المبحث الأول في القطع

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

المبحث الأول
في القطع

والكلام يقع فيه في اُمور:

الأمر الأوّل :في ذاتيّة حجّيّة القطع وعدم قبولها للجعل والمنع:
اعلم: أنّ حجّيّة القطع ذاتيّة له، وأنّ حجّيّة كلّ شيء لابدّ وأن تنتهي إلى القطع، أمّا الطريقيّة فهي من لوازم ذاتها كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة؛ فعلم أنّ جعل القطع بالجعل التشريعيّ لا يكاد يكون ممتنعاً؛ لأنّه يكون ـ حينئذٍ ـ من قبيل تحصيل ما هو الحاصل تكويناً بالتشريع؛ إذ لا معنى لأن يقال: إنّي جعلت النار حارّة تشريعاً.
وهذا خلافاً لما أفاده المحقّق الأصفهاني من أنّ وجوب الإطاعة والمنجّزيّة للقطع قابلة للجعل؛ لأنّها من الاُمور الجعليّة( ).
فإن قلت: إنّ القول بعدم قابليّة حجّيّة القطع للجعل وقياسه على اللّازم والملزوم في غاية البطلان؛ ضرورة أنّ اللّازم الذاتيّ لا ينفك عن ملزومه، فليس هناك أربعة ليست بزوج، فلو كانت الحجّيّة ذاتيّةً للقطع لما انفكت عنه، والتالي باطل؛ لأنّنا نرى أنّ القطع قد يصيب وقد لا يصيب، فالملزوم مثله.
قلت: نعم، لكنّه بنظر القاطع يكون مصيباً، ولذا كان قطع القطّاع حجّة للقاطع نفسه، فلا يجوز سلب الحجّيّة والطريقيّة عن القطع لامتناع سلب ما هو من لوازم الذات عنها.
وعليه: فلو قطع المكلّف بكون شيء خمراً وورد أنّ كلّ خمر حرام شربه، فيحصل من ضمّ هذه الصغرى إلى الكبرى علمه بحرمة شرب ما قطع بخمريّته، ولا يمكن نفي الحجّيّة عن مثل هذا القطع، وإلّا، لزم اجتماع الضدّين، أو النقيضين، بحسب اعتقاد القاطع؛ كما إذا تعلّق قطعه بحرمة شرب ماء الشعير ـ مثلاً ـ مع فرض حلّيّته واقعاً، فإنّ مقتضى هذا القطع هو حرمة شربه بحسب اعتقاده، فإذا ردع الشارع عن حجّيّته، كان مقتضى ردعه جواز شربه، ومن المعلوم: أنّ الحرمة والجواز متضادّان، فلا يمكن صدورهما من الشارع.
ولا يخفى: أنّه ليس المراد من الحجّيّة هنا معناها المنطقيّ الذي هو عبارة عن الحدّ الأوسط الذي يكون بينه وبين الكبرى علاقة العلّيّة والمعلوليّة، كالتغيّر بالنسبة إلى حدوث العالم، ولا يكون القطع حجّة بهذا المعنى، فلا يقال: هذا معلوم الخمريّة، وكلّ معلوم الخمريّة حرام، فهذا حرام؛ لأنّه حينئذٍ قياس غير منتج؛ وذلك لعدم ارتباط معلوم الخمريّة بالكبرى، لا بارتباط العلّيّة والمعلوليّة، ولا بارتباط التلازم، بداهة أنّ معلوم الخمريّة يمكن أن يكون خمراً، ويمكن أن لا يكون كذلك، فلا يكون معلوم الخمريّة حدّاً وسطاً، فلا يكون مثل هذا القطع حجّة باصطلاح المنطقيّ.
وحاصل الكلام: أنّ حجّيّة القطع لا تقبل الجعل، لأنّه إنّما يكون في المحمولات القابلة للانفكاك، أمّا المحمولات التي هي من لوازم الذات، فلا يمكن سلب الحجّيّة عنها، لا تكويناً ولا تشريعاً؛ لأنّها ثابتة لها من دون جعل، كالزوجيّة بالنسبة إلى الأربعة، فلا معنى لجعل الحجّيّة لها.
فانقدح: أنّ مورد الجعل التأليفيّ هو إثبات شيءٍ لشيءٍ لم يكن ثابتاً قبل الجعل، كالحرمة للخمر، فجعل الحجّيّة للقطع مع كونها من لوازمه الذاتيّة يلزم منه الخلف وتحصيل للحاصل، وكذا يلزم الخلف من سلبها عنه؛ لأنّه بعد فرض كون الحجّيّة من لوازم القطع، فكما لا يمكن إثبات الحجّيّة له بالجعل، فكذلك لا يمكن نفيها عنه، وإلّا، لزم أن لا تكون من لوازم ذات القطع، وهذا خلاف الفرض.
وكذلك انقدح: أنّ حجّيّة كلّ شيء لابدّ وأن تكون بالقطع، وأمّا حجّيّة القطع فإنّما تكون بنفسه، كما ذكرنا.
ثمّ إنّ الحجّيّة كما لا تكون حجّة باصطلاح المنطقيّ؛ لما مرّ، فهي ـ كذلك ـ لا تكون حجّة باصطلاح الاُصوليّ؛ لأنّ الضابط في المسألة الاُصوليّة هو ـ كما تقدّم مراراً ـ أن تقع نتيجتها كبرىً لقياسٍ، يُنتج، بعد ضمّ الصغرى إليها حكماً شرعيّاً كلّيّاً.
وبعبارة ثانية: فإنّ الحجّة عند الاُصوليّ عبارة عن الأدلّة الشرعيّة من الطرق والأمارات التي تقع وسطاً لإثبات متعلّقاتها بحسب الجعل الشرعيّ، من دون أن يكون بينها وبين المتعلّقات أيّة علقة ثبوتيّة بوجه من الوجوه، فإنّ متعلّقاتها: إن كانت من الموضوعات الخارجيّة، فعدم ثبوت العلقة بينهما واضح؛ إذ لا علقة بين الظنّ بالخمريّة وبين نفس الخمر.
وكذا لا ثبوت للعلقة ـ أيضاً ـ إذا كانت المتعلّقات من الأحكام الشرعيّة؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة مترتّبة على موضوعاتها الواقعيّة، لا على ما أدّى إليه الدليل، وإلّا، لزم التصويب.
فظهر: أنّ مثل قولنا: (هذا مظنون الخمريّة، وكلّ مظنون الخمريّة فيجب الاجتناب عنه، فهذا يجب الاجتناب عنه)، ليس قياساً حقيقيّاً، بل إنّما هو قياس صوريّ، لا واقع له.
وأمّا القطع، فهو لمّا لم تكن حجّيّته قابلة لأن تنالها يد الجعل التشريعيّ، علم ـ حينئذٍ ـ أنّه لا يقع وسطاً، ولا يتألّف القياس منه، حتى ولو كان صوريّاً؛ ضرورة أنّ الشارع لم يجعل القطع طريقاً إلى إثبات متعلّقه.
فإذا لم يكن القطع قابلاً للجعل، لم يكن مجعولاً بالجعل التشريعيّ، وإذا لم يكن مجعولاً كذلك فلا يكون حجّة، لا بالمعنى المنطقيّ، ولا بالمعنى الاُصوليّ، نعم، يكون حجّة بالمعنى اللّغويّ.
فظهر من ذلك: أنّ البحث عن القطع يكون بحثاً خارجاً عن مسائل علم الاُصول؛ لعدم وقوعه في قياس الاستنباط ـ كما هو الضابط والمعتبر في المسألة الاُصوليّة ـ بداهة أنّه لا يكون طريقاً لإثبات الحكم الشرعيّ، وإنّما هو عين معرفته.
ومن هنا يظهر الوجه في ما ذكره صاحب الكفاية من أنّ القطع خارج عن مسائل علم الاُصول، وليس هو حجّة بمعنى الوسط في القياس( ).
هذا إذا كان القطع طريقيّاً.
وأمّا إذا كان موضوعيّاً: فلا ريب في إمكان وقوعه وسطاً في للقياس، كما يقال ـ مثلاً ـ: (هذا مقطوع الخمريّة، وكلّ مقطوع الخمريّة يجب الاجتناب عنه، فهذا يجب الاجتناب عنه.
فالمتعلّق الذي هو معلوم الخمريّة، وإن لم يكن علّة حقيقيّةً للحكم الذي هو وجوب الاجتناب؛ إذ العلم لا يكون علّة للحكم، إلّا أنّه بمنزلة العلّة له لعدم انفكاك الحكم عن الموضوع.

الأمر الثاني:
أنّ القطع إمّا أن يكون طريقيّاً محضاً، أو جزء الموضوع، كما إذا قطع المكلّف بحرمة الخمر أو قطع بالموضوع الخارجيّ، مثل أنّ المائع الكذائيّ خمر.
وإمّا أن يكون موضوعيّاً، وذلك فيما إذا لم يكن الموضوع الذي تعلّق به العلم ذا حكم شرعيّ، فإمّا أن يكون العلم تمام الموضوع، بحيث يكون الحكم دائراً مدار العلم وجوداً وعدماً، أو يكون العلم جزء الموضوع، بحيث يكون الموضوع مركّباً من القطع ومن شيء آخر، وهو في كلّ من القسمين: إمّا أن يؤخذ على نحو الصفتيّة، أو على نحو الطريقيّة.
والمراد من صفتيّة القطع: كونه صفة قائمة بالنفس، كالجود والبخل والشجاعة، كما أنّ المراد من طريقيّته: كونه حاكياً وكاشفاً عن متعلّقه.
ولا يذهب عليك: أنّ القطع الصفتيّ ليس من الصفات الإضافيّة المحضة، كالاُبوّة والبنوّة، ولا من الصفات الحقيقيّة كذلك، كالحياة والجود، بل هو من الصفات الحقيقيّة الإضافيّة، فيكون له واقعيّة من جهة، وإضافة إلى ما يتعلّق به من جهة اُخرى، كقولك: العلم نور بنفسه، وبإضافته إلى ما يتعلّق به منوّر لغيره.
وإذا كان العلم من الصفات المتأصّلة، فلا جرم يحتاج في تحقّقه إلى المعلوم، كاحتياج القدرة إلى المقدور؛ في قبال الصفات الحقيقيّة المحضة، وهي الصفات المتأصّلة القائمة بالنفس التي لا تحتاج في تحقّقها إلى إضافتها إلى شيء آخر، كالجود والحياة، وفي قبال الصفات الانتزاعيّة، كالفوقيّة، فإنّها لا وجود لها في الخارج وإنّما الوجود لمنشأ انتزاعها.
ثمّ إنّ الملحوظ حين الجعل:
تارةً: يكون هو العلم باعتبار كونه صفة قائمة بالنفس، واُخرى: هو العلم باعتبار كونه حاكياً عن متعلّقه؛ لما عرفت من أنّ القطع كالنور، له جهتان لا تنفكّان عنه.
وقد أنكر المحقّق النائيني إمكان أخذ القطع ـ إذا كان تمام الموضوع ـ على وجه الطريقيّة؛ <من جهة أنّ أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجه من الوجوه، وأخذه على وجه الطريقيّة يستدعي لحاظ ذي الطريق وذي الصورة، ويكون النظر في الحقيقة إلى الواقع المنكشف بالعلم، كما هو الشأن في كلّ طريق، حيث إنّ لحاظه طريقاً يكون في الحقيقة لحاظاً لذي الطريق، ولحاظ العلم كذلك ينافي أخذه تمام الموضوع>( ).
وبالجملة: فأخذه تمام الموضوع يستدعي أن يكون النظر إليه استقلاليّاً، كما إذا حصر نظره إلى المرآة فإنّ نظره إليها بما هي، لا بما هي حاكية عن وجهه، فلا يراه. وأخذه على نحو الطريقيّة يجعل النظر إليه ـ في الحقيقة ـ نظراً إلى الواقع المنكشف بالعلم، فيكون القطع ملحوظاً باللّحاظ الآليّ، كالنظر إلى المرآة لرؤية وجهه.
فلو كان القطع تمام الموضوع مع كونه على وجه الطريقيّة للزم اجتماع اللّحاظ الآليّ والاستقلاليّ في تصوّر واحد؛ واللّازم باطل؛ بداهة اقتضاء اللّحاظ الاستقلاليّ قصر النظر على القطع، وعدم لحاظ متعلّقه، واقتضاء اللّحاظ الآليّ قصر النظر على المتعلّق، وعدم لحاظ نفس القطع، فالملزوم مثله.

الأمر الثالث: في عدم قيام الأمارات والاُصول مقام القطع الموضوعيّ.
حاصل الكلام: أنّه قد يؤخذ القطع في بعض الموارد على نحو القطع الموضوعيّ مع كونه طريقاً وكاشفاً، وذلك كأخذ العلم بعدالة إمام الجماعة دخيلاً في جواز الائتمام به، فإنّه أخذ موضوعاً لجوازه كاشفاً وطريقاً، لا صفةً.
أمّا أخذه على نحو الموضوعيّة: فلعدم وجوب الإعادة بعد انكشاف الخلاف.
وأمّا أخذه على نحو الطريقيّة: فلقيام الأمارات والاُصول مقامه.
لا يقال: هذا، على تقدير تماميّته، يلزمه ـ أيضاً ـ محذور اجتماع اللّحاظين الآليّ والاستقلاليّ، بناءً على أخذ القطع جزءاً للموضوع مع كونه على نحو الطريقيّة.
لأنّه يقال: بل هذا الإشكال إنّما يرد فيما إذا كان القطع الطريقيّ تمام الموضوع، بخلاف ما إذا لاحظه الحاكم مع هذا الكشف التامّ موضوعاً لحكم آخر كما إذا جعله موضوعاً لجواز الشهادة، فإنّه لا مانع منه.

الأمر الرابع: أقسام القطع الموضوعيّ:
أنّ القطع المأخوذ في الموضوع على ثلاثة أقسام؛ لأنّه:
إمّا أن يكون متعلّقاً بالحكم، أو بموضوع ذي الحكم، أو بموضوعٍ بلا حكم؛ وعلى التقديرين الأوّلين: فإمّا أن يقع موضوعاً لنفس الحكم الذي تعلّق به أو بموضوعه، أو موضوعاً لمثله، أو لضدّه، أو لخلافه.
وقد عرفت فيما سبق: أنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد هو تقابل العدم والملكة، فكلّما استحال التقييد استحال الإطلاق، من غير عكس، ولذا لم يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات عدم وجوب قصد القربة أو عدم العلم أو القطع به؛ بداهة أنّ تقييد الخطاب بالعلم مستلزم للدور، كما بيِّن في محلّه، وإذا استحال التقييد استحال الإطلاق.
وكذا الأمر فيما نحن فيه، فإنّه لا يمكن أخذ القطع بالحكم في موضوع الحكم؛ لاستلزامه الدور، فلا يمكن أن يقال ـ مثلاً ـ: (إذا علمت بوجوب الجمعة فهي واجبة عليك بعين ذلك الوجوب). وكذلك يستحيل أخذ القطع بالحكم موضوعاً؛ لأنّه حينئذٍ:
إمّا أن يكون موضوعاً لمثل ذلك الحكم، كأن يقال: (إذا علمت بوجوب صلاة الجمعة تجب عليك بوجوب آخر)، وهو باطل؛ للزومه اجتماع المثلين؛ أو يكون موضوعاً لحكم آخر ضدّ ذلك الحكم، كما لو قيل: (إذا علمت بوجوب صلاة الجمعة، فهي حرام عليك)، فيلزم اجتماع الضدّين.
نعم، لا مانع من أخذ القطع بالحكم في موضوع حكم آخر يخالفه، كما لو قال المولى: (إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة، فيجب عليك التصدّق).
وأمّا القطع المتعلّق بموضوعٍ ذي حكم، فلا إشكال في جواز أخذه في موضوع نفس ذلك الحكم، كأن يقال: (إذا علمت بحرمة مائع فهو حرام عليك بعين تلك الحرمة)؛ وكذا يجوز أخذه في موضوع مثله، كما إذا قيل: (إذا علمت بحرمة مائع فهو حرام بمثل تلك الحرمة)؛ وفي موضوع ضدّه كأن يقال: (إذا علمت بخمريّة مائعٍ فهو واجب)؛ وفي موضوع مخالفه، كأن يقال: (إذا علمت بخمريّة مائع فيجب عليه التصدّق).
وأمّا القطع المتعلّق بموضوع بلا حكم: فيمكن أن يكون مأخوذاً في موضوع أيِّ حكم كان، كما إذا قال المولى: (إذا علمت أنّ هذا بول وجب الاجتناب عنه)؛ إذ إنّ الحكم إنّما ورد على مقطوع البوليّة.

الأمر الخامس:
أنّ القطع قد يكون مطابقاً للواقع، وقد لا يكون كذلك، فيكون جهلاً مركّباً إذا لم يكن القاطع ملتفتاً إلى خطأ قطعه.

الأمر السادس:
ينقسم القطع باعتبار منشأ حصوله إلى قسمين، لأنّه:
إمّا أن يكون حاصلاً للشخص بنحوٍ غير متعارف، كما إذا حصل له القطع بشيءٍ من أمرٍ لا يوجبه، كمثل طيران الطير، كما مرّ، ويسمّى القطع ـ حينئذٍ ـ ﺑ (قطع القطّاع)؛ أو لا، بأن يكون القطع حاصلاً بالنحو المتعارف، ومن سبب متعارف، وهو القطع العاديّ.
وفي كلا الفرضين، لا يفرّق العقل في وجوب متابعته، فيكون حجّة بعد حصوله من أيّ سبب، ومن أيّ شخص كان، وفي أيّ زمان كان، خلافاً لما نسب إلى بعض الأخباريّين من عدم حجّيّة القطع الحاصل من مقدّمات عقليّة، فلا يجب العمل به عقلاً، وإن كان طريقاً محضاً.
أمّا إذا كان موضوعاً، فهو كسائر الموضوعات، يعني أنّ كلّ قطع يحصل للفقيه من خبر العادل لا للعامّيّ ـ الذي قد يحصل له القطع من خبر الفاسق ـ ويكون حصوله في زمان البلوغ دون الصغر، من الروايات والأدلّة، دون مثل الجفر والرمل، يصحّ أن يكون موضوعاً.
قال صاحب الكفاية: <لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً، ولزوم الحركة على طبقه جزماً، وكونه موجباً لتنجّز التكليف الفعليّ فيما أصاب باستحقاق الذمّ والعقاب على مخالفته، وعذراً فيما أخطأ قصوراً>( ).
ففي نظره الشريف: أنّ القطع له أثران عقليّان:
الأوّل: وجوب متابعته، ولو كان من قبيل قطع القطّاع.
والثاني: منجّزيّته، بمعنى: استحقاق العقاب على مخالفته.
وقد أوضحه المحقّق الأصفهاني بما نصّه: <لا يذهب عليك: أنّ المراد بوجوب العمل عقلاً، ليس إلّا إذعان العقل باستحقاق العقاب على مخالفة ما تعلّق به القطع [أي:المقطوع] ، لا أنّ هناك بعثاً وتحريكاً من العقل أو العقلاء نحو ما تعلّق به [أي: نحو المقطوع>( )؛ إذ ليس شأن القوّة العاقلة إلّا إدراك الأشياء، وليس من شأنها التحريك والبعث.
ثمّ إنّ تأثير القطع في تنجّز التكليف واستحقاق العقاب ليس أمراً ذاتيّاً قهرياً، بل هو أمر جعليّ عقلائيّ؛ وذلك لأنّ استحقاق المكلّف للعقاب على المخالفة الواصلة، إنّما هو من باب خروجه عن زيّ الرقّيّة والعبوديّة، حيث كان الواجب عليه هو الإطاعة، فتكون المخالفة هتكاً للمولى وظلماً له، وليس حسن العدل وقبح الظلم ـ بمعنى استحقاق المدح والذمّ عليه ـ من الأحكام العقليّة الواقعيّة، بل من الأحكام العقلائيّة، وهي ما تطابقت عليه آراء العقلاء لعموم مصالحها وحفظها للنظام.
ويعبّر عن ذلك ﺑ (القضايا المشهورة)، في قبال المدركات العقليّة الداخلة في القضايا البرهانيّة.
وقد علّل المحقّق المذكور عدم دخول هذا الحكم العقليّ في القضايا البرهانيّة بما حاصله:
أنّ مواد القضايا البرهانيّة منحصرة في الضروريّات الستّ، وهي: الأوّليّات والحسّيّات والفطريّات والتجريبيّات والمتواترات والحدسيّات، وليس حسن العدل وقبح الظلم من أحدها بشيء، فيتعيّن أن يكون داخلاً في القضايا المشهورة.
قال: <أنّ حكم العقل باستحقاق العقاب ليس ممّا اقتضاه البرهان، وقضيّته غير داخلة في القضايا الضروريّة البرهانيّة، بل داخلة في القضايا المشهورة التي تطابقت عليها آراء العقلاء لعموم مصالحها، ومخالفة أمر المولى هتك لحرمته، وهو ظلم عليه، والظلم قبيح، أي: ممّا يوجب الذمّ والعقاب عند العقلاء، فدخْل القطع في استحقاق العقوبة على المخالفة الداخلة تحت عنوان الظلم بنحو الشرطيّة، جعليّ عقلائيّ، لا ذاتيّ قهريّ، كسائر الأسباب الواقعيّة والآثار القهريّة>( ).
ولكن فيه: أنّ الحسن والقبح ذاتيّان للعدل والظلم، ولو لم يكونا مخلّين بالنظام، فما ذكره من أنّ حسن العدل وقبح الظلم من الأحكام العقلائيّة، وممّا تطابقت عليه آراء العقلاء، حفظاً للنظام، في غير محلّه.

الأمر السابع: في الاطمئنان وأنّ حجّيّته من باب حجّيّته العلم أو من باب حجّيّته الأمارات.
أمّا أصل حجّيّة الاطمئنان: فممّا لا شكّ فيه؛ ضرورة أنّ السيرة من البشر جميعاً في أعمالهم ـ سواء ما يرتبط بتشخيص الأحكام أو الموضوعات ـ جارية على الأخذ به، ولولا ذلك، لم يكن لهم طريق إلى تحصيل اُمورهم؛ وبهذا تثبت حجّيّة الاطمئنان لدى الشارع، إذ لو كان للشارع طريق آخر غير الاطمئنان، لكان عليه نصبه وبيانه، ولكنّنا لم نرَ منه طريقاً آخر غير الاطمئنان، ولو كان لبان.
فظهر: أنّ حجّيّة الاطمئنان لو كانت جعلّيّة، بأن كانت ببناء العقلاء، لم تصلح الآيات الناهية عن العمل بغير العلم لأن تكون رادعةً عنه، بخلاف مثل خبر الواحد؛ لوجود غيره من الطرق التي يمكن من خلالها تشخيص مراد المتكلم، كما هو أوضح من أن يخفى.
وظهر أيضاً: أنّ حجّيّة الاطمئنان هي كحجّيّة الظهور في عدم صلوح الآيات الناهية للردع عنها.
وإذا قد ثبتت حجّيّة الاطمئنان بلا كلام، فإنّ الخلاف في أنّ حجّيّته هل هي بحكم العقل، كحجّيّة القطع، أو ببناء العقلاء، كالحجّيّة في باب الأمارات؟ لا يعدو أن يكون خلافاً علميّاً، لا جدوى في البحث عنه؛ لخلوّه عن الثمرة العملية.

الأمر الثامن: انقسام القطع إلى تفصيليّ وإجماليّ:
اعلم: أنّه لا معنى للقول بكون القطع مجملاً؛ لأنّ ذلك يستلزم اجتماع الضدّين؛ فإنّ حقيقة القطع هي الانكشاف التامّ لدى القاطع، فالقطع بخمريّة أحد الإناءين قطع لا إجمال فيه، وذلك لأنّ النسبة الملحوظة بين الحكم وموضوعه الذي هو عنوان المنكشف عند القاطع معلومة له.
نعم، الإجمال إنّما هو في تطبيق المقطوع المنكشف ـ وهو خمريّة أحد الإناءين ـ على أحد المصداقين بخصوصه، فلابدّ حينئذٍ من فرض كون العلم الإجماليّ مركّباً من علم وجهل.
فظهر: أنّ العلم الإجماليّ هو العلم المتعلّق بالعنوان ـ وهو أحد الإناءين ـ وتطبيقه على عنوان خاصّ مجهول بسبب تردّده.
وهل العلم الإجماليّ كالتفصيليّ في الرتبة أم أنّه متأخّر عنه رتبة أم متقدّم عليه؟
حاصله: أنّه إذا فرض تعلّق العلم الإجماليّ بأحد الفعلين، فإنّ حاله لا يخلو من أحد اُمور ثلاثة:
الأوّل: لزوم فعلهما معاً، ويسمّى بالموافقة القطعيّة.
الثاني: لزوم تركهما معاً، ويسمّى بالمخالفة القطعيّة.
والثالث: لزوم الإتيان بأحدهما وترك الآخر، ويسمّى بالموافقة الاحتماليّة.
فإن كان الأوّل: يكون العلم الإجماليّ مؤثّراً في الإيجاب وعلّة تامةً لتنجّز متعلّقه، فتلزم الموافقة القطعيّة؛ وحينئذٍ: يكون حاله حال العلم التفصيليّ في عدم تجويز الشارع ترك البعض، فضلاً عن ترخيصه بترك الكلّ.
وإن كان الثاني: يكون العلم الإجماليّ بمنزلة المقتضي بالنسبة إلى كلا الطرفين، فيصحّ له الترخيص في ترك كلا الطرفين، فلا يكون العلم الإجماليّ ـ حينئذٍ ـ كالعلم التفصيليّ، أي: علّة تامة لتنجّز التكليف، بل يكون حاله حال الشكّ البدويّ، في عدم العلّيّة التامّة، فضلاً عن جواز الترخيص في الترك.
وإن كان الثالث: يكون له أن يرخّص في ترك البعض والإتيان بالبعض الآخر، وهو مفاد الموافقة الاحتمالية كما تقدم.
والتحقيق الذي يتقضيه النظر الدقيق: أنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لتنجّز متعلّقه، فهو في رتبة العلم التفصيليّ، فلا يمكن القول بالترخيص، لا بترك كلا الطرفين، ولا بترك أحدهما فقط.
فإن قلت: إنّ العلم الإجماليّ، وإن كان كشفاً تامّاً، كالعلم التفصيليّ، ولكن لا ينكشف به التكليف تمام الانكشاف كما ينكشف بالعلم التفصيليّ، بل مرتبة الحكم الظاهريّ، وهو الشكّ والجهل، محفوظة مع العلم الإجماليّ في كلّ طرف من الأطراف بالخصوص، فلا يعلم أنّ هذا واجب أو ذاك، أو أنّ هذا حرام أو ذاك، فلا مانع من الإذن في المخالفة الاحتماليّة بالترخيص في بعض الأطراف، بل في المخالفة القطعيّة، بأن يرخّص في تمام الأطراف.
قلت: إنّ مجرّد عدم انكشاف التكليف بالعلم الإجماليّ تمام الانكشاف، وبقاء الشكّ والجهل في كلّ طرف من الأطراف بالخصوص، ممّا لا يسوّغ الإذن في الأطراف، كلّاً أو بعضاً؛ وذلك لجواز دعوى لزوم التضادّ مع التكليف الواقعيّ المعلوم بالإجمال.
وإذا اتّضح ذلك، يظهر: أنّ العلم الإجماليّ بمنزلة العلم التفصيليّ في أنّه علّة تامّة لتنجّز التكليف، فلا يجوز للعقل بعد قطعه بالحكم الإذن في مخالفته.
قال صاحب الكفاية:
<لا يخفى: أنّ التفصّي عن المناقضة على ما يأتي لما كان بعدم المنافاة بين الحكم الواقعيّ ما لم يصر فعليّاً والحكم الظاهريّ الفعليّ، كان الحكم الواقعيّ في موارد الاُصول والأمارات المؤدّية إلى خلافه لا محالة غير فعليّ، فحينئذٍ: فلا يجوّز العقل مع القطع بالحكم الفعلي الإذن في مخالفته، بل يستقلّ مع قطعه ببعث المولى أو زجره ولو إجمالاً بلزوم موافقته وإطاعته.
نعم، لو عرض بذلك عسر موجب لارتفاع فعليّته شرعاً أو عقلاً، كما إذا كان مخلّاً بالنظام، فلا تنجّز حينئذٍ، لكنّه لأجل عروض الخلل في المعلوم، لا لقصور العلم عن ذلك، كما كان الأمر كذلك فيما إذا أذن الشارع في الاقتحام، [يعني: به في مورد العلم التفصيليّ للعسر]، فإنّه ـ أيضاً ـ موجب للخلل في المعلوم، لا المنع عن تأثير العلم شرعاً>( ).
وحيث قد عرفت فعلّيّة العلم الإجماليّ:
فلا يقال: إنّ الحكم الواقعيّ فعليّ، بمعنى: أنّه لو تعلّق به العلم لتنجّز، والحكم الظاهريّ فعليّ منجّز، وأنّ الواقعيّ ما لم يبلغ مرتبة التنجّز لم يبلغ مرتبة البعث والزجر؛ فلا يتنافى الحكم الواقعيّ مع الحكم الظاهريّ المجعول على خلافه؛ وعليه: فحال العلم الإجماليّ كحال الشبهة البدويّة، فكما جاز للشارع الإذن والترخيص في الشبهات البدويّة وكان ذلك كاشفاً عن عدم الإرادة والكراهة على طبق الحكم الواقعيّ، فكذلك جاز للشارع الإذن والترخيص في أطراف العلم الإجماليّ.
لأنّه يقال: ما ذكر غير تامّ؛ ضرورة أنّ العلم الإجماليّ منجّز بالنسبة إلى أطرافه فعلاً، فلا يجوز جعل الحكم على خلافه على الإطلاق، ولا في بعض الأطراف، خلافاً لمن ذهب إلى أنّ العلمَ الإجماليّ لمّا كان علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة، لم يكن من الممكن الترخيص في تمام الأطراف بأجمعها، ولكنّه لمّا كان مقتضياً بالنسبة إلى الموافقة القطعيّة، فيمكن الترخيص في بعض الأطراف على البدل.
قال المحقّق النائيني: <فالأقوى وجوبها [أي: وجوب الموافقة القطعية] أيضاً؛ لأنّه يجب عقلاً الخروج عن عهدة التكليف المعلوم بالإجمال، وهو لا يحصل إلّا بالاجتناب عن جميع الأطراف؛ إذ لو لم يجتنب المكلّف عن الجميع وارتكب البعض، فلا يأمن من مصادفة ما ارتكبه لمتعلّق التكليف المعلوم في البين، فيكون قد ارتكب الحرام بلا مجوّز عقليّ أو شرعيّ، فيستحقّ العقوبة، وذلك كلّه واضح بعد البناء على أنّ العلم الإجماليّ كالتفصيليّ يقتضي التنجيز.
نعم، للشارع الإذن في ارتكاب البعض والاكتفاء عن الواقع بترك الآخر كما سيأتي بيانه، ولكن هذا يحتاج إلى قيام دليل بالخصوص عليه غير الأدلّة العامة المتكفّلة لحكم الشبهات، من قبيل قوله: (كلّ شيء لك حلال) أو: (كلّ شيء طاهر) وقوله: (لا تنقض اليقين بالشك)، وقوله: (رفع ما لا يعلمون)، وغير ذلك من أدلّة الاُصول العمليّة؛ لأنّ نسبتها إلى كلّ واحد من الأطراف على حدٍّ سواء، ولا يمكن أن تجري في الجميع لأنّه يلزم المخالفة القطعيّة، ولا في الواحد المعيّن؛ لأنّه يلزم الترجيح بلا مرجّح، ولا في الواحد لا بعينه؛ لأنّ الاُصول إنّما تجري في كلّ طرف بعينه>( ).
ثمّ إنّه يقع الكلام: في أنّه مع التمكّن من تحصيل العلم التفصيليّ بالامتثال فهل يكفي العلم الإجماليّ بالامتثال أم لا؟ فإذا علم ـ مثلاً ـ بوجوب أحد الأمرين: إمّا الظهر وإمّا الجمعة في الشبهة الحكميّة، أو بوجوب الصلاة إلى إحدى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة في الشبهة الموضوعيّة، فهل يكفي العلم الإجماليّ بالامتثال بإتيان كلّ من الظهر والجمعة أو بإتيان الصلاة إلى كلّ واحدة من الجهات الأربع، مع التمكّن من تحصيل العلم التفصيليّ بالامتثال باستعلام الحال، أو بالسؤال عن الموضوع، ومعرفة الواجب بعينه على التفصيل، والإتيان به بخصوصه، أم أنّ الإتيان بالواجب بنحو الإجمال لا يكون كافياً إلّا عند تعذّر العلم التفصيليّ به؟
وفي مقام الجواب نقول: الواجب: تارةً: يكون توصّلياً، واُخرى: يكون تعبّدياً، فإن كان توصّلياً: يحصل المقصود منه بمجرد حصول الواجب التوصّليّ في الخارج، كيف ما اتّفق، سواء كان يعلم حين الإتيان به بأنّه هو الواجب بخصوصه أم لم يكن يعلم، فيجوز الإتيان به ولو مع التمكّن من العلم التفصيليّ.
قال الشيخ الأعظم: <أمّا فيما لا يحتاج سقوط التكليف فيه إلى قصد الإطاعة ففي غاية الوضوح>( ).
وكذا يحصل المقصود من الواجب بمجرّد حصوله في الخارج إذا كان تعبّديّاً، ولم يكن محتاجاً إلى التكرار، كما إذا تردّد الواجب بين الأقلّ والأكثر، كتردّد الصلاة ـ مثلاً ـ بين فاقد السورة وواجدها، فإنّ الاحتياط حينئذٍ بإتيان الأكثر جائز.
وإنّما الكلام في الواجب التعبّديّ المحتاج إلى التكرار، كما إذا دار أمره بين المتباينين، كالظهر والجمعة، أو كالصلاة إلى الجهات الأربع.
والذي يظهر من الشيخ الأعظم: هو جواز الاحتياط في العباديّات مطلقاً، حتى فيما احتاج إلى التكرار، فضلاً عمّا لا يحتاج إليه، حيث قال ـ بعد عبارته المتقدّمة آنفاً ـ ما لفظه:
<وأمّا فيما يحتاج إلى قصد الإطاعة [يعني به العباديات] فالظاهر أيضاً تحقّق الإطاعة إذا قصد الإتيان بشيئين يقطع بكون أحدهما المأمور به.
ودعوى: أنّ العلم بكون المأتيّ به مقرّباً معتبر حين الإتيان به ولا يكفي العلم بعده بإتيانه: ممنوعة؛ إذ لا شاهد لها بعد تحقّق الإطاعة بغير ذلك أيضاً، فيجوز لمن تمكّن من تحصيل العلم التفصيليّ بأداء العبادات العمل بالاحتياط وترك تحصيل العلم التفصيليّ، لكن الظاهر كما هو المحكي عن بعض ثبوت الاتفاق على عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقّف على تكرار العبادة> ـ إلى أن قال ـ:
<وأمّا إذا لم يتوقّف الاحتياط على التكرار كما إذا أتى بالصلاة مع جميع ما يحتمل أن يكون جزءاً، فالظاهر: عدم ثبوت اتّفاق على المنع ووجوب تحصيل اليقين التفصيليّ، لكن لا يبعد ذهاب المشهور إلى ذلك>( )، يعني به المنع.
وأمّا صاحب الكفاية فقد اختار ـ هو أيضاً ـ جواز الاحتياط في العبادات فيما لا يحتاج إلى التكرار نظراً إلى عدم إخلاله بشيء ممّا اعتبر أو يحتمل اعتباره فيها من قصد القربة والوجه والتمييز.
نعم، يخلّ فقط بعدم إتيان ما احتمل جزئيّته كالسورة في المثال المتقدّم على تقدير جزئيّتها بقصد الجزئيّة، قال:
<واحتمال دخل قصدها في حصول الغرض ضعيف في الغاية وسخيف إلى النهاية>( ).
ومراده من الإخلال بقصد الجزئيّة هو الإخلال بقصد العنوان المعتبر في كلّ جزء من أجزاء الصلاة قطعاً، وهذا ضعيف؛ فإنّ مشكوك الجزئيّة عندما يؤتى به برجاء جزئيّته، فهو ـ على تقدير كونه جزءاً واقعاً ـ فقد أتى به بقصد جزئيّته، كما أنّه إذا أتى به برجاء وجوبه، فهو على تقدير وجوبه واقعاً قد أتى بقصد الوجه والقربة جميعاً.
ويمكن أن يكون مراده من الإخلال بقصد الجزئيّة هو الإخلال بالتمييز؛ فإنّه إذا لم يعلم أنّ الواجب هل هو الأقلّ أو الأكثر، لم يمكن الإتيان بالمشكوك الزائد على الأقلّ بقصد الجزئيّة.
والحقّ: جواز الاحتياط في العباديّات مطلقاً سواءً حصل تكرار أم لا؟ خلافاً لما ذكره جمع من الفقهاء من أنّ الاحتياط في العبادات يستلزم الإخلال بقصد الوجه المعتبر في العبادة، وعلى هذا بنوا بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والعمل بالاحتياط مع التمكّن منهما.
وقد حكي عن بعضهم: عدم كفاية قصد الوجه، بل لابدّ ـ مع ذلك ـ من قصد الجهة التي اقتضت وجوب العبادة أو استحبابها.
والتحقيق: أنّه لا يعتبر في صحّة العبادة لا قصد الوجه، ولا العلم بالأجزاء الواجبة والمستحبّة، بل يكفي قصد امتثال أمرها الواقعيّ، ولا يعتبر العلم بوجوبه أو استحبابه، ولا العلم بواجبات الأجزاء ومستحبّاتها، فضلاً عن قصد ذلك؛ لأنّ صدق العبادة والطاعة لا يتوقّف على هذه الاُمور عقلاً، ولا يتوقّف الامتثال عليها عرفاً، ولا يدلّ على اعتبارها دليل بالخصوص.
قال المحقّق النائيني: <فلأنّه لم نعثر فيما بأيدينا من الأخبار على ما يدلّ على اعتبار شيء من ذلك في العبادة، مع أنّ المسألة ممّا تعمّ به البلوى، ويتكرّر الحاجة إليها ليلاً ونهاراً، وليست من المرتكزات في أذهان العامّة حتى يصحّ للشارع الاتّكال على ذلك، بل هي من المسائل المغفول عنها غالباً، وما هذا شأنه يلزم على الشارع التأكيد في بيانه، فعدم الدليل في مثل ذلك دليل العدم، ويصحّ لنا دعوى القطع بعدم اعتبار هذه الأمور في العبادة>( ).
فيكون المقام من باب (لو كان لبان) إذا بحثنا عنه ولم نجده، فيكشف ذلك عن عدم وجوده، لا من باب أنّ (عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود).
وأمّا ما ذكر من أنّه لعب بأمر المولى، ففيه:
أوّلاً:
أنّه ليس تكراراً للأمر بل للماُمور به، والتكرار إنّما يكون لعباً إذا لم يترتّب عليه غرض عقلائيّ، فلا يحكم المولى بعبثيّة كلّ تكرار؛ نعم، قد يكون قبيحاً إذا كان موجباً للوسواس.
وأمّا ما نصّ عليه المحقّق النائيني ـ حيث قال: <إنّه لا يعتبر في حسن الاحتياط عقلاً عدم قصد الوجه والتمييز ونحو ذلك.
نعم: يعتبر في حسن الاحتياط عقلاً عدم التمكّن من إزالة الشبهة، فإنّ مراتب الامتثال عقلاً أربعة: الأوّل: الامتثال التفصيليّ، الثاني: الامتثال الإجماليّ، الثالث: الامتثال الظنّيّ، الرابع: الامتثال الاحتماليّ.
ولا يجوز الانتقال إلى المرتبة اللّاحقة إلّا بعد تعذّر المرتبة السابقة، فإنّه فيما عدا المرتبة الاُولى لايمكن قصد امتثال الأمر التفصيليّ حال العمل، ويعتبر في حسن الطاعة الاحتماليّة عدم القدرة على الطاعة التفصيليّة، ولا يحسن من المكلّف في مقام الطاعة قصد الأمر الاحتماليّ مع التمكن من قصد الأمر القطعيّ التفصيليّ؛ لأنّ حقيقة الطاعة هي أن تكون إرادة العبد تبعاً لإرادة المولى بانبعاثه عن بعثه، وتحرّكه عن تحريكه، وهذا يتوقّف على العلم بتعلّق البعث والتحريك نحو العمل، ولا يمكن الانبعاث بلا توسيط البعث الواصل إلى المكلّف، والانبعاث عن البعث المحتمل ليس في الحقيقة انبعاثاً، فلا يكاد يتحقّق حقيقة الطاعة والامتثال إلّا بعد العلم بتعلّق البعث نحو العمل ليكون الانبعاث عن البعث>( ) ـ من أنّ <هذا البرهان يقتضي عدم صحّة الامتثال والطاعة الاحتماليّة مطلقاً؛ لأنّ الانبعاث عن الأمر المحتمل ليس حقيقة انبعاثاً>( ).
<نعم، الانبعاث عن البعث المحتمل أيضاً مرتبة من العبوديّة ونحو من الطاعة والامتثال، إلّا أنّه يتوقّف حسن ذلك على عدم التمكّن من الانبعاث عن البعث المعلوم الذي هو حقيقة العبادة والطاعة؛ فمع التمكّن من الامتثال التفصيليّ لا يحسن من العبد الامتثال الاحتماليّ>( ).
فالحقّ: أنّ العلم ـ مطلقاً ـ طريق إلى إتيان الواقع بعد صدق الانبعاث من قبل الآمر، تارةً جزماً واُخرى رجاءً؛ وأنّ المناط هو إتيانه على أي وجه اتّفق، فإنّ التحريك في الثاني يكون بمجرّد احتماله، وأمّا في الأوّل بواسطة أمره الجزميّ، ولذا قالوا بصحّة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد والاكتفاء بالامتثال الإجماليّ مع التمكّن من التفصيليّ.
وأمّا إذا فرض الشكّ في اعتبار قصد الوجه والتميز: فمذهب المحقّق النائيني أنّ مقتضى الأصل مع الشكّ في اعتبار الامتثال التفصيليّ مع التمكّن منه في تحقّق الامتثال هو الاحتياط وعدم الاكتفاء بالامتثال الإجماليّ، كما يستفاد ذلك من تقريرات بحثه الشريف، حيث قال:
<وبالجملة: الأمور التي اعتبرها العقل في الطاعة ويحتمل اعتبارها فيها عقلاً، وإن كانت قابلةً للتصرّف شرعاً كأن يحكم الشارع بدليل مخصوص بكون الامتثال الاحتماليّ في عرض الامتثال التفصيليّ، وليس وزان ذلك وزان ما لا يقبل للتصرّف الشرعيّ أصلاً كطريقيّة القطع وأمثالها، إلّا أنّ حديث الرفع ليس ناظراً إلّا على رفع الأحكام المجعولة شرعاً إمضاء أو تأسيساً، فيكون قاصراً عن الشمول لما يحتمل اعتباره في الطاعة عقلاً.
وبذلك يفرّق بين المقام وبين الشكّ في اعتبار نيّة الوجه ومعرفيّته في صحّة العبادة، فإنّ الشكّ هناك لرجوعه إلى الشكّ في اعتبار أمر زائد على ما هو معتبر عند العقل شرعاً، يكون مورد الحديث الرفع، بخلاف المقام، فإنّ الشكّ فيه راجع إلى اعتبار أمر في الطاعة العقليّة؛ ضرورة أنّ حسن الاحتياط من الأحكام التي يستقلّ العقل بها، ومع الشكّ في تحقّقه لا يمكن التمسّك بحديث الرفع الناظر إلى رفع الأحكام المجعولة الشرعيّة: إمضاءً أو تأسيساً، وإذا لم يمكن التمسّك بحديث الرفع، فمقتضى قاعدة الاشتغال هو عدم جواز الاكتفاء بالامتثال الاحتماليّ مع التمكّن من الامتثال التفصيليّ>( ).
وقد أورد عليه اُستاذنا الأعظم بما حاصله:
أنّ الامتثال التفصيليّ، لو كان دخيلاً في الغرض، لكان على المولى بيانه؛ لأنّه ممّا يغفل عنه غالباً، ولكنّه لم يبيّنه، فيدلّ على عدم دخالته في الغرض؛ لأنّ استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدّم، فلا يجب الاحتياط، بل لا وجه له؛ لأنّ عدمه لا يضرّ عدمه في صحّة العمل.
وهاك نصّ كلامه: <فالشكّ في اعتبار شيء يرجع إلى قصد القربة، وإن لم يكن مجرى للبراءة، إلّا أنّه يستكشف عدم اعتباره من عدم البيان، لكونه ممّا يغفل عنه نوع المكلّفين، فعلى تقدير الاعتبار كان على المولى البيان والتنبيه عليه، فمع عدم البيان، يستكشف عدم اعتباره لا محالة، فتحصّل أنّ الصحيح في هذه المسألة ـ أيضاً ـ كفاية الامتثال الإجماليّ والإتيان بما يحتمل وجوبه رجاء، كما هو المشهور>( ).
وخلاصة الكلام: أنّه عند الشكّ في اعتبار قصد القربة يمكن التمسّك بالإطلاق المقامي لرفعه؛ ضرورة أنّه لو سلّم استحالة التقييد بالقصد، فإنّه إنّما يكون مانعاً عن التمسّك بالإطلاق اللّفظيّ دون المقاميّ.
وفيه: أنّ هذا المحذور في غير محلّه؛ لأنّ الشارع بعد ما كان بصدد بيان حقيقة أمر عباديّ كالصلاة، وشرح ماهيّته، وتوضيح كلّ ما له دخل في تلك العبادة من الأجزاء والشرائط والموانع، ومع ذلك، لم يبيّن اعتبار قصد الوجه بوجهٍ من الوجوه، نستكشف من ذلك عدم اعتباره في العبادة.
ودعوى: أنّ اعتبار القصد إنّما هو بحكم العقل، فيحكم بأنّ حصول الغرض متوقّف عليه، فيستغني الشارع في مقام بيان حقيقة العبادة عن ذكره بسبب حكم العقل.
مدفوعة: بأنّه، وإن كان كذلك، ولكنّه ليس من المستقلّات العقليّة التي يفهمها كلّ أحد، فلا يمكن للشارع الاستغناء عن ذكره، إذ المفروض الشكّ في اعتباره فيحتاج إلى ذكره وبيان دخله فيها، ومن عدم ذكره يستكشف عدم اعتباره.
بل يمكن التمسّك بالإطلاق اللّفظيّ أوّلاً؛ لإمكان تقييدها بنتيجة الإطلاق ـ كما مرّ في فصل التعبّديّ والتوصّليّ ـ لا بالإطلاق اللّحاظيّ، فإذا لم يقيّد الشارع العبادة باعتباريّة قصد الوجه، ولم ينبّه على كونه دخيلاً في حقيقتها، فيصحّ التمسّك ـ حينئذٍ ـ بالإطلاق لبيان عدم دخله.
ثمّ إنّ المحقّق العراقي صحّح إمكان التمسّك بالإطلاق اللّفظيّ بشكلين آخرين:
الأوّل: أن يكون المنشأ في الأمر بالصلاة ـ مثلاً ـ هي الطبيعة الكلّيّة لوجوب الصلاة، لا الفرد منه، فتشمل طبيعة الوجوب جميع الأفراد العرضيّة والطوليّة لطبيعة الصلاة، فكما أنّ طبيعة وجوب الصلاة السارية إلى جميع أفراد الصلاة تسري إلى جميع الأفراد العرضيّة على البدل، فكذلك تسري إلى جميع الأفراد الطوليّة منها، ولا شكّ أنّ الصلاة مع قصد الوجه، كالصلاة مع قصد الأمر، هي من الأفراد الطوليّة لطبيعة الصلاة، فتكون مشمولة لها، وبهذا الشكل، يمكن تعلّق الوجوب الكلّيّ المنشأ بذلك الإنشاء الشخصيّ بالصلاة المقيّدة بقصد الوجه أو القربة أو ما شابه ذلك من قصد التمييز.
والثاني: تعلّق الخطاب بالحصّة التوأمة من طبيعة الصلاة مع قصد الوجه، بحيث يكون المتعلّق نفس تلك الحصّة من طبيعة الصلاة، ويكون القيد وما هو التوأم خارجاً عن الطلب، فلا يلزم محذور تقدّم المتأخّر وتأخّر المتقدّم، فالداخل هو واقع التوأميّة( ).
وثانياً:
أنّ العقل لا يحكم إلّا بلزوم الإطاعة، وليس معنى الإطاعة إلّا الإتيان بالماُمور به بجميع ما اعتبر فيه شرعاً أو عقلاً، فإذا جيء بجميع ما له دخل في المصلحة والغرض، يحصل الغرض ويسقط الأمر؛ لأنّ سقوط الأمر إنّما يكون باُمور ثلاثة:
الأوّل: بالعصيان.
والثاني: بفقدان الماُمور به بعد وجوده، كما إذا أخذ السيل الميّت فيسقط وجوب تكفينه وتغسيله والصلاة عليه.
والثالث: الامتثال، أي: إتيان الماُمور به بجميع أجزائه وشرائطه وترك موانعه، أو فقل: الإتيان بجميع ما له دخل في حقيقة الماُمور به.
والحقّ: عدم تمامية مثل هذا الكلام؛ ضرورة أنّه لم يعلم أنّ قصد الوجه ممّا حكم به الشرع أم لا؟ ولم يحكم به العقل وإلّا لما شكّ الإنسان دخالته.
وإذا قد عرفت هذا، يقع الكلام في أنّه هل يمكن إثبات التكليف بالعلم الإجماليّ كما يثبت بالعلم التفصيليّ أم لا؟
والصحيح: أنّ العلم الإجماليّ كالعلم التفصيليّ علّة تامّة لثبوت التكليف في وجوب الموافقة وحرمة المخالفة؛ لأنّ العقل لا يفرق في تنجّز متعلّق العلم به بين كونه تفصيليّاً أو إجماليّاً، فكما أنّ العلم التفصيليّ إذا تعلّق بحكم شرعيّ أو موضوع ذي حكم شرعيّ فالعقل يحكم بلزوم إطاعته والخروج عن عهدته بالامتثال، فكذلك هو يحكم في العلم الإجماليّ بلزوم الإطاعة والخروج عن عهدة المعلوم بالإجمال بالامتثال، ـ بعد أن قطعنا بالوجدان بفعلّيّة التكليف الذي لا يحتمل الخلاف ـ غاية الأمر: أنّ المتعلّق لمّا كان معلوماً تفصيلاً في العلم التفصيليّ، فلا يكون هناك ترديد فيه، وأمّا في العلم الإجماليّ، فحيث إنّ متعلّق التكليف غير معلوم تفصيلاً، فالعقل يحكم بإتيان جميع محتملاته في الشبهة الوجوبيّة، وترك الجميع في الشبهة التحريميّة، حتى يحصل القطع بالامتثال.
فالعلم الإجماليّ علّة تامّة بالنسبة إلى طرفي المخالفة والموافقة، وليس للشارع الترخيص ببعض أطرافه فضلاً عن جميعها، وإلّا لزم التناقض إمّا قطعاً أو احتمالاً؛ لأنّ الترخيص إن كان في تمام الأطراف فالتناقض قطعيّ؛ إذ المفروض أنّ العقل يحكم بلزوم الإطاعة، فلا يجوز الترخيص في المخالفة القطعيّة، وإن كان في بعضها فالتناقض احتمالي؛ لأنّ فعلّيّة الترخيص مع احتمال التكليف من باب احتمال اجتماع النقيضين، وهو في الاستحالة كالتناقض، فلا يجوز الترخيص في المخالفة الاحتماليّة.
فظهر ممّا بيّنّاه: أنّ التفكيك بين حرمة المخالفة القطعيّة وبين وجوب الموافقة القطعيّة بأنّ العلم الإجماليّ علّة تامة بالنسبة إلى الأوّل، ومقتضٍ بالنسبة إلى الثاني، في غير محلّه، بل هو علّة تامّة بالنسبة إلى كليهما، وحينئذٍ: فالعقل ـ لا محالة ـ يحكم بوجوب الموافقة القطعيّة وحرمة المخالفة القطعيّة.
ومن ذلك ظهر حال الأقوال في المسألة.
ثمّ إنّ ها هنا اُموراً لابدّ من بيانها:

الأمر الأوّل:
أنّ المراد من الحكم الذي يعلم بالتفصيل مرّةً وبالإجمال اُخرى هو الحكم المنشأ بداعي البعث والزجر، وهو إنّما يكون صالحاً للبعث والتحريك إذا كان واصلاً إلى العبد، بخلاف الحكم الذي يكون منشأ بداعي الامتحان، فإنّ العلم به لا يصلح للتحريك، وكذا بخلاف الحكم المنشأ بداعي البعث ولكن لم يصل إلى المكلّف بحجّة من علم أو علمي، فلا يصلح للتحريك مثل: (اسكتوا عمّا سكت اﷲ عنه)؛ ضرورة أنّ الأحكام بوجوداتها الواقعيّة ما لم تقم عليها حجّة معتبرة لا تصل إلى مرتبة الفعليّة، ولا يجب بالتالي التحريك نحوها.

الأمر الثاني:
أنّ كلّاً من الحكم الحاصل بالعلم التفصيليّ والحاصل بالعلم الإجماليّ سواء من حيث صلوحهما للعبث والتحريك؛ ضرورة أنّ المدار في العمل بالحكم هو وصوله إلى المكلّف، وهو متحقّق حتّى في العلم المردّد بين هذا المصداق أو ذاك؛ لأنّ الترديد إنّما هو متعلّق الحكم، والبعث والتحريك يتعلّقان بنفس الحكم، ومثاله: ما لو علمت بوجوب إكرام شخصٍ، وكان مردّداً بين أن يكون عالماً أو جاهلاً، فلابدّ من التحرّك نحوه، وكونه مردّداً لا يقدح بالعلم بالحكم، فلا يمكن ادّعاء المعذّريّة بدعوى أنّ إجمال المتعلّق علّة لترك العمل بالعلم.
لا يقال: إنّ حال العلم الإجماليّ كحال الشبهة البدويّة؛ لأنّ تنجيز العلم للتكليف وتقبيح العقل مخالفته قد اعتبِر فيه تميّز المتعلّق عن غيره خارجاً ومعرفة خصوصيّاته حال الارتكاب لا بعده، وحينئذٍ لا يكون العلم الإجماليّ سبباً لتنجّز التكليف كما لا تكون الشبهة البدويّة كذلك، فيجوز المخالفة في كليهما بخلاف العلم التفصيليّ.
لأنّا نقول: لا وجه لقياس العلم الإجماليّ بالشبهات البدويّة؛ لأنّ هناك فرقاً بينهما، لوصول التكليف إلى المكلّف في الأوّل، ولذا يصدق التمرّد على المولى بارتكاب بعض الأطراف فيه، دون الثاني، فيحكم العقل بقبح المخالفة وحسن المؤاخذة عليها، وليس هذا إلّا لتنجّز الحكم ووصوله إلى المكلّف بنفس العلم به ولو مع تردّد متعلّقه وعدم تميّزه، ولذا لا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان في العلم الإجماليّ، دون الشبهات البدويّة؛ فالقياس على الشبهات البدويّة قياس مع الفارق.

الأمر الثالث:
أنّ الملاك في الحرمة واستحقاق العقوبة هو التمرّد والطغيان على المولى وهتك حرمته، فيخرج بذلك عن العبوديّة، وهذا ظلم عليه وكفران بنعمته، وهذا الملاك مفقود مع الجهل بالحكم، فلو ارتكب المكلّف ما هو مبغوض عند المولى مع الجهل بمبغوضيّته لم يخرج عن زيّ العبوديّة، ولا يعدّ فعله هذا ظلماً للمولى وطغياناً عليه.
وهذا بخلاف العلم بالحكم، فإنّ عدم المبالاة به ـ سواء كان متعلّقه مميّزاً ومفصّلاً لدى المكلّف أو كان مردّداً مجملاً ـ هتك لحرمة المولى وظلم عليه، فإذا علم به اشتغلت ذمّته به، والاشتغال اليقينيّ يقتضي البراءة اليقينيّة، ولا فرق في حكم العقل بلزوم تحصيل اليقين بالبراءة عمّا اشتغلت به الذمّة قطعاً بين كون الاشتغال ثابتاً بالعلم التفصيليّ أو الإجماليّ.

الأمر الرابع:
أنّ هناك فرقاً بين الظلم والكذب، وهو أنّ الظلم قبيح ذاتاً؛ لأنّه بنفسه وبعنوانه محكوم بالقبح، بخلاف الكذب، فإنّه مقتضٍ للقبح لا علّة تامّة له، ولذا قد يطرأ عليه عنوان الحسن كالإصلاح بين المؤمنين وإنقاذ نفس محترمة، وليس كذلك الظلم فإنّ وصف القبح لا يكاد ينفكّ عنه.
وإذا كان العلم الإجماليّ كالعلم التفصيليّ منجّزاً للحكم وعلّة تامّة بالنسبة إلى التكليف، فلا يجوز الترخيص في جميع أطرافه ـ أي: ترك المعلوم بالإجمال ـ وكذا لا يجوز الترخيص ببعض أطرافه ـ وهو المحتمل بالإجمال ـ للزوم القطع بالتناقص على الأوّل، واحتماله على الثاني.
فإن قلت: كيف لا يجوز الترخيص في الأطراف مع أنّه إذا قامت أمارة أو أصل مثبت للتكليف في بعض الأطراف موافقة للمعلوم بالإجمال، ويكون بمقدار المعلوم بالإجمال بحيث يكون انطباق المعلوم بالإجمال عليه ممكناً محتملاً، فإنّ العلم الإجماليّ ينحل ـ حينئذٍ ـ ويجري الأصل ـ بنفي وجوب الطرف الآخر ـ بلا معارض، والحال أنّ احتمال الوجوب في الطرف المنفيّ ما زال موجوداً، فيكشف هذا عن إمكان ورود الترخيص ولو ببعض الأطراف مع وجود احتمال التناقض، ويسمّى هذا ﺑ (الانحلال الحكميّ) في قبال (الانحلال الحقيقيّ) وهو صيرورة المعلوم بالإجمال معلوماً بالتفصيل في بعض الأطراف.
قلت: لا فرق بين العلم الإجماليّ والتفصيليّ في علّيّتهما التامّة للحكم، فكما أنّه في العلم التفصيليّ بالتكليف قد يجعل الشارع بدلاً في مقام الامتثال، كما في مورد قاعدة الفراغ والتجاوز وأصالة الصحّة وغيرها، فكذلك في العلم الإجماليّ، فيجعل ذلك الطرف الذي قامت الحجّة على وجود التكليف فيه بدلاً عن التكليف الواقعيّ، وهذا نوع توسعة وتصرّف في مقام إسقاط التكليف كما في مثل: (الطواف بالبيت صلاة)، فتفريغ الذمّة حينئذٍ: إمّا بإتيان نفس الماُمور به الواقعيّ، أو بإتيان بدله.
ومعنى العلّيّة التامّة: أنّه لا يمكن الترخيص في طرف ما دام لم يجعل الطرف الآخر بدلاً، ولذا لايجري الأصل المرخّص إذا كان منافياً للأطراف بعدما قلنا بأنّه علّة تامّة؛ لأنّ احتمال التناقض متحقّق وإن لم لكن لهذا الأصل معارض.
اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ العلم الإجماليّ مقتضٍ لا علّة تامّة، فإنّه حينئذٍ يجري الأصل المرخّص.
فاتّضح: أنّه مع التمكّن من الظنّ التفصيليّ يجوز الإتيان بالعلم الإجماليّ بطريق أولى؛ لأنّ مرجع حجّيّة الظن إلى ترتيب آثار العلم بحيث يصحّ إسناد المؤدّى إلى اﷲ تعالى وتحقّق الامتثال به جزماً.
فلو قلنا بعدم تقدّم العلم التفصيليّ مع التمكّن منه، لا وجه ـ حينئذٍ ـ لما هو محكيّ عن الحلّيّ في مسألة اشتباه الثوب الطاهر بالنجس: من تقديم الامتثال التفصيليّ على الشرط، حيث ذهب إلى وجوب الصلاة عارياً وعدم جواز تكرارها في الثوبين المشتبهين( ).
فحيث لم يتمكّن من العلم التفصيليّ، يسقط اعتبار امتثاله، فلا يزاحم الشرط أو الجزء المتمكّن منه، ولو بالتكرار، فإنّه متمكّن من حصول الصلاة في الثوب الطاهر، فيلزم الدور؛ لأنّ التمكّن من الامتثال التفصيليّ واعتباره يتوقّف على التمكّن منه. والتمكّن منه متوقّف على سقوط الشرط، فيلزم الدور.


دروس البحث الخارج (الأصول)

دروس البحث الخارج (الفقه)

الإستفاءات

مكارم الاخلاق

س)جاء في بعض الروايات ان صلاة الليل (تبيض الوجه) ،...


المزید...

صحة بعض الكتب والاحاديث

س)كيفية ثبوت صحة وصول ما ورد إلينا من كتب ومصنفات...


المزید...

عصمة النبي وأهل بيته صلوات الله عليه وعلى آله

س)ما هي البراهين العقلية المحضة غير النقلية على النبوة الخاصة...


المزید...

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

س)شاب زنى بأخته بعد ان دفع لها مبلغ من المال...


المزید...

السحر ونحوه

س)ما رأي سماحتكم في اللجوء الى المشعوذين ومن يذّعون كشف...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين...


المزید...

التدخين

ـ ما رأي سماحة المرجع الكريم(دام ظله)في حكم تدخين السكاير...


المزید...

العمل في الدوائر الرسمية

نحن مجموعة من المهندسين ومن الموظفين الحكوميين ، تقع على...


المزید...

شبهات وردود

هل الاستعانة من الامام المعصوم (ع) جائز, مثلا يقال...


المزید...
0123456789
© {2017} www.wadhy.com