مبحث المطلق والمقيّد

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

 

مبحث المطلق والمقيّد


ولابدّ فيه من بيان اُمور:

الأمر الأوّل:
أنّ الإطلاق لغةً بمعنى الإرسال( )، كما يقال: (أطلق عنان فرسه)، أي: أرخاه وأرسله، ويقابله التقييد.
وليس للاُصوليّن في الإطلاق والتقييد معنى خاصّ؛ فلا يحتاجان إلى تعريف اصطلاحيّ؛ لأنّهما من الاُمور الواضحة، فالتعاريف التي تُذكر لهما، كتعريف المطلق ـ مثلاً ـ بأنّه <ما دلّ على شائع في جنسه>، فإنّما يكون من باب التعريف اللّفظيّ الذي حقيقته استبدال لفظٍ بلفظٍ آخر أوضح منه دلالةً. كما قال صاحب الكفاية:
<عُرّف المطلق بأنّه ما دلّ على شائع في جنسه، وقد أشكل عليه بعض الأعلام بعدم الاطّراد والانعكاس، وأطال الكلام في النقض والإبرام، وقد نبّهنا في غير مقام على أنّ مثله شرح الاسم، وهو ممّا يجوز أن لا يكون بمطّرد ولا بمنعكس، فالأَولى الإعراض عن ذلك...>( ).

الأمر الثاني:
عُرّف المطلق ـ كما ذكرنا ـ بأنّه: <ما دلّ على شايع في جنسه>، والمراد: أنّ اللّفظ المطلق يكون شاملاً لجميع ما يصلح أن تنطبق عليه الطبيعة، فإنّ قولك: (أكرم عالماً) ـ مثلاً ـ، يصدق على كلّ فردٍ فردٍ من أفراد طبيعة العالم، وبما أنّ صدقه على الجميع هو على نحو البدليّة، فيكون دالّاً على فردٍ غير معيّن من الطبيعة، وهذا هو معنى قابليّته للانطباق على أفرادٍ كثيرة مندرجة تحت الجنس على سبيل البدل، بعد الفراغ عن شمول الجنس لهذا الفرد ولغيره.

الأمر الثالث:
الإطلاق كالعموم، فهو تارةً: يكون شموليّاً ومأخوذاً على نحو الاستغراق، وأُخرى: يكون بدليّاً، وثالثةً: يكون مجموعيّاً.
ولا يخفى: أنّ تقسيمه إلى هذه الأقسام إنّما هو بالإطلاق وببركة جريان مقدّمات الحكمة، وأمّا العامّ، فانقسامه إليها إنّما يكون ناشئاً عن الوضع.
كما لا يخفى: أنّ الإطلاق في هذه الأقسام إنّما هو باعتبار كيفيّة تعلّق الأحكام بالطبائع والماهيّات، وإلّا، فالإطلاق في الجميع بمعنىً واحد، وهو الشمول لجميع ما تنطبق عليه الطبيعة.

الأمر الرابع:
أنّ الإطلاق والتقييد من الاُمور الإضافيّة، بمعنى: أنّه يمكن أن يكون الشيء الواحد مطلقاً من جهة، ومقيّداً من جهة أُخرى.

الأمر الخامس:
أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس هو تقابل التضادّ أو تقابل السلب والإيجاب، بل إنّما هو تقابل العدم والملكة، فالشيء يقال له: إنّه مطلق إذا كان قابلاً للتقييد.
وأمّا أنّ تقابله ليس بتقابل التضادّ؛ فلأنّ الإطلاق إنّما يثبت بمقدّمات الحكمة، وليس أمراً وجوديّاً يثبت بالوضع، وليس معنى كون الإطلاق يثبت بمقدّمات الحكمة إلّا أنّه عبارة عن عدم تقييد الماهيّة بقيد وجوديّ أو عدميّ في المورد الذي يكون قابلاً للتقييد، فإذا لم تكن الماهيّة قابلة للتقييد فهي ـ في فرض تجرّدها من القيد الوجوديّ أو العدميّ ـ لا تُسَمّى ﺑ (المطلق) اصطلاحاً.
وبهذا يظهر: أنّ التقابل بينهما ليس من باب تقابل السلب والإيجاب، فإنّ الإطلاق وإن كان أمراً عدميّاً إلّا أنّه مقيّد بأمرٍ وجوديٍّ وأن تكون للماهيّة القابليّة للتقييد.
وبعبارة أُخرى: فلا مجال لأن يكون التقابل بينهما من نوع تقابل السلب والإيجاب؛ لأنّ هذا النوع من التقابل إنّما يكون بين وجود الماهيّة وعدمها، بحيث لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما، وأمّا الإطلاق والتقييد، فليسا كذلك؛ فإنّهما يرتفعان عن موردٍ لا يكون قابلاً للتقييد، فيكون التقابل بينهما ـ لا محالة ـ من باب التقابل بين البصر والعمى، وذلك أنّه يصدق الإطلاق على الماهيّة فيما إذا كان الحكم يسري منها ليشمل المقيّد وغيره، بحيث لو لم يكن مقسماً لهما امتنع الإطلاق؛ إذ لا معنى للقول بشمول الحكم وسريانه إلى مورد المقيّد وغيره، بعد أن لم يكن مورد الحكم واحداً من أقسامه.
وعلى هذا الأساس: فإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق، ومن هنا، فإذا شكّ في واجبٍ ما أنّه توصّليّ أو تعبّديّ، فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق ـ أي: إطلاق متعلّق الوجوب ـ لإثبات أنّه توصّليّ، نظراً إلى امتناع تقييده بقصد الأمر الذي هو متأخّر عن الأمر نفسه، كما بُيّن ذلك في محلّه.
وإذا اتّضحت هذه الاُمور المتقدّمة، فالأَولى صرف البحث نحو الكلام عن بعض الألفاظ التي يطلق عليها المطلق، وقد ذكر صاحب الكفاية من هذه الألفاظ: <اسم الجنس، ﻛ (إنسان) و(رجل) و(فرس) و(حيوان) و(سواد) و(بياض)، إلى غير ذلك من أسماء الكلّيّات، من الجواهر والأعراض، بل العرضيّات...>( ).
وكأنّ مراده من الجواهر ما يكون كالإنسان والحيوان والماء وغيرها من الجواهر، ومراده من العرض ما يكون كالسواد والبياض وغيرهما من الأعراض، وأمّا مراده من العرضيّات فهي الاُمور الاعتباريّة التي يكون موطنها هو وعاء الاعتبار، كالملكيّة والزوجيّة والحريّة.
مع أنّه ـ كما ذكر بعض الشارحين( ) ـ فإنّ المراد من الأعراض عند أهل المعقول هو المبادئ، أعمّ من أن تكون متأصّلة، كالسواد والبياض، أم اعتباريّةً، كالملكيّة والزوجيّة. والمراد بالعرضيّات عندهم إنّما هو المشتقّ من تلك المبادئ كالأبيض والمالك، وقد خالف الآخوند هذا الاصطلاح؛ إذ نجد أنّه إنّما أراد بالأعراض خصوص ما يكون متأصّلاً منها، كالسواد، بينما أراد بالعرضيّات خصوص ما هو اعتباريّ منها، كالملكيّة.

الكلام في اعتبارات الماهيّة:
ثمّ إنّ الماهيّة تارةً تعتبر وتلاحظ <مطلقةً>، ومعنى كونها مطلقة: أي: عدم تقيّدها بقيدٍ وعدم تخصّصها بأيّة خصوصيّة. وتارةً تلاحظ <مخلوطةً>، ومعنى كونها مخلوطةً: أنّها لوحظت بما هي متخصّصة بخصوصيّة ما. وثالثةً تلاحظ <مجرّدة>، وذلك عندما تُلحظ مفارقةً لجميع الخصوصيّات التي يمكن أن تطرأ عليها، من العوارض والمشخصّات، أو فقل: عند ملاحظتها وقد حُذِف منها جميع العوارض وقد جُرِّدت عن كافّة الطوارئ.
ولك أن تبيّن الاعتبارات الممكنة للماهيّة ببيانٍ آخر، بأن يقال:
تارةً: تلاحظ الماهيّة تلاحظ من حيث هي، بحيث يكون الملحوظ فقط هو نفس ذاتها، كالإنسان ملحوظاً بما هو إنسان، أي: بما له من الذات والذاتيّات، فلا يكون المنظور إليه إلّا الإنسانيّة وما أُخذ فيها من الحيوانيّة الناطقيّة.
وبهذا اللّحاظ يقال: إنّ الماهيّة من حيث هي ليس إلّا هي، لا موجودة ولا معدومة، ولا كلّيّة ولا جزئيّة، ولا واحدة ولا كثيرة، والماهيّة الملحوظة بهذا اللّحاظ تسمّى ﺑ <الماهيّة المهملة>، والتي هي فوق المقسم، بمعنى: أنّها بهذا الاعتبار لا تكون قسماً ولا مقسماً بعد؛ فإنّه حتى اعتبار المقسميّة يكون ـ أيضاً ـ متأخّراً عن هذه المرتبة؛ إذ اعتبار المقسميّة في رتبة ملاحظة الماهيّة غير مقيّدة بأحد الاعتبارات، أعني: اعتبارها لا بشرط أو بشرط شيء أو بشرط لا، والماهيّة بهذا الاعتبار لا يُنظر فيها إلّا إلى نفسها وذاتها، وأسماء الأجناس موضوعة للماهيّة التي في هذه المرتبة.
وأُخرى: تلاحظ الماهيّة مع ما هو خارج عن ذاتها، وحينئذٍ:
أ. فتارةً: تلاحظ بشرط شيء، أي: بأن تلاحظ الماهيّة بالإضافة إلى شيءٍ يكون خارجاً عن ذاتها، كلحاظ ماهيّة الإنسان ـ مثلاً ـ مقترنة بالإيمان. وهي <الماهيّة بشرط شيء>.
ب. وثانيةً: تلاحظ بالإضافة إليه مشروطةً بعدمه، كلحاظ ماهيّة الرقبة بشرط عدم اقترانها الكفر، وتسمّى <الماهيّة بشرط لا>.
ج. وثالثةً: تلاحظ بالإضافة إليه لا بشرط عن الاقتران به أو الاتّحاد معه، فتكون لا بشرط من ناحية هذا القيد وعدمه، وهذا هو <الماهيّة اللّابشرط القسميّ>.
وأمّا اللّابشرط المقسميّ، وهو أن لا يلاحظ في الماهيّة حتى هذا الاعتبار، أي: اعتبار أن تكون لا بشرط، فهو عبارة عن لحاظ الماهيّة مع الخارج عن ذاته حال كونه غير مشروطٍ لا بوجوده ولا بعدمه، فتكون الماهيّة بهذا الاعتبار لا بشرط بالنسبة إلى ذلك الخارج، ولم يلاحظ فيها حتى لحاظ اللّابشرطيّة تجاهه.
وخلاصة الكلام: أنّ الفرق بين الماهيّة المهملة (اللّا بشرط المقسميّ)، وبين الماهيّة (اللّا بشرط القسميّ)، أنّ النظر في الأولى يكون منحصراً إلى داخل ذاتها، وليس هناك نظر أصلاً إلى ما يكون خارجاً عن ذاتها، ولا يلتفت بهذا اللّحاظ إلّا إلى ذاتها ومكوّناتها الداخليّة. وأمّا الثانية فالنظر فيها ليس إلى الماهيّة وحدها، بل إليها مع خصوصيّة تكون خارجةً عنها.
وبهذا يتّضح الوجه فيما ذكرناه من أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهيّات المهملة، فما ذكره المحقّق النائيني من أنّ <الحقّ هو كون أسماء الأجناس موضوعة بإزاء اللّابشرط المقسمي، كما هو مقالة السلطان، وليست موضوعة بإزاء اللّابشرط القسميّ، كما هو مقالة المشهور..>( )، في غير محلّه.
والسرّ في ذلك: أنّ اللّابشرط المقسميّ توخذ فيه الماهيّة ملحوظةً بالقياس إلى ما هو خارج عن الذات، فتكون حينئذٍ غير مقيّدة بهذا الأمر الخارج، ووضع الألفاظ ليس كذلك، بل هو إنّما يكون بالنظر إلى ذات المعنى؛ ضرورة أنّ الواضع حين الوضع لا نظر له إلّا إلى الذات، بمعنى: أنّ نظره مقصور عليها، وأنّه لا نظر له إلى كلّ ما يكون خارجاً عنها، وبالتالي: فلا مجال لأن يأتي فيه شيء من تلك الاعتبارات الثلاثة، فيمتنع أن يكون المعنى الموضوع له هو الماهيّة اللّابشرط المقسميّ، فضلاً عن اللّابشرط القسميّ.
وإنّما الموضوع له ـ كما ذكرنا ـ هو ذات المعنى من دون أن يُلاحظ معه أيّ شيءٍ يكون خارجاً عن مقام ذاته، وهو ليس إلّا الماهيّة المأخوذة مهملةً، من دون أن يكون هناك نظر حتى إلى لا بشرطيّتها ولا إلى بشرط لائيّتها ولا إلى بشرط شيئيّتها.
وكيف كان، فملخّص الفرق بين اللّا بشرط القسميّ واللّا بشرط المقسميّ: أنّ الأوّل يتقوّم بلحاظ الماهيّة غير مقيّدة بالخصوصيّة التي قيست بالنسبة إليها، وأمّا الثاني فليس إلّا عبارة عن الماهيّة غير مقيّدة بأحد هذه الاعتبارات، حتى اللّابشرطيّة، وبذلك فقط كانت صالحةً لأن تشمل جميع الاعتبارات الثلاثة، وأن تكون مقسماً لها، ولولا ذلك لم يجز هذا التقسيم أصلاً، لعدم كون المقسم ـ حينئذٍ ـ سارياً في جميع الأقسام.
ومعلوم: أنّ هذا هو شرط صحّة كلّ تقسيم، كما في تقسيم الكلمة ـ مثلاً ـ إلى أقسامها الثلاثة؛ فإنّه لولا سراية الكلمة إلى جميع أقسامها وكونها محفوظةً في الجميع، بأن كان كلّ واحدٍ من هذه الأقسام عبارةً عن المقسم ملحوظاً مع قيدٍ زائد، لم يكن ثمّة مجال لتصحيح هذا التقسيم أصلاً.
ثمّ إنّه ربّما يتوهّم أنّ اللّابشرط القسميّ هو عبارة عن لحاظ الماهيّة بشرط الإطلاق والسريان.
ولكن لا يخفى: أنّه توهّم فاسد، إذ لو كان كذلك لكان نظير الكلّيّ العقليّ، فلا يكون له قابليّة الانطباق على الخارجيّات، بل يكون ـ حينئذٍ ـ راجعاً إلى البشرط لا، فلا يكون متّحداً في وجوده مع واجد الخصوصيّة وفاقدها، ولا يكون قابلاً لأن يُحمل على كليهما؛ إذ إنّ اللّابشرط القسميّ هو في قبال القسمين الآخرين، وحيث إنّ هذين القسمين عبارة عن كون الماهيّة مقيّدةً بوجود الخصوصيّة أو بعدمها، فلابدّ وأن يكون اللّابشرط القسميّ عبارة عن الماهيّة غير مقيّدة، لا بوجود تلك الخصوصيّة الخارجة عن مقام الذات، ولا بعدمها، ومن هنا، كان لابدّ من عدم كونها هي في حدّ نفسها مقيّدةً حتى بالإرسال والإطلاق والسريان.
وإلى ما ذكرناه من الأقسام أشار المحقّق الأصفهاني بقوله:
<اعلم أنّ كلّ ماهيّة من الماهيّات إذا لوحظت وكان النظر مقصوراً عليها بذاتها وذاتيّاتها من دون نظر إلى الخارج عن ذاتها فهي الماهيّة المهملة التي ليست من حيث هي إلّا هي، وإذا نظر إلى الخارج عن ذاتها ففي هذه الملاحظة لا يخلو حال الماهيّة عن إحداث اُمور ثلاثة:
أحدها: أن تلاحظ بالإضافة إلى الخارج عن ذاتها مقترنةً به بنحوٍ من الأنحاء، وهي (الماهيّة بشرط شيء).
وثانيها: أن تلاحظ بالإضافة إليه مقترنةً بعدمه، وهي (الماهيّة بشرط لا).
وثالثها: أن تلاحظ بالإضافة إليه لا مقترنةً به، ولا مقترنةً بعدمه، وهي (الماهيّة لا بشرط).
وحيث إنّ الماهيّة يمكن اعتبار هذه الاعتبارات والقيود معها بلا تعيّنٍ لأحدها، فهي ـ أيضاً ـ لابشرط من حيث قيد البشرط بشيء وقيد البشرط لا وقيد اللّابشرط، فاللّابشرط حتى عن قيد اللّابشرطيّة هو (اللّابشرط المقسميّ)، واللّابشرط بالنسبة إلى القيود التي يمكن اعتبار اقترانها وعدم اقترانها هو (اللّابشرط القسمي).
ومن هذا البيان ظهر: أنّ المعنى الذي لوحظ بالنسبة إلى القيد الخارج عن ذاته لا بشرط هو اللّابشرط القسميّ دون المقسمي، واللّابشرط المقسميّ هو اللّابشرط من حيث اعتبار اللّابشرطيّة واعتبار البشرط لائيّة واعتبار البشرط شيء، لا اللّابشرط من كلّ حيثية...>( ).
فإذا عرفت جميع ما قدّمناه، نقول:
إن قلنا بوضع الألفاظ وأسماء الأجناس للماهيّة المهملة أو اللّابشرط المقسميّ، فلابدّ في فهم الإطلاق من التمسّك بمقدّمات الحكمة، وأمّا لو قلنا بأنّها موضوعة للّابشرط القسميّ، فحينئذٍ يكون الإطلاق والإرسال مدلولاً للّفظ نفسه، ولا يحتاج إثباته إلى مقدّمات الحكمة.

مقدّمات الحكمة:
وحيث قد عرفنا أنّ الألفاظ وأسماء الأجناس موضوعة للماهيّات المهملة، فإذا أردنا إثبات الإطلاق فيها، فلابدّ لنا من إحراز توفّر مقدّمات الحكمة، وهي اُمور عدّة:
الأمر الأوّل: لمّا كان التقابل بين الإطلاق والتقييد ـ كما ذكرنا آنفاً ـ هو تقابل العدم والملكة، فلابدّ للمورد الذي نريد إثبات إطلاقه أن يكون قابلاً للتقييد، بحيث لا يكون من قبيل الخصوصيّات التي تطرأ على الطبيعة والماهيّة بعد فرض تعلّق الخطاب بها، وأن لا يكون من الانقسامات الثانويّة؛ وذلك لأنّه إذا قلنا بأنّ المتعلّق مقيّد بخصوصيّةٍ من هذا القبيل، هو أنّ تلك الخصوصيّة تكون متقدّمة على ذلك الخطاب؛ لأنّ المتعلّق بجميع قيوده وخصوصيّاته مقدّم قطعاً على الخطاب المتعلّق به؛ كالحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة، ولذا ترجع جميع القيود إلى الموضوع، كما في قوله تعالى: ﴿وَ لله ِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾( )، أي: أيّها المستطيع حجّ.
وذلك لأنّ نسبة الخطاب إلى متعلّقه هي نسبة العرض إلى معروضه، فإذا فرض أنّ الخصوصيّة تكون متأخّرة عن الخطاب، مع كونها إنّما جاءت من قبل الخطاب نفسه، فلا يكاد يمكن أخذها في المتعلّق؛ لاستلزامه أخذ ما هو متأخّر عن الشيء فيما هو متقدّم عليه، واستحالته بيّنة؛ لوضوح استلزامه لأن يكون ما هو متأخّر عن الشيء متقدّماً عليه.
وحينئذٍ: فإذا فرض امتناع المتعلّق بها، لم يكن من الممكن جريان الإطلاق بالنسبة إليها، لما ذكرناه من أنّ الإطلاق إنّما يكون ممكناً في المورد الذي يكون قابلاً للتقييد، كالانقسامات الأوّليّة، دون ما لا يكون قابلاً للتقييد، كالانقسامات الثانويّة، من أمثال قصد القربة والأمر، والعلم والجهل بالحكم، حيث تأتي هذه الاُمور من قبل الخطاب وتكون متأخّرة عن المتعلّق.
الأمر الثاني: يجب أن يكون المتكلّم في مقام البيان من الناحية التي نريد الأخذ بإطلاقها، وهذا معنى ما يقال من أنّ: أصالة الإطلاق إنّما تجري إذا كان المولى في مقام البيان، وأمّا لو لم يكن المولى في مقام البيان، بأن كان في مقام أصل التشريع وإقرار الحكم، كما يُحمل عليه قوله تعالى: ﴿أَحَلَّ الله ُ الْبَيْعَ﴾( )؛ فإنّه من الواضح ـ حينئذٍ ـ عدم جواز الأخذ بإطلاقه لإثبات حلّيّة كلّ البيوع.
وكذا الحال فيما لو أحرزنا أنّ المولى كان في مقام البيان، ولكن لا من الجهة التي نريد أن نأخذ بإطلاقها، بل من جهةٍ أُخرى، كما في قوله تعالى: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾( )؛ فإنّ الظاهر كونه في مقام بيان الحلّيّة، وأنّ ما أمسكه الكلب يكون كالمذكّى، وليس بميتة، وليس في مقام بيان طهارة الموضوع الذي عضّه الكلب، وأنّه يجوز أكله ولو لم يغسل ذلك المورد، وعلى هذا الأساس، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق من جهة الطهارة.
ثمّ إنّ أصالة كون المتكلّم في مقام البيان، وإن كانت من الاُصول العقلائيّة، ولكنّها إنّما تجري عند العقلاء في مورد شكّ في أنّ المتكلّم هل كان بصدد البيان أم الإجمال والإهمال، وأمّا لو كان مورداً أحرزنا فيه كون المتكلّم في مقام أصل التشريع، أو في مقام بيان حكمٍ آخر، أو في مقام البيان لكن ليس من جميع الجهات، فلا يجري الأصل المذكور.
الأمر الثالث: عدم وجود قيد متّصل أو منفصل، إذ مع وجود القيد المتّصل فلا يبقى للمطلق ظهور في الإطلاق، ومع وجود القيد المنفصل، فلا تبقى حجّيّة لذلك الظهور في الإطلاق في مورد عدم القيد، فينتج ذلك: عدم إمكان الأخذ بالإطلاق.
الأمر الرابع: عدم وجود قدر متيقّن في مقام التخاطب، والمقصود من مقام التخاطب: مقام التفهيم والتفهّم، بحسب مقام دلالة اللّفظ وظهوره، لا بحسب الحكم والواقع؛ فإنّ ثبوت ذلك بحسب واقع الإرادة لا يتوهّم أحد دخله؛ لأنّه ما من مطلق إلّا وله قدر متيقن بحسب الواقع، كما إذا قال: (أكرم العلماء)، فإنّه لا يشكّ أحد في أنّ القدر المعلوم منه يقيناً في الواقع هو العالم العادل الهاشميّ.
ولكنّه مع ذلك كلّه، فالقدر المتيقّن ـ بأيّ معنىً كان ـ لا يضرّ بالإطلاق، بل الظهور الإطلاقيّ حجّة، ولو مع وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب بالمعنى الذي ذكرناه، فيكون المراد بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب هو كما لو سئل المعصوم عن حكم النجاسة في بئرٍ خاصّ فأجاب ـ مثلاً ـ: (ماء البئر واسع لا يفسده شيء)؛ فإنّ القدر المتيقّن هنا هو البئر الخاصّ، وهو الداخل في الحكم؛ لأنّه هو الذي وقع في السؤال.
وكذا الحال لو فرضنا أنّ الكلام كان مكتنفاً بقرينة ما توجب انعقاد قدرٍ متيقّن له بحيث يُحمل الكلام عليه، كما إذا قال: أكرم عالماً، فإنّ المنجّم وإن كان عالماً، ولكن لفظ (العالم) نفسه، وخصوصاً بقرينة مناسبات الحكم والموضوع، ينصرف إلى الفقيه خاصّةً.
وقد ذكر صاحب الكفاية أفراداً ثلاثة للانصراف:
الأوّل: هو الانصراف البدويّ، وهو الانصراف الذي لا يزول بالتأمّل، كانصراف الماء إلى دجلة والفرات في الموضع القريب منهما، فلو قال: جئني بماء، ولكن لم يكن قريباً منهما، فلا ينصرف إليهما، ولهذا السبب، فلا يكون هذا الانصراف موجباً لتقييد إطلاق المطلق.
والثاني: الانصراف البدويّ الموجب للشكّ في أنّه هل اُريد المنصرف إليه أم لا، وهو ممّا يزول بالتأمّل. ويأتي هذا الانصراف من غلبة استعمال المطلق في المنصرف إليه الموجبة لأنس الذهن به، وهو ـ كسابقه ـ لا يوجب تقييد المطلق.
والثالث: الانصراف اللّازم لتيقّن المنصرف إليه، كانصراف لفظ الماء عن ماء الزاج والنفط، وهذا الانصراف وان لم يكن موجباً لظهور اللّفظ في المنصرف إليه كما في الفرض السابق، إلّا أنّه من قبيل اللّفظ المحفوف بما يصلح بالقرينيّة، ومع هذا: فلا يكون اللّفظ ظاهراً في الإطلاق.
أمّا في صورة كون الانصراف بدويّاً يزول بالتأمّل، فلا منافاة بينه وبين التمسّك بالإطلاق، كما هو واضح.
وأمّا في صورة كون علّة الانصراف هو ظهور المطلق في الفرد المنصرف إليه، كانصراف الماء إلى الماء المطلق، أو في صورة كون المنصرف متيقّناً في المطلق، كانصراف العالم إلى الفقيه، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق.
هذا حاصل ما أفاده، وإليك نصّ كلامه:
<ثمّ إنّه قد انقدح ـ بما عرفت من توقّف حمل المطلق على الإطلاق فيما لم يكن هناك قرينة حاليّة أو مقاليّة على قرينة الحكمة المتوقّفة على المقدّمات المذكورة ـ أنّه لا إطلاق له فيما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد أو الأصناف، لظهوره فيه، أو كونه متيقّناً منه، ولو لم يكن ظاهراً فيه بخصوصه، حسب اختلاف مراتب الانصراف، كما أنّه منها ما لا يُوجب ذا ولا ذاك، بل يكون بدويّاً زائلاً بالتأمّل، كما أنّه منها ما يُوجب الاشتراك أو النقل>( ).
ثمّ إنّ المحقّق النائيني ـ أيضاً ـ ذكر صوراً للانصراف:
الأوّل: الانصراف البدويّ، وهو الناشئ عن الغلبة خارجاً، أي: غلبة استعمال المطلق في المنصرف إليه.
الثاني: الانصراف الناشئ عن التشكيك في الماهيّة بحسب متفاهم العرف، بحيث يرى العرف خروج بعض الأفراد عن كونها أفراداً للطبيعة.
الثالث: الانصراف الناشئ من التشكيك في الماهيّة، بحيث يشكّك العرف في مصداقيّة بعض الأفراد.
وقد ذكرأنّ القسم الأوّل لا يمنع من التمسّك بالإطلاق، بخلاف الثاني والثالث فإنّهما يمنعان منه؛ لأنّ المطلق في كلّ واحدٍ منهما يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة.
قالـ ما لفظه ـ:
<توضيح ذلك: أنّ الانصراف قد ينشأ من غلبة الوجود في الخارج، كانصراف لفظ (الماء) في بغداد إلى ماء دجلة، وفي مكانٍ آخر إلى غيره، ويُسَمّى هذا الانصراف بدويّاً يزول بأدنى التفات. وهذا لم يُتَوَهَّم كونه مانعاً عن التمسّك بالإطلاق.
وقد ينشأ من التشكيك في الماهيّة في متفاهم العرف، وهذا يكون على قسمين؛ فإنّ التشكيك:
تارةً: يكون بحيث يرى العرف بعض المصاديق خارجاً عن كونه فرداً لما يُفهم من اللّفظ، فينصرف اللّفظ عنه لا محالة، كانصراف لفظ (ما لا يؤكل لحمه) عن الإنسان.
وأُخرى: يكون بحيث يشكّ العرف في كون فردٍ مصداقاً لمفهوم اللّفظ عند إطلاقه، فينصرف اللّفظ إلى غيره، كانصراف لفظ (الماء) إلى غير ماء الزاج والكبريت.
أمّا القسم الأوّل: فلا ريب في أنّ اللّفظ المطلق فيه يكون من قبيل الكلام المحفوف بالقرينة المتّصلة، فلا ينعقد له ظهور إلّا في غير ما ينصرف عنه اللّفظ.
وأمّا القسم الثاني: فالانصراف فيه وإن لم يُوجب ظهور المطلق في إرادة خصوص ما ينصرف إليه، إلّا أنّ المطلق مع هذا الانصراف يكون في حكم الكلام المحفوف بما يصلح لكونه قرينةً، فلا ينعقد له ظهور في الإطلاق، فالانصراف الناشئ عن التشكيك في الماهيّة يمنع من انعقاد الظهور في الإطلاق على كلّ حال>( ).
والحقّ: أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب ـ كما قاله المحقّق النائيني أيضاً ( ) ـ لا يضرّ بالأخذ بالإطلاق، إلّا إذا كان يرجع إلى انصراف اللّفظ إلى ذلك القدر المتيقّن، كما إذا كان العرف يرى أنّ الإنسان في قوله: (أكرم كلّ إنسان) منصرف عن الإنسان البليد؛ لأنّ البليد ليس في نظر العرف إنساناً، وذلك من جهة كون طبيعة المطلق ذات تشكيك وكونها متفاوتة بالشدّة والضعف والكمال والنقص، فربّما تنصرف الطبيعة عن مرتبتها الضعيفة في نظر العرف، مع كونها منها بالدقّة، كما لو قال ـ مثلاً ـ: (صبّ لي قدحاً من الشاي)، وفرضنا أنّ القدح كان ممتلئاً بالماء، فصببت فيه نقطةً واحدةً من الشاي، فإنّ هذا قد لا يسمّى بالشاي عند العرف، وإن كان كذلك بالدقّة، ولذا، يمكن التوضؤ به؛ لعدم صدق الماء المضاف عليه عرفاً.
فتلخّص من جميع ما ذكرناه: أنّ مقدّمات الحكمة، وهي المقدّمات التي يتوقّف عليها جواز التمسّك بالإطلاق، مركّبة من ثلاثة اُمور، لا أربعة. هذا إذا قلنا بأنّ قابليّة المحلّ للتقييد هي من جملة المقدّمات، وأمّا لو قلنا بأنّ محلّ إجراء تلك المقدّمات إنّما هو المحلّ القابل للإطلاق والتقييد، فلا تكون قابليّة المحلّ ـ حينئذٍ ـ داخلةً في عداد المقدّمات، بل تكون هي جزءاً من موضوع مقدّمات الحكمة، ومعلوم أنّ كونها إحدى المقدّمات شيء وكونها شرطاً لجريان المقدّمات شيء آخر.
وعلى هذا الأساس: فما ذكره الميرزا النائيني هو الصحيح، حيث قال:
<فتحصّل: أنّ الإطلاق يتوقّف على أمرين لا ثالث لهما، الأوّل: كون المتكلّم في مقام البيان، الثاني: عدم ذكر القيد، متّصلاً كان أو منفصلاً، فإنّ من ذلك يُستكشف إنّاً عدم دخل الخصوصيّة في متعلّق حكمه النفس الأمريّ، قضيّة تطابق عالم الثبوت لعالم الإثبات>( ).

فصل: التقييد هل يوجب المجازيّة؟
ثمّ إنّه لا يخفى: بناءً على ذكرناه من أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهيّة المهملة كما هو الحقّ، فإنّ التقييد لا يوجب المجازيّة أصلاً، ضرورة أنّ اللّفظ لا يكون مستعملاً ـ حينئذٍ ـ إلّا في معناه، وأمّا الخصوصيّة فهي تستفاد من دالٍّ آخر.
وكذا الحال بناءً على ما تبنّاه المحقّق النائيني من أنّها موضوعة للّابشرط المقسميّ؛ لأنّه اللّابشرط يجتمع مع البشرط شيء، فاستفادة القيد ـ أيضاً ـ تكون من دالٍّ آخر، بلا فرق بين أن يكون الدالّ على التقييد منفصلاً أو متّصلاً.
نعم، بناءً على ما هو منسوب إلى المشهور من كون الأسماء موضوعة للّابشرط القسميّ، وأنّ الإطلاق يكون جزءاً من مدلول اللّفظ، ومستفاداً منه بحسب أصل الوضع؛ فإنّ التقييد لا يكون ناشئاً إلّا عن استعمال اللّفظ في خلاف معناه، كيف لا؟! وهو مضادّ للإطلاق الذي هو المدلول الوضعيّ للّفظ بحسب الفرض.
ولا يُفرّق في ذلك بين أن يكون التقييد متّصلاً أو منفصلاً، إذ هو بجميع أنحائه يكون سبباً لإلغاء الخصوصيّة المأخوذة في المدلول وضعاً، أعني بها: قيد الإطلاق، لوضوح أنّه لا يعقل بقاء هذه الخصوصيّة مع إرادة الدلالة على الخصوصيّة المضادّة لها، والتي هي التقييد.
فالتقييد بناءً على مسلك المشهور ـ لا محالة ـ يوجب المجازيّة. فيكون التفصيل ـ بناءً على هذا المسلك ـ بين المقيّد المتّصل والمنفصل، بالقول بلزوم المجازيّة في الثاني دون الأوّل في غير محلّه.
والتفصيل الوحيد الذي ينبغي أن نقول به: هو أنّ التقييد يدور أمره بين أن لا يكون موجباً للمجازيّة بناءً على كلٍّ من المسلك المختار ومسلك المحقّق النائيني، وبين أن يكون موجباً لها بناءً على مسلك المشهور.
ثمّ إنّه لا يخفى: أنّ الشيء قد يكون مقيّداً من جهة ومطلقاً من جهةٍ أُخرى، كما في مثل: (اعتق رقبة)، فإنّ الرقبة هنا مقيّدة من ناحية الإيمان، وأمّا من جهة أنّه زنجيّ أو روميّ، أبيض أو أسود، فلا تقييد، ومن هنا، كان يمكن التمسّك بالإطلاق فيها من هذه الجهة.
وكذا لو كان المطلق مقيّداً بأزيد من تقييد، ولكن كان الإطلاق لا يزال موجوداً بعد بالنسبة إلى غير هذه الخصوصيّة من الحالات والخصوصيّات التي يشملها إطلاق مدلول اللّفظ، فحينئذٍ: يكون جريان مقدّمات الحكمة والتمسّك بالإطلاق بالنسبة إلى هذه الحالات والخصوصيّات أمراً ممكناً.

فصل: توافق المطلق والمقيّد في الحكم أو تنافيهما:
إذا ورد مطلق ومقيّد فإمّا أن يكونا متنافيين في السلب والإيجاب، كأن يكون المطلق ماُموراً به والمقيّد منهيّاً عنه، كما في مثل: (أعتق رقبة) و(لا تعتق رقبة كافرة). وإمّا أن يكونا متوافقين فيهما، بأن يكون كلّ منهما متعلّقين إمّا للأمر أو للنهي.
ففي الصورة الأُولى، لابدّ من حمل المطلق على المقيّد، ولا يمكن الحكم حينئذٍ بالتخيير؛ لأنّه إنّما يحكم بالتخيير فيما إذا كان هناك بينهما تساوٍ؛ لأنّ هذا التساوي من مقوّمات التخيير، ولكن بما أنّ ظهور المطلق في الإطلاق تعليقيّ وظهور المقيّد تنجيزيّ، وحيث إنّ ظهور المطلق في (أعتق رقبة) يشمل الرقبة المؤمنة والكافرة معاً، وظهور المقيّد في (لا تعتق رقبة كافرة) ينهى عن عتق الكافرة، وحيث إنّ الظهورين لا يجتمعان، فلابدّ من رفع اليد عن أحد الظهورين، أي: إمّا أن نرفع اليد عن ظهور الإطلاق أو عن ظهور النهي في التحريم.
ولكن كما ذكرنا، فإنّ ظهور المطلق تعليقيّ متوقّف على عدم البيان وعدم مجيء قرينة على الخلاف وتبيين المراد، والمقيّد صالح للأمرين: أي: لأن يكون مبيّناً للمراد، وقرينة على الخلاف، وبما أنّ ظهور المقيّد في التقييد تنجيزيّ غير معلّق على شيء، فيكون ـ لا محالة ـ وارداً على ظهور المطلق ولا يبقى له محلّ أصلاً.
وهذا هو المقصود من لزوم حمل المطلق على المقيّد، أي: لزوم رفع اليد عن ظهوره في الإطلاق وحمله على إرادة المقيّد. وفي الحقيقة، فإنّ مجيء المقيّد يكشف عن أنّ المطلق لم يكن وارداً في مقام بيان الحكم الواقعيّ الجدّيّ للمولى، بل كان بيان صوريّاً لما هو المراد، غاية الأمر: أنّ المصلحة اقتضت إبراز المراد الواقعيّ على نحو الإطلاق، وإخفاء القيد وتأخيره إلى وقتٍ تتوفّر المصلحة الداعية إلى إبرازه، كما هو كذلك بالنسبة إلى العمومات أيضاً، كما عرفنا في محلّه، حيث ذكرنا سابقاً:
إنّه قد يرد عامّ على لسان إمامٍ ولا يأتي الخاصّ إلّا على لسان إمام آخر، فبعد مجيء الخاصّ أو المقيّد وانعقاد ظهوره في الخصوص أو التقييد، فإنّه يكون كاشفاً قهراً عن عدم وجود إرادةٍ جدّيّةٍ للمولى متعلّقةٍ بالعامّ أو المطلق، بل إنّما كانت الإرادة المتعلّقة به صوريّة. هذا في مقام الثبوت والواقع.
وأمّا في مقام الإثبات، فالجمع بينهما مع حفظ الظهورين ممتنع كما هو ظاهر، هذا في المقيّد المنفصل. وأمّا في المقيّد المتّصل، فمن أوّل الأمر لم يبقَ للمطلق ظهور في الإطلاق؛ لأنّ التمسّك بالإطلاق متوقّف على جريان مقدّمات الحكمة، وإحدى مقدّماتها عدم وجود القرينة أو ما يصلح للقرينيّة، وهي موجودة ها هنا، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق.
وهذا ـ كما هو واضح ـ يجري بالنسبة إلى كلّ قرينةٍ مع ذيها، كما إذا قلت: (رأيت أسداً في الحمّام) أو (يرمي)؛ فإنّ كلمة (أسد) وإن كانت ظاهرة في الحيوان المفترس، ولكن بعد وجود القرينة، وهو قولنا: (في الحمّام) أو (يرمي)، تبيّن المراد، وأنّ الأسد الحقيقيّ، وهو الحيوان المفترس، لم يكن هو المراد الجدّيّ للمتكلّم، بل المراد الجدّي هو الأسد المجازيّ، أعني: الرجل الشجاع.
إذا عرفت هذا، فإذا ورد مطلق ومقيّد وكانا متنافيين، فإنّه لابدّ من حمل المطلق على المقيّد، ولا يحمل الأمر في المقيّد على الاستحباب أو كونه أفضل الأفراد، أو من قبيل الواجب في الواجب؛ لأنّ الأصل الجاري في القرينة مقدّم على ذي القرينة وحاكم عليها، لا أنّه يلاحظ أقوى الظهورين منهما.
بلا فرق في ذلك بين أن يكون ظهور الأمر في المطلق بالنسبة إلى الإطلاق أقوى من ظهور المقيّد في التقييد أم أضعف منه، فإنّ ظهور (أسد) في الحيوان المفترس، وإن كان بالوضع، وظهور (يرمي)، في إرادة رمي النبل، وإن كان بالإطلاق، إلّا أنّ الثاني يكون مقدّماً وحاكماً على الأوّل، لقاعدة تقدّم السبب على المسبّب، فإنّ الشكّ في ما هو المراد من لفظ (أسد) يكون ناشئاً من الشكّ في المراد من لفظ (يرمي)، وبعد أن فرضنا أنّ (يرمي) ظاهر في رمي النبل، لم يبقَ للأسد ظهور في الحيوان المفترس، حتى يكون حين انعقاد دلالته على الحيوان المفترس دالّاً بلازمه على أنّ المراد من (يرمي) هو رمي التراب، فإنّ الدلالة على اللاّزم ـ وهو رمي التراب ـ فرع الدلالة على الملزوم، وظهور (يرمي) في رمي يرفع دلالة الملزوم، ولا يبقي للأسد ظهوراً في الحيوان المفترس.
وقد يقال هنا: بأنّ مثبتات الاُصول اللّفظيّة إذا كانت حجّة، فهنا يقع التعارض، إذ كما أنّ أصالة الظهور في (يرمي) تقتضي أن يكون المراد من (الأسد) هو الرجل الشجاع، فكذلك أصالة الحقيقة في (الأسد) تقتضي أن يكون المراد من (يرمي) هو رمي التراب.
ولكن يُجاب عنه: أنّه لا تعارض في البين، فإنّ الدليل الحاكم ناظر إلى الدليل المحكوم، ولا عكس، فإنّ (يرمي) ظاهر في رمي النبل، فهو بمقتضى مدلوله الأوّليّ ناظر إلى الأسد، وكاشف عن أنّ مراد المولى من (الأسد) هو الرجل الشجاع، فيكون سبباً لرفع اليد عن ظهور الملزوم، وهو دلالة الأسد على الحيوان المفترس، فهو بمدلوله الأوّليّ متعرّض لحال الأسد، وأمّا الأسد فلا نظر وراء مدلوله الأوّليّ إلى أيّ شيءٍ آخر، ومعلوم أنّ مدلوله الأوّليّ ليس إلّا معناه الوضعيّ، وهو الحيوان المفترس.
نعم، لو فرضنا أنّ المراد من (الأسد) هو الحيوان المفترس، فيكون المراد من (يرمي) هو رمي التراب أوالثلج، ولكنّ دلالته على لازمه هي فرع وجود الدلالة على ملزومه، وبقاء ظهور لفظ (الأسد) في الحيوان المفترس، الذي هو الملزوم، غير أنّ ظهور (يرمي) يكون مصادماً لظهور (الأسد) في الحيوان المفترس، ورافعاً لهذا الظهور، فلا يبقى ظهور للملزوم أصلاً حتى يتأتّى منه الدلالة على اللّازم.
وبعبارة أُخرى: فإنّ مقتضى الإطلاق البدليّ هو تطبيق صرف الوجود على أفراد ما أراد، ويسمّى ﺑ (التخيير العقليّ)، وليس هناك أيّ مانع من هذا التطبيق بالنسبة إلى الأفراد، غاية الأمر: أنّه معلّق على عدم مجيء قرينة حتى يكون مانعاً من التطبيق، وبما أنّه لا يمكن لقوله: (أعتق رقبة) أن يطبّق على جميع أفراد الرقبة، وهي المؤمنة والكافرة، مع وجود النهي النفسيّ المستفاد من قوله: (لا تعتق رقبة كافرة)، وبما أنّه لا يمكن إبقاء الظهورين على حالهما، فكان لابدّ من رفع اليد عن أحد الظهورين، إمّا ظهور المطلق في الإطلاق، أو ظهور النهي في كونه تحريميّاً نفسيّاً، وبما أنّ ظهور المطلق في الإطلاق ـ كما عرفنا ـ ظهور تعليقيّ، فلابدّ من رفع اليد عنه هو، وذلك بحمل المطلق على المقيّد، وهذا التطبيق قبل ورود المانع هو المسمّى ـ كما أشرنا ـ ﺑ (التخيير العقليّ)، وهو متوقّف على عدم مجيء قرينة على الخلاف، والنهي التحريميّ بيان على الخلاف.
وقد يكون التنافي بين الإطلاق والتقييد من قبيل النهي عن العبادة، كما لو ورد (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام)، أو (صم) و(لا تصم يوم العيد)، بناءً على أنّ المطلق عبادة بالمعنى الأخصّ، والمقيّد المنهيّ عنه أخصّ منه. وبعبارة أُخرى: يكون بينهما عموم وخصوص مطلق، فهنا، يحمل المطلق على المقيّد، ويقال بوجوب الصلاة في غير الحمّام، ووجوب الصوم في غير يوم العيد.
وقد يكون بينهما عموم وخصوص من وجه، وحينئذٍ: فإذا كان المجمع بينهما اتّحاديّاً كمفهومَي (العالم) و(الفاسق)، فيدخل في باب التعارض، فيتساقطان، ويكون المرجع ـ حينئذٍ ـ هو الاُصول العمليّة، وأمّا لو كان التركيب انضماميّاً، فيكون من باب اجتماع الأمر والنهي، وقد مرّ الكلام فيه مفصّلاً.
ولكنّ الحقّ: أنّه لو كان التركيب بينهما اتّحاديّاً فلا يكون من قبيل النهي عن العبادة، ﻛ (صلّ) و(لا تصلّ في الحمّام)، وكذا لو كان التركيب بينهما انضماميّاً أيضاً؛ لأنّ الأمر والنهي هنا واردان على طبيعةٍ واحدة، فلا يمكن إدخال المسألة في باب الاجتماع؛ لأنّ الأمر هناك ورد على طبيعة والنهي ورد على طبيعة أُخرى.
وأمّا إذا كان كلّ من المطلق والمقيّد متعلّقاً للنهي، فبما أنّ مفاد النهي غالباً يكون شموليّاً، ويشمل جميع وجودات الأفراد، فلا تنافي بين طلب ترك المطلق والمقيّد، بل لا نحتاج إلى الثاني إلّا إذا كان هناك جهة ملحوظة ما وخصوصيّة داعية لبيانه، كشدّة الاهتمام بتركه، ممّا يدعو المولى إلى ذكره بالخصوص.
فمثلاً: لو قال الطبيب للمريض: (لا تشرب الحامض)، فهذا يشمل جميع الأفراد، ويغني عن ذكر (ترك ماء الحصرم)، فلا يحتاج إلى نهي عنه بخصوصه بأن يقول: (لا تشرب ماء الحصرم)، إلّا أن يكون في ذكره نكتة وخصوصيّة ما، كما لو فرض أنّ ضرره كان أشدّ من الضرر في شرب بقيّة الحوامض.
وأمّا إذا كان كلّ منهما متعلّقاً للأمر، كما في (أعتق رقبة) و(أعتق رقبة مؤمنة)، فتارة لا يذكر السبب فيهما كما في المثال، وأُخرى يكون السبب مذكوراً في كليهما، وفي هذه الصورة أيضاً: تارة نفرض وحدة السبب، كما إذا قال: (إن ظاهرت فأعتق رقبة) و(إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة)، وأُخرى نفرض اختلاف السبب، كما لو قال: (إن ظاهرت فأعتق رقبة) و(إن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة)، وتارة يذكر السبب في أحدهما فقط، كقولك: (أعتق رقبة) و(إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة).
أمّا في صورة عدم ذكر السبب في كليهما: فقد ذكرنا سابقاً أنّ ظهور المقيّد يكون مقدّماً على ظهور المطلق؛ لأنّ ظهور الأوّل تنجيزيّ، وأمّا الثاني فهو معلّق ومتوقّف على مقدّمات الحكمة.
ومن جملة تلك المقدّمات: عدم وجود بيان على خلاف المطلق، فإذا ورد بيان كذلك، ولو من دليل منفصل، فلا يمكن التمسّك بالإطلاق، فبما أن الظاهر من المطلق هو صرف الوجود الذي ينطبق على أوّل وجود للأفراد، وهو يقتضي التخيير في الطبيعة، باختيار أيّ فرد شاء، من المؤمن والكافر، وأمّا مقتضى دليل المقيّد فهو كون الوجود مقيّداً بعنوان خاصّ، وهو الرقبة المقيّدة بقيد الإيمان، فيكون هناك تنافٍ بين الظهورين.
وحيث إنّ ظهور المقيّد بالنسبة إلى ظهور المطلق من باب القرينة، فيكون مقدّماً عليه، تقدّم القرينة على ذيها، وبما أنّ الحكم في كلٍّ منهما حكم إلزاميّ، وبما أنّه مأخوذ في المطلق على نحو صرف الوجود، فلابدّ من حمل المطلق على المقيّد؛ لظهور كون المقيّد قرينةً على أنّ المراد الجدّي للمولى كان هو وجوب عتق الرقبة المؤمنة، لا مطلق الرقبة، ولو كانت كافرة.
وأمّا لو كان السبب مذكوراً في كلّ منهما، مع كونه واحداً فيهما، فلا إشكال ـ حينئذٍ ـ في لزوم حمل المطلق على المقيّد؛ إذ نفس وحدة السبب فيهما يستفاد منه وحدة التكليف، فحينئذٍ: يتحقّق التنافي بينهما؛ لأنّ الحكم المذكور في المطلق لمّا كان مأخوذاً على نحو صرف الوجود، أمكن أن يؤتى به في ضمن أيّ فردٍ من أفراد الطبيعة، ويحصل الامتثال ولو في ضمن الرقبة الكافرة، وأمّا الحكم في المقيّد فيظهر منه كون القيد دخيلاً، وأنّ الامتثال لا يحصل إلّا بعتق الرقبة الواجدة لقيد الإيمان، فحينئذٍ: يقع التنافي والتناقض بين الظهورين، فلابدّ من رفعه، وذلك لا يكون إلّا بحمل المطلق على المقيّد.
وأمّا لو كان السبب مختلفاً فيهما، كما في قولك: (إن ظاهرت فأعتق رقبة) و(إن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة)، فلا معنى لحمل المطلق على المقيّد، بل يستكشف من تعدّد السبب تعدّد المسبّب، وأنّ الحكم المتعلّق بالمطلق هو غير الحكم المتعلّق بالمقيّد، ولذا، لا يكون هناك تنافٍ بينهما، بل يستظهر كون كلٍّ واحدٍ منهما ـ حينئذٍ ـ محكوماً بحكمٍ على حدة.
وأمّا لو كان السبب مذكوراً في أحدهما دون الآخر، فلا يمكن فيه حمل المطلق على المقيّد، إلّا إذا عرفنا وحدة المطلوب في مورده من دليل خارج، فإن استطعنا ذلك، فهو، وإلّا، كان مشكلاً من جهة أنّ هناك تقييدين، وكلّ واحدٍ منهما يتوقّف على الآخر، أحد هذين التقييدين:
أحدهما: تقييد الحكم في الطرف الذي لم يُذكر فيه السبب بالسبب المذكور في الطرف الآخر، وإلّا، لو كان هناك سببان يقتضيان مسبّبين، أي: حكمين أحدهما للمطلق والآخر للمقيّد، فلا يكون هناك منافاة بينهما حتى يُرفع هذا التنافي بحمل المطلق على المقيّد.
والتقييد الآخر: تقييد المتعلّق في طرف المطلق بالقيد المذكور في المقيّد، ومعلوم أنّ تقييد الحكم بذلك السبب المذكور في الطرف الآخر متوقّف على تقييد المتعلّق، وإلّا، فلو لم يقيّد الحكم، فهناك في الخارج متعلّقان، ولكلّ واحدٍ منهما حكم خاصّ غير ما هو للآخر، ولا منافاة بينهما، ولا موجب لوحدة السبب، وتقييد المتعلّق ـ أيضاً ـ يكون متوقّفاً على تقييد الحكم، وإلّا، فلو لم يقيّد الحكم، فيكون هناك حكمان، ولكلّ واحدٍ منهما متعلّق، فلا موجب لتقييد المتعلّق، وهذا دور واضح، فلا سبيل إلى حمل المطلق على المقيّد.
هذا ما ذكره المحقّق النائيني، حيث قال ـ ما نصّه ـ:
<قد عرفت أنّ حمل المطلق على المقيّد يتوقّف على وحدة التكليف، وفي المثال: تقييد أحد الوجوبين بصورة تحقّق سبب الآخر يتوقّف على وحدة المتعلّق، إذ عند اختلاف متعلّق التكليف لا موجب لحمل أحد التكليفين على الآخر، كما لو ورد تكليف مطلق متعلّق بشيء، وورد تكليف مقيّد متعلّق بشيءٍ آخر. ووحدة المتعلّق في المقام يتوقّف على حمل أحد التكليفين على الآخر، إذ لو لم يُحمل أحد التكليفين على الآخر، ولم يُقيّد وجوب العتق المطلق بخصوص صورة الظهار، لم يتحقّق وحدة المتعلّق؛ لأنّ أحد المتعلّقين هو عتق الرقبة المطلقة، ومتعلّق الآخر هو عتق الرقبة المؤمنة، فيتوقّف حمل أحد المتعلّقين على الآخر على حمل أحد التكليفين على الآخر، ويتوقّف حمل أحد التكليفين على الآخر على حمل أحد المتعلّقين على الآخر، فيلزم الدور من حمل المطلق على المقيّد في هذه الصورة، والظاهر أنّه لا دافع له، فتأمّل>( ).
ولكن قد استشكل فيه الاُستاذ المحقّق بأنّه لا دور هناك؛ لأنّ <حمل المطلق على المقيّد في المفروض، وإن كان يوجب تقييد كلّ واحد من إطلاقي الحكم والمتعلّق، ولكن لا دور في البين؛ لأنّه ليس كلّ واحد من التقييدين علّةً للآخر كي يلزم الدور، بل كلاهما معلولان لعلّةٍ واحدة، وهي وحدة المطلوب، فيكونان من قبيل المتلازمين، فلا دور>( ).
وأمّا إذا لم يذكر السبب في كليهما، فأيضاً لابدّ من حمل المطلق على المقيّد؛ لأنّ ظاهر دليل المطلق هو طلب صرف الوجود من الطبيعة، وهو يتحقّق بأوّل وجود منها، كما أنّه لا يتعدّد ولا يتكرّر، فلا محالة: يكون الإطلاق هنا من قبيل الإطلاق البدليّ، ويكون ظاهر دليله هو الإتيان بالطبيعة وتطبيقها على أيّ فردٍ من الأفراد، وإن كان كافراً، وهذا ينافي ظهور المقيّد؛ لأنّ ظاهر دليل المقيّد هو لزوم الإتيان بصرف الوجود وتطبيقه على فردٍ خاصّ، وهو الرقبة المؤمنة.
فبينما ظاهر المطلق هو عدم لزوم الإتيان به في ضمن فردٍ خاصّ، فإنّ ظاهر المقيّد هو لزوم الإتيان به في ضمن فردٍ خاصّ، فيتنافيان بالضرورة، ولكن بما أنّ ظهور المطلق معلّق على عدم ورود بيان على التقييد؛ حيث كان الظهور فيه مستفاداً من جريان مقدّمات الحكمة، ومن جملة تلك المقدّمات: عدم البيان على الخلاف والتقييد، فيكون الظهور في المقيّد وارداً على الظهور في المطلق؛ لأنّه ظهور تنجيزيّ، ويتقدّم عليه من قبيل تقدّم القرينة على ذيها، بلا فرق بين أن يكون المقيِّد متّصلاً أم منفصلاً.
غاية الفرق بينهما: أنّه في المقيّد المتصل لا يبقى ظهور للمطلق في الإطلاق أصلاً، وأمّا في المقيّد المنفصل، فإنّ الظهور وإن كان باقياً، إلّا أنّه بعد ورود المقيِّد المنفصل يسقط عن الحجّيّة، كما مرّ.
وبكلمةٍ: فإنّ حمل المطلق على المقيّد يستدعي إحراز وحدة المطلوب فيهما، وهي في المقام تستفاد من نفس الدليل، لا من الخارج؛ لأنّ المفروض أنّ المطلوب في كلٍّ من المطلق والمقيّد مأخوذ على نحو صرف الوجود، وصرف وجود الشيء ـ كما أسلفنا ـ لا يقبل التعدّد ولا التكرّر، فهنا بعد أن فرضنا كون التكليف في هذا القسم وارداً في كلا الطرفين على نحو صرف الوجود، وكان التكليف المجعول من قبيل التكليف الإلزاميّ، فلابدّ من حمل المطلق على المقيّد بعد إحراز التنافي بين الظهورين.
هذا كلّه فيما لو كان التكليف المجعول إلزاميّاً.
وأمّا في التكليف الاستحبابيّ، فهل يتعيّن حمل المطلق على المقيّد ـ أيضاً ـ أم لا؟
الظاهر: أنّه لا موجب ـ حينئذٍ ـ لحمل المطلق على المقيّد؛ بلا فرق بين أن يكون التكليف في كلٍّ منهما مطلقاً، كما إذا قال (يستحبّ الدعاء) و(يستحبّ دعاء كميل)، وكان التقييد من ناحية الاستحباب، فلا يوجد هناك دليل يعيّن الحمل المذكور؛ إذ لا منافاة بينهما كما لا يخفى، بعد فرض كون المقيّد جائز الترك، وليس هناك تنافٍ ـ أصلاً ـ بين استحباب الدعاء المطلق واستحباب الدعاء المقيّد.
وكذا الحال فيما إذا كان التقييد في التكليف والمكلّف به معاً، كما لو قال: (يستحبّ لك الدعاء) و(إن جاءك زيد يستحبّ لك دعاء كميل)، فإنّه لا موجب هنا ـ أيضاً ـ يحتّم حمل المطلق على المقيّد.
أمّا في صورة ما إذا كان التقييد في ناحية التكليف، كقولك: (يستحبّ الدعاء) و(يستحبّ الدعاء عند رؤية الهلال)، فلا موجب حينئذٍ للحمل المذكور ـ أيضاً ـ، بعد فرض كون الاستحباب ذا مراتب، ولا منافاة بين الاستحباب المطلق والاستحباب المقيّد.
وحتى لو قلنا في باب التكليف الإلزاميّ أنّه لابدّ من حمل المطلق على المقيّد، فلا يكون له موجب هنا.
بل ذهب بعضهم إلى <عدم الحمل حتى فيما إذا كان التقييد يقتضي المفهوم، كما إذا قال: (يستحبّ الدعاء)، وقال ـ أيضاً ـ: (إن جاءك زيد يستحبّ الدعاء)، فإنّ تفاوت مراتب الاستحباب يكون قرينة على عدم ثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة>( ).
ولكنّ الحقّ: أنّه لو فرضنا ثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة، فلابدّ تظهر المنافاة بين مفهوم الشرط في مثل قولك: (إن جاءك زيد يستحبّ الدعاء) وبين المستفاد من مثل قولك: (يستحبّ الدعاء)، وحينئذٍ: فلابدّ من حمل المطلق على المقيّد؛ وذلك لعدم كون المفهوم قابلاً للتخصيص.
وأمّا ما ذكر من أنّ <الظاهر فيه ـ أيضاً ـ هو عدم الحمل؛ لأنّ كون القضيّة ذات مفهوم، وإن كان يقتضي في حدّ ذاته عدم مطلوبيّة فاقد القيد من رأس، إلّا أنّ العلم الخارجيّ بكون المستحبّات ذات مراتب باعتبار قيودها يوجب صرف القضيّة عن كونها ذات مفهوم، فلا تتحقّق المنافاة بين القضيتين لتُحمل إحداهما على الأُخرى>( ).
ففيه: أنّه بعد ثبوت المفهوم للقضيّة، فالمستحبّات وإن كانت ذات مراتب بالنسبة إلى غالب قيودها، غير أنّ هذه الغلبة لا تصبح موجباً لصرف ظهور القضيّة الشرطيّة عمّا هي عليه من كونها ذات مفهوم، وإلّا، فلو فرض أنّ المطلق كان مقيّداً بالقيد المتّصل، فلابدّ أن نحملها على أفضل الأفراد، ولا نقول بالتقييد، مع أنّه خلاف الواقع، إذا بعد فرض أنّ للقضيّة مفهوماً، فيقع التنافي بين المطلق والمقيّد، فلابدّ من حمل المطلق على المقيّد.
كما أنّه لو فرض أنّ المطلق لم يكن إلزاميّاً، وكان المقيّد إلزاميّاً، فلابدّ من حمل المطلق على المقيّد، بلا فرق بين أن يكون الإلزام في المقيّد إرشاديّاً مسوّقاً لبيان شرطيّة القيد، وبين ما لم يكن كذلك، بأن كان مولويّاً مسوقاً لبيان وجوب المقيّد في نفسه:
مثال الأوّل: الأمر الذي يتعلّق بالإقامة في حال الطهارة، فإنّه بعد افتراض أنّه مسوق لبيان شرطيّة الطهارة فيما هو المطلوب الاستحبابيّ، فلا يبقى مجال أصلاً لتوهّم صحّة التمسك بإطلاق ما دلّ على استحباب الإقامة من غير تقييد لها بكونها لابدّ وأن تكون حال الطهارة من الحدث، بل مقتضى الجمع بين الدليلين حينئذٍ هو انحصار استحباب الإقامة بحال الطهارة، وعدم الإتيان بها في حال الحدث.
ومثال الثاني: الأمر المتعلّق بصلاة الصبح ـ مثلاً ـ، فإنّه بعد ورود الدليل المقيّد وكونه مولويّاً دالّاً على وجوب المقيّد في حدّ نفسه، فهو ـ لا محالة ـ يوجب تقييد الأمر الاستحبابيّ المتعلّق بذات الصلاة في مثل ما روي من قوله: <الصلاة خير موضوع، فمن شاء استقلّ، ومن شاء استكثر>( )؛ لأنّ الواجب يمتنع أن يكون مصداقاً للمستحبّ.
وقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ الملاك في لزوم حمل المطلق على المقيّد إنّما هو كون الدليل المقيّد إلزاميّاً، بلا فرق في ذلك بين أن يكون الدليل المطلق إلزاميّاً أيضاً أم لم يكن.

بقي هنا أمر:
أشار إليه اُستاذنا المحقّق في آخر هذا المبحث( )، وارتأينا أنّه لا بأس بذكره هنا مع شيءٍ من التوضيح، فنقول:
قد انقدح ممّا قدّمناه: أنّ الاحتمالات الممكنة في مورد حمل المطلق على المقيّد في المثبتين اللّذين يكون المطلوب فيهما هو صرف الوجود أربعة، وهي:
الأوّل: ما مرّ ذكره مع بيان وجهه، وهو لزوم حمل المطلق على المقيّد.
والثاني: حمل الأمر في المقيّد على أفضل الأفراد وكونه مستحبّاً.
ولكنّ هذا الاحتمال إنّما يتمّ لو لم نقل بأنّ المقيّد كالقرينة، والمطلق كذي القرينة، وأنّ ظهورها وارد على ظهوره، كما تُقَدَّم القرينة على ذيها. نعم، لو قلنا بأنّ ظهور المقيّد منافٍ لظهور المطلق في الإطلاق، فيكون ظهور المطلق مقدّماً عليه، فحينئذٍ: لابدّ من التصرّف في ظهور المقيّد وحمله على أفضل الأفراد، وإلّا، فلا يبقى مجال لهذا الحمل أصلاً، كما في مثل: (رأيت أسداً يرمي)، فلو حملنا (الأسد) على الحيوان المفترس، فلابدّ معه من حمل (يرمي) على رمي الثلج أو التراب ونحو ذلك.
والثالث: أن يكون مفاد أمر المقيّد هو الواجب في الواجب، كما إذا قلنا بأنّ القنوت واجب، فإنّ ظرفه هو الصلاة، فيكون من باب الواجب في الواجب.
ولكنّ هذا الاحتمال منافٍ لما عليه ظهور دليل المقيّد؛ لأنّ معنى الواجب في الواجب إنّما هو أن يكون أصل الطبيعة المطلقة واجباً، ويكون القيد واجباً آخر، فلو أتى بأصل الطبيعة، كالصلاة، وترك القيد، كالقنوت، فهو آتٍ بواجب وتارك لواجب آخر، مع أنّ ظاهر دليل المقيّد هو أنّ الواجب هو الطبيعة المقيّدة، فلا يكفيه في مقام الامتثال الإتيان بالطبيعة وحدها، ولا الإتيان بالقيد وحده.
ومعنى وجوب شيءٍ في واجبٍ آخر: هو أن يكون الشيء واجباً بنفسه وباستقلاله، غاية الأمر: أنّ محلّ وجوبه يكون في أثناء واجبٍ آخر، بحيث لو أتى بذلك الشيء في غير ذلك المحلّ فهو غير ممتثل للأمر به، ولذا، ففي المثال المتقدّم، لو أتى بالقنوت ـ على فرض وجوبه ـ قبل الصلاة أو بعدها، أو في حال الطواف مثلاً، لم يكن ممتثلاً قطعاً؛ لأنّ محلّه إنّما هو الصلاة الواجبة، وأمّا لو أتى بالصلاة وحدها لكفى ذلك في صدق امتثال الأمر المتعلّق بها.
الرابع: تعدّد الحكم، بحيث يكون كلّ من المطلق والمقيّد واجباً مستقلّاً، فالمطلق واجب والمقيّد واجب آخر، ويكون المجعول حكمين اثنين، متعلّق أحدهما غير متعلّق الآخر، وبعد كونهما حكمين مستقلّين، فلا يكون هناك منافاة بينهما.
ولكنّ هذا الاحتمال إنّما يتمّ، لو لم نفهم من المطلق والمقيّد صرف الوجود، وأمّا لو كان يُفهم منهما صرف الوجود، فيكون غير قابل للتكرار والتعدّد، وبالتالي: فيكون الاحتمال المذكور مخالفاً لظاهر الدليلين.
فتحصّل: أنّه إذا كان المتعلّق مأخوذاً بنحو صرف الوجود فلا معنى للقول بكون المجعول حكمين متعدّدين.
وبهذا يتمّ الكلام في مبحث المطلق والمقيّد.