع التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع، والتكاذب بينهما فيه بحسب مرحلة الجعل، بحيث لا يمكن أن يكون كلّ منهما مجعولاً على نحوٍ يشمل مورد الاجتماع، فإنّ ثبوت كلّ منهما في مرحلة الجعل يستلزم كذب الآخر في تلك المرحلة وعدم ثبوته فيها، وهذا معنى التعارض بينهما، فإذاً، لابدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التعارض لتشخيص الكاذب عن الصادق، وقد تقدّم بيان ذلك بشكلٍ واضح. وعلى القول بالجواز وعدم السراية وقوع التزاحم بينهما فيما إذا لم تكن مندوحة في البين، لما عرفت من أنّه إذا كانت مندوحة فلا تزاحم أصلاً، لفرض تمكّن المكلّف عندئذٍ من امتثال كليهما معاً، ومعه: لا مزاحمة بينهما.
نعم، إذا لم تكن مندوحة فلا محالة تقع المزاحمة بينهما؛ لعدم تمكّن المكلّف وقتئذٍ من امتثال كليهما معاً، فإذاً: لابدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب المزاحمة>( ).
وخلاصة كلامه: أنّه على القول بالامتناع يترتّب وقوع المعارضة بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع، سواء أكانت هناك مندوحة أم لم تكن، فلا أثر لوجود المندوحة وعدم وجودها بالإضافة إلى هذا القول أصلاً.
وعلى القول بالجواز يترتّب وقوع التزاحم بينهما، إذا لم تكن مندوحة في البين لا مطلقاً.
ولكن قد عرفت أنّه بناءً على مبنى المحقّق النائيني فلابدّ من وجود المندوحة حتى يأتي هذا البحث؛ لأنّه لا يمكن توجّه الخطاب، لأنّ الطبيعة غير مقدورة للمكلّف. فحتى لو فرض إمكان توجّه الخطاب، فإنّ الامتناع يكون عقليّاً.
نعم، بناءً على ما ذهب إليه، فهل يكون متعلّق الأحكام هو المفاهيم المتأصّلة، أي: التي لها تأصّل في عالم الخارج، أم الاُمور الخارجيّة، أم المفاهيم الانتزاعيّة التي ليس لها تأصّل في الخارج، أم الاُمور الاعتباريّة، أم لا؟ بل هو من قبيل الكلّيّ الطبيعيّ، موطنه العقل، ولا ينطبق على الخارج أصلاً، وإنّما يكون منشأ انتزاعه في الخارج؟
وفي مقام الجواب نقول: إنّ متعلّق الأوامر والنواهي هو الطبائع الكلّيّة التي يمكن انطباقها في الخارج على الأفراد والمصاديق الخارجيّة، بشتّى ألوانها وأشكالها. وتلك الطبائع الكلّيّة قد قيّدت بقيوداتٍ متعدّدة، مثلاً: الصلاة مقيّدة بقيودات كثيرة، من حيث الزمان أو المكان والمصلّي أو من حيث نفسها، فلو لاحظنا طبيعة الصلاة ـ مثلاً ـ نجد أنّها مقيّدة من جهة الزمان بالأوقات الخمسة، أي: أنّها واجبة، ولكن لا على الإطلاق، بل وجوبها إنّما هو في زمان خاصّ، وكذلك من ناحية المكان، فلابدّ أن تقع في مكانٍ غير مغصوب، وكذا من ناحية المصلّي، فلابدّ أن يكون حائزاً على الشروط العامّة، من البلوغ والعقل، ولابدّ أن يكون غير حائض، وكذا الحال من ناحية نفسها، كالطهور والقيام واستقبال القبلة، وغير ذلك من القيود.
ولا يخفى: أنّ هذه القيود لا توجب إلّا تضييق دائرة انطباق الطبيعة على أفرادها في الخارج، ولا توجب خروجها عن الكلّيّة.
فإذا عرفت هذا، فنقول:
إنّ المراد من الواحد في محلّ الكلام هو مقابل المتعدّد، لا في مقابل الكلّيّ، بمعنى: أنّ المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحد، وليس بمتعدّد، بأن يكون مصداق المأمور به في الخارج غير مصداق المنهيّ عنه، ولو كان كلّيّاً قابلاً للانطباق على كثيرين، فالمراد من الواحد في محلّ الكلام هو ما يشمل كلّاً من الواحد الشخصيّ والنوعيّ والجنسيّ، أي: أنّ هذه الحصّة بما لها من الأفراد تكون مجمعاً لهما، ومحلّاً للتصادق والاجتماع، في مقابل ما إذا لم يكن كذلك، بأن يكون مصداق المأمور به حصّة، ومصداق المنهيّ عنه حصّة أُخرى مباينة للأُولى بما لها من الأفراد.
وبذلك يظهر: أنّه يخرج عن محلّ البحث أمثال السجود إذا تعلّق بها نهي أو أمر، كالسجود ﷲ تعالى والسجود للملائكة ـ مثلاً ـ؛ لأنّ الأمر هنا قد تعلّق بحصّة، والنهي بحصّة أُخرى، فالحصّتان متباينتان، وليس هناك شيء واحد يكون مجمعاً للأمر والنهي، بل مصداق المأمور به غير مصداق المنهيّ عنه.
كما يظهر أيضاً: أنّه لا فرق في محلّ البحث بين أن يكون متعلّق الأمر والنهي هو الطبائع أو الأفراد، فما قد يقال: من أنّ المتعلّق لو كان هو الطبايع فنقول بالجواز؛ لتعدّد متعلّق الأمر والنهي ذاتاً وإن اتّحدا وجوداً، وأمّا لو كان هو الأفراد فنقول بالامتناع؛ لكون المتعلّق حينئذٍ شخصاً وجزئيّاً حقيقيّاً، ومن المعلوم: امتناع تحمّله لحكمين متضادّين، فلا محيص حينئذٍ عن القول بالامتناع.
بل الحقّ: أنّ تعدّد الوجه في مسألة الاجتماع إن كان مجدياً في تعدّد المتعلّق بحيث لا يضرّ معه الاتّحاد الوجوديّ، فذلك مجدٍ حتى على القول بتعلّق الأحكام بالأفراد، لكون الموجود الخارجيّ الموجّه بوجهين مجمعاً لفردين موجودين بوجود واحد يتعلّق بأحدهما الأمر وبالآخر النهي.
وان لم يكن تعدّد الوجه مجدياً في تعدّد المتعلّق، فلابدّ من البناء على الامتناع حتى على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع؛ لاتّحاد الطبيعتين المتعلّقتين للأمر والنهي وجوداً، فالاتّحاد الوجوديّ إن كان مانعاً عن تعدّد المتعلّق، كان مانعاً مطلقاً، بلا فرق بين تعلّق الأحكام بالطبايع والأفراد، وإن لم يكن مانعاً عنه لم يكن مانعاً كذلك.
ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ المجمع لابدّ أن يكون ذا ملاكين، أي: لابدّ أن يكون كلّ من المتعلّقين ذا ملاك بعدما فرضنا أنّ المورد من صغريات باب التزاحم حتى في مورد الاجتماع، فالصلاة في الدار المغصوبة ـ مثلاً ـ إنّما تكون مجمعاً لمتعلّقي الأمر والنهي إذا كان ملاكا الأمر والنهي مجتمعين فيها، حتى يحكم ـ بناءً على الجواز ـ بكون الصلاة في الدار المغصوبة مجمعاً محكوماً فعلاً بحكمين؛ لأنّ كلا الملاكين موجودان فيه، وعدم التنافي بينهما من ناحية أُخرى، وحتى يُحكم ـ بناءً على الامتناع ـ بأنّ الصلاة في الدار المغصوبة محكومة بما هو أقوى الملاكين.
هذا، إذا كان أحد الملاكين أقوى، وأمّا لو لم يكن أحدهما أقوى، فالصلاة في الأرض المغصوبة حينئذٍ تكون محكومةً بحكمٍ آخر غير الوجوب والحرمة، كالإباحة، بمقتضى الأصل اللّفظيّ أو العمليّ.
فإذا لم يكن كلّ من المتعلّقين واجداً للملاك، يخرج المورد ـ حينئذٍ ـ عن مسألة الاجتماع، بلا فرق بين أن لا يكون شيء منهما ذا ملاك أصلاً، أو كان الملاك في أحدهما دون الآخر، فيخرج عن باب التزاحم ويدخل في باب التعارض، ومعه: فلابدّ من الرجوع ـ عندئذٍ ـ إلى مرجّحات باب التعارض.

مسألة الاجتماع والقول بتبعيّة الأحكام للملاكات:
لقائلٍ أن يقول: إنّ بحث الاجتماع لا يختصّ بمذهب دون آخر، بل يجري على جميع المذاهب، حتى على مذهب الأشعريّ المنكر لتبعيّة الأحكام للملاكات والمصالح والمفاسد مطلقاً، فاعتبار اشتمال كلٍّ من متعلّقي الإيجاب والتحريم على مناط الحكم ـ كما هو مذهب العدليّة القائلين بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ـ في اندراجهما في مسألة الاجتماع غير ظاهر.
والوجه في ذلك: أنّ مرجع البحث في مسألة الاجتماع إلى أنّ مورد الاجتماع هل هو واحد وجوداً وماهيّةً أو متعدّد كذلك؟ فعلى الأوّل: لابدّ من الامتناع مطلقاً، ولو على مذهب الأشعريّ، لامتناع اجتماع الضدّين على جميع المذاهب. وعلى الفرض الثاني: لابدّ من القول بالجواز بناءً على عدم سراية حكم الملزوم إلى اللّازم، فيكون المورد حينئذٍ من صغريات باب التزاحم.
وينبغي هنا أن يُعلم: أنّه لو قلنا بجواز الاجتماع ودخلت المسألة معه في باب التزاحم، فليس المراد من التزاحم التزاحم بين الملاكات بعضها ببعض، بل المراد هو التزاحم بين الأحكام كذلك، وأمّا النوع الأوّل فهو خارج عن محلّ البحث.
والسرّ في ذلك: أنّ الملاكات لمّا كانت بيد الشارع، وهي غير معروفة لنا، لم يكن سبيل لنا إلى معرفة مرجّحات الملاكات، بل الترجيح بين الملاكات إنّما يكون بيد المولى، فله أن يلاحظ الجهات الواقعيّة ويرجّح بعضها على بعضها الآخر.
على أنّ ذلك ليس من وظيفة العبد، فإنّ وظيفته إنّما هي امتثال الأحكام المجعولة من قبل المولى.
وعلى الجملة: فالمراد هو التزاحم بين الدليلين، بمعنى: أنّه ليس هناك تنافٍ في مقام الجعل، بل مقام الامتثال، بحيث لا يتمكّن العبد من الإتيان بهما معاً. ولا ربط لمسألة تبعيّة الأحكام للملاكات وعدمها فيما هو محلّ البحث، فلذلك قلنا إنّه يجري بحث الاجتماع على كلا المذهبين؛ لأنّ المهمّ في المسألة هنا هو أنّه هل يتمكّن المكلّف من الجمع بينهما في مقام الامتثال أم لا؟
وكذا الحال لو رجعت المسألة إلى باب التعارض، فإنّ البحث يأتي على كلا المذهبين ـ أيضاً ـ؛ لأنّ منشأ عدم إمكان جعل الحكمين المتضادّين إلى أنّ ثبوت كلّ منهما في مقام الإثبات هل ينفي الآخر في مقام الجعل أم لا؟ فلا فرق ـ حينئذٍ ـ بين القول بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد أو القول بعدمها.

ثمرة مسألة الاجتماع:
لا يخفى: أنّه تارةً نقول بالجواز، وأُخرى نقول بالامتناع، والعمل تارةً يكون توصّليّاً، وأُخرى يكون تعبّديّاً.
أمّا بناءً على القول بالجواز، فقد يُقال:
بأنّه لو أتى بالمجمع فقد امتثل يقيناً، ويسقط الأمر، بلا فرق بين أن يكون العمل توصّليّاً أو تعبّديّاً، نعم، هو مطيع وعاصٍ في آنٍ معاً. وهكذا الحال، لو قلنا بالامتناع ورجّحنا جانب الأمر، إذ المفروض أنّ النهي قد سقط من جهة غلبة الأمر.
وأمّا لو قلنا بالامتناع، وكان العمل توصّليّاً، فأيضاً: يسقط الأمر، ويحصل الامتثال، ولو كان ملتفتاً إلى الحرام؛ لأنّ التوصّليّ يجتمع مع الحرام. وأمّا لو كان العمل تعبّديّاً، فإن غلّبنا جانب الأمر، فقد مرّ بيانه، وأمّا لو كان المقام من باب الامتناع، وغلّبنا جانب النهي، فسيأتي الكلام فيه.
أمّا في الفرض الأوّل، أعني: القول بالجواز، فتكون مسألة الاجتماع صغرى لكبرى التزاحم، فلابدّ من الرجوع إلى قواعد باب التزاحم ومرجّحاته، فنقول: إن كان الوجوب أهمّ أو محتمل الأهمّيّة قُدّم على الحرمة، ومقتضاه صحّة العبادة، وأنّه يمكن الإتيان بها حينئذٍ بداعي أمرها، وكذا الحال إذا كان الوجوب مساوياً للحرمة مع الأخذ بالوجوب دون الحرمة.
وإن كانت الحرمة أهمّ، أو محتملة الأهمّيّة، قُدّمت على الوجوب، وحينئذٍ: يمكن القول بالصحّة وسقوط الأمر بناءً على الترتّب. وأمّا لو لم نقل بالترتّب، فيمكن تصحيح العبادة ببركة اشتمال المجمع على الملاك مع الالتزام بكفايته في صحّة العبادة.
ولكن قد يستشكل فيه: بعدم الطريق إلى إحراز بقاء الملاك في المجمع بعد سقوط الأمر عنه من جهة غلبة جانب النهي عليه، ولا طريق لنا في هذا المورد إلى اكتشاف وجود الملاك، فكما يحتمل أن يكون سقوطه لوجود المانع، فكذا يحتمل أن يكون لعدم المقتضي في هذا الحال، ولا مرجّح لأحد الاحتمالين على الآخر، ضرورة أنّ طريق إحرازه منحصر بوجود الحكم، وبعد سقوطه لا سبيل لنا إلى إحراز الملاك.
ويُجاب عنه: بأنّه خلاف الفرض، إذ المفروض دخول هذه المسألة في باب التزاحم، واندراجها تحت كبراه، ومن المعلوم: وجود الملاك في كلٍّ من المتزاحمين؛ إذ التزاحم إنّما يكون في مقام الامتثال، وعدم قدرة العبد على امتثالهما معاً لا يكون سبباً لرفع الملاك؛ لما قرّر في محلّه من عدم دخل القدرة في الملاكات، وأنّها دخيلة في حسن الخطاب؛ لقبح مطالبة العاجز؛ فإنّ إنقاذ كلٍّ من الغريقين المؤمنين ذو مصلحة قطعاً وإن لم يتمكّن العبد من إنقاذهما معاً.
وأمّا على القول بالامتناع لو رجّحنا جانب الأمر، بعد أن كان متيقّن الأهمّيّة، أو محتمل الأهمّيّة، فبعد تغليب جانبه لا تبقى فعليّة للنهي، فلا نهي هناك حتى إذا خالفناه نعدّ من العاصين.
وقد يقال: إنّه بناءً على القول بالامتناع، حتى وإن قدّمنا جانب الأمر، إلّا أنّه مع ذلك، لا يحصل الامتثال؛ لأنّ الأمر والنهي ـ كلاهما ـ واردان على الطبيعة، غاية الأمر: أنّ طبيعة الأمر تحصل بإتيان فردٍ من أفرادها، و طبيعة النهي لا تحصل إلّا بترك جميع أفرادها.
فهنا، وإن كانت مصلحة الأمر أقوى، ولكن بما أنّ طبيعة النهي لا تحصل إلّا بترك جميع أفرادها؛ لأنّ المفسدة كامنة في جميع أفرادها، فيكون الإتيان بفرد لا مفسدة فيه، أعني: الفرد الذي فيه المصلحة، أمراً غير ممكن.
ولكن فيه: أنّه خلاف الفرض، وهو تقديم جانب الأمر على النهي لأقوائيّة مصلحته من مفسدة النهي، إذ لا معنى للتقديم إلّا مغلوبيّة المفسدة بالمصلحة، وعدم مانعيّتها عن استيفاء مصلحة الأمر بالفرد المشتمل على المفسدة، وعن تمشّي قصد القربة وحصول التقرّب به، من دون مانعٍ عنه، لا من الفعل ولا من الفاعل.
نعم، بناءً على الامتناع وتقديم جانب النهي، فلا محيص عن امتناع الامتثال وعدم تمشّي قصد القربة. نعم، يصحّ العمل لو كان توصّليّاً والإلزام ببطلان العبادة في المغصوب مطلقاً، حتى مع النسيان والجهل القصوريّ به لعدم المقتضي لصحّتها من الملاك والأمر، وامتناع مصداقيّة الحرام للواجب.
وأمّا بناءً على اندراج المسألة في باب التزاحم، وتقديم جانب النهي على الأمر، فتصحّ العبادة في المغصوب مع النسيان والجهل القصوريّ بالحكم، بل وبالموضوع أيضاً، كما هو المشهور.

أدلّة القائلين بالامتناع:
منها: ما أوضحه صاحب الكفاية بمقدّمات، نذكر منها:
المقدّمة الأُولى: ما ذكره بقوله:
<إحداها: أنّه لا ريب في أنّ الأحكام الخمسة متضادّة في مقام فعليّتها، وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامّة بين البعث نحو واحدٍ في زمان، والزجر عنه في ذلك الزمان، وإن لم يكن بينهما مضادّة ما لم تبلغ إلى تلك المرتبة، لعدم المنافاة والمعاندة بين وجوداتها الإنشائيّة قبل البلوغ إليها، كما لا يخفى. فاستحالة اجتماع الأمر والنهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال، بل من جهة أنّه بنفسه محال، فلا يجوز عند من يجوّز التكليف بغير المقدور أيضاً>( ).
وتوضيح هذه المقدّمة: أنّ التضادّ بين الأحكام الخمسة ليس في جميع المراتب، من الإنشاء والاقتضاء وغيرهما، بل هو كائن في خصوص مرتبة فعليّتها، إذ البعث والزجر الفعليّان المترتّبان على انقداح الإرادة والكراهة متضادّان، ضرورة امتناع تعلّق الإرادة بإيجاد شيء والزجر عنه في آنٍ واحد، فإنّ مقتضى البعث والزجر الفعليّين ـ وهو الفعل والترك ـ متناقضان، فنفس البعث والزجر المقتضيين لهما ـ أيضاً ـ متنافيان، ويستحيل اجتماعهما، لا أنّهما يكونان من التكليف بغير المقدور؛ لعدم قدرة العبد على الجمع بين الفعل والترك حتى يكون من التكليف بالمحال الذي هو جائز عند الأشاعرة.
والمقدّمة الثانية: ما أشار إليها بقوله:
<ثانيتها: أنّه لا شبهة في أنّ متعلّق الأحكام إنّما هو فعل المكلّف، وما هو في الخارج يصدر عنه، وما هو فاعله وجاعله، لا ما هو اسمه، وهو واضح، ولا ما هو عنوانه ممّا قد انتزع عنه، بحيث لولا انتزاعه تصوّراً واختراعه ذهناً لما كان بحذائه شيء خارجاً، ويكون خارج المحمول كالملكيّة والزوجيّة والرقّيّة والحرّيّة والمغصوبيّة، إلى غير ذلك من الاعتبارات والإضافات، ضرورة أنّ البعث ليس نحوه، والزجر لا يكون عنه، وإنّما يؤخذ في متعلّق الأحكام آلةً للحاظ متعلّقاتها، والإشارة إليه بمقدار الغرض منها والحاجة إليها، لا بما هو هو وبنفسه وعلى استقلاله وحياله>( ).
وحاصلها: أنّ متعلّق الأحكام هو نفس المعنونات، لا العناوين؛ لأنّ الحكم تابع لملاكه، فكلّ ما فيه الملاك يكون متعلّقاً للحكم؛ لأنّ تعلّقه بغير ما يقوم به الملاك ينافي ما عليه مشهور العدليّة من تبعيّة الأحكام للملاكات الثابتة في متعلّقاتها، فتعلّق الحكم بغير ما يقوم به الملاك يكون جزافاً.
هذا من ناحية.
ومن ناحية أُخرى: فإنّ الملاكات لا تقوم بالاُمور الاعتباريّة التي لا تأصّل لها في الخارج، بل تقوم بالموجودات الخارجيّة المتأصّلة. وعليه: فالعنوان الاعتباريّ المأخوذ متعلّقاً للتكليف في ظاهر الخطاب ليس متعلّقاً له حقيقةً، بل هو قنطرة وعنوان مشير إلى ما هو المتعلّق واقعاً وحاكٍ عنه، فالمتعلّق للتكليف في الواقع هو المعنون والمسمّى، دون العنوان والاسم اللّذين ينتزعان من المعنون والمسمّى، ولا يكون لهما ما يحاذيهما في الخارج؛ فمتعلّق الحكم إنّما هو الفعل الخارجيّ الصادر من المكلّف؛ لأنّه مركب الملاك، لا اسمه وعنوانه، فالصلاة الواقعة في الدار المغصوبة هي التي يتعلّق الأمر والتكليف بها، أي: بما يقع في الخارج منها من الأجزاء والشرائط، دون عنوانها، وكذا الغصب؛ فإنّ النهي يتعلّق بنفس تلك التصرّفات الخارجيّة في مال الغير بدون رضاه، لا بعنوانه.
وعلى هذا الأساس: فلا يكون هناك سوى عمل واحد يكون ماُموراً به ومنهيّاً عنه، فإنّ متعلّق التكليف هو نفس الفعل، لا اسمه وعنوانه حتى يُقال: إنّ متعلّق الأمر عنوان غير العنوان الذي تعلّق به النهي، فيجوز الاجتماع.

دليل القائلين بالجواز:
استدلّ القائلون بالجواز بأدلّة:
منها:
ما عن المحقّق القمّيّ( )، من أنّ متعلّق الأمر والنهي إنّما هو الطبيعة، وأمّا الفرد فهو مقدّمة لوجود الكلّيّ، لا عينه، فهذا الفرد من الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة، ليس بنفسه ماُموراً به بالأمر النفسيّ، بل متعلّق الأمر النفسيّ هو طبيعة الصلاة، لا هذا الفرد، فهذا الفرد مقدّمة محرّمة لوجود الواجب النفسيّ، أعني: الطبيعة المأمور بها، ومقدّمة الواجب ليست بواجبة، فلم يجتمع هناك الوجوب والحرمة، ولو قيل: بوجوب المقدّمة، فوجوبها يكون غيريّاً تبعيّاً، ولا مانع من اجتماع الوجوب الغيريّ مع النهي النفسيّ، وإنّما المانع هو اجتماع الوجوب النفسيّ مع النهي النفسيّ.
ولكن يرد عليه:
أوّلاً: أنّ الفرد ليس مقدّمة لوجود الطبيعيّ، بل هو عينه خارجاً. ولو قيل: إنّ المحقّق لم يدّعِ مقدّميّة الفرد للطبيعة مطلقاً، بل ادّعى ذلك في طرف الأمر فقط؛ لأنّه ذكر أنّه بناءً على وجوب المقدّمة يلزم اجتماع الأمر الغيريّ مع النهي النفسيّ، فلو كان مدّعاه مقدّميّة الفرد مطلقاً، لكان في طرف النهي أيضاً نهي غيريّ.
فمن ذلك يُعلم: أنّ ما قاله من المقدّميّة مقصور على طرف الأمر، وحينئذٍ: لابدّ أن يكون مراده من الأمر خصوص الأمر المطلوب منه صرف الوجود، لا الأمر الانحلاليّ؛ لأنّه لا فرق بين الأوامر الانحلاليّة والنواهي الانحلاليّة من حيث عدم مقدّميّة الفرد للطبيعة، والذي يمكن هو الفرق بين الأوامر المطلوب منها صرف الوجود كالصلاة، وبين الأوامر والنواهي الانحلاليّة؛ حيث إنّه تصحّ دعوى كون الفرد مقدّمة لتحقّق صرف الوجود، بحيث يكون الفرد من المحصّلات والمحقّقات للطبيعة وصرف الوجود، لا عينها.
ففيه: أنّ ذلك وإن كان توجيهاً لكلامه، إلّا أنّه مع ذلك لا يستقيم، ضرورة أنّ الفرد في صرف الوجود أيضاً لم يكن مقدّمة، بل هو عين الطبيعة.
نعم، لو قلنا بأنّ الكلّيّ الطبيعيّ لا وجود له في الخارج أصلاً، وأنّه انتزاعيّ صرف، كان الفرد ـ الذي هو منشأ الانتزاع ـ مقدّمة لانتزاعه.
ولكن الحقّ ـ كما هو معلوم ـ أنّ وجود الفرد هو نفس وجود الطبيعيّ، فلا معنى للقول بمقدّميّة الأفراد للطبيعة.
وثانياً: أنّ دعوى عدم وجوب المقدّمة ممّا يكذّبها الوجدان، ولا يمكن القول به، كما تقدّم في بحث مقدّمة الواجب.
وثالثاً: أنّ دعوى أنّ الممنوع هو اجتماع الوجوب النفسيّ مع النهي النفسيّ لا الوجوب الغيريّ لا شاهد عليها؛ لوضوح أنّه لا فرق بين الوجوب النفسيّ والوجوب الغيريّ، بعدما كان مطلق الوجوب مضادّاً من حيث الاقتضاء للحرمة؛ حيث إنّ الوجوب يقتضي البعث والحرمة تقتضي الزجر.
ومنها:
أنّ الاجتماع إنّما يكون ماُموريّاً لا آمريّاً، أي: أنّ الآمر أورد الحكم على طبيعة الصلاة، وأورد النهي على طبيعة الغصب، فمتعلّق الأمر شيء ومتعلّق النهي شيء آخر، وكلّ منهما مباين للآخر، والآمر لم يجمع المتعلّقين في أمره، وإنّما جمعهما المأمور به.
ولكن لا يخفى:
أنّ هذا القول إنّما يتمّ لو قلنا بأنّ الأمر ورد على الطبيعة بلحاظ الذهن، لا بلحاظ الخارج، وكذا النهي، مع أنّ الأمر ـ كما هو معلوم ـ غير متعلّق بالطبيعة المقيّدة بلحاظها في الذهن، وكذا النهي، بل بما هي مرآة للخارج؛ إذ لو كانت مقيّدة باللّحاظ الذهنيّ كانت غير قابلة للامتثال.
مع أنّ المأمور إنّما جمع بينهما في مقام الامتثال، ولابدّ أن يكون الامتثال على طبق المأمور به، فلو لم يجمع الآمر بين المتعلّقين، ولو بالإطلاق الشموليّ أو البدليّ، فكيف يمكن للمكلّف الجمع في الامتثال؟
مع أنّه لو بنينا على أنّ الاجتماع ماُموريّ، يلزم سدّ باب التعارض من وجه، فإنّه دائماً يكون الاجتماع ماُموريّاً، وفي مقام الامتثال، فيلزم أن لا يتحقّق مورد للتعارض من وجه، وتكون جميع الموارد من باب التزاحم.
ومنها:
أنّ هناك فرقاً بين ظرف العروض وظرف الاتّصاف. وبعبارة أُخرى: فإنّ متعلّقات الأحكام إنّما هي الماهيّات الواقعة في رتبة الحمل، لا الواقعة في رتبة نتيجة الحمل، فالاُولى تكون من الاُمور العقليّة، والثانية من الاُمور الخارجيّة، وتكون تلك رتبة الاتّحاد، وعينيّة الكلّيّ لمصداقه.
فإذا عرفت هذا، فإذا كان متعلّق الحكم هي الماهيّة الواقعة في رتبة نتيجة الحمل، فيلزم اتّحاد المتعلّقين؛ لأنّ هذه الرتبة ـ كما عرفت ـ هي رتبة عينيّة كلّ كلّيّ لمصداقه، والمفروض أنّ المصداق واحد، فيلزم اتّحاد المتعلّقين. وأمّا إذا كان متعلّق الحكم هي الماهيّة الواقعة في رتبة الحمل، فحينئذٍ لا يلزم اتّحاد المتعلّقين؛ لأنّ هذه الرتبة هي رتبة مغايرة الموضوع للمحمول المصحّحة للحمل، فلا اتّحاد.
ولكن فيه:
أنّ الإشكال هنا هو عين الإشكال المتقدّم؛ لأنّه بناءً على أن يكون متعلّق الأحكام هي الصور الذهنيّة بما هي فهذا الكلام تامّ لا غبار عليه؛ ولكنّ الصحيح: أنّ المتعلّق إنّما هي الصور بما أنّها مرآة للخارج، ومعه: فيأتي محذور الاتّحاد، لاتّحاد المرئيّ وذي الوجه.
ومنها:
دعوى: أنّ متعلّقات الأحكام هي الماهيّات غير المتحصّلة، وهي ليست متّحدة بعضها مع بعض، والاتّحاد إنّما يكون بين الماهيّات.
ولكنّك خبير:
بأنّ هذا الوجه إنّما هو عبارة أُخرى عن الوجه السابق، ولا يكون له معنىً محصّل؛ فإنّ متعلّقات الأحكام، وإن كانت هي الماهيّات غير المتحصّلة، إلّا أنّ الأمر بها إنّما يكون بلحاظ التحصّل، وبما هي مرآة للخارج، وهي في مقام التحصّل متّحدة.
وقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ الضابط للقول بالامتناع والقول بالجواز في المسألة هو وحدة المجمع في مورد الاجتماع وجوداً وماهيّةً وتعدّده كذلك، فعلى الأوّل: لا مناص من القول بالامتناع، وعلى الثاني: من القول بالجواز، لعدم سراية الحكم من الملزوم إلى لازمه.
هذا تمام الكلام بالنسبة إلى كبرى مسألة الاجتماع.
وأمّا الصغرى، وهي ملاحظة أنّ الصلاة هل يمكن أن تتّحد مع الغصب خارجاً أم لا؟
قال المحقّق النائيني بعدم إمكان اتّحادهما، بدعوى: أنّ الصلاة من مقولة، والغصب من مقولة أُخرى، ولا يمكن أن تتّحد المقولتان وتندرجا تحت مقولة واحدة( ).
ولكن الحقّ ـ كما أفاده الاُستاذ الأعظم ـ أنّ <الأمر ليس كذلك، فإنّ الصلاة وإن كانت مركّبة من مقولات متعدّدة، إلّا أنّ الغصب ليس من المقولات في شيء، بل هو مفهوم انتزاعيّ منتزع من مقولات متعدّدة، كما أشرنا إليه، وعليه: فيمكن اتّحاده مع الصلاة>( ).
أمّا أنّ الصلاة مركّبة من مقولات متعدّدة، فواضح؛ لأنّها ليست حقيقة مستقلّة ومقولة برأسها، بل هي مركّبة من مقولات عديدة، منها: الكيف المسموع، كالقراءة والأذكار، ومنها: الكيف النفسانيّ، كالنيّة، ومنها: الوضع، كهيئة الراكع والساجد والقائم والقاعد.
وبما أنّها مركّبة من مقولات متعدّدة، فلا يمكن تصوير جامع حقيقيّ لها، بل الجامع لهذه المقولات أمر اعتباريّ، فلذا لا مطابق لها في الخارج، بل الخارج هو نفس المقولات المؤلّفة الصلاة منها.
وأمّا أنّ الغصب ليس مقولة؛ فلأنّه يمكن انطباقه على مقولات متعدّدة، ولا يمكن أن يفرض كونه جامعاً حقيقيّاً لها، بل هو من المفاهيم الانتزاعيّة؛ حيث إنّه منتزع من مقولات مختلفة، كالكون في الأرض المغصوبة الذي هو من مقولة الأين، وأكل مال الغير أو لبسه الذي هو من مقولة أُخرى.
فإذا عرفت هذا، فنقول:
بما أنّ عنوان الغصب انتزاعيّ، فلا مانع من اتّحاده مع الصلاة خارجاً أصلاً. وإنّما الكلام في أنّ الأمر في الخارج هل هو أيضاً كذلك أم لا؟ وهذا يتوقّف على بيان حقيقة الصلاة التي هي عبارة عن عدّة مقولات كما عرفنا، لنرى أنّ الغصب هل يتّحد مع هذه المقولات خارجاً أو مع إحداها أم لا؟
فنقول: أمّا النيّة، فهي أوّل أجزاء الصلاة ـ بناءً على أنّ قصد القربة يكون مأخوذاً في متعلّق الأمر، وليس وجوبه بحكم العقل ـ، وهي من مقولة الكيف النفسانيّ، ولا يشكّ أحد في أنّها ليست تصرّفاً في مال الغير عرفاً لتكون منشأً لانتزاع عنوان الغصب في الخارج ومصداقاً له؛ لأنّ الغصب لا يصدق على الاُمور النفسانيّة كالنيّة.
وأمّا التكبيرة، وهي من مقولة الكيف المسموع؛ فإنّها لا تتّحد مع الغصب في الخارج؛ لأنّه لا يصدق على التكلّم في الدار المغصوبة أنّه تصرّف فيها، فلا تكون مصداقاً للغصب ومنشأً لانتزاعه.
فإن قلت: التكلّم وإن لم يكن تصرّفاً في الدار، إلّا أنّه تصرّف في الفضاء؛ لأنّه يوجب تموّج الهواء فيه، والمفروض أنّ الفضاء ملك للغير، كالدار، فكما أنّ التصرّف فيها غير جائز ومصداق للغصب، فكذلك التصرّف فيه.
قلت: نمنع أن يصدق على التكلّم أنّه تصرّف في الفضاء المغصوب، وعلى تقدير صدقه عليه عقلاً، فلا يصدق عليه عرفاً كما هو واضح، وحيث لم يكن في نظر العرف تصرّفاً، لم تشمله الأدلّة وكانت منصرفة عنه قطعاً، وإن كان يعدّ في نظر العقل تصرّفاً.
وأمّا السجود والركوع والقيام والقعود، والصحيح أنّها ـ أيضاً ـ لا تكون متّحدة مع الغصب خارجاً؛ فإنّ هذه الأفعال من مقولة الوضع، والغصب من الاُمور الانتزاعيّة، وهو في المقام ـ بحسب الفرض ـ منتزع من الكون في الأرض المغصوبة، وهو من مقولة الأين، فيستحيل اتّحادهما خارجاً.
والحاصل: أنّ هيئة الركوع والسجود والقيام والجلوس ليست في أنفسها، مع قطع النظر عن مقدّماتها، من الهويّ والنهوض، مصداقاً للغصب ومنشأً لانتزاعه.
اللّهمّ إذا قلنا بأنّ هذه المقدّمات من أجزاء الصلاة؛ لأنّها نحو من الحركة، والحركة في الدار المغصوبة من أوضح أنحاء التصرّف فيها، فتكون مصداقاً للغصب ومتّحدة معه خارجاً، وحينئذٍ: فلا مناص من القول بالامتناع، لفرض أنّ الصلاة عندئذٍ تكون متّحدة مع الغصب في الخارج ومصداق له، ولو باعتبار بعض أجزائها، خصوصاً بالنسبة إلى السجود؛ لأنّه ليس بمعنى: المماسّة فقط، بل مع الاعتماد، وهذا يصدق عليه التصرّف في ملك الغير.
ومعه: لابدّ من القول بالامتناع، أي: امتناع الصلاة في الأرض المغصوبة، لاستحالة أن يكون شيء واحد مصداق للمأمور به والمنهيّ عنه معاً.
وقد تحصّل من جميع ما تقدّم: أنّ ثمرة المسألة على القول بالجواز صحّة العبادة في مورد الاجتماع مطلقاً، ولو كان يعلم بحرمة التصرّف في المغصوب، فضلاً عمّا إذا كان جاهلاً بها، وتبطل على القول بالامتناع، مع العلم بالحرمة، وكذا مع الجهل التقصيريّ، إذا كان جانب النهي مقدّماً، وأمّا مع تقديم جانب الأمر، أو عدم كون الجهل عن تقصير، فلا بطلان.
غير أنّ المحقّق النائيني( ) قال ببطلان العبادة في صورة العلم بالحرمة، وبصحّتها في صورة الجهل بها والنسيان، وحاصل ما أفاده في وجه ذلك: أنّه لا يمكن تصحيح العبادة هنا بالأمر؛ لأنّ متعلّق الأمر هو الحصّة الخاصّة، وهي الحصّة المقدورة، والترتّب لا يجري في المقام، ولا يمكن القول بصحّته بالنسبة إلى الملاك؛ إذ لا يمكن أن نعلم بوجود الملاك، لفرض أنّ صدور المجمع منه قبيح، ومع القبح الفاعليّ لا تصحّ العبادة، كما أنّها لا تصحّ مع القبح الفعليّ.
وقد أجاب عنه الاُستاذ الأعظم بقوله: <يمكن الحكم بصحّتها من ناحية الأمر؛ لما عرفت من إطلاق المتعلّق وعدم المقتضي لتقييده بخصوص الحصّة المقدورة، ومن ناحية الترتّب؛ لما ذكرناه هناك من أنّه لا مانع من الالتزام به في المقام أصلاً، ومن ناحية الملاك؛ لما عرفت من عدم القبح الفاعليّ بالإضافة إلى إيجاد ما ينطبق عليه المأمور به>( ).
ولكن فيه: أنّه حتى لو فرض تقديم جانب الأمر، ولكن مع ذلك، فالنهي موجود، والحركة واحدة، فيحصل الاتّحاد، فلا مناص من الحكم بالبطلان.
وأمّا ما ذكره من أنّ المتعلّق مطلق وغير مشروط بالحصّة المقدورة، فهو ممنوع، إذ حتى مع فرض وجود المندوحة، فلابدّ وأن يتعلّق الأمر بالحصّة المقدورة.
وأمّا دعواه: أنّه لا مانع من جريان الترتّب في المقام، فيرد عليها: أنّ الترتّب لا يجري إلّا بين شيئين، أحدهما أهمّ والثاني مهمّ، لا بين شيء واحد.
وأمّا دعوى إمكان تصحيح العبادة من ناحية الملاك، ففيها: أنّه مع عدم وجود الأمر، فلا سبيل لنا إلى العلم بوجود الملاك. وعليه: فعلى فرض الجواز، فإن كان المكلّف عالماً بالحرمة فلا تصحّ العبادة، وإن قدّمنا جانب الأمر.
نعم، يصحّ في صورة النسيان والجهل.

في العبادات المكروهة:
لا يخفى: أنّ الأحكام بأسرها متضادّة فيما بينها، لا فرق في ذلك بين الوجوب والحرمة وبين الاستحباب والكراهة.
ولكن قد يقال: بأنّه قد وقع في الشرع اجتماع الاستحباب مع الكراهة، فيكون هذا دليلاً على جواز اجتماع الأمر والنهي، إذ إنّ أدلّ شيء على جواز الشيء وقوعه، وذلك كالعبادات المكروهة، ﻛ <الصلاة في موضع التهمة> و<الصلاة في الحمّام> و<الصيام في السفر> و<صيام يوم عاشوراء>، ونحو ذلك...
ولكن فيه: أنّه بعد قيام الدليل القطعيّ على امتناع الاجتماع، وبعد القطع بالتضادّ فيما بين الأحكام بأسرها، فلابدّ ـ حينئذٍ ـ من التصرّف بالدليل الظاهر في جواز الاجتماع وتأويله، كيف لا؟! والظاهر لا يصادم الدليل العقليّ القطعيّ.
هذا هو الجواب الإجماليّ.
ولكن لابدّ هنا من التفصيل، فنقول:
إنّ العبادات المكروهة على أقسام ثلاثة:
الأوّل: ما تعلّق النهي به بذاته، وليس له بدل، ﻛ <صوم يوم عاشوراء> والنوافل المبتدأة في بعض الأوقات، والمراد بالمبتدأة: غير ذات الأسباب، كصلاة الزيارة، أو صوم يوم الغدير. وليس لهذه العبادة بدل؛ فإنّ صوم عاشوراء لا بدل له.
والثاني: ما تعلّق النهي به بذاته، وكان له بدل، ﻛ <الصلاة في الحمام>؛ فإنّ لها بدلاً، إذ يمكن أن يصلّي في غيره.
والثالث: ما تعلّق النهي به لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجوداً، أو ملازم له خارجاً، كالصلاة في مواضع التهمة، فإنّ النهي إنّما ورد على الكون في تلك المواضع، وهو متّحد مع الصلاة فيها.
أمّا القسم الأوّل: فالنهي عنه تنزيهيّ، أي: أنّه أقلّ ثواباً، بعد ورود الإجماع على صحّة هذه العبادة لو جيء بها مع أرجحيّة تركه، كما هو مستفاد من مداومة الأئمّةعلى الترك.
وكذا الحال في القسم الثاني، فإنّ النهي إنّما هو عبارة عن وجود منقصة هناك.
وأمّا في القسم الثالث: فإنّ النهي يمكن أن يكون إرشاديّاً، ويمكن أن يكون مولويّاً، ويكون النهي قد ورد على ذلك العنوان، وهو الكون في مواضع التهمة، فتدخل معه في مسألة الاجتماع؛ فإنّه بناءً على الامتناع يحكم بالجواز هنا في صورة ترجيح جانب الأمر، من جهة الإجماع على صحّة هكذا عبادة.

الاضطرار إلى ارتكاب الحرام:
قال صاحب الكفاية: <إنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام، وإن كان يوجب ارتفاع حرمته والعقوبة عليه، مع بقاء ملاك وجوبه لو كان مؤثّراً له كما إذا لم يكن بحرام بلا كلام، إلّا أنّه إذا لم يكن اختياره لم يكن اضطراره إليه بسوء الاختيار، بأن يختار ما يؤدّي إليه لا محالة، فإنّ الخطاب بالزجر حينئذٍ، وإن كان ساقطاً، إلّا أنّه حيث يصدر عنه مبغوضاً عليه وعصياناً لذاك الخطاب ومستحقّاً عليه العقاب، لا يصلح لأن يتعلّق به الإيجاب، وهذا في الجملة ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب>( ).
لا يخفى: أنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام يتكلّم فيه: تارةً: فيما إذا لم يكن بسوء اختياره، وأُخرى: فيما إذا كان بسوء اختياره. والكلام في كلتا الصورتين، تارةً: من حيث الحكم التكليفيّ، وأُخرى من ناحية الحكم الوضعيّ.
فالصورة الأُولى كالمحبوس في الدار الغصبيّة، إذا لم يكن هناك مندوحة، ولا إشكال حينئذٍ: في ارتفاع الحرمة؛ لأنّه مضطرّ إلى ارتكاب الحرام، ويكون عمله مسقطاً للأمر عقلاً، وسقوط قيديّة لزوم عدم إيقاعها في المكان المغصوب مطلقاً، سواء قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي أو امتناعه.
أمّا بناءً على القول بالامتناع: فلأنّ مورد التصادق يكون من صغريات النهي عن العبادة، والقيديّة المستفادة من الحرمة النفسيّة تدور مدار الحرمة، والحرمة ارتفعت، وليست كالقيديّة المستفادة من النواهي الغيريّة، كما إذا قلت: لا تصلّ في غير المأكول، حيث إنّ الظاهر منه هو القيديّة المطلقة، سواء تمكّن المكلّف منها أم لم يتمكّن؟ نعم، غاية الأمر: أنّه في صورة عدم التمكّن من القيد يسقط التكليف عن المقيّد.
وأمّا بناءً على الجواز، فسقوط القيديّة عند الاضطرار أولى، إذ بناءً على الجواز تكون المسألة من صغريات التزاحم كما عرفنا، والقيديّة المستفادة من التزاحم تدور مدار وجود المزاحم لا محالة، وبعد سقوط المزاحم بالاضطرار تنتفي القيديّة.
وقد ذكر المحقّق النائيني في مقدّمة هذا البحث: أنّ القيود العدميّة المعتبرة في المأمور به بحيث تحدّد الحكم وتجعله مختصّاً بموردٍ دون آخر على ثلاثة أقسام:
الأوّل: أن تكون مدلولة للنهي الغيريّ ابتداءً، فيكون النهي نهياً إرشاديّاً يفيد مانعيّة متعلّقه عن صحّة العمل المحفوف به، كالنهي الوارد عن لبس الحرير في الصلاة، وهذا لا يرتفع بالاضطرار إذا كان دليله مطلقاً؛ فإنّه يفيد أنّ المانعيّة تثبت في كلا الحالين: الاضطرار والاختيار، فلا تسقط المانعيّة في حال الاضطرار ولا محذور فيه.
إلّا أنّ التكليف هنا لا يسقط، للدليل الذي قام بالخصوص على أنّ الصلاة لا تسقط بحال، فانّه يدلّ على إلغاء الشارع كلّ قيد من قيودها حال العجز.
الثاني: أن تكون تابعة للنهي النفسيّ الدالّ على التحريم، فيستفاد منه مانعيّة متعلّقه عن صحّة العمل، كما في مورد الاجتماع بناءً على الامتناع من الجهة الأُولى، ولكنّ المانعيّة:
تارةً يُقال: إنّها في طول الحرمة وتابعة لها، كما هو المشهور.
وأُخرى يُقال: إنّها في عرضها، بمعنى: أنّ النهي يستفاد منه في عرضٍ واحد الحرمة والمانعيّة.
فعلى الأوّل: يكون الاضطرار رافعاً للحرمة والمانعيّة؛ لأنّ المفروض كون المانعيّة تابعةً للحرمة، فإذا زالت الحرمة زالت المانعيّة، فيصحّ العمل.
وعلى الثاني: لا يرفع الاضطرار المانعيّة، وإنّما يرفع الحرمة فقط، إذ المانعيّة لا تنافي الاضطرار، كما عرفت، والمفروض عدم إناطتها بالحرمة.
الثالث: أن تكون ثابتة لأجل مزاحمة المأمور به مع المنهيّ عنه، كما هو الحال لو قيل بالجواز من الجهة الأُولى؛ فإنّه يقع التزاحم بين الحكمين، فيرتفع الأمر باعتبار المزاحمة، ففي مثله: لو حصل الاضطرار يبقى الأمر؛ وذلك لارتفاع الحرمة وزوال المزاحمة؛ لأنّ أساسها كون الحكم فعليّاً، ولا فعليّة للحرمة مع الاضطرار.
هذا ملخّص ما أفاده( ).
وأمّا إذا كان بسوء الاختيار، فتارةً نتكلّم فيه من حيث الحكم التكليفيّ، وأُخرى من حيث الحكم الوضعيّ.
فالأوّل: بمعنى أنّ خروجه هل هو حرام أم لا؟ أي هل هو ماُمور به أو منهيّ عنه؟
والثاني: بمعنى: هل تصحّ صلاته في حال الخروج أم لا؟
والأقوال الواردة في المقام أربعة، وهي:
الأوّل: أنّ الخروج ماُمور به فقط، ولا يعاقب عليه، وهو منسوب إلى الشيخ الأعظم( ).
الثاني: أنّ الخروج واجب، ومع ذلك فهو حرام، أي: أنّه يكون ماُموراً به ومنهيّاً عنه في الوقت عينه، وهو المنسوب إلى أبي هاشم واختاره صاحب القوانين( ).
الثالث: أنّه ماُمور به ومنهيّ عنه، لكن بالنهي السابق لا الفعليّ، فيجب عقابه؛ لأنّه دخل الأرض المغصوبة باختياره، والمراد من النهي السابق: النهي السابق على الدخول الساقط حال الخروج، وهو خيرة صاحب الفصول( ).
الرابع: أنّه غير ماُمور به ولا منهيّ عنه بالنهي الفعليّ، ولكن يعاقب عليه ويجري عليه حكم الغصبيّة، مع إلزام العقل بالخروج؛ لكونه أقلّ محذوراً، من دون أن يكون ماُموراً به شرعاً، وهو الذي اختاره صاحب الكفاية بقوله:
<والحقّ أنّه منهيّ عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه، وعصيان له بسوء الاختيار، ولا يكاد يكون ماُموراً به..>( ).
ولابدّ قبل الأخذ باختيار أحد الأقوال من بيان اُمور:
الأوّل:
أنّ التصرّف الخروجيّ هل يكون حسناً وواجباً على الإطلاق، أم لا، بل في خصوص ما إذا قصد التخلّص؟
الحقّ: أنّ الذي يكون حسناً إنّما هو التصرّف الخروجيّ إذا كان بعنوان التخلّص، وأمّا لو خرج متنزّهاً كما كان دخوله كذلك، فإنّ دخوله وبقاءه وخروجه تكون كلّها تصرّفات قبيحة عقلاً، وممنوع منها شرعاً، وكذلك إذا كان خروجه منها لشغل آخر.
وأمّا مثل الخروج التخلّصيّ، فبما أنّه حسن، فلا يمكن أن يعرضه القبح؛ وإلّا، لزم اجتماع الضدّين؛ فإنّ الخروج التخلّصيّ رفع للظلم، وما يكون رفعاً ونقيضاً للظلم والعدوان كان حسناً لا محالة.
والثاني:
هل المقام من صغريات قاعدة <الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً> أم لا؟
لا يخفى: أنّ قاعدة الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار إنّما تعني أنّ التكليف إذا توجّه إلى المكلّف وكان قادراً على امتثاله، ثمّ بسوء اختياره جعل ذلك الامتثال ممتنعاً على نفسه، فلا يكون حينئذٍ معذوراً في ترك امتثال الواجب، بل يؤاخذ ويستحقّ العقاب؛ لأنّه ـ في الحقيقة ـ ترك الامتثال عمداً، وبسوء اختياره، أو فقل: هو الذي عجّز نفسه اختياراً، وأمّا الخروج من الدار المغصوبة، فليس من هذا القبيل؛ لأنّه كان مقدوراً للمكلّف فعلاً وتركاً، ولم يعرض عليه الامتناع، وإنّما الممتنع هو المقدار من الكون في المغصوب، وهذا المقدار كما يحصل بالخروج يحصل بتركه، وهذا لا يكون سبباً لامتناع الخروج؛ لأنّ الاضطرار إلى الجامع لا يستلزم الاضطرار إلى ما يحصل به.
وعليه: فإدخال هذا الخروج في مسألة الامتناع بالاختيار في غير محلّه، بل هو على عكس هذه القاعدة؛ فإنّ مورد تلك القاعدة هو ما إذا كان ترك المقدّمة ومخالفتها سبباً لترك الواجب، كترك المسير الموجب لترك الحجّ؛ فإنّ من ترك المسير إلى الحجّ بعد وجود الاستطاعة، مستحقّ للعقاب على تركه، وإن امتنع عليه الفعل ـ حينئذٍ ـ في وقته؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، كما فيمن ألقى نفسه من شاهق.
وأمّا في مورد الكلام، فإنّ الدخول موضوع للخروج ومن مقدّماته التي يتوقّف عليه الخروج، فقبل الدخول لا نهي عن الخروج، وبعد الدخول لا يكون الخروج منهيّاً عنه، بل المنهيّ عنه هو الجامع، أي: المقدار من البقاء، بل يكون الخروج حسناً إذا كان لأجل التخلّص، من باب أقلّ المحذورين، أو من باب ردّ الغصب. وعليه: فوجوب الخروج بعد الوقوع ممّا يحسّنه العقل، فكيف يكون مندرجاً في القاعدة المذكورة؟
وعلى الجملة: فهناك ثلاثة تصرّفات في مال الغير بلا إذنٍ منه: الدخوليّ والبقائيّ والخروجيّ، وما يكون حراماً من هذه الثلاثة اثنان فقط، وهما: الدخوليّ والبقائيّ، دون الخروجيّ؛ لأنّه يكون سبباً للتخلّص من الحرام، فلا يمكن أن يتّصف بالحرمة في حال من الأحوال، نظير شرب الخمر إذا توقّفت عليه حياة الشخص.
وبعبارة أُخرى: فالخروج لا يقع محرّماً أصلاً، لا قبل الدخول ولا بعده؛ لأنّه قبل الدخول غير متمكّن من الخروج، وبعد الدخول يكون الخروج سبباً للتخلّص من الحرام، فلا يمكن أن يقال: إنّ المكلّف قبل الدخول متمكّن من جميع هذه التصرّفات، فجميعها تكون محرّمة؛ لأنّه غير متمكّن من التصرّف الخروجيّ قبل الدخول، كما هو واضح.
إلّا أن يقال: إنّه ممكن مع الواسطة، أي مع واسطة الدخول، قال في الكفاية:
<وبالجملة: كان قبل ذلك متمكّناً من التصرّف خروجاً كما يتمكّن منه دخولاً، غاية الأمر: يتمكّن منه بلا واسطة، ومنه بالواسطة، ومجرّد عدم التمكّن منه إلّا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدوراً، كما هو الحال في البقاء، فكما يكون تركه مطلوباً في جميع الأوقات، فكذلك الخروج..>( ).
وعلى فرض إمكانه، فبما أنّه سبب للتخلّص، فلا يكون حراماً.
ولكن قد يستشكل فيه: بأنّ الخروج ليس بواجب حتى ترتفع الحرمة، لا بوجوب نفسيّ ولا بوجوب غيريّ:
أمّا الوجوب النفسيّ: فلأنّ مصلحته النفسيّة متوقّفة على انطباق عنوانٍ حسن عليه شرعاً، والعنوان المتصوّر انطباقه على الخروج ليس إلّا التخلّص من الغصب الموجب لكونه ذا مصلحة نفسيّة، وواجباً نفسيّاً، وذلك لا يصلح لجعل الخروج معنوناً بهذا العنوان ولا مصداقاً له؛ لأنّ التخلّص من الغصب عبارة عن تركه المتحقّق بانتهاء الحركة الخروجيّة إلى الكون في الخارج عن المغصوب، فليس الخروج بنفسه معنوناً بعنوان التخلّص ولا مصداقاً له في الخارج حتى يكون ذا مصلحة نفسيّة وواجباً نفسيّاً.
وأمّا الوجوب الغيريّ: فلأنّ الخروج ليس مقدّمة للتخلية، بل الحركات الخروجيّة مقدّمة للكون في خارج المكان المغصوب، وليست هذه الحركات مقدّمة للتخلية الواجبة التي هي إفراغ المكان عن التصرّف العدوانيّ.
وبعبارة ثانية: فإنّ الخروج مقدّمة لملازم التخلية الواجبة ـ وهو الكون في المكان المباح ـ لا مقدّمة لنفس الواجب حتى يكون واجباً غيريّاً لأجل المقدّميّة. فالخروج ليس بواجب، لا نفسيّاً ولا مقدّميّاً، حتى يقدّم جانبه وترتفع الحرمة.
نعم، يمكن القول: بالوجوب العقليّ، لا الشرعيّ؛ لأنّ العقل يحكم بالخروج دفعاً للأفسد ـ وهو الغصب الزائد على الخروج ـ بالفاسد، وهو الغصب بمقدار الخروج.
ثمّ إنّ وجوب المقدّمة مع انحصارها إنّما يكون بشرطين:
الأوّل: أن يكون الواجب أهمّ من ترك المقدّمة، كإنقاذ الغريق، فإنّه أهمّ من حرمة الدخول في المكان المغصوب، وأيضاً: كالخروج عنه تخلّصاً من الغصب، فإنّ الواجب ـ وهو التخلّص عنه ـ أهمّ من ترك الحرام، وهو الخروج.
والثاني: أن لا يكون الاضطرار إلى المقدّمة المحرّمة ـ كالخروج ـ بسوء اختياره، وإلّا، تبقى المقدّمة على حالها من الحرمة والمبغوضيّة، فلا يبقى هناك تنافٍ بين وجوب المقدّمة والحرمة، خصوصاً فيما إذا كان توصّليّاً.
وقد استُشكل في ذلك: بأنّ الالتزام بالحرمة يوجب ارتفاع الوجوب عن ذي المقدّمة، وهو التخلّص من الغصب، أو حفظ النفس بالنسبة إلى شرب الخمر؛ حيث إنّ المقدّمة ـ وهي الخروج والشرب ـ ممنوعة شرعاً، وموجبة لاستحقاق العقوبة عقلاً.
ومن المقرّر: أنّ الممنوع شرعاً كالممنوع عقلاً، فالتكليف بذي المقدّمة مع امتناع مقدّمته الوجوديّة تكليف بغير المقدور؛ إذ لا يمكن الجمع بين حرمة المقدّمة ووجوب ذيها، فلابدّ أن نقول: إمّا بسقوط الحرمة عن المقدّمة، أو بسقوط الوجوب عن ذي المقدّمة.
ولكنّ الالتزام بسقوط الوجوب كما ترى، حيث لم يلتزم أحد بسقوط وجوب التخلّص عن المغصوب وحفظ النفس، فلا محالة: يتعيّن القول بسقوط الحرمة عن المقدّمة، وهي الخروج والشرب، وهو المطلوب( ).
قد أجاب عنه صاحب الكفاية بما لفظه:
<إنّما كان الممنوع كالممتنع إذا لم يحكم العقل بلزومه إرشاداً إلى ما هو أقلّ المحذورين، وقد عرفت لزومه بحكمه، فإنّه مع لزوم الإتيان بالمقدّمة عقلاً لا بأس في بقاء ذي المقدّمة على وجوبه، فإنّه حينئذٍ ليس من التكليف بالممتنع كما إذا كانت المقدّمة ممتنعة>( ).
وحاصله: أنّه بعد حكم العقل بلزوم فعل المقدّمة، فالوجوب باقٍ على حاله؛ لأنّه ليس من التكليف بالممتنع وغير المقدور، بعد أن كانت مخالفته من باب أقلّ المحذورين، فلا منافاة بين كون الخروج واجباً وبين كونه ممتنعاً شرعاً بالنهي السابق الذي سقط بالفعل وكان بسوء اختياره.
ثمّ تنزّل وقال:
<لو سُلّم، فالساقط إنّما هو الخطاب فعلاً بالبعث والإيجاب، لا لزوم إتيانه عقلاً خروجاً عن عهدة ما تنجّز عليه سابقاً، ضرورة أنّه لو لم يأتِ به لوقع في المحذور الأشدّ ونقض الغرض الأهمّ، حيث إنّه الآن كما كان عليه من الملاك والمحبوبية بلا حدوث قصورٍ، أو طروّ فتورٍ فيه أصلاً، وإنّما كان سقوط الخطاب لأجل المانع، وإلزام العقل به لذلك إرشاداً كافٍ، لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والإيجاب له فعلاً، فتدبّر جيّداً>( ).
وحاصله: أنّه لو فرض سقوط وجوب ذي المقدّمة، لعدم التمكّن منه، من جهة حرمة مقدّمته، إلّا أنّ الساقط هو فعليّته، التي هي البعث والإيجاب بحفظ النفس عن الهلاك والتخلّص من الغصب.
ولكن بما أنّ حكم العقل بلزوم الخروج باقٍ على حاله، فلا نحتاج مع هذا الحكم إلى الحكم الشرعيّ الفعليّ، فإنّ الملاك موجود، وحرمة المقدّمة مانعة عن فعليّة وجوب ذي المقدّمة، ووجوب التخلّص ثابت بحكم العقل، وحكمه كافٍ لا حاجة معه إلى الحكم الشرعيّ.
فظهر من جميع ما ذكرنا: أنّ الخروج باقٍ على حرمته ولا تتبدّل حرمته بالوجوب من جهة الاضطرار الناشئ عن سوء الاختيار، ولم يخرج عن عموم دليل حرمة الغصب، ولم يصر مطلوباً بسبب توقّف التخلّص عليه؛ لأنّ الاضطرار إنّما كان بسوء اختياره.
ولكنّ المحقّق النائيني ذكر أنّ الخروج ليس مورد الاضطرار، فلا يدخل المورد تحت قاعدة <الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار>، فالبحث إنّما يقع في التزاحم الحاصل بين حرمة الخروج ووجوب التخلّص عن الغصب الزائد، فالمورد من موارد التزاحم بين الحكمين بسوء الاختيار( ).
نعم، إنّما يحكم العقل بالخروج من جهة أنّه أقلّ المحذورين، كما ذكرنا سابقاً.
فإن قلت: إذا كان الخروج لازماً ولو باللّزوم العقليّ ومن جهة الفرار عمّا هو أكثر عقوبة، فكيف يكون معاقباً عليه عقلاً؟ بل هناك تنافٍ بين لزوم الخروج واستحقاق العقاب.
قلت: إنّ حكم العقل باللّزوم ليس لأجل أنّ هناك مصلحةً في ذات الخروج تكون موجبةً لإلزام العقل، بل لأجل أنّ الخروج موجب للفرار عن العقوبة الزائدة، وهو ترك الخروج والبقاء.
فإن قلت: لو كانت حرمة الخروج باقية، فكيف يمكن أن يكون ماُموراً به؟ فإنّ النهي لا يزال باقياً والخروج لا يزال حراماً حتى من بعد حدوث الاضطرار.
قلت: ليس الخروج ماُموراً به ـ كما مرّ ـ لا بالأمر النفسيّ ولا بالأمر الغيريّ، وإنّما العقل يحكم بلزومه من باب أقلّ المحذورين.
فإن قلت: فبناءً على هذا يلزم اجتماع الضدّين، وهما الوجوب والحرمة في فعلٍ واحد بعنوانٍ واحد.
قلت: يمكن الجواب عن ذلك: بأنّا نختار القول الذي ذهب إليه صاحب الفصول، ولا يرد هذا الإشكال؛ لأنّه لا يقول بأنّ الخروج معصية حقيقيّة حتى يكون حراماً كي يلزم اتّصافه بالوجوب والحرمة، بل يقول بأنّه في حكم المعصية، أي: بلحاظ استحقاق العقوبة.
ومن هنا ظهر فساد ما أورده الاُستاذ الأعظم على هذا القول من أنّه يستلزم التكليف بالمحال ببيان:
<أنّ المتوسّط في الأرض المغصوبة لا يخلو من أن يبقى فيها أو يخرج عنها ولا ثالث لهما. هذا من ناحية.
ومن ناحية أُخرى: المفروض أنّ البقاء فيها محرّم، فلو حرم الخروج ـ أيضاً ـ لزم التكليف بما لا يطاق، وهو محال، فإذاً لا يعقل أن يكون الخروج محكوماً بالحرمة>( ).

حكم الصلاة حال الخروج:
وأمّا الصلاة حال الخروج، فهي تارةً تكون تصرّفاً زائداً وأُخرى لا تكون كذلك. وعلى الفرض الثاني، فتارةً يكون هناك مندوحة وأُخرى لا يكون هناك مندوحة.
أمّا في صورة وجود المندوحة، فلا إشكال في عدم الجواز، خصوصاً إذا جيء بها بنحو الايماء والإشارة مع التمكّن من الإتيان بها تامّةً خارج مكان الغصب.
وأمّا في صورة عدم المندوحة، ولم تكن تصرّفاً زائداً في الغصب:
فبناءً على نظريّة الشيخ القائلة بأنّ الخروج ليس بحرام، وأنّ الخروج وقع حسناً، فلا إشكال في صحّة الصلاة، ولابدّ له أن يصلّي مع الإيماء والإشارة إذا كان يصلّي وهو يمشي، وأمّا إذا كان في السيّارة حال الخروج، فيأتي بالصلاة تامّةً؛ لأنّ هذا التصرّف لا يعدّ تصرّفاً زائداً ولا زماناً زائداً.
اللّهمّ إلّا أن يدّعى أنّ العرف يراه تصرّفاً زائداً في الغصب، ولو لم يكن بالدقّة كذلك، ولكن السؤال هنا: هو أنّ فهم العرف هل يكون متّبعاً مطلقاً أم في خصوص تعيين المفهوم دون التطبيق؟
الصحيح: أنّ فهم العرف ونظره إنّما يكون متّبعاً في الأوّل دون الثاني، فلابدّ من الأخذ بما تقتضيه الدقّة، بعد أن كان أصل تحقّق مفهوم الغصب والتصرّف في المغصوب معلوماً، وإنّما الشكّ في أنّه هل يتحقّق تصرّف في الغصب زائداً على التصرّف في أصل الغصب بالركوع والسجود حين الخروج أم لا؟
وأمّا بناءً على سائر الأقوال: فبعدما قلنا أنّ التصرّف الخروجيّ حرام كالدخوليّ والبقائيّ، وفرضنا وجود المندوحة، فلا فرق بين أن يكون الخروج محرّماً بالحرمة الفعليّة أو بالنهي السابق، فلا يجوز الإتيان بالصلاة إلّا خارج المكان المغصوب حيث يمكن الإتيان بها تامّةً مستجمعة لجميع الأجزاء والشرائط.
ولا إشكال في القول بفسادها إذا صلّاها قبل الخروج، وإن فرض جواز اجتماع الأمر والنهي؛ فإنّ القبح الفاعليّ إذا كان موجوداً وكان العمل عباديّاً، فمن الواضح: أنّه لا يمكن التقرّب به حينئذٍ.
وأمّا مع فرض عدم وجود المندوحة وضيق الوقت، فلابدّ من القول بسقوط النهي وعدم مانعيّة الغصب، ولابدّ من ترجيح جانب الصلاة؛ لأنّ الصلاة لا تسقط بحال ـ كما عرفنا ـ، وإلّا، كان اللّازم الحكم بسقوط الصلاة في هذه الحالة.