فصل في مفهوم الجملة الشرطيّة

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

فصل
في مفهوم الجملة الشرطيّة


يقع الكلام في أنّ الجملة الشرطيّة هل تثبت لها دلالة على المفهوم أم لا؟
وفيه مباحث:

المبحث الأوّل:
أنّ القضيّة الشرطيّة تتركّب من جملتين إحداهما: تسمّى ﺑ (الشرط)، والأُخرى: ﺑ (الجزاء)، ومفاد الجملة الشرطيّة هو تعليق الحكم في ظرف الجزاء على ثبوته في ظرف الشرط، بلا فرق بين أن يستفاد هذا التعليق والإناطة من مفاد أداة الشرط أو من مفاد هيئة الجملة.
وقد عرفنا أنّ دلالة الجملة على المفهوم إنّما تكون من باب الدلالة الالتزاميّة، بنحو اللّزوم البيّن بالمعنى الأخصّ للمنطوق، فهي ـ لذلك ـ تكون تابعةً لدلالة المنطوق، فكان لابدّ من اشتمال القضيّة الشرطيّة على خصوصيّةٍ بها تكون مستتبعة للقضيّة التي نسمّيها ﺑ (المفهوم)، وإنّما تُستفاد منها هذه الخصوصيّة فيما إذا أحرزنا أنّ الشرط بالنسبة للجزاء هو من قبيل العلّة المنحصرة بالنسبة إلى معلولها.
وبعبارةٍ أُخرى: فلو لم يكن هناك لزوم، بأن لم تكن القضيّة الشرطيّة لزوميّة، بل كانت اتّفاقيّة، كما في مثل قولنا: (إذا كان زيد ناطقاً كان الحمار ناهقاً)، لم تكن لها دلالة على المفهوم، بل لا دلالة لها، لا على الثبوت عند الثبوت، ولا على الانتفاء عند الانتفاء.
وكذا إذا لم يكن للجملة الشرطيّة دلالة على الترتّب، أي: على ترتّب الجزاء على الشرط، وعلى تأخّر الجزاء عن الشرط، فإنّه لا يكون لها دلالة على المفهوم ـ أيضاً ـ؛ لأنّ ترتّب الجزاء على الشرط وتأخّره هو من مقوّمات المفهوم، فلو فرضنا ـ مثلاً ـ أنّ الشرط والجزاء كانا في مرتبةٍ واحدة، كما إذا قلنا: (إذا كان الخمر حراماً كان البيع باطلاً)، فإنّ انتفاء الحرمة يوجب انتفاء بطلان البيع لا محالة، لكونهما في مرتبة واحدة، وكون كليهما معلولين للإسكار؛ لأنّ بطلان البيع ليس معلولاً للحرمة في الخمر. فلو كان الشرط والجزاء في مرتبةٍ واحدة، ولم يكن هناك ترتّب وتأخّر للجزاء عن الشرط، لم يكن لها أن تدلّ على المفهوم.
وكذا لو فرضنا أن كان هناك ترتّب بينهما، ولكنّه لم يكن من قبيل الترتّب على نحو العلّيّة، كما في ترتّب صلاة العصر على الظهر ـ مثلاً ـ فلا يكون لها دلالة على المفهوم.
وكذا الحال، لو كان علاقة العلّيّة قائمة بينهما، ولكنّها لم تكن من قبيل العلّيّة بنحو الانحصار، بأن لم يكن الشرط سبباً منحصراً للجزاء، فإنّها ـ حينئذٍ ـ لا تكون صالحةً لأن يُستفاد منها المفهوم.
وبعبارة أُخرى: فإنّ استفادة المفهوم من الجملة الشرطيّة مشروط ـ أوّلاً ـ بدلالتها على التعليق، وهو ربط أحد الشيئين بالآخر بحيث لا يتخلّف عنه ولا يتحقّق بدونه، وهو مساوق للعلّة المنحصرة، وبدلالتها على الترتّب، وهو لزوم حصول أحد الشيئين عند حصول الآخر، كما في مثل قولنا: (إذا طلعت الشمس وجد النهار)، فإنّ وجود النهار إنّما يحصل عند طلوع الشمس، وطلوع الشمس هو ما يكون منشأً لوجود النهار، وبدلالتها على اللّزوم، وهو عبارة عن حصول أحد الشيئين مع الآخر، بحيث لا ينفكّ أحدهما عن الآخر، كاستقبال القبلة واستدبار الجدي.

المبحث الثاني:
هل هذا الربط بين المقدّم والتالي هو مفاد الأداة، أعني: أداة الشرط، أو هيئة القضيّة، أعني: ترتّب الجزاء على الشرط؟
وقد ذكر الاُستاذ المحقّق أنّه لا يمكن إثبات ذلك، لا في أدوات الشرط، ولا في هيئة القضيّة؛ لعدم دلالتهما <على أزيد من ترتّب الجزاء على الشرط والملازمة بينهما، وأمّا إثبات هذا الترتّب من جهة علّيّة المقدّم والشرط للجزاء، أو من جهة أُخرى فمشكل، فضلاً عن إثبات انحصار العلّة>( ).
فلابدّ من بيان الشروط، وأنّ هذه الشروط هل هي موجودة كلّها لكي يكون للجملة دلالة على المفهوم أم لا؟
وقد نقل بعض الشارحين للكفاية عن الفوائد الطوسيّة <أنّه استقصى مائة مورد أو أكثر من القرآن الكريم لا دلالة فيها على المفهوم>( ).
وقبل بيان الشروط نقول:
للمحقّق النائيني كلام في موضعين:
أحدهما: ما ذكره في مبحث الواجب المشروط، وهو القول بأنّ <أداة الشرط بما أنّها وُضعت لجعل مدخولها واقعاً موضع الفرض والتقدير، فهي لابدّ وأن تكون رابطة بين الجملتين، فلا يُعقل أن يكون مدخولها قيداً للمادّة قبل النسبة، ولا في رتبتها؛ لأنّها مفهوم إفراديّ وأداة الشرط موضوعة لربط الجملتين...>( )، هذا موضع الحاجة من كلامه.
وحاصله: أنّ الأداة لا تدلّ على أكثر من اللّزوم، والترتّب يُستفاد من سياق الكلام وجعل التالي تالياً والمقدّم مقدّماً.
والآخر: ما ذكره في مبحث مفهوم الشرط، وهو <أنّ أدوات الشرط إنّما وُضعت لتعليق مفاد جملة على مفاد جملة أُخرى>( ).
ولا يخلو ما بين كلاميه في الموضعين من تهافت كما هو واضح، فإنّ من الظاهر أنّ التعليق أخصّ من الترتّب واللّزوم، فلا يمكن الجمع بين دعوى كونها موضوعة للتعليق، ودعوى كونها موضوعة للّزوم.
ولابدّ هنا أن نقول، وتبعاً للاُستاذ الأعظم، بأنّه <لو بنينا على رجوع القيد إلى الهيئة دون المادّة فحال القضيّة الشرطيّة عندئذٍ حال القضيّة الوصفيّة في الدلالة على المفهوم وعدمها، لما سيأتي من أنّ المراد بالوصف ليس خصوص الوصف المصطلح في قبال سائر المتعلّقات، بل المراد منه مطلق القيد، سواء أكان وصفاً أم كان غيره من القيود>( ).
أمّا الشرط الأوّل:
فهو كون القضيّة الشرطيّة لزوميّة، بأن يكون بين الشرط والجزاء علاقة خاصّة هي عبارة كون الأُولى علّة للثانية.
وهذا الشرط ممّا لا ينكر، ضرورة أنّه لولا هذه العلاقة، لكان يجوز تعليق كلّ شيء على كلّ شيء من دون أن يكون هناك أيّ ارتباط بينهما، فلا شكّ في أنّ الاستعمال بدون هذه العلاقة اللّزوميّة، لو صحّ، فإنّه يكون بحاجة إلى إعمال عنايةٍ ما، وبدون ذلك، فالقضيّة تكون ظاهرة في وجود العلاقة اللّزوميّة بين الشرط والجزاء.
ومن هنا يظهر: أنّ القضيّة الاتّفاقيّة ليست من القضيّة الشرطيّة، وتقسيم المناطقة القضيّة الشرطيّة إلى قسمين: اللّزوميّة والاتّفاقيّة، غير تامّ، بل الاتّفاقيّة ـ في حقيقة الأمر ـ ليس لها من القضيّة الشرطيّة إلّا صورتها.
وأمّا الشرط الثاني:
فهو دلالة الشرطيّة على أنّ ترتّب الجزاء على الشرط من ترتّب المعلول على العلّة، وهذا الشرط ممنوع عندنا، فإنّ القضيّة وإن دلّت على ترتّب الجزاء على الشرط والتالي على المقدّم، إلّا أنّها لا تدلّ على أنّ هذا الترتّب يكون على نحو ترتّب المعلول على العلّة التامّة، بل كما يمكن أن يكون كذلك، كترتّب وجوب إكرام زيد على مجيء زيد، يمكن أن يكون على العكس من ذلك تماماً، كترتّب طلوع الشمس على وجود النهار، وترتّب تغيّر العالم على حدوثه.
وبالجملة: فلم تثبت دلالة الجملة الشرطيّة على كون الشرط علّة للجزاء، فضلاً عن دلالتها على الانحصار، بعد وضوح غلبة كون الشرط والجزاء متلازمين في الوجود، مثل: <المسافر إذا قصّر الصلاة أفطر>، فإنّ تقصير الصلاة ليس علّة للإفطار، بل هما حكمان متلازمان ثابتان للمسافر غير الناوي لإقامة عشرة أيّام.
فإن قلت: يمكن دعوى التبادر على وجود العلّيّة بين الجزاء والشرط والترتّب بنحو العلّة المنحصرة.
قلت: مع كون الجملة الشرطيّة كثيراً ما تُستعمل في العلّيّة الغير المنحصرة، كما في المثال المذكور ـ أعني: مثل: المسافر إذا قصّر الصلاة أفطر، ومع كون استعمالها في موارد العلّيّة غير المنحصرة مساوٍ لاستعمالها في موارد العلّيّة المنحصرة، فكيف يمكن ادّعاء التبادر؟!
على أنّه لو فرض صحّة هذا التبادر، لكان استعمالها في غير العلّة المنحصرة مجازاً؛ لأنّ التبادر علامة الحقيقة، فيكون استعمالها في موارد مطلق اللّزوم مجازاً، ولا مجال للالتزام به.
وأيضاً: فلو كانت الجملة الشرطيّة تدل على العلّيّة المنحصرة بالتبادر لكان من الواجب الأخذ بمفهومها حتى في مقام المخاصمات، وكان لها مفهوم حتى في مثل هذا المقام، والمفهوم لو ثبت، فإنّه يكون حجّة كالمنطوق، مع أنّهم لا يأخذون بالمفهوم في باب المخاصمات كما هو واضح.
فتحصّل: أنّ غاية ما يمكن إثباته هو دلالة الجملة الشرطيّة على تعليق الجزاء على الشرط، وأمّا أنّه مترتّب عليه بنحو العلّيّة التامّة، حتى يكون في غيره مجازاً، فلا، بل لا دلالة لها على أزيد من مطلق الترتّب، أي: ترتّب المعلول على العلّة، كترتّب وجوب الحجّ على الاستطاعة، أو ترتّب العلّة على المعلول، كقولك: إن كان النهار موجوداً فالشمس طالعة.
وعلى هذا الأساس: فالقضيّة الشرطيّة لا تدلّ على المفهوم؛ لأنّ غاية ما تقتضيه هذه القضيّة هو أنّ تحقّق المقدّم يكون مستلزماً لتحقّق التالي، ولا يكشف عدمه عن عدم المقدّم.
وبعبارة أُخرى: فإنّ وجود المعلول، وإن كان منوطاً بوجود العلّة؛ لاستحالة وجود المعلول بدون علّته، إلّا أنّ عدمه لا يكشف عن عدم العلّة؛ لأنّه يمكن أن يكون عدمه كاشفاً عن وجود المانع، لا عن انعدام العلّة؛ فإنّ وجود الممكن ـ مثلاً ـ بما أنّه معلول، فهو يكون كاشفاً عن وجود الواجب، وأمّا عدمه، فليس كاشفاً ـ بالضرورة ـ عن عدمه، ولا عن عدم ممكن آخر؛ لجواز أن يكون عدمه من جهة مانع مختصّ به، فدلالة القضيّة الشرطيّة على كون علقة الترتّب بين الجزاء والشرط موجودة ممّا لا ينكر، ويمكن ـ أيضاً ـ أن يُدّعى استفادة ذلك منها ببركة الوضع، وأمّا علّيّة الشرط للجزاء، فلا سبيل إلى استفادتها من الوضع، ولا من الإطلاق.
نعم، يمكن استفادة العلّيّة التامّة والمنحصرة بدعوى الظهور السياقيّ للجملة في ذلك.
وقد استدلّ المحقّق النائيني على الانحصار والعلّيّة وإفادة الجملة الشرطيّة للمفهوم بقوله:
<نعم، ظاهر القضيّة الشرطيّة هو ذلك؛ لأنّ ظاهر جعل شيء مقدّماً وجعل شيء آخر تالياً هو ترتّب التالي على المقدّم، فإن كان هذا الترتّب موافقاً للواقع ونفس الأمر، بأن يكون المقدّم علّة للتالي، فهو، وإلّا، لزم عدم مطابقة ظاهر الكلام للواقع، مع كون المتكلّم في مقام البيان، على ما هو الأصل في المخاطبات العرفيّة، وعليه: فبظهور الجملة الشرطيّة في ترتّب التالي على المقدّم يُستكشف كون المقدّم علّةً للتالي، وإن لم يكن ذلك مأخوذاً في نفس الموضوع له>( ).
وعلّق عليه اُستاذنا الأعظم بقوله:
<وهذا الذي أفاده وإن كان غير بعيد في نفسه، نظراً إلى أنّ المتكلّم إذا كان في مقام بيان تفرّع الجزاء على الشرط وترتّبه عليه بحسب مقام الثبوت والواقع، لدلّت القضيّة على ذلك في مقام الإثبات أيضاً للتبعيّة، نظير ما إذا قلنا: جاء زيد ثمّ عمرو، فإنّه يدلّ على تأخّر مجيء عمرو عن مجيء زيد بحسب الواقع ونفس الأمر، وإلّا لم يصحّ استعماله فيه. وأمّا إذا لم يكن المتكلّم في مقام بيان ذلك، بل كان في مقام الإخبار أو الإنشاء، فلا يتمّ ما أفاده، وذلك لأنّ القضيّة الشرطيّة ـ عندئذٍ ـ لا تدلّ إلّا على أنّ إخبار المتكلّم عن وجود الجزاء متفرّع على فرض وجود الشرط، أو إنشاء الحكم واعتباره متفرّع على فرض وجوده وتحقّقه، وأمّا أنّ وجود الجزاء واقعاً مترتّب على وجود الشرط، فلا دلالة للقضيّة على ذلك أصلاً...>( )، إلى آخر ما جاء في كلامه.
وبعبارة أُخرى: فلو كان للشرط المذكور في القضيّة، كقوله: <إن جاءك زيد فأكرمه>، عِدْلٌ، لكان على المتكلّم بيانه، بأن يقول: <إن جاءك زيد أو أرسل كتاباً فأكرمه>، فعدم بيان العِدل، مع كونه في مقام البيان، يقتضي كون الشرط علّة منحصرة.
فإطلاق التعليق بمقتضى مقدّمات الحكمة يستلزم كون الشرط علّة منحصرة، فيستفاد المفهوم ـ حينئذٍ ـ من الإطلاق، كما يستفاد من إطلاق صيغة الأمر الوجوب النفسيّ؛ لأنّ الوجوب الغيريّ يحتاج إلى مؤونة زائدة ثبوتاً وإثباتاً، إذ كون الوجوب للغير قيد زائد يحتاج إلى اللّحاظ والبيان الزائدين على لحاظ أصل الوجوب وبيانه.
وممّا ذكرنا ظهر: بطلان ما ذكره الاُستاذ المحقّق من أنّ <ذلك ـ أيضاً ـ لا يفيد في إثبات الانحصار>( ).
وقد تمسّك بعضهم لإثبات الانحصار بإطلاق الشرط، وتقريبه:
<أنّه لو كان لشيء آخر غير الشرط ـ أيضاً ـ دخل في ثبوت الحكم في طرف الجزاء، فإن كان ذلك الآخر تمام العلّة، لكان عليه أن يأتي بكلمة (أو)، وإن كان جزءاً لكان عليه أن يأتي بالواو العاطفة، فمن عدم تقييده بأحد هذين مع أنّه في مقام البيان نستكشف عدم دخل شيء آخر في الجزاء، لا مع الشرط، ولا مستقلّاً، ومعنى هذا هو الانحصار، فمن إطلاق الشرط نستكشف انحصار العلّة فيه>( ).
وقد يُستشكل فيه: <بأنّ هذا فيما تمّت هناك مقدّمات الحكمة، ولا تكاد تتمّ فيما هو مفاد الحرف، كما ها هنا، وإلّا لما كان معنىً حرفيّاً، كما يظهر وجهه بالتأمّل>( ).
وحاصله: أنّه لا مورد لمقدّمات الحكمة في المقام؛ لأنّ الدالّ على الخصوصيّة المستتبعة للمفهوم هو (إن) الشرطيّة ـ مثلاً ـ، التي هي من الحروف، وقد ثبت في محلّه: أنّ المعنى الحرفيّ معنى جزئيّ غير قابل للتقييد، وحيث إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة، لا السلب والإيجاب، فيكون الإطلاق ـ دائماً ـ ممتنعاً، وبعين امتناع التقييد.
ومن المعلوم: أنّ مورد مقدّمات الحكمة إنّما هو المعنى الذي يكون قابلاً للإطلاق والتقييد، فينحصر موردها في المعاني الاسميّة الملحوظة استقلالاً لا آليّاً.
ولكن قد عرفت: أنّ الحقّ أنّ للحرف معنىً إخطاريّاً، لا إيجاديّاً، فيمكن التمسّك فيه بالإطلاق.
والعجب من صاحب الكفاية كيف صدر عن هذا الإشكال مع كونه لا يفرّق بين الاسم والحرف ذاتاً.
على أنّه لو سُلِّم عدم إمكان التمسّك بالإطلاق اللّفظيّ، فيمكن التمسّك بالإطلاق المقاميّ والأحواليّ، وعليه: فيكون للجملة الشرطيّة مفهوم.
لكن قد يستشكل في هذا ـ أيضاً ـ بأنّ <تعيّنه من بين أنحائه بالإطلاق المسوق في مقام البيان بلا معيّن، ومقايسته مع تعيّن الوجوب النفسيّ بإطلاق صيغة الأمر مع الفارق، فإنّ النفسيّ هو الواجب على كلّ حال، بخلاف الغيريّ، فإنّه واجب على تقديرٍ دون تقدير، فيحتاج بيانه إلى مؤونة التقييد بما إذا وجب الغير، فيكون الإطلاق في الصيغة مع مقدّمات الحكمة محمولاً عليه، وهذا بخلاف اللّزوم والترتّب بنحو الترتّب على العلّة المنحصرة، ضرورة أنّ كلّ واحد من أنحاء اللّزوم والترتّب محتاج في تعيّنه إلى القرينة مثل الآخر، بلا تفاوت أصلاً، كما لا يخفى>( ).
وحاصله: أنّه لا يمكن تعيين العلّة المنحصرة بمقدّمات الحكمة، وذلك لأنّ للعلّة المنحصرة خصوصيّة في مقابل الخصوصيّات الأُخَر، وفرد للعلّة المطلقة التي نسبتها إلى أفرادها نسبة واحدة، فإثبات إحدى الخصوصيّات بالإطلاق الذي نسبته إلى جميع هذه الخصوصيّات على حدٍّ سواء تعيين لأحد الأفراد المتساوية بلا معيّن، وذلك لتساوي العلّة بالمطلقة بالنسبة إلى جميع أفرادها، من العلّة المنحصرة وغيرها.
ولا يمكن قياس المقام بالواجب الغيريّ؛ لأنّ النفسيّة ليست بقيد زائد وجوديّ حتى يحتاج إلى البيان، بل هي أمر عدميّ، أعني: عدم وجوبه لشيء آخر، وأمّا الغيريّ، فإنّه مشروط بوجوب الغير، فيكون محتاجاً إلى مؤونة زائدة، يمكن رفعها بالأصل.
وأمّا العلّة المنحصرة، فليست كالوجوب النفسيّ، حيث إنّ لها خصوصيّةً في مقابل الخصوصيّات الأُخر ـ أي: أنّها فرد متساوٍ لسائر أفرادها ـ، ونسبة الإطلاق إلى جميع الخصوصيّات واحدة من دون مرجّح لخصوص العلّة المنحصرة، فلا يمكن إثباتها بالإطلاق، أو فقل: إنّ الخصوصيّة أمر عدميّ، والأصل إنّما يرفع الشيء الوجوديّ.

حجج المنكرين للمفهوم:
استدلّ المنكرون للمفهوم بوجوه:
منها:
أنّه لا يمكن استفادة المفهوم من الجملة الشرطيّة؛ لأنّ فائدة الشرط إنّما هي تعليق الحكم به، فكون المجيء ـ مثلاً ـ شرطاً لوجوب الإكرام، معناه: إناطة الوجوب به، ومن الممكن أن يقوم مقام هذا الشرط شرط آخر، كالعدالة ـ مثلاً ـ، ويكون هذا الشرط كالعلّة، فيحفظ المشروط عن الانتفاء.
وعلى هذا: فانتفاء المجيء لا يكون سبباً منحصراً لانتفاء الوجوب، فتعليق الحكم على الشرط لا يدلّ على المفهوم الذي هو الانتفاء عند الانتفاء، فإذا فرض جريان شرط آخر مكان الشرط الأوّل في حفظ الحكم المترتّب عليه، فالشرط الأوّل باقٍ على شرطيّته؛ فإنّ الشمس ـ مثلاً ـ، وإن كانت علّة لثبوت الحرارة، إلّا أنّ انتفاءها لا يوجب انتفاء الحرارة بالضرورة، لاحتمال قيام النار مقامها.
ويُجاب عن هذا الوجه:
بأنّ المراد من إمكان أن يقوم شرط آخر مقام الشرط الأوّل المذكور في القضيّة، إن كان هو إمكانها ثبوتاً، فهو غير قابل للإنكار، والقائل بالمفهوم لا ينكره، وإنّما هو يدّعي أنّ القضيّة الشرطيّة تدلّ على عدم وقوع هذا الممكن الذاتيّ في مقام الإثبات، ومن المعلوم: أنّ مجرّد إمكان قيام شرط مقام الشرط المذكور في القضيّة لا ينفي المفهوم بعد دلالة القضيّة على عدم قيامه مقامه في مقام الإثبات.
وإن كان مراده احتمال وقوع شرط مقام الشرط المذكور في القضيّة في مرحلة الإثبات، فهو ـ أيضاً ـ لا ينافي ما يدّعيه المثبت للمفهوم؛ لأنّ مجرّد هذا الاحتمال لا يضرّ بدعوى القائل بالمفهوم؛ حيث إنّه يدّعي ظهور الجملة في الانتفاء عند الانتفاء، وعدم نيابة شرط مقام الشرط المذكور فيها.
على أنّه يمكن أن يقال: بأنّ الشرط في الحقيقة هو كلّ واحد منهما، كما في مثل <إذا خفي الأذان فقصّر، وإذا خفيت الجدران فقصّر>، بأن يكون كلّ واحد منهما من قبيل جزء العلّة، أو أن يكون كلّ واحد منهما علّة مستقلّة. نعم، لو فرض هذا الاحتمال مساوياً أو راجحاً لاحتمال دلالة الجملة على المفهوم، لم يكن من الممكن ـ حينئذٍ ـ الأخذ بالمفهوم.
ومنها:
أنّ الجملة لا تدلّ على المفهوم؛ لأنّها لو كانت كذلك، لكان ذلك بإحدى الدلالات الثلاث: المطابقيّة أو التضمّنيّة أو الالتزاميّة. ولكنّ الانتفاء عند الانتفاء ليس مدلولاً مطابقيّاً للجملة الشرطيّة ولا تضمّنيّاً ولا التزاميّاً؛ لأنّ المفهوم ليس عين الثبوت عند الثبوت حتى يكون هو مدلولها المطابقيّ، ولا هو جزؤه حتى يكون مدلولها التضمنيّ، ولا لازمه حتى يكون مدلولها الالتزاميّ، إذ المعتبر في الدلالة الالتزاميّة هو اللّزوم العقليّ أو العرفيّ أو العادي، والكلّ مفقود في المقام.
فينتج ذلك: عدم دلالة الجملة الشرطيّة على المفهوم بشيءٍ من الدلالات، وهو المطلوب.
ولكنّ الحقّ: أنّ الدلالة الالتزاميّة عليه موجودة، لدلالة اللّزوم على الحصر بالالتزام، وليس المفهوم إلّا ما يكون مدلولاً التزاميّاً للقضيّة.
بقي ها هنا اُمور:

الأمر الأوّل:
لا يخفى: أنّ المراد من (الحكم) المأخوذ في تعريف المفهوم، حيث يقال: انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، إنّما هو طبيعيّه، لا شخصه، بلا فرق بين أن يكون الحكم المعلّق على المنطوق بنحو الشرط أو الوصف أو اللّقب أو غير ذلك؛ لأنّ انتفاء شخص الحكم إنّما يكون من باب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه، كما في مثل: <إن رزقت ولداً فاختنه>، ممّا ينتفي الحكم فيه بانتفاء الموضوع عقلاً، أو كما إذا قيل: <وقفت هذه الدار على الفقهاء إن كانوا مجتهدين>، فإذا انتفى الاجتهاد عنهم ينتفي الوقف لا محالة، ولكن لا من جهة المفهوم، بل من جهة عدم قابليّة المال لإنشاء الوقف ثانياً، فيكون الحكم بالوقف منتفياً بانتفاء الموضوع بحكم العقل، وهذا متسالَم عليه، وخارج عن محلّ النزاع قطعاً.
وبعبارة أُخرى: فإنّما نقول بالمفهوم في المورد الذي يمكن فيه وجود الحكم مع انتفاء ما علّق عليه، من الشرط أو غيره، كما في مثل وجوب الإكرام؛ فإنّه لا مانع من فرض وجوده عند انتفاء المجيء، كما عند ثبوته.
فلا محالة: يكون الحكم المعلّق على الشرط كلّيّاً ذا أفراد، حتى يمكن بقاؤه عند انتفاء المعلَّق عليه، وأمّا لو كان الحكم شخصيّاً، لم يكن من معنىً ـ أصلاً ـ لهذا النزاع؛ إذ لا يمكن ـ عقلاً ـ فرض بقاء شخص الحكم مع انتفاء موضوعه، حتى يقال: بأنّه إذا انتفى ما عُلّق عليه فهل يبقى الحكم أم لا؟
وخلاصة البحث: أنّه ليس المعيار في أخذ المفهوم هو شخص الحكم، بل كلّيّه وسنخه، ومن هنا، فلو قام دليل على ثبوت الحكم عند انتفاء الشرط، كما لو دلّ دليل على وجوب الإكرام عند عدم المجيء، كان معارضاً للمفهوم.

الأمر الثاني:
أنّ المفهوم يتبع المنطوق في جميع قيوده وما هو دخيل فيه. وإنّما يكون الفرق بينهما بالإيجاب والسلب، وإلّا، فيجب الاتّحاد بينهما في الموضوع والمحمول. فلو قلت ـ مثلاً ـ: <إن جاءك زيد غداً راكباً فأكرمه>، فمفهومه: <إن لم يجئك زيد غداً راكباً فلا تكرمه>، فلو فرض أنّ أحد القيود لم يكن موجوداً، كعدم مجيئه غداً، أو جاء غداً، ولكنّه لم يكن راكباً، فلا يجب إكرامه، فيكفي في انتفاء وجوب الإكرام فقدان أحد القيود.
والسرّ في ذلك: هو ما ذكرناه من أن المفهوم تابع للمنطوق من جميع الجهات، أي: من جهة الموضوع والمحمول والنسبة. غاية الفرق بينهما: أنّ المنطوق والمفهوم متعاكسان دائماً بلحاظ الكيف، فإن كان المنطوق قضيّة موجبة فالمفهوم قضيّة سالبة، وإن كان قضيّة سالبة فالمفهوم قضيّة موجبة.
إذا عرفت هذا، فيمكن أن يُستشكل في استفادة المفهوم من القضيّة الشرطيّة بما حاصله:
أنّه قد تقرّر في محلّه في المنطق: أنّ نقيض الموجبة الكلّيّة سالبة جزئيّة، وتقرّر في محلّه في الاُصول أنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم، فمنطوق قوله ـ مثلاً ـ: <الماء إذا بلغ قدر كرٍّ لا ينجّسه شيء>، هو عدم تنجّس الماء الكرّ بأيّة نجاسة، والمفهوم هو: إذا لم يكن الماء كرّاً فإنّه يتنجّس بشيء من النجاسات، وتكون النتيجة: أنّ الماء القليل يتنجّس في الجملة بنجاسة ما، ولا يفيد المفهوم نجاسته بجميع النجاسات.
ولكنّ الحقّ: أنّ مفهومه هو أنّ الماء القليل يتنجّس بكلّ نجاسة؛ لأنّ المدار في المباحث الفقهيّة والاُصوليّة على الاستظهارات العرفيّة، أي: على ما يستفاد من الدليل لغةً وعرفاً، وهذا بخلاف المباحث المنطقيّة، فإنّ المدار فيها على البراهين العقليّة.
ولذا يُقال: إنّ بين نظر المنطقيّ ونظر الفقيه عموماً وخصوصاً من وجه؛ فإنّه قد يكون المستفاد من الدليل عرفاً هو أنّ السالبة الكلّيّة هي نقيض الموجبة الكلّيّة، في الوقت الذي يكون نقيضها ـ بنظر المنطقيّ ـ هي الموجبة الجزئيّة، كما في المقام؛ فإنّ العرف يفهم من هذه القضيّة العموم، وهو أنّ الماء إذا لم يبلغ قدر كرّ ينجّسه كلّ شيء، من البول و الدم والمني، والمنطوق ـ أيضاً ـ يكون كذلك، كما أنّه ليس المراد من المنطوق بلحاظ النكرة الواقعة في سياق النفي هو العامّ المجموعيّ، بل العامّ الأفراديّ، ففي المفهوم ـ أيضاً ـ مثل المنطوق، فإنّ نقيض الإيجاب الكلّيّ ـ عرفاً ـ هو السلب الكلّيّ.

الأمر الثالث:
إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء كقوله: <إذا خفي الأذان فقصّر، وإذا خفيت الجدران فقصّر>، فعلى القول بثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة، فكيف يمكن الجمع بين هاتين القضيّتين؛ لأنّ مآل الجملتين ـ بلحاظ معناهما ـ إلى التعارض؛ لأنّ مفاد الجملة الثانية من ناحية المفهوم: إذا لم تخفَ الجدران فلا تقصّر، سواء خفي الأذان أم لا، كما أنّ مفاد الجملة الأُولى من ناحية المفهوم ـ أيضاً ـ: إن لم يخفَ الأذان لم يجب القصر، سواء خفيت الجدران أم لا، فمفهوم الجملة الأُولى ينافي منطوق الثانية، كما أن مفهوم الجملة الثانية ينافي منطوق الأُولى، ففي هذه الصورة قد يقال: بوجود تعارض وتهافت بين الشرطين.
فكيف السبيل إلى حلّ هذا التعارض؟
فهل اللّازم هو رفع اليد عن استقلال كلّ منهما في السببيّة التامّة، وجعل كلّ منهما جزء السبب؟
أم أنّ اللّازم هو رفع اليد عن انحصار كلّ منهما في السببيّة، وجعل كلّ منهما سبباً مستقلّاً؟
فعلى الأوّل: تكون النتيجة: أنّه لا يكفي خفاء أحدهما، ويكون الحكم مشروطاً بخفاء كليهما معاً.
وأمّا على الثاني: فيكون خفاء أحدهما كافياً في ثبوت الحكم.
ولكن بناءً على القول بأنّ خفاء الأذان يحصل ـ غالباً ـ قبل خفاء الجدران، فلا يمكن الأخذ بالفرض الثاني، أي: بدعوى استقلال كلّ منهما في السببيّة؛ لأنّ المفروض حصول خفاء الأذان قبل خفاء الجدران، فجعل الشرطيّة لخفاء الجدران ـ حينئذٍ ـ يكون من اللّغو الواضح؛ إذ لا تصل النوبة إليه.
وقد ذكر صاحب الكفاية وجوهاً خمسة لرفع التعارض، إذ قال:
<لابدّ من التصرّف ورفع اليد عن الظهور، إمّا بتخصيص مفهوم كلٍّ منهما بمنطوق الآخر، فيُقال: بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشرطين. وإمّا برفع اليد عن المفهوم فيهما، فلا دلالة لهما على عدم مدخليّة شيءٍ آخر في الجزاء، بخلاف الوجه الأوّل، فإنّ فيهما الدلالة على ذلك. وإمّا بتقييد إطلاق الشرط في كلٍّ منهما بالآخر، فيكون الشرط هو خفاء الأذان والجدران معاً، فإذا خفيا وجب القصر، ولا يجب عند انتفاء خفائهما، ولو خفي أحدهما. وإمّا بجعل الشرط هو القدر المشترك بينهما، بأن يكون تعدّد الشرط قرينة على أنّ الشرط في كلٍّ منهما ليس بعنوانه الخاصّ، بل بما هو مصداق لما يعمّهما من العنوان>( ).
ومحصّل هذه الوجوه الخمسة:
أوّلها: الالتزام بتقييد مفهوم كلّ منهما بمنطوق الآخر، إذ النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق.
والثاني: الالتزام بعدم المفهوم في كلّ منهما، فلا تدلّ كلّ جملة إلّا على ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط، وهو لا ينافي ثبوته عند ثبوت الآخر.
والثالث: الالتزام بتقييد إطلاق الشرط ـ المقابل للعطف بالواو ـ في كلٍّ منهما بالآخر، فيكون الشرط هو المركّب منهما، لا كلّ منهما مستقلّاً.
والرابع: الالتزام بأنّ المؤثّر هو الجامع بين الشرطين، لا كلّ منهما بعنوانه، بل كلّ منهما بما هو فرد للجامع.
والخامس: رفع اليد عن المفهوم في أحدهما.
والكلام ـ أوّلاً ـ يقع في خصوص المثال والمسألة الفقهيّة المتعلّقة به، فنقول: لم يرد في المصادر الحديثيّة المعتبرة رواية بهذا اللّفظ، بل ما ورد في صحيح محمّد بن مسلم قال: <قلتُ لأبي عبد اﷲ: الرجل يريد السفر، متى يقصّر؟ قال: إذا توارى من البيوت>( ). الحديث.
فإنّه ظاهر في أنّ المدار على تواريه من البيوت، لا على تواري البيوت منه، كما هو مقتضى التعبير ﺑ (خفيت الجدران).
وعلى فرض التنزّل، وقلنا بأنّ المراد هو خفاء الجدران، فهل يمكن الجمع بين خفاء الجدران وخفاء الأذان كما ورد في صحيحة ابن سنان عن أبي عبد اﷲ قال: <سألته عن التقصير، قال: إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتمّ، وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصّر، وإذا قدمْتَ من سفرك فمثل ذلك>( ).
ولا يخفى: أنّ المراد من خفاء الجدران هو الجدران المتوسّطة في الأراضي المتوسّطة، والمراد جدران البيوت، وليس المراد القبب والمنارات؛ لأنّها قد تُرى عن بعد فراسخ، كما في قبب أمير المؤمنين وبقيّة الأئمّة.
وأيضاً: فالمراد خفاء صورها وأشكالها على نحو لا يمكن تمييزها عمّا عداها، ولو كانت الأشباح غير مخفيّة، والمراد هو وصوله إلى حدٍّ يمكن أن تتوارى الجدران، لا أنّ التواري هو بنفسه يكون موضوعاً للحكم، فيكون عدم الرؤية مستنداً إلى البعد المكانيّ المحدود، لا التواري بعنوانه؛ لأنّ عدم الرؤية قد يكون من جهة وجود الموانع، من انخفاضٍ أو وجود حائلٍ أو غيمٍ أو نحو ذلك.
وأمّا خفاء الأذان وعدم سماعه، فإنّ المحتملات في المراد من السماع فيه ثلاثة:
الأوّل: سماع الأذان وتميّزه عن غيره، سواء ميّز فصوله أم لا.
الثاني: سماعه مع تمييز فصوله بعضها عن بعض.
الثالث: أن يكتفى فيه بسماع الصوت فقط، وإن لم يشخّص أنّ المسموع له أذان أم لا.
والظاهر: أنّ المراد هو الاحتمال الأوّل؛ لأنّه يصدق عليه الأذان. وأمّا الاحتمال الثاني، وهو التقييد بتمييز فصوله، فيحتاج إلى دليل. كما أنّ الثالث ـ أيضاً ـ ساقط؛ لأنّ المراد سماع الأذان، لا مجرّد سماع الصوت بدون تمييز.
فإذا عرفت هذا، فيمكن الجمع بين الدليلين، بأن يُقال:
يجب أن يكون خفاء الأذان في مرتبة خفاء الجدران، وهو خفاء المجموع من حيث المجموع، لا الفصول. فيكون ـ لذلك ـ في مرتبة واحدة مع خفاء الجدران، أو فقل: إنّ تواري الجدران المتوسّطة وعدم سماع صوت مجموع الأذان متلازمان غالباً.
ولا يخفى هنا: أنّ البحث عن تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء إنّما يتمّ فيما لو كان الاتّحاد سنخيّاً قابلاً للتعدّد، وأمّا إذا لم يكن قابلاً للتعدّد، وكان مفاد الجزاء صرف الوجود، وما هو عادم العدم، فحينئذٍ: يخرج عن محلّ البحث؛ لأنّه ليس قابلاً للتعدّد، بل بمجرّد الوجود الأوّل لم يبقَ مجال للوجود الثاني؛ لأنّ صرف الوجود عبارة عن أوّل وجودٍ للطبيعة، وهو مصداق عادم العدم، والوجود الثاني ليس مصداقاً له؛ لأنّ عدم الطبيعة قد انعدم بالوجود الأوّل.
كما لا يخفى ـ أيضاً ـ: أنّ البحث إنّما يأتي لو كان بينهما تباين في الجملة، وأمّا إذا كان خفاء أحدهما قبل الآخر، فلا يأتي هذا البحث ـ أصلاً ـ.
وأمّا الوجوه التي ذكرها صاحب الكفاية:
فالوجه الأوّل: لا معنى له؛ لأنّه بعد تبعيّة المفهوم للمنطوق فلا يمكن أن يقال بتقييد أحدهما للآخر أي تقييد مفهوم أحدهما بمنطوق الآخر، فإنّ المفهوم تابع للمنطوق، كما أنّه لا معنى للقول بعدم المفهوم بعد إثباتنا أنّ الجملة الشرطيّة لها مفهوم.
ومنه ظهر: بطلان ما قاله صاحب الكفاية، الذي رجّح الوجه الثاني بلحاظ النظر العرفيّ، فذهب إلى أنّ العرف يساعد عليه، ورجّح الوجه الرابع بحسب النظر الدقّي العقليّ، فذهب إلى أنّ العقل يعيّنه لاستحالة تأثير المتعدّد بما هو متعدّد في واحد، فوحدة الجزاء تكشف عن وحدة المؤثّر، وهو يقتضي أن يكون المؤثّر هو الجامع بين الشرطين، لا كلاً منهما بنفسه؛ لامتناعه عقلاً بمقتضى قانون السنخيّة بين العلّة والمعلول.
قال: <ولعلّ العرف يساعد على الوجه الثاني، كما أنّ العقل ربّما يعيّن هذا الوجه [أي: الرابع]، بملاحظة أنّ الاُمور المتعدّدة بما هي مختلفة لا يمكن أن يكون كلّ منها مؤثّراً في واحد، فإنّه لابدّ من الربط الخاصّ بين العلّة والمعلول، ولا يكاد يكون الواحد بما هو واحد مرتبطاً بالاثنين بما هما اثنان، ولذلك ـ أيضاً ـ لا يصدر من الواحد إلّا الواحد، فلابدّ من المصير إلى أنّ الشرط في الحقيقة واحد، وهو المشترك بين الشرطين بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم، وبقاء إطلاق الشرط في كلٍّ منهما على حاله، وإن كان بناء العرف والأذهان العامّيّة على تعدّد الشرط وتأثير كلّ شرط بعنوانه الخاصّ، فافهم>( ).
ولكنّك قد عرفت أنّه لا تنافي بين الدليلين بعد إمكان الجمع بينهما بالبيان المتقدّم.

البحث في تداخل الأسباب والمسبّبات
إذا فرض هناك شرطان، بلا فرق بين أن يتقدّم أحدهما على الآخر بحسب الزمان أو لا، فهل يوجب التداخل في المسبّبات أم لا؟
لابدّ هنا من بيان اُمور:
الأمر الأوّل: ما الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة؟
والجواب: أنّ المسألة السابقة يقع البحث فيها في أنّ كلّاً من الشرطين هل هو سبب مستقلّ أم لا؟ وأمّا هنا، فالبحث يقع في أنّ السببين المستقلّين هل يتداخلان في المسبّب، أي هل يكون لهما مسبّب واحد، أم لا؟
الأمر الثاني: أنّ هذا البحث إنّما يأتي في صورة قابليّة الجزاء للتعدّد، كالكفّارة بالنسبة إلى نهار شهر رمضان، وأمّا لو فرض أنّه غير قابل للتعدّد، كالقتل، فلا معنى للكلام في أنّه هل يتعدّد الجزاء بتعدّد الشرط أم لا؟
الأمر الثالث: أنّه لا فرق في محلّ البحث بين أن يكون الشرط المتعدّد من سنخ واحد، كالأكل المتعدّد في نهار شهر رمضان بالنسبة إلى كفّارة الإفطار، أو من أسناخ متعدّدة، كما إذا أكل وشرب في نهار شهر رمضان ـ أيضاً ـ بالنسبة إلى الكفّارة.
الأمر الرابع: أنّ ظاهر القضيّة الشرطيّة فيما إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء، هو تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط، ويسمّى ﺑ (عدم تداخل الأسباب) كما هو المشهور.
قال في الكفاية: <قلت، نعم، لو لم يكن ظهور الجملة الشرطيّة في كون الشرط سبباً أو كاشفاً عن السبب، مقتضياً لذلك، أي: لتعدّد الفرد، وبياناً لما هو المراد من الإطلاق. وبالجملة: لا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء وظهور الإطلاق، ضرورة أنّ ظهور الإطلاق يكون معلّقاً على عدم البيان، وظهورها في ذلك صالح لأن يكون بياناً، فلا ظهور له مع ظهورها، فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرّف أصلاً، بخلاف القول بالتداخل كما لا يخفى، فتلخّص بذلك: أنّ قضيّة ظاهر الجملة الشرطيّة، هو القول بعدم التداخل عند تعدّد الشرط>( ).
وخلاصة كلامه: أنّ ظهور الجملة في وحدة المتعلّق ظهور إطلاقيّ، وهذا الظهور متوقّف على مقدّمات:
إحداها: أن يكون المولى في مقام البيان.
والثانية: عدم البيان وعدم ما يصلح للبيانيّة.
وبما أنّ ظهور الجملة الشرطيّة إنّما هو في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، فيقتضي تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط؛ لأنّ وحدته تنافي ظهورها في الحدوث عند الحدوث؛ فإنّ وحدة الجزاء تكشف عن عدم ذلك، وظهور الجملة الشرطيّة في اقتضائها تعدّد الجزاء بتعدّد الشرط صالح لأن يكون بياناً لما اُريد من الجزاء، وهو الفرد لا الطبيعة، والقضيّة الشرطيّة تشتمل على ظهورين: الأوّل: تعدّد الحكم في الجزاء. والثاني: يقتضي الوحدة.
ولكنّ الظهور الثاني هو من قبيل الظهور الإطلاقيّ، وهو معلّق على عدم البيان، وظهور القضيّة الشرطيّة في الحدوث عند الحدوث يكون صالحاً لأن يكون بياناً لما هو المراد من المطلق؛ لأنّ الظهور الأوّل ظهور إطلاقيّ متوقّف على عدم البيان، وأمّا الظهور الثاني فهو ظهور وضعيّ غير متوقّف على شيء، فيكون حاكماً على الظهور الإطلاقيّ.
فظهر ممّا ذكر: أنّ الالتزام بعدم التداخل لا يستلزم تصرّفاً في الظاهر، بل مقتضاه: الالتزام بالظاهر، بخلاف القول بالتداخل.
وقد ذكر صاحب الكفاية في آخر كلامه أنّ البحث عن التداخل وعدمه إنّما يأتي في المورد القابل للتعدّد، نظير الوضوء والصلاة وغيرهما. وأمّا المورد غير قابل للتعدّد فلا يجري فيه بحث التداخل وعدمه، بل لا إشكال في التداخل، نظير القتل، فإنّه إذا اجتمع سببان للقتل لا يتعدّد الحكم لعدم قابليّة متعلّقه للتعدّد، كما لا يخفى.
وإليك نصّ ما أفاده: <هذا كلّه فيما إذا كان موضوع الحكم في الجزاء قابلاً للتعدّد، وأمّا ما لا يكون قابلاً لذلك، فلابدّ من تداخل الأسباب فيما لا يتأكّد المسبّب، ومن التداخل فيه فيما يتأكّد>( ).
وأمّا المحقّق النائيني فقد وافق صاحب الكفاية في اختياره عدم التداخل، ولكنّه خالفه في الدليل عليه، فقد قرّب) دعواه بنحوٍ آخر:
فذكر ـ أوّلاً ـ: أنّ القضيّة الشرطيّة ترجع إلى قضيّة حقيقيّة حمليّة موضوعها الشرط ومحمولها الجزاء، كما أنّ القضيّة الحقيقيّة ترجع إلى قضيّة شرطيّة مقدّمها الموضوع وتاليها المحمول، فهما ـ حقيقةً ـ قضيّة واحدة، وعليه: فكما أنّ الحكم في القضيّة الحمليّة الحقيقيّة ينحلّ بانحلال موضوعه، كذلك يكون الانحلال في القضيّة الشرطيّة، فيتعدّد الحكم بتعدّد أفراد الشرط ووجوداته، وأمّا تعدّده بتعدّد الشرط ماهيّةً، فهو يستفاد من ظهور إطلاق القضيّة في الاستقلال.
وذكر بعد ذلك: أنّ الطلب المتعلّق بالماهيّة لا يقتضي إلّا إيجاد متعلّقه خارجاً، ونقض عدمه المطلق، وبما أنّ نقض العدم المطلق يصدق على أوّل وجود من الطبيعة، كان مجزياً عقلاً.
وأمّا كون متعلّق الطلب صرف الوجود، فليس هو مدلولاً لفظيّاً لصيغة الأمر، لا مادّةً ولا هيئة، إذ المادّة لم توضع إلّا إلى الماهيّة، والهيئة لا تدل إلّا على طلب إيجادها، وهو يصدق قهراً على أوّل الوجود، وذلك لا يقتضي كون مطلوبيّة صرف الوجود مدلول الكلام.
وعليه: فإذا كان مقتضى الطلب هو إيجاد الطبيعة ونقض عدمها، فإذا تعلّق طلبان بماهيّة، كان مقتضى كلّ منهما إيجاد ناقض للعدم ـ التداخل وعدمه ـ، فمقتضى الطلبين إيجاد ناقضين للعدم، نظير ما إذا تعلّقت الإرادة التكوينيّة بشيء مرّتين، فإنّ مقتضاها تحقّق وجودين منه.
وأمّا وحدة الطلب وتعدّده، فهو ممّا لا يتكفّله الطلب المتعلّق بالمادّة، بل هو ينتج عن عدم ما يقتضي التعدّد، لا عن ظهور اللّفظ في الوحدة، فإذا فرض ظهور الجملة في الانحلال وتعدّد الطلب، لكان الظهور مقتضياً للتعدّد، فيرتفع موضوع وحدة الطلب، وهو عدم المقتضي للتعدّد. ولو سلّم ظهور الجزاء في وحدة الطلب، فهو ناتج عن عدم المقتضي للتعدّد، وبما أنّ ظهور الجملة الشرطيّة في التعدّد لفظيّ، كان حاكماً على ظهور الجزاء في الوحدة، لرفعه موضوعه، وهو عدم المقتضي للتعدّد( ).
والصحيح ـ تبعاً للآخوند والنائيني ـ: هو القول بعدم التداخل، بلا فرق بين الإتيان بالجزاء قبل تكرّر الشرط وعدمه، أي: لا فرق بين أن يكفّر بعد الأكل الأوّل في نهار شهر رمضان، وبين أن لا يكفّر.
وينبغي أن يُعلم: أنّ الأقوال في المسألة ثلاثة:
أحدها: ما هو المشهور، وهو القول بعدم التداخل.
والثاني: ما عن جماعةٍ، منهم المحقّق الخونساري، على ما نقله صاحب الكفاية( )، وهو القول بالتداخل.
والثالث: ما عن الحلّيّ( )، وهو القول بالتفصيل بين اتّحاد جنس الشروط وتعدّده.
لكنّ الحقّ في جميع الصور التي ذكرناها هو عدم التداخل، لكونه على خلاف الأصل، ومقتضى القاعدة التعدّد.
ولا يخفى: أنّه تارةً يراد بالتداخل تداخل الأسباب، ويُقصد به: أنّ مقتضى القاعدة في مورد تعدّد الشرط هل هو تعدّد الجزاء أو عدم تعدّده؟ وأُخرى يُراد منه تداخل المسبّبات، ويُقصد به: أنّه لو ثبت تعدّد الجزاء، فهل مقتضى القاعدة تحقّق امتثال الجميع ـ مع الاشتراك في الاسم ـ بواحد أو لا يتحقّق إلّا بالإتيان بالمتعلّق بعدد أفراد الحكم؟
والقول بعدم التداخل إنّما يأتي فيما إذا كان المحلّ قابلاً للتكرار، إذ مع امتناعه له لا معنى لجريان نزاع التداخل في المسبّبات في الجزاء الذي لا يقبل التكرار، كالقتل، فيُعتبر في موضوع بحث التداخل أمران:
أحدهما: قابليّة الجزاء للتكرار.
وثانيهما: سببيّة كلّ واحد من الشرطين أو الشروط لترتّب الجزاء عليه، حتى يصحّ البحث عن أنّ تقارن الشرطين زماناً أو تقدّم أحدهما على الآخر هل يوجب التداخل في السبب، حتى يجوز الاكتفاء بمسبّب واحد، كوضوء واحد عقيب النوم والبول ـ مثلاً ـ، بعد فرض كلٍّ من النوم والبول سبباً مستقلّاً للوضوء، أم لا يوجب التداخل فيه، بل يجب عقيب كلّ منهما مسبّب، فلا يُكتفى بوضوء واحد لهما؟
فما قد يُقال: من الفرق بالقول بالتداخل إذا كانا متّحدين في السنخ، وعدم التداخل فيما إذا كانا مختلفين، فغير تامّ، كما أنّ بعضهم فرّقوا بين ما إذا أتى بالجزاء بعد الشرط الأوّل ـ مثلاً ـ فقالوا بلزوم الإتيان بعد الشرط لو وجد الشرط ثانياً، وبين ما إذا لم يأتِ بالجزاء حتى تكرّر الشرط، فيكفي الإتيان بجزاء واحد من باب تداخل المسبّبات أو الأسباب. وهذا التفريق ـ أيضاً ـ غير تامّ؛ لما ذكرناه من أنّ ظاهر كلّ شرط أنّه يكون مؤثّراً مستقلّاً في وجوب إتيان الجزاء، فمع إمكان تكرّر الجزاء وعدم ما يمنع من هذا الظهور، فلا وجه للخروج عن مقتضى هذا الظهور، والقول بالتداخل.
وبعبارة أُخرى: فبعد علمنا بتعدّد التكليف هنا، فالشكّ بعد الإتيان بأحدهما إنّما يكون في سقوط كلا التكليفين، والأصل عدم سقوطهما، إذ بعد اشتغال عهدته وذمّته ـ قطعاً ـ بأزيد من واحد، فكفاية الإتيان بالواحد منهما فقط بحاجة إلى دليل.
وأمّا التداخل في الأسباب، كما إذا علم بحدوث وجوب الوضوء عند حدوث سببه، كما إذا بال أو نام، ولكن شكّ في ثبوته زائداً على هذا المتيقّن، كما إذا بال أو نام مرّةً ثانية، فحينئذٍ: لا محالة يكون مقتضى الأصل هو عدم ثبوته ووجوبه.
وهذا الذي ذكرناه إنّما هو مع قطع النظر عن الروايات الواردة، وإلّا، فلو فرضنا وجود روايات تدلّ على كفاية مسبّب واحد عن أسباب متعدّدة، كما في باب الوضوء، فإنّ الوارد في لسان عامّة رواياته هو التعبير ﺑ (النقض)، كما في مثل: <لا ينقض الوضوء إلّا حدث>( )، ونحوه.
ومن الطبيعيّ: أنّ صفة النقض لا تقبل التكرّر والتكثّر، ولذا كان من الطبيعيّ ـ أيضاً ـ أن يكون المستفاد من هذه الأخبار الواردة أنّ أسباب الوضوء مأخوذة على نحو جزء العلّة، وأنّها إنّما تؤثّر في وجود صفة واحدة، وهي التي يعبّر عنها ﺑ (الحدث)، إن اقترنت تلك الأسباب كان كلّ واحد منها جزء العلّة، على نحو يكون المؤثّر هو المجموع منها، لا واحد منها بعينه، وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح كما هو واضح. وإن ترتّبت تلك الأسباب، فالأثر يكون مستنداً إلى المتقدّم منها فقط، دون المتأخّر، فإنّه يبقى بلا أثر لعدم قابليّة المحلّ، وهذا نظير من زنى ثمّ ارتدّ، فإنّ وجوب قتله يكون مستنداً إلى الزنا، ولا يؤثّر الارتداد، لعدم قابليّة المحلّ لوجوب عروض القتل ثانياً.
فاتّضح ممّا ذكرناه: أنّ التداخل في باب الوضوء إنّما هو في الأسباب دون المسبّبات.
وكذا ما ورد في باب الغسل، وهو إجزاء غسل واحد عن المتعدّد، كصحيحة زرارة: <إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة، فإذا اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد ـ قال: ثمّ قال: ـ وكذلك المرأة يُجزئها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها>( )، وغيرها من الروايات، والمستفاد من هذه الروايات هو أنّ التداخل في باب الغسل إنّما هو في المسبّبات لا في الأسباب.
وهذا الذي ذكرناه من التداخل في الأسباب دون المسبّبات، لا يُفرّق فيه بين الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة، لأنّه لو شك في تعدّد مشروطه عند تعدّد شرطه، فمقتضى الأصل: عدم تعدّده في كلا الحكمين، التكليفيّ والوضعيّ، كما أنّه لو شكّ في سقوطه بعد العلم بثبوته، فمقتضى القاعدة: عدم سقوطه، من دون أن يكون هناك فرق بين أن يكون الحكم وضعيّاً أو تكليفيّاً.
وأمّا ما نُسب إلى فخر المحقّقين( ) من القول بالتداخل إذا كانت الأسباب الشرعيّة معرّفات وعدم التداخل إذا كانت مؤثّرات، فقد أورد عليه صاحب الكفاية بما لفظه:
<أنّ الأسباب الشرعيّة حالها حال غيرها، في كونها معرّفات تارةً ومؤثّرات أُخرى، ضرورة أنّ الشرط للحكم الشرعيّ في الجملة الشرطيّة ربّما يكون ممّا له دخل في ترتّب الحكم، بحيث لولاه لما وُجدت له علّة، كما أنّه في الحكم الغير الشرعيّ قد يكون أمارة على حدوثه بسببه، وإن كان ظاهر التعليق أنّ له الدخل فيهما، كما لا يخفى>( ).
وحاصله: أنّ الأسباب الشرعيّة هي كبقيّة الأسباب، فقد تكون مؤثّرات، كالاستطاعة الموجبة للحجّ، وقد تكون معرّفات، كما في قولك: (إذا خفي الأذان فقصّر، وإذا خفيت الجدران فقصّر)، فإنّ كلّاً من الخفاءين يعبّران عن عرف خاصّ، فلا معنى للقول بأنّ الأسباب الشرعيّة مطلقاً معرّفات، بل هي على نوعين: مؤثّرات ومعرّفات، كالأسباب غير الشرعيّة، كما مرّ، فإنّ بعض الأسباب غير الشرعيّة مؤثّرات، كطلوع الشمس المؤثّر في ضوء العالم، وبعضها معرّفات، كضوء العالم الذي هو معرّف لطلوع الشمس، فيكون أمارة عليه.
وأمّا المراد بالمعرّف فهو أن يكون شيء واحد حاكياً عن اُمور متعدّدة، فإذا كان السبب والمؤثّر واحداً، فلا معنى للقول بتداخل المسبّبات، وأمّا بناءً على المؤثّريّة، فبما أنّ كلّ أثر يقتضي أن يكون له مؤثّر مستقلّ، فلابدّ ـ حينئذٍ ـ من الالتزام بعدم التداخل، كما هو واضح.
ولكن هذا الكلام من أصله ليس بصحيح، إذ لا مدخليّة للمؤثريّة والمعرفيّة في محلّ البحث ـ أصلاً ـ؛ وذلك لأنّه:
إن اُريد بكونها معرّفات: أنّها لا تكون دخيلة وعلّة في الأحكام الشرعيّة، فهو وإن كان له وجه ـ كما ادّعاه أستادنا الأعظم( ) في الشرط الشرعيّ من أنّه ليس له تأثير كتأثير العلّة في المعلول ـ، إلّا أنّها تكون اُموراً اعتباريّة، والاعتباريّات رفعها ووضعها بيد الشارع.
وإن اُريد بذلك كونها معرّفات لموضوعات التكليف في الواقع، ولا مانع من تعدّد المعرّف لموضوع واحد واجتماعه عليه، ففيه: أنّ ذلك وإن كان أمراً ممكناً في نفسه، إلّا أنّ ظواهر الأدلّة لا تساعد عليه؛ لأنّ الظاهر منها أنّ العناوين المأخوذة في ألسنتها هي ـ بنفسها ـ موضوعات للأحكام، لا أنّها معرّفات لها.
وإن اُريد بذلك كونها معرّفات لملاكاتها الواقعيّة، ففيه: أنّها لا تكون كاشفةً عنها بوجه، بل الكاشف عنها ـ في الجملة ـ هو نفس الحكم الشرعيّ، وأمّا ما جُعل سبباً له، فلا يكون كاشفاً عنها على الإطلاق.
نعم، كما ذكره المحقّق النائيني: <إذا كان المراد من المؤثّر عدم تخلّف الأثر عنه فيستقيم؛ لأنّ الحكم لا يتخلّف عن موضوعه، إلّا أنّ إطلاق المؤثّر على هذا الوجه ممّا لا يخلو عن مسامحة، وإن كان المراد من الأسباب: المصالح والمفاسد، فهي مؤثّرة باعتبارٍ (من حيث تبعيّة الأحكام لها) ومعرّفة باعتبارٍ، (من حيث إنّها لا تقتضي الاطّراد والانعكاس) كما هو شأن الحكمة إن كان المراد من المعرّف هذا المعنى، أي: عدم الاطّراد والانعكاس>( ).
ولكن لا يمكن أن تكون الأسباب هي ملاكات الحكم والكاشفة عنه؛ لأنّ الأسباب الواقعة في الجمل الشرطيّة عقيب أدوات الشرط لا تخلو دائماً من حالتين: فإمّا أن تكون هي بنفسها موضوعات للأحكام، وإمّا أن تكون دخيلة في موضوعاتها، كأجزائها وشرائطها، فهي متأخّرة عن الملاكات، فلا يعقل أن تكون هي الملاكات لها، وإلّا، لزم أن يكون ما هو متأخّر رتبة متقدّماً.
ثمّ إنّه لا وجه لما اختاره ابن ادريس الحلّيّ) من التفصيل بين اختلاف الشروط بحسب الأجناس وعدمه، والقول بتداخل الأسباب إذا كانت الأجناس متّحدة، كتكرّر البول، وعدم تداخلها إذا كانت الأجناس مختلفة، قال في السرائر في مسألة وطء الحائض ما لفظه:
<فإذا كرّر الوطء فالأظهر أنّ عليه تكرار الكفّارة؛ لأنّ عموم الأخبار يقتضي أنّ عليه بكلّ دفعة كفّارة، والأقوى عندي والأصحّ: أن لا تكرار في الكفّارة؛ لأنّ الأصل براءة الذمّة، وشغلها بواجب أو ندب يحتاج إلى دلالة شرعيّة، فأمّا العموم، فلا يصحّ التعلّق به في مثل هذه المواضع؛ لأنّ هذه أسماء الأجناس والمصادر، ألا ترى أنّ من أكل في نهار شهر رمضان متعمّداً، وكرّر الأكل، لا يجب عليه تكرار الكفّارة بلا خلاف>( ).
وقال في موضع آخر من السرائر، في بحث موجبات السهو: <فإن سها المصلّي صلاته بما يوجب سجدتي السهو مرّاتٍ كثيرة في صلاة واحدة، أيجب عليه بكلّ مرّة سجدتا السهو، أو سجدتا السهو عن الجميع؟ قلنا: إن كانت المرّات من جنس واحد، فمرّة واحدة يجب سجدتا السهو، مثلاً: تكلّم ساهياً في الركعة الأُولى، وكذلك في باقي الركعات، فإنّه لا يجب عليه تكرار السجدات، بل يجب عليه سجدتا السهو فحسب؛ لأنّه لا دليل عليه...>.
إلى أن قال: <فأمّا إذا اختلف الجنس، فالأولى عندي، بل الواجب، الإتيان عن كلّ جنس بسجدتي السهو؛ لأنّه لا دليل على تداخل الأجناس، بل الواجب إعطاء كلّ جنس ما تناوله اللّفظ..>، إلى آخر كلامه( ).
وما يستفاد من ظاهر كلامه من الفرق بين اتّحاد الجنس واختلافه يمكن أن يوجّه بأنّه حينما يقول بأنّها أسماء الأجناس والمصادر، فمراده: أنّ اسم الجنس موضوع للطبيعة المهملة، وهي لا تدلّ على العموم، فإنّ لفظ (نوم) ـ مثلاً ـ الذي هو مادّة (نمت) في قوله: (إذا نمت فتوضّأ)، حينما يعلّق عليه الحكم، وهو وجوب التوضّأ، فهو لا يدلّ إلّا على نفس الطبيعة، فحينما يعلّق عليه الحكم لا يُفهم منه إلّا كون صرف الوجود من الطبيعة موضوعاً لذلك الحكم، لا كلّ وجود من وجوداتها، فموضوعيّة كلّ واحدٍ من للحكم بحاجة إلى دليل. وهذا بخلاف ما إذا كانت الشروط مختلفة من جهة الجنس، فإنّ صرف الوجود من كلّ طبيعة من طبائع الشروط المتعدّدة شرط مستقلّ للحكم، له أثر مستقلّ، فلا وجه للتداخل.
ولكنّ الحقّ: أنّه لا فرق في عدم التداخل بين أن تكون الأسباب من جنس واحد أو من أجناس متعدّدة، بعد أن كان كلّ شرط وسبب مؤثّراً مستقلّاً؛ فإنّ كلّ شرط يقتضي جزاءً مستقلّاً، فلا فرق بين أن يقال: (إذا بلت فتوضّأ، وإذا نمت فتوضّأ) وبين أن يقال: (إذا نمت فتوضّأ، وإذا نمت فتوضّأ)، بل كما في صورة تعدّد الجنس يكون الجزاء متعدّداً، فكذلك في صورة اتّحاد الجنس؛ فإنّ إطلاق النوم، الذي هو الشرط يقتضي كون كلّ وجود من وجوداته جزاءً مستقلّاً، كما هو ظاهر الجملة الشرطيّة في أنّه لابدّ من حدوث الوجوب المأخوذ في رتبة الجزاء عقيب كلّ شرط، فتعدّد النوم ـ مثلاً ـ يوجوب تعدّد وجوب الوضوء، لصدق قوله: (إذا نمت فتوضّأ) على كلّ فرد من أفراد النوم، لا أنّه يتداخل.
وإلّا، فلو كانت الجملة الشرطيّة ظاهرة في مجرّد الثبوت عند ثبوت الشرط، فلابدّ من الالتزام بالتداخل حتى في صورة الاختلاف في الجنس ـ أيضاً ـ، لما عرفت مراراً من رجوع المتعدّد إلى الواحد إذا كان الأثر واحداً نظراً إلى امتناع صدور الواحد عن المتعدّد بما هو متعدّد، فيكون تأثير النوم والبول في الوضوء بجامع بينهما.
فمع وحدة الجامع، وعدم كون إطلاق الشرط لحدوث الجزاء عند كلّ مرّة، بل ظاهراً في الثبوت عند الثبوت، فحينئذٍ: لا مناص من الالتزام بالتداخل في المقامين، وهما: تعدّد الشروط جنساً واتّحادهما كذلك.
ولكنّ هذه القاعدة ـ كما تقدّم مراراً ـ إنّما تجري في الواحد البسيط من جميع الجهات، وهي لا تجري فيه إلّا إذا كان موجباً، بل جريانها هناك ـ أيضاً ـ غير صحيح كما ذكر في محلّه.
فالحقّ: أنّ عدم التعدّد في الوضوء إنّما هو من جهة أنّ نفس النقض لا يقبل التعدّد، فإذا حصل أوّل سبب ـ كالنوم ـ، انتقضت الطهارة، فيكون السبب الآخر بلا أثر؛ لامتناع نقض المنقوض.
وبعد أن ناقشنا سابقاً ما استدلّ به فخر المحقّقين من التفصيل بين أن تكون الأسباب مؤثّرات فلا تداخل، أو معرّفات فلابدّ من التداخل، فنقول:
يمكن القول بعدم التداخل في الأسباب والمسبّبات بمقدّمات ثلاث:
الأُولى: أنّ ظاهر القضيّة الشرطيّة هو كون الشرط مؤثّراً، وأنّ كلّ شرط يؤثّر أثراً غير ما يقتضيه الشرط الآخر من الأثر.
وأمّا ما ربّما يقال في إثبات التداخل: من أنّ صرف الشيء لا يتكرّر، فهو لا ينافي ما تقدّم؛ لأنّ كون صرف الشيء لا يتكرّر لا يكون مستنداً إلى ظهور لفظيّ حتى يعارض ظهور الشرطيّة، بل ظهوره في عدم التكرار بالإطلاق وعدم موجب التعدّد، ويكفي ظهور الشرطيّتين في بيان موجب التعدّد.
والثانية: أنّ ظاهر كلّ شرط أن أثره يكون غير أثر الشرط الأوّل، فهنا بعد أن ظهر من الجملة ما يوجب التعدّد، وكان التعدّد ممكناً، بأن يكون السبب قابلاً للتعدّد، فلا وجه للقول بالتداخل أصلاً؛ لأنّ التداخل بحاجة إلى دليل، كما ورد في الغسل من كفاية غسل واحد، في قوله: <فإذا اجتمعت عليك حقوق أجزأها عنك غسل واحد>( ).
والثالثة: أن يقع المسبّب مصداقاً لعنوانين، كما إذا ورد: (أكرم هاشميّاً وأكرم عالماً)، فهنا لو أكرم عالماً هاشميّاً، لم يكن هناك من بأس؛ لانطباق المجمع على كلا الظهورين، وتحقّق الامتثال بإتيان واحدٍ منهما، بعدما كانت النسبة بين العالم والهاشميّ هي العموم من وجه. نعم، لو ورد دليل على التداخل، كما في باب الوضوء ـ كما مرّ ـ أخذنا به، ولكنّه يكون على خلاف الأصل والقاعدة.
والذي ذكره المحقّق النائيني في المقام:
أنّ سبب الوضوء هو الحدث، وهو غير قابل للتعدّد، فمحقّقاته كثيرة كالبول والنوم والتغوّط، ولكنّ ذلك لايستلزم تعدّد الحدث، إذ لا معنى للحدث بعد الحدث، فيكون المؤثّر في تحقّق الحدث من أسبابه هو أوّل وجود منها، فالتداخل في باب الوضوء منشؤه وحدة الشرط، لعدم قابليّته للتعدّد، وإن تعدّدت أسبابه.
قال: <... وكما في الحدث الموجب لوجوب الوضوء، فإنّ محقّقاته، وإن كانت كثيرة، إلّا أنّه لا معنى لحدوث الحدث بعد تحقّقه، فيكون أوّل الوجود منها هو الموجب للحدث، دون غيره، ففي أمثال ذلك، لا مناص عن القول بالتداخل>( ).
وجدير بالذكر: أنّ الحكم بالتداخل هنا إنّما يكون لاُمور:
منها: أنّ وجود هذه الأسباب لعلّه هو الموجب لحصول القذارة المعنويّة والحالة الحدثيّة، وهي غير قابلة للتعدّد، فإذا وردت الأسباب في زمان واحد وعرض واحد، كان العنوان مستنداً إلى الجميع، وإن تقدّم بعضها، يكون العنوان مستنداً إليه دون غيره؛ لعدم قابليّتها للتعدّد كما عرفنا.
ومنها: كون السبب هو صرف الوجود من النواقض، لا مطلق وجوده، فأوّل سبب حصل في الخارج، فهو الناقض والمؤثّر في الوضوء، دون ما يتحقّق ثانياً وثالثاً من بقيّة الأسباب.
ومنها: أن نقول بأنّ الطهارة ـ بالمعنى الاسم المصدريّ ـ، والتي هي المسبّب، تحصل بأوّل وضوء، وهي غير قابلة للتعدّد ولا التأكّد، ولا الانتساب إلى سبب من حيث وإلى سبب آخر من حيث آخر، فيخرج المورد عن محلّ النزاع.
ولكن لا يخفى: أنّ التأكّد يمكن في باب الوضوء؛ لأنّه ثبت أنّ الوضوء نور، وأنّ الوضوء على الوضوء نور على نور( ).
وأمّا باب بعض الكفّارات إنّما لم يحكم فيها بالتعدّد؛ لأنّه ورد الدليل بمثل: (من أفطر في نهار شهر رمضان فعليه الكفّارة)، والمفطر صادق بإتيان أوّل وجود من المفطرات، وهذا العنوان ـ أعني: عنوان المفطريّة ـ غير قابل للتعدّد.
وأمّا في باب الغسل، فإن قلنا بأنّ ما يحصل من الحدث من الحيض هو عين ما يحصل من الجنابة، فنقول ـ حينئذٍ ـ بالتداخل؛ لعدم تعدّد السبب حتى يتعدّد المسبّب.
وإن قلنا بالمباينة، وأنّ ما يحصل من الأوّل غير ما يحصل من الثاني، فلابدّ من القول بعدم التداخل، وعدم كفاية غسل واحد عن الأسباب المتعدّدة.
نعم، لو قام الدليل على الإجزاء، نعمل به.
وبهذا تمّ الكلام ـ بحمد اﷲ تعالى ـ في مفهوم الشرط.