قاعدة لا ضرر ولا ضرار

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

 

قاعدة لا ضرر ولا ضرار


ولابدّ في بيان هذه القاعدة من ذكر اُمور:

الأمر الأوّل :في مدرك هذه القاعدة:
قال اُستاذنا المحقّق: <هو عبارة عن روايات كثيرة في كتب الفريقين يروي هذه الجملة عن رسول اﷲ، وهي بمنزلة كبرىً كلّيّة يطبّقها في موارد عديدة>( ).
منها: ما عن أبي بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر قال:
<إنّ سمرة بن جندب كان له عذق( ) في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاريّ بباب البستان، وكان يمرّ إلى نخلته ولا يستأذن، فكلّمه الأنصاريّ أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فلمّا تأبّى، جاء الأنصاريّ إلى رسول اﷲ فشكا إليه، وخبّره الخبر. فأرسل إليه رسول اﷲ وخبّره بقول الأنصاريّ وما شكا، وقال: إذا أردت الدخول فاستاذِن، فأبى، فلمّا أبى ساومه، حتى بلغ به من الثمَن ما شاء اﷲ، فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يُمدّ لك في الجنّة، فأبى أن يقبل، فقال رسول اﷲ للأنصاريّ: اذهب فاقلعْها وارمِ بها إليه، فإنّه لا ضرر ولا ضرار>( ).
ومنها: رواية عبد اﷲ بن مسكان، عن زرارة، عن أبي جعفر نحو ما مرّ، إلّا أنّه قال: <فقال له رسول اﷲ إنّك رجل مضارّ، ولا ضرر و لا ضرار على مؤمن، ثمّ أمر بها رسول اﷲ فقُلِعت، ثمّ رُمي بها إليه، وقال له رسول اﷲ: انطلق فاغرسها حيث شئت>( ).
إلى غير ذلك من الروايات الواردة بنفس المضمون.
ولا يخفى: أنّا هنا لسنا بحاجة إلى الحديث حول سند هذه الروايات بعد ذكرها في المصادر المعتبرة لدى العامّة والخاصّة على السواء، بحيث يمكن الاطمئنان بصدورها عن النبيّ، مضافاً إلى إمكان القطع بصحّة سند بعض هذه الروايات.
هذا فيما يتعلّق بفقرة (لا ضرر ولا ضرار)، وأمّا كلمة (في الاسلام) فقد نقلها ابن الأثير الجزريّ في نهايته( ).
ولكنّها رواية عامّيّة مرسلة، فلا يكاد يمكن الاستناد إليها، وقد أرسلها الصدوق في الفقيه( )، ولكن حيث قد تلقّاها الأصحاب بالقبول فلا يكاد يضرّ إرسالها، وإن كان إسناد هذه الكلمة إلى النبيّ لا يخلو من إشكال.
وعلّق اُستاذنا المحقّق في قواعده على ذلك بقوله:
<ولكن يمكن أن يقال: بعدم اعتبار عدم ذكرها في بعض الطرق بعد بناء الأصحاب على تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة؛ لبناء العقلاء على ذلك>( ).
ولكن لا يخفى: أنّ هذه القاعدة إنّما تتمّ لبناء العقلاء إن كان احتمال الغفلة في النقص أقوى من احتمال الغفلة في الزيادة، ولكنّ هذا إنّما يتمّ لو تعارضتا بأنفسهما، ولم يكن هناك دليل على الخلاف، وإلّا، فمع وجود القرائن على الخلاف، لا يمكن لنا أن نتمسّك بالقاعدة، فيبعد جريان أصالة عدم الزيادة. إذ:
أوّلاً: النقص قد ورد في روايات كثيرة.
وثانياً: يحتمل أن تكون الزيادة من كلام الصدوق لا من كلام النبيّ؛ فإنّ كثرة الموارد التي تكون من النظائر قد تؤدّي إلى وقوع الإنسان في الغفلة، كما في مثل: لا رهبانيّة في الإسلام، ولا إخصاء في الإسلام؛ فإنّ وجود هذه اللّفظة في نظائر هذه الجمل قد يوقع الإنسان في الغفلة مع أنّ كلمة (في الاسلام) لم ترد في شيءٍ من مسانيد أصحابنا.
ويمكن أن يكون الاشتباه قد حصل من الناسخ لا من الصدوق، وأن يكون هو) قد نقل هذا الحديث عارياً من هذه الكلمة، والذي أدّى إلى اشتباه الناسخ هو كلمة (فالاسلام) في قوله: يزيد المسلم خيراً، وهو متّصل بقوله: (لا ضرر ولا ضرار)، فوقع الناسخ في الاشتباه، فكتب تلك الكلمة (في الإسلام).
ومثله يقال في رواية مجمع البحرين الذي نقل حديث الشفعة بلفظ <لا ضرر ولا ضرار في الإسلام>( )، مع أنّه إنّما أخذ هذا الحديث من الكافي، وهو هناك بهذا اللّفظ:
<قضى رسول اﷲ بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال: لا ضرر ولا ضرار>( ).
إلى غير ذلك من القرائن التي تؤكّد عدم وجود هذه الكلمة في كلام النبيّ.
وأمّا كلمة (على المؤمن) الواردة في رواية ابن مسكان، فإنّها ضعيفة السند، حيث ورد في هذا السند النقل عن (بعض أصحابنا)، ما يدلّ على مجهوليّة الراوي.
اللّهمّ إلّا أن يقال ـ كما هو غير بعيد ـ:
بأنّ التعبير بكلمة (بعض أصحابنا) يدلّ على الوثاقة. بخلاف مثل ما لو أتى بكلمة (عن رجل) فإنّه من مضعّفات الرواية.
ولعلّه لأجل ذلك، تعرّض الشيخ الأعظم لهذه الرواية جاعلاً إيّاها من <أصحّ ما في الباب سنداً وأوضحه دلالةً>( ).

الأمر الثاني: في بيان مفردات هذه الفقرة:
ذكر بعضهم ـ على ما نقله الاُستاذ المحقّق( ) ـ أنّ الضرر أمر وجوديّ، وهو ضدّ النفع. وقال آخرون: هو بمعنى النقص.
ولكن لا ينبغي أن يخفى: أنّ الضرر لا يطلق على عدم النفع مطلقاً، بل إنّما يطلق عليه ـ عرفاً ـ في بعض الموارد دون بعض، فمثلاً: إذا كان في بلد حانوت واحد، فجاء شخص وفتح حانوتاً ثانياً في نفس البلاد، فقد يقال بصدق الضرر عليه ـ حينئذٍ ـ عرفاً، مع أنّ قاعدة لا ضرر لا تشمل هذا المورد؛ لأنّ فتح الثاني حانوته ليس بحرام حتى تشمله القاعدة.
وأمّا (الضرار) فهو مصدر بمعنى المفاعلة، على ما قيل، والمفاعلة فعل الاثنين، ولابدّ فيها من طرفين، فيكون معناه: الضرر على الغير مقابل الضرر عليه.
ولكنّ هذا غير تامّ، كما أفاده المحقّق الأصفهانيّ بقوله:
<الضرار وإن كان مصدراً لباب المفاعلة، والأصل فيه أن يكون فعل الاثنين، كما هو المشهور، إلّا أنّه لا أصل له، كما تشهد له الاستعمالات الصحيحة الفصيحة القرآنيّة وغيرها؛
فإنّ فيها ما لا يصحّ ذلك، وفيها ما لا يراد منه ذلك، كقوله تعـالى: ﴿يـُخَادِعُونَ الله َ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾( )، فإنّ الغرض نسبة الخديعة منهم إلى اﷲ وإلى المؤمنين، لا منهما إليهم أيضاً، وقوله تعالى:﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله ِ﴾( )، و﴿يـُرَآؤُونَ﴾( )، و﴿وَنَادَيـْنَاهُ﴾( )، و﴿نَافَقُواْ﴾( )، و﴿شَآقــُّواْ﴾( )، و﴿مَسْجِداً ضِرَاراً﴾( )، و﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً﴾( )، و﴿لَا تــُؤَاخِذْنِي﴾( )، إلى غير ذلك. ومن الاستعمالات: عاجله بالعقوبة، وبارزه بالحرب، وباشر الحرب، وساعده التوفيق، وخالع المرأة، وواراه في الأرض، فإنّ جميع ذلك بين ما لا يصحّ فيه إرادة الانتساب إلى الاثنين، وما لا يراد منه ذلك>، إلى آخر كلامه( ).
فالضرار ـ إذاً ـ بمعنى تكرار الضرر من شخص واحد.
هذا بالنسبة إلى المفردات.
وأمّا شرح الجملة ككلّ، أعني: (لا ضرر ولا ضرار)، فالأقوال المعروفة في المسألة عند الفقهاء أربعة:
القول الأوّل: أن يكون مفادها النهي عن إيجاد ضرر الغير، أو مطلقاً، حتى على النفس، فيكون مساقها مساق قوله تعالى: ﴿فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾( )، حيث إنّ الآية الشريفة تدلّ على حرمة هذه الاُمور في الحجّ، ونظائرها كثيرة في الأخبار، ونريد من نظائرها: ما كان ظاهر الكلام فيها هو النفي، ولكن لم يُرَد من هذا النفي سوى النهي، كما روي من قوله: <لا سبق إلّا في خفٍّ أو حافر أو نصل>( )، وما إلى ذلك من الروايات الكثيرة.
وهذا هو القول الذي أصرّ عليه شيخ الشريعة الأصفهاني ذاهباً إلى تعيين هذا الاحتمال من بين الاحتمالات الأربعة( ).
القول الثاني: أن يكون مفادها هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع. أي: بمعنى نفي حقيقة الضرر وماهيّته ادّعاءً، كنايةً عن نفي الحكم الضرريّ، ونظائرها كثيرة في الأخبار والمأثورات التي تصيّدوها من الروايات، نحو: <لا شكّ لكثير الشكّ>( )، وقوله: <لا سهو في سهو>( )، وقوله: <لا سهو للإمام مع حفظ المأموم>( ).
إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.
فيكون المراد من الجملة محلّ الكلام، بناءً على هذا القول: أنّ الموضوعات التي لها أحكام بعناوينها الأوّليّة إذا صارت ضرريّة وتعنونت بعنوان الضرر فإنّ ذلك الحكم يرتفع عن ذلك الموضوع، وعليه: فتكون هذه القاعدة حاكمةً على الأدلّة الأوّليّة بالحكومة الواقعيّة تضييقاً في جانب الموضوع. وهذا القول هو ما ذهب إليه صاحب الكفاية( ).
القول الثالث: أن يكون مفادها عبارة عن نفي الحكم الضرريّ، بمعنى: أنّ كلّ حكم صدر من الشارع، فإن كان مستلزماً لضرر، أو حصل من قِبل جعله ضرر على العباد، ـ سواء كان الضرر على المكلّف نفسه أم على غيره، كوجوب الوضوء الذي حصل من قبل وجوبه ضرر ماليّ أو بدنيّ على المكلّف، وكلزوم المعاملة في المعاملة الغبنيّة حيث نشأ من قبله الضرر على المغبون ـ.
القول الرابع: أنّ مفادها هو نفي الضرر غير المتدارك، بمعنى: أنّ الشارع ينهى عن الضرر غير المتدارك.
وتقريبه: بأن يكون الضرر المتدارك في حكم العدم، ولا يراه الشارع ضرراً، كما هو كذلك عند العرف والعقلاء، وبناءً على هذا الفرض: فإنّ نفي الضرر المطلق يكون عائداً إلى نفي الضرر غير المتدارك.
والظاهر ـ حينئذٍ ـ من نفي الضرر غير المتدارك في عالم التشريع:
هو لزوم التدارك؛ لأنّ المفروض أنّ الضرر المتدارك منزّل في كلام الشارع المقدّس منزلة العدم. فإذا كان النفي بمنزلة النهي، فيكون الضرر غير المتدارك منهيّاً عن إيجاده، وهذا كناية عن وجوب تداركه، وهذا كما أنّه إذا قال: (لا تَقْبل هديّة بلا عوض) ـ مثلاً ـ فإنّه يكون كناية عن أنّه إذا أهدى إليك شخص هديّةً ما، فلا تجعله بلا عوض ولا تدارك، بل يجب عليك أن تتداركها، وذلك بإهداء شيء إلى المُهدي في مقابلها.
وقد اختار الاُستاذ المحقّق القول الثالث( )، وهو مختار كلٍّ من الشيخ الأعظم والميرزا النائيني.
قال في الفرائد: <إذا عرفت ما ذكرناه، فاعلم أنّ المعنى بعد تعذّر إرادة الحقيقة: عدم تشريع الضرر، بمعنى: أنّ الشارع لم يشرّع حكماً يلزم منه ضرر على أحد، تكليفيّاً كان أو وضعيّاً، فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون، فيُنفى بالخبر...>( ).
وقال المحقّق النائيني: <وكيف كان، فأحسن الوجوه وأصحّها هو ما اختاره شيخنا الأنصاريّ ـ وهو ثالث الوجوه في كلامه ـ؛ لأنّ هذا الوجه يصلح لأن يكون مدركاً للقاعدة الفقهيّة المتداولة بين الفقهاء، دون الثاني والرابع>( ).
وقال الاُستاذ المحقّق في تبرير ذهابه إلى اختيار هذا القول:
<وذلك من جهة أنّه لا شكّ في أنّه في مقام التشريع، وفي مقام أنّ الحكم المشروع في المقام حكم امتنانيّ على الاُمّة، فالحديث ظاهر سياقاً في أمرين: أحدهما: أنّ الرفع تشريعيّ؛ إذ لا معنى لأن يكون إنشاء الرفع لرفع تكوينيّ>؛ وذلك:
أوّلاً: لأنّ الشارع إنّما يرفع شيء يكون قابلاً للرفع والوضع تشريعاً؛ لأنّ الرفع التكوينيّ خارج عن دائرة وظيفته كشارع.
وثانياً: لأنّ الرفع التكوينيّ إنّما يكون من جهة رفع أسبابه، ولا مجال لرفعه بالانشاء، بل لابدّ من أسبابه التكوينيّة.
وأمّا احتمال أنّه يكون إخباراً عن الرفع التكوينيّ، فباطل؛ لوقوع كثير من الضرر، والشارع إنّما يبيّن ما يكون راجعاً اليه، ومناسباً لمقامه بوصفه شارعاً، والرفع التكوينيّ ليس كذلك.
والدليل على كونه في مقام الامتنان ـ مضافاً إلى تسالم الأصحاب على ذلك في فتاواهم ـ هو ما يدلّ عليه سياق الكلام من أنّه وبّخ سمرة قائلاً له: (أنت رجل مضارّ)، أي: مصرّ على الضرر.
ثمّ قال الاُستاذ: <فإذا ظهر ظهور الحديث في هذين الأمرين من دون الاحتياج إلى كلمة (على مؤمن) أو كلمة (في الاسلام)، فنقول: لا شكّ في أنّ الرفع التشريعيّ ظاهره أنّ المرفوع من الأحكام الشرعيّة؛ لأنّ رفعها يكون رفعاً حقيقيّاً، لا ادّعائيّاً؛ لأنّه لا وجود للأحكام الشرعيّة إلّا في عالم التشريع، فإذا رفعه في عالم التشريع يرتفع من عالم الوجود حقيقةً، وبقول مطلق. وقد بيّنّا في شرح مفردات وألفاظ الحديث أنّ كلمة (لا) ظاهرة في نفي جنس مدخولها حقيقةً إذا كان المدخول نكرة.
وأمّا إذا كان المرفوع أمراً تكوينيّاً، فلا بدّ أن يكون الرفع ادّعائيّاً لا حقيقيّاً، فتكون النتيجة: رفع الحكم حقيقةً برفع الموضوع ادّعاءً، كقولهم ـ المتصيّد من الروايات ـ (لا شكّ لكثير الشكّ)>( ).
وأمّا كلمة (لا)، فهي لنفي الجنس إذا كان ما وقع بعدها هو النكرة، وحينئذٍ: فيكون مدلولها هو النفي الحقيقيّ، إلّا إذا ثبت بأنّ النفي ادّعائيّ.
وفي النفي الحقيقيّ، وهو فيما إذا كان حاله حال النفي التكوينيّ، وهو إنّما يصحّ إذا كانت القضيّة من قبيل القضيّة الخبريّة المحضة، وكان المنفيّ هو الحكم؛ وذلك لأنّ تشريعه وجعله يكون عين تكوينه حقيقةً.
وأمّا إذا كان المنفيّ هو الموضوع الخارجيّ لا الحكم، فيكون نفيه حقيقةً على خلاف الواقع؛ لأنّ رفع الموضوع الخارجيّ ووضعه ليس بيد الشارع، كما لا يخفى، فلا محالة: يجب حمله على نفيه ادّعاءً، ولكنّ حال النفي الادّعائيّ هو عينه حال الإثبات ادّعاءً، بمعنى: أنّه لا يصحّ إلّا بلحاظ عدم ترتّب الأثر الذي من المترقب أن يترتّب على الشيء، فيصحّ ـ حينئذٍ ـ نفيه ادّعاءً؛ حيث كان بمنزلة العدم؛ لعدم ترتّب الأثر عليه.

الأمر الثالث :هل تشمل القاعدة الأحكام العدميّة أم لا؟
قبل الخوض في تفصيلات في هذه القاعدة، لابدّ من معرفة أنّها هل تشمل الأحكام العدميّة كما تشمل الوجوديّة أم لا؟ فإذا حبس حرّاً غير أجير، ففات عمله، فالظاهر: عدم شمول قواعد الضمان لمثل ذلك؛ لعدم كونه إتلاف مال.
نعم، لو كان المحبوس عبداً أو حرّاً أجيراً، يكون الحبس إتلافاً لمال المالك والمستأجر، فيكون الحابس ضامناً. فيقال ـ مثلاً ـ: إنّ عدم الضمان حكم ضرريّ؛ لاستلزامه الضرر على الحرّ؛ لفوات عمله، فهل يشمله حديث نفي الضرر أم لا؟
قال الشيخ في رسالته المستقلّة المعمولة في قاعدة لا ضرر، في التنبيه الثاني، ما لفظه:
<لا إشكال ـ كما عرفت ـ في أنّ القاعدة المذكورة تنفي الأحكام الوجوديّة الضرريّة، تكليفيّةً كانت أو وضعيّة، وأمّا الأحكام العدميّة الضرريّة، مثل عدم ضمان ما يفوت على الحرّ من عمله بسبب حبسه، ففي نفيها بهذه القاعدة، فيجب أن يحكم بالضمان، إشكال:
من أنّ القاعدة ناظرة إلى نفي ما ثبت بالعمومات من الأحكام الشرعيّة، فمعنى نفي الضرر في الإسلام: أنّ الأحكام المجعولة في الإسلام ليس فيها حكم ضرريّ. ومن المعلوم، أنّ حكم الشرع في نظائر المسألة المذكورة ليس من الأحكام المجعولة في الإسلام، وحكمه بالعدم ليس من قبيل الحكم المجعول، بل هو إخبار بعدم حكمه بالضمان؛ إذ لا يحتاج العدم إلى حكم به، نظير حكمه بعدم الوجوب أو الحرمة أو غيرهما، فإنّه ليس إنشاء منه، بل هو إخبار حقيقة.
ومن أنّ المنفيّ ليس خصوص المجعولات، بل مطلق ما يتديّن به ويعامل عليه في شريعة الإسلام، وجوديّاً كان أو عدميّاً، فكما أنّه يجب في حكمة الشارع نفي الأحكام الضرريّة، كذلك يجب جعل الأحكام التي يلزم من عدمها الضرر>( ).
وقد ذهب المحقّق النائيني إلى عدم شمول حديث نفي الضرر للاُمور العدميّة، وأطال في الاستدلال على ذلك، ولكن يمكن أن يتلخّص كلامه في وجوه ثلاثة:
الأوّل: أنّ هذا الحديث ناظر إلى رفع الأحكام المجعولة شرعاً، فبما أنّ عدم الضمان ليس حكماً شرعيّاً مجعولاً من قبل الشارع، فلا يرتفع بالقاعدة.
الثاني: أنّه لو التزمنا بشمول الحديث للحكم العدميّ، فلازمه: هو ثبوت وجوب الضمان في مسألة حبس الحرّ، ومعناه: تكفّل الحديث لنفي الضرر غير المتدارك، وقد ذكرنا سابقاً أنّ هذه هو أحد المعاني الأربعة المحتملة من الحديث بدواً، وأنّ مقتضى التحقيق عدم إمكان حمل الحديث عليه.
الثالث: أنّ لازم الالتزام بعموميّة هذا الحديث وشموله للأحكام العدميّة تأسيس فقه جديد؛ وذلك لاستلزامه في مثال الزوجة ـ أي: التي كان بقاؤها على الزوجيّة مضرّاً بها ـ ثبوت حقّ الطلاق للحاكم الشرعيّ وهو ممّا لا يمكن الالتزام به( ).
ولكن يمكن أن يقال: الظاهر أنّ الأحكام العدميّة على قسمين:
الأوّل: المقصود منها حكم الشارع بعدم التكليف أو الوضع، وفي هذا القسم لا يبعد جريان القاعدة؛ لكونها ناظرة إلى مطلق ما للشارع من الحكم، بلا فرق بين أن يكون وجوديّاً أو عدميّاً، فإنّ الحكم بالعدم حكم أيضاً، فكما أنّ حكمه بالتكليف أو الوضع إذا صار ضرريّاً يصار إلى نفيه بالقاعدة، فكذلك حكمه بعدم التكليف أو الوضع في مورد خاصّ ينفى بالقاعدة عندما يصبح ضرريّاً.
والثاني: المقصود منها مجرّد عدم حكم الشارع بالتكليف أو الوضع. وفي هذا القسم لا تجري القاعدة؛ لأنّ معنى نفي عدم الحكم بالقاعدة هو إثبات الحكم بها، وهو ضعيف كما ترى، فإنّ القاعدة ليست موضوعةً إلّا لنفي الأحكام الضرريّة، ولو كانت عدميّة، لا لإثبات الأحكام التي لولاها للزم الضرر.

الأمر الرابع: هل المراد من الضرر المنفيّ في القاعدة هو الضرر الشخصيّ أو النوعيّ؟
المراد من الضرر الشخصيّ هو الضرر الفعليّ الوارد على كلّ شخص، ففي كلّ مورد ينشأ فيه ضرر خارجيّ على شخص من قِبل الحكم الشرعيّ، فيكون ذاك الحكم مرتفعاً في حقّه، دون من لا يرد عليه من قبله ضرر؛ فإنّ الحكم لا يرتفع الحكم عنه، فمن الممكن أن يكون الحكم ضرريّاً في حقّ شخص دون آخر، بل بالنسبة إلى الشخص نفسه، هو قد يكون ضرريّاً في مورد دون آخر.
والمراد من الضرر النوعيّ هو: ما يترتّب من الضرر بالنسبة إلى غالب المكلّفين، أو ما يكون منه مترتّباً على نوع الفعل وغالبيّة أفراد الفعل.
ولا يخفى: أنّ الظاهر من هذا الحديث ـ كما عليه اُستاذنا المحقّق أيضاً( ) ـ هو الضرر الشخصيّ لا النوعيّ.
والسرّ في ذلك: هو حكومة أدلّة الضرر على الحكم الواقعيّ، ومعنى الحكومة إنّما هو رفع الحكم في كلّ مورد نشأ منه الضرر، وأمّا في الموارد التي ليس فيها ضرر، فلا يكون الحكم فيها مرفوعاً، فيكون مشمولاً للإطلاق.
وبعبارة أُخرى: فبما أنّ الحديث وارد في مقام الامتنان فلابدّ أن يكون الرفع بلحاظ حال كلّ شخص بحسب نفسه، لوضوح عدم صدق الامتنان على رفع الحكم عن شخص بلحاظ شخصٍ آخر.
وهذا هو ما اختاره الميرزا النائيني أيضاً، حيث قال ـ ما نصّه ـ:
<وبالجملة: مقتضى الحكومة، بل مقتضى كون الحديث وارداً في مقام الامتنان، أن يكون كلّ شخصٍ ملحوظاً بحال نفسه>( ).
ويمكن المناقشة فيه: بأنّ كون الحديث وارداً ـ كما ذكرنا ـ في مورد الامتنان، لا يحتّم أن يكون المراد منه هو الضرر الشخصيّ خاصّةً، بل كما يمكن أن يكون الامتنان بحسب حال الشخص نفسه، فكذلك يمكن أن يكون امتناناً وارداً على النوع، فيكون الحديث ـ بناءً عليه ـ حاكماً على أدلّة الأحكام الأوّليّة إذا كان يترتّب عليها ضرر نوعيّ أيضاً، فليس هناك من منافاة ـ أصلاً ـ بين الحكومة والضرر النوعيّ.

الأمر الخامس: في دعوى عدم شمول الحديث لمورد نفسه:
حاصـل هـذا الإشكال: هو أنّ القاعدة المقـرّرة في رواية سمرة لا تنطبق على مورد الحديث نفسه، فإنّ أمره بقلع العذق لا يستوجب نفي الضرر؛ لأنّ إبقاء عذق سمرة في بستان الأنصاريّ ليس هو الذي يستوجب الضرر على الأنصاريّ، بل الذي استوجب الضرر هو دخول سمرة في بستانه من دون استئذان منه.
وعليه: فيلزم أن لا تكون القاعدة شاملةً للمورد، وهو مستهجن.
ويمكن الجواب عنه: بأنّ حكمه بالقلع لم يكن من جهة تطبيق القاعدة عليه، بل إنّما كان من باب أنّه له الولاية على النفوس والأموال، فأمره بقلع العذق من باب الولاية حسماً لمادّة الفساد.
ولكنّه جواب غير تامّ؛ لأنّه مخالف للتعليل المذكور في نفس الموثّقة، فقد ورد فيها أنّه بعد أن قال: <اقلعها وارمِ بها إليه> علّله بقوله: <فإنّه لا ضرر ولا ضرار>، فلا يمكن القول بأنّ القلع كان من باب إعمال حكومته وولايته.
وقد أجاب المحقّق النائيني عن هذا الإشكال:
بأنّ قوله (لا ضرر) ليس علّةً لقطع العذق، بل إنّما هو علّة لوجوب الاستئذان عند دخوله، وضرر الأنصاريّ، وإن كان مستنداً إلى جواز الدخول بغير إذنه، وهو الجزء الأخير لعلّة الضرر، ولكنّ جواز الدخول من غير استئذان ينتهي بالأخير إلى حقّه لإبقاء عذقه في ذلك البستان، وذلك الحقّ، حكم شرعيّ وضعيّ نشأ من قبله الضرر، فيكون الضرر عنواناً ثانويّاً لذلك الحقّ، فيرتفع بارتفاع الضرر، بالمطابقة أو بالالتزام، فلا يرد إشكال حتى بناءً على تطبيقه على مسألة العذق.
قال ـ بعد كلامٍ طويل ـ:
<وتوضيح ذلك: بعد ظهور القضيّة في أنّ سمرة لم يكن مالكاً إلّا للعذق، وأنّ البستان المغروس فيها النخيل كان للأنصاريّ، غاية الأمر: أنّه كان مستحقّاً لإبقائها فيها مجّاناً، إمّا لاستئجاره الأرض للغرس، وإمّا لكون مالكها واحداً ابتداءً، ثمّ انتقل الأرض إلى أحد والنخلة إلى آخر، فعلى أيّ حالٍ، كان سمرة مستحقّاً لإبقائها، فإذا كان كذلك، وكان هذا علّةً لجواز الدخول على الأنصاريّ بلا استئذان، فلو كان المعلول والفرع مستلزماً للضرر، فنفي الضرر رافع لأصل العلّة والأصل ...>، انتهى موضع الحاجة من كلامه( ).
وقد أدخل الاُستاذ المحقّق المسألة في باب تقديم الأهمّ على المهمّ، فقال:
<أنّ سوق (لا ضرر) في مقام الامتنان، فلا يجري فيما إذا كان موجباً لضرر الغير؛ لأنّه كما أنّ بقاء حقّ سمرة في إبقاء عذقه في بستان الأنصاريّ ـ لو سلمنا أنّه منشأ للضرر ـ كذلك منعه عن حقّه وقلع عذقه ضرر عليه، فيدخل في باب تعارض الضررين، بل تزاحم الحقّين.
فالصواب في الجواب أن يقال: إنّ تقديم حقّ الأنصاريّ لحفظ عرضه من جهة أهمّيّته في نظر الشارع، كما هو الشأن في باب التزاحم، من تقديم الأهمّ على المهمّ، وهو أحد المرجّحات الخمسة في باب التزاحم، بل أهمّها>( ).
هذا، ولكنّك خبير بأنّ ما أفاده وإن كان تامّاً، ولكن يبقى معه ورود إشكال عدم شمول الحديث لمورد نفسه على حاله.

الأمر السادس: في بيان تقديم هذه القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّليّة الواقعيّة:
حيث إنّ الأدلّة الأوّليّة شاملة بعمومها وإطلاقها حتى لموارد الضرر، وبعد أن كانت النسبة بين هذه القاعدة وبين تلك الأدلّة عموم من وجه ـ فمثلاً ـ: دليل وجوب الغسل عامّ يثبت هذا الحكم حتى في مورد الضرر، وقاعدة لا ضرر تنفي الحكم الضرريّ، سواء كان واجباً أم لم يكن، فيتعارضان في مورد الاجتماع وتصادم العنوانين، ومقتضى القاعدة ـ حينئذٍ ـ الحكم بتساقطهما، ولكنّهم مع ذلك قدّموا قاعدة (لا ضرر).
وقد ذكروا لذلك وجوهاً:
الأوّل: هو حكومة القاعدة على تلك الأدلّة، ولذا تقدّم عليها، وهي حكومة بالتضييق في جانب المحمول؛ فإنّ دليل (لا ضرر) يضيّق ما هو المحمول في تلك الأدلّة، وهو الحكم، ويرفعه بنحو الرفع التشريعيّ في حالة كونه ضرريّاً، بلا فرق بين أن يكون هذا المحمول من قبيل الحكم التكليفيّ أو الوضعيّ.
وبالتالي: فلا يكون هناك تعارض بينهما حتى يحكم بتساقطهما؛ لأنّ التساقط ـ كما هو معلوم ـ إنّما هو فرع التعارض، ولا تعارض بين الحاكم والمحكوم.
ولا يخفى: أنّ القاعدة ـ حينئذٍ ـ لا تكون شاملةً لما إذا كان رفع الضرر عن شخص سبباً لورود ضرر على الآخر، فلا يجوز قسمة طاحونة ـ مثلاً ـ إذا كان في الشركة ضرر على أحد الشركاء، وكان في القسمة ضرر على الآخر.
الثاني: ما اختاره صاحب الكفاية، وحاصله:
أنّنا نلتزم بتقديم قاعدة (لا ضرر) بالجمع العرفيّ؛ فإنّ أحدهما بيان للحكم الثابت للأشياء، ولكن بعناوينها الأوّليّة، وأمّا الآخر ـ وهو قاعدة (لا ضرر) ـ فهو متكفّل لبيان الحكم الثابت للأشياء، ولكن بعناوينها الثانويّة، فيجمع العرف بينهما بحمل دليل نفي الضرر على بيان الحكم الفعليّ، وأدلّة الأحكام الأوّليّة على بيان الحكم الاقتضائيّ.
قال:
<ومن هنا لا يلاحظ النسبة بين أدلّة نفيه وأدلّة الأحكام، وتقدّم أدلّته على أدلّتها ـ مع أنّها عموم من وجه ـ حيث إنّه يوفّق بينهما عرفاً بأنّ الثابت للعناوين الأوّليّة اقتضائيّ، يمنع عنه فعلاً ما عرض عليها من عنوان الضرر بأدلّته، كما هو الحال في التوفيق بين سائر الأدلّة المثبتة أو النافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانويّة، والأدلّة المتكفّلة لحكمها بعناوينها الاوليّة»( ).
ولكنّ الحقّ: أنّ الجمع العرفيّ ـ كما أفاده الاُستاذ المحقّق( ) ـ لابدّ له من سبب، كما لو كان أحدهما خاصّاً والآخر عامّاً، فيقدّم الخاصّ في نظر العرف على العامّ، ولا يمكن أن يكون جزافاً، وفيما نحن فيه، ثمّة وجه للتقديم والجمع العرفيّ، وهو كون أحد الدليلين، وهو دليل (لا ضرر) حاكماً ـ كما عرفنا ـ على أدلّة الأحكام الواقعيّة الأوّليّة.
ولكنّ صاحب الكفاية استشكل في الحكومة في المقام، بما لفظه:
<هذا لو لم نقل بحكومة دليله على دليله؛ لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله، كما قيل>( ).
وحاصله: أنّ المقام ليس من باب الحكومة في شيء؛ لأنّ الحكومة تتوقّف على كون الدليل الحاكم بصدد التعرّض لحال الدليل المحكوم، ودليل (لا ضرر) ـ هنا ـ ليس له نظر إلى أدلّة الأحكام، ولا له تعرّض إلى حالها، بل إنّما يتكفّل ببيان ما هو الواقع من نفي الضرر، وهذا المقدار لا يصحّح الحكومة بل هو كسائر أدلّة الأحكام.
وقد ردّه المحقّق النائيني ـ بما يبدو منه أنّه قد فهم من كلامه تخصيص الدليل الحاكم بما يكون متعرّضاً للدليل المحكوم بالمدلول اللّفظيّ المطابقيّ ـ.
ثمّ تعرّض للفرق بين قرينة المجاز وقرينة التخصيص والتقييد، وحاصل هذا الفرق:
أنّ قرينة المجاز تكون بياناً للمراد الاستعماليّ من اللّفظ وأنّها تأتي لبيان المدلول التصديقيّ له، نظير لفظ (يرمي) في قول القائل: (جاء أسد يرمي)، فإنّه بيان لكون المراد من (أسد) هو الرجل الشجاع، لا الحيوان المفترس.
وأمّا قرينة التخصيص، فهي ليست بياناً للمراد الاستعماليّ، بل للمراد الواقعيّ الجدّيّ، فتكون بصدد بيان ما هو موضوع الحكم واقعاً، وأنّ عنوان العامّ ليس تمام الموضوع، بل جزؤه.
ثمّ أفاد في الفرق بين التخصيص والحكومة أنّ:
<ضابط التخصيص أن لا يكون في اللّفظ إشعار أصلاً بالحكم الثابت في العامّ، فإنّ قوله: (لا تكرم زيداً)، لا تعرّض له بحسب المدلول بالحكم الثابت في جميع أفراد العلماء الشامل لزيد. فكونه بياناً للعامّ إنّما هو بحكم العقل بعد العلم بصدور الخاصّ والعامّ من العاقل الملتفت، فإنّ العقل يحكم بأنّ الملتفت لا يحكم واقعاً بوجوب إكرام جميع الأفراد مع حكمه في فردٍ منها بخلاف حكمه في سائر الأفراد، وبعد نصوصيّة الخاصّ أو أظهريّته من العموم في شموله له، يحكم بأنّ المتكلّم لم يقصد من العموم هذا الفرد.
وضابط الحكومة أن يكون هذا الوجه من الجمع مدلولاً لفظيّاً، ولا تختصّ الدلالة اللّفظيّة، بأن يكون مدلول الحاكم هو (أردتُ من المحكوم هذا) حتى يكون شارحاً بلفظ (أي) و(أعني) ونحوهما، فيكون كقرينة المجاز. بل تشمل ما كان كالمقيّد والمخصّص بياناً للمراد من الحكم الواقعيّ كأغلب الحكومات..
إلى أن قال: فالفرق بين التخصيص والحكومة هو أنّ بيانيّة الخاصّ للعامّ إنّما هو بحكم العقل، وبيانيّة الحاكم للمحكوم إنّما هو بنفس مدلوله>.
ثمّ بيّن أقسام الحكومة بقوله:
<منها: ما يتعرّض لموضوع الحكم، كما لو قيل: بأنّ زيداً ليس بعالم، بعد قوله: أكرم العلماء.
ومنها: ما يتعرّض لمتعلّق الحكم الثابت في المحكوم، كما لو قيل بأنّ الإكرام ليس بالضيافة.
ومنها: ما يتعرّض لنفس الحكم، كما لو قيل بأنّ وجوب الإكرام ليس في مورد زيد.
ثمّ إنّ الحكومة كما توجب التضييق، فقد توجب التوسعة أيضاً>.
ثمّ ذكر أنّ الوجه في تقدّم الحاكم على المحكوم هو أنّه لا تعارض بين دليليهما أصلاً؛ فإنّ الدليل المحكوم يتكفّل الحكم على تقدير تحقّق الموضوع، وليس له تعرّض ـ أصلاً ـ لثبوت ذلك التقدير أو عدمه. وأمّا الدليل الحاكم، فهو يتكفّل هدم تقدير ثبوت الموضوع وبيان عدم تحقّقه، وفي مثله فلا تنافي أصلاً بين الدليلين.
وعلى هذا الأساس، فقد بنى صحّة الترتّب بين الأمر بالضدّين، حيث لا منافاة بين تعلّق الأمر بالأهمّ مطلقاً، وتعلّق الأمر بالمهمّ على تقدير عصيان الأهمّ؛ فإنّ امتثال الأمر بالأهمّ يدعو إلى هدم موضوع الأمر بالمهمّ، فلا يصادمه ولا ينافيه، بل هو كالحاكم بالنسبة إلى الدليل المحكوم.
وبعد هذا البيان ذكر أنّه <لا فرق بين أن يكون المراد من (لا ضرر) ما اختاره شيخنا الأنصاريّ، وأن يكون المراد منه ما اختاره المحقّق الخراسانيّ، أي: سواء قيل بأنّ الحكم الضرريّ غير مجعول، أو قيل: بأنّ الموضوع الضرريّ لا حكم له؛ إذ كلاهما حاكمان على أدلّة الأحكام، غاية الفرق: أنّ أدلّة (لا ضرر) على مختار الشيخ شارحة لأصل الحكم، وعلى مختاره فشارحة لموضوعات الأحكام>( ).
وما ذكره من تقدّم دليل الحاكم على دليل المحكوم بالمدلول اللّفظيّ تامّ؛ وأمّا ما أفاده من أنّ تقدّم الخاصّ على العامّ من جهة دليل العقل، فغير تامّ، بل لا دخل للعقل في تقدّم أحدهما على الآخر، وليس هذا من مختصّاته.
وإنّما تقدّمه ـ أعني: الخاصّ ـ على العامّ، فإنّما هو ـ كما قرّر في محلّه ـ من باب القرينيّة، حتى لو كان ظهور الخاصّ أضعف من ظهور العامّ، فإنّه مع ذلك يقدّم ـ أيضاً ـ عليه.

الأمر السابع: شمول القاعدة للحكم الضرريّ، تكليفيّاً كان أم وضعيّاً
وفي ذلك يقول اُستاذنا المحقّق:
<بل الحكم الوضعيّ أولى بشمول (لا ضرر) له؛ لأنّ الحكم التكليفيّ بمحض جعله وتشريعه لا يكون موجباً لوقوع الضرر في الخارج، بل الضرر يقع في مرحلة الامتثال، فيتوسّط بينه وبين وقوع الضرر إرادة المكلّف واختياره>( ).
وبذلك يتحصّل: أنّ قاعدة (لا ضرر) غير مختصّة بالنهي التكليفيّ عن الإضرار بالغير، بل تعمّه والأحكام الوضعيّة، فكما أنّ دخول سمرة بن جندب على الأنصاريّ بغير استئذان منه إضرار بالغير ومنهيّ عنه تكليفاً، فكذلك البيع الغبنيّ إذا وقع على وجه اللّزوم بنفسه، مصداقاً للإضرار بالغير، فلا يكون ممضىً من قبل الشارع، فلا يكون نافذاً ومؤثّراً لأثره المطلوب منه.
وهكذا الحال بالنسبة إلى الضرر بالنفس، فمثلاً: الوضوء واجب للصلاة، ولكنّه إذا كان يستلزم ضرراً على الشخص، لمرض أو غيره، من جهة استعمال الماء، فيكون مرفوعاً بالقاعدة.

الأمر الثامن :في تعارض الضررين:
وهذا تارةً يتصوّر في حقّ شخصٍ واحد وأُخرى في حقّ شخصين.
والكلام يقع أوّلاً في أنّ الإضرار بالنفس هل هو حرام مطلقاً أم لا، بل يحرم فقط إذا تسبّب في هلاك النفس؟
لا يخفى: أنّ حرمة الضرر على النفس مطلقاً محلّ كلام؛ لعدم الدليل، بل إذا كان الإضرار لأجل أمر عقلائيّ، كالحجامة مثلاً، فلا يمكن أن يحكم بحرمته، أو كضرب السيوف على الهامة إذا كان سبباً للمزيد من الحزن على سيّد الشهداء بحيث لم يستوجب هلاك النفس فحرمته بحاجة إلى الدليل.
وأمّا القول بأنّه ـ أي: ضرب السيوف حزناً على مصابه ـ حرام بعنوان الثانويّ. ففيه: أنّه أهون من ضرب بعض أبناء الجماعة الخناجر في أبدانهم، أو جعل النيران على رؤسهم، بغير غرض عقلائيٍّ يدعو إلى ذلك، وهو في نظر الأجانب ـ وإن لم يكن لنظرهم قيمة أصلاً في المقام ـ ليس بأهون وأقبح من هرولة ما يقارب المليونين من الحجّاج كلّ عامٍ ما بين الصفا والمروة.
وكيف كان، فلو فرض توجّه ضررين بالنسبة إلى شخص واحد، فإمّا أن يكونا مباحين أو محرّمين أو مختلفين.
فإذا كانا مباحين، فله أن يختار أيّاً منهما أراد.
وأمّا إذا كانا مختلفين، فعليه أن يختار ما ليس بحرام.
وأمّا لو كانا محرّمين، فيختار ما هو أضعف ملاكاً، ويترك ما هو أقوى بحسب الملاك، هذا إن كان أحدهما أقوى ملاكاً، وأمّا لو كانا متساويين ملاكاً، فهو مخيّر بينهما.
وأمّا توجّه الضررين بالنسبة إلى شخصين، فقد مثّل له الفقهاء بما إذا دخل رأس دابّةٍ يملكها شخص في قدرٍ يملكه شخص آخر، ولم يمكن إخراج رأسها منه إلّا بكسر القدر أو ذبح الدابّة. أو كما لو كان تصرّفه في ملكه يستوجب ضرراً يلحق بجاره، كما إذا أجّج ناراً وكانت هذه النار سبباً لإحراق مزرعة الجار.
ولا يخفى: أنّ قاعدة (لا ضرر) لا تتناول حالة التعارض بين الضررين؛ لأنّها واردة في مقام الامتنان كما أسلفنا، وفي حالة التعارض المذكور لا يُتصوّر الامتنان، وإنّما هي شاملة فقط لما إذا كان الضرر في أحد الطرفين بالنسبة إلى الفعل والترك، لا في كليهما، كما في المثال المتقدّم: فإنّ كلّاً من العملين، أعني: ذبح الدابّة وكسر القدر يصدق عليه أنّه بالنسبة إلى مالكه ضرر، فلو حكمنا بأحدهما لاستوجب ضرراً ـ لا محالة ـ.
ومعه: فيكون خلاف الامتنان المسوق له دليل (لا ضرر)، فلابدّ من الالتزام بكون القاعدة منصرفة عن المورد الذي يتعارض فيه الضرران. ومع انصرافها عن مورده، فلابدّ فيه من الأخذ بدليل آخر، كما في الجمع بين الحقوق؛ مراعاة للسيرة العقلائيّة القائمة، فإنّ العقلاء في أمثال هذه الموارد يلتزمون جانب الضرر الأقوى والأشدّ، ففي المثال: حيث إنّ الضرر المترتّب على قتل الحيوان أقوى من الضرر في كسر القدر، فهم يحكمون بلزوم كسر القدر لا الذبح.
وهل الخسارة الواردة ـ حينئذٍ ـ على صاحب الدابّة أم على كليهما؟
يمكن أن يقال: بوقوع الخسارة على كليهما بعد أن لم يكن بتفريط من صاحب الدابّة لكي يكون هو وحده الضامن.
ولكنّ الحقّ: أنّ صاحب الدابّة هو الضامن لأنّ ما أدّى إلى كسر القدر هو الدابة، فيكون صاحبها هو الضامن.
ولو قلنا بورود الخسارة على كلٍّ منهما، فلابدّ من تقسيمها عليهما بالتساوي؛ لعدم جواز الترجيح بلا مرجّح.
نعم، إذا فرض حصول التفريط من جانب، كانت الخسارة عليه خاصّةً.
وممّا ذكرنا من أنّه لابدّ من الأخذ بأقوى الضررين تمسّكاً ببناء العقلاء، ظهر فساد ما ذكره الاُستاذ المحقّق بقوله:
<ولا يعتنى بما قيل من تقديم أعظم الضررين وينفى بلا ضرر ذلك الحكم الذي يكون ضرره أكثر وأعظم>( ).

الأمر التاسع :في تعارض القاعدة مع قاعدة> الناس مسلّطون على أموالهم:<
لا يخفى: أنّ قاعدة (لا ضرر) ـ كما مرّ ـ حيث كانت شاملةً لكلٍّ من الحكم التكليفيّ والوضعيّ إذا كان ضرريّاً، فهي بإطلاقها من هذه الناحية تشمل حتى الدائرة التي جعل فيها الشارع المقدّس السلطنة للملّاك على أموالهم، فإنّ هذه السلطنة إن كانت ضرريّةً بالنسبة إلى الغير، فهي ـ أيضاً ـ تكون منفيّةً ببركة قاعدة (لا ضرر)، وهذا يعني: أنّ هذه القاعدة تكون حاكمةً على القاعدة القائلة بأنّ (الناس مسلّطون على أموالهم).
ولابدّ هنا من إيقاع الكلام في بيان الموارد التي تقع فيها المعارضة بين هاتين القاعدتين، فنقول:
إنّ تصرّف المالك في ماله إذا كان سبباً لتضرّر الغير على أنحاء:
الأوّل: أن فعله لم يكن إلّا بقصد الإضرار بالغير، من دون أن يكون له نفع في هذا التصرّف، أو يكون في تركه ضرر عليه.
والثاني: أن لا يكون من قصده الإضرار بالغير، ولكن لا يكون في تصرّفه هذا نفع له، ولا في تركه ضرر عليه، بل يكون عابثاً في فعله.
والثالث: أن يكون نفع فيه، ولكن ليس في تركه ضرر عليه.
والرابع: أن يتوجّه بسبب تركه ضرر عليه.
ولا إشكال في أنّ قاعدة (لا ضرر) تكون حاكمةً على قاعدة السلطنة في النحوين الأوّل والثاني، بناءً على عدم شمول قاعدة السلطنة لمورد الإضرار بالغير، سواء كان قاصداً للإضرار أم لم يكن. وأمّا لو لم نقل بعموميّة قاعدة السلطنة للتصرّفات التي توجب الإضرار بالغير حيث لا يكون للمالك نفع فيه، ولا في تركه ضرر عليه، فلا يبقى مجال للحكومة حينئذٍ؛ لأنّ النحوين ـ حينئذٍ ـ خارجان عن عموم قاعدة السلطنة بنحو الخروج التخصّصيّ.
ولكنّ اُستاذنا المحقّق رأى في المقام: أنّ <الإنصاف أنّه لا وجه لاحتمال عدم شمول قاعدة السلطنة للصورتين؛ لأنّ ظاهر الحديث أنّ لكلّ مالكٍ السلطنة على أنحاء التصرّفات في ماله، ولو كان بقصد الإضرار، وسواء كان مستلزماً للضرر على الغير أم لا، غاية الأمر: يكون ضامناً للضرر الوارد على الغير؛ لأنّه بفعله وإتلافه>( ).
ولكنّ الحقّ: أنّه ليس للمالك التصرّف في ماله مطلقاً بأن يلقي ماله في البحر؛ فإنّ قاعدة السلطنة ـ مع قطع النظر عن دليل (لا ضرر) ـ ليس لها عموم على الإطلاق، بل غاية ما يثبت بها أنّه له التصرّف في ماله شريطة أن يكون تصرّفه فيها عقلائيّاً وممّا جرت عليه أو على مثله سيرة العقلاء.
ففي النحوين الأوّلين لا دليل على جواز هذه التصرّفات أصلاً، بل يمكن القول بأنّ قاعدة عموم السلطنة لا تشملهما؛ لما بيّناه من أنّه حتى تصرّف المالك في ماله له حدّ معيّن لا يجوز له أن يتخطّاه، فمن الواضحات أنّه لا يجوز له أن يتصرّف في ماله ـ مثلاً ـ بإلقائه في البحر، أو أن يتصرّف في معوله بهدم دار الغير، أو بمديةٍ له بشقّ بطن الغير، ففي مثل هذه الموارد، وما أكثرها، لا يمكن أن يقال بالجواز، مضافاً إلى أنّه يثبت عليه الضمان.
وأمّا في النحو الثالث، فقد قال اُستاذنا المحقّق:
<مقتضى ما ذكرنا في الصورتين المقدّمتين حكومة قاعدة (لا ضرر) على قاعدة السلطنة؛ لأنّ سلطنة الملّاك على أموالهم حكم شرعيّ وضعيّ على الأموال بعناوينها الأوّليّة، وقد تقدّم حكومة قاعدة (لا ضرر) على الأدلّة الأوّليّة المثبتة للأحكام على موضوعاتها بعناوينها الأوّليّة>( ).
ولكنّ الشيخ الأعظم الأنصاريّ أفاد في المقام أنّ عدم جواز تصرّف المالك في ماله وحرمته فيما إذا كان التصرّف ضرريّاً بالنسبة إلى الغير، ولم يكن تركه ضرريّاً على نفسه، ولكن كان فيه نفع للمالك، فترك مثل هذا التصرّف وحرمته حرجيّ للمالك؛ لأنّه لا شكّ في أنّ عدم قدرة المالك على التصرّفات النافعة حرج عليه، فيقع التعارض بين قاعدة الضرر وقاعدة الحرج، والثانية حاكمة على الاُولى، وعلى فرض عدم الحكومة تكون قاعدة السلطنة هو المرجع بعد تساقط (لا حرج) و(لا ضرر) بالمعارضة( ).
ولكنّ ما ذكره محلّ تأمل؛ لأنّه ليس هناك دليل يدلّ على تقديم قاعدة (لا حرج) على (لا ضرر) بالحكومة.
وقد أورد عليه المحقّق النائيني أنّ المقام ليس من مصاديق الحرج، وإنّ القاعدتين لا تجتمعان في مورد واحد حتى يتعارضا؛ فإنّ مفاد قاعدة (لا ضرر) نفي السلطنة فيما إذا كانت ضرريّة، ونفي السلطنة على تقدير كونه حرجياً أمر عدميّ، ولا يرتفع ﺑ (لا حرج)، فليس المقام من مصاديق (لا حرج) أصلاً حتى يقال بأنّ نفي النفي إثبات ويرجع إلى بقاء السلطنة، فيقع التعارض، وذلك من جهة أنّ مفاد لا حرج إنّما هو نفي الحكم الموجود الذي يكون حرجيّاً، لا إثبات حكم لرفع الحرج( ).
ولكنّ الحقّ: أنّ أدلّة نفي الضرر تشمل كلا الجانبين، أعني: الضرر اللّاحق بالمالك نفسه والضرر اللّاحق بالغير، فيتعارضان ويتساقطان، ومعه: فلابدّ من الرجوع إلى قاعدة السلطنة.
هذا إذا قلنا بأنّ عدم النفع ضرر، فحينئذٍ: تكون قاعدة (لا ضرر) شاملةً لكلا الضررين، فيتساقطان، والمآل ـ حينئذٍ ـ إلى قاعدة السلطنة.
وأمّا لو لم نقل بذلك، فقاعدة (لا ضرر) بما أنّها حاكمة على أدلّة السلطنة، فتتقدّم.
والكلام بعينه يأتي بالنسبة إلى النحو الرابع، فقاعدة (لا ضرر) حيث تشمل الضرر اللّاحق بالمالك والضرر اللّاحق بالغير فيتعارضان، وبعد تساقطهما، فيكون المرجع إلى قاعدة السلطنة.
وكيف كان، فإنّه يترتّب على ما قلناه من عموم القاعدة، أن يكون الحكم الضرريّ مرفوعاً مطلقاً، بلا فرق بين ما إذا كان من قبيل أن يفعل المكلّف شيئاً يتسبّب من خلاله بالضرر إلى نفسه، أو إلى غيره، فإذا كانت المرضعة قليلة اللّبن ـ مثلاً ـ بحيث لو صامت لأضرّ صومها بولدها، فالظاهر عدم صحّة الصوم منها، وأنّه مشمول للقاعدة، فإنّ المنفيّ بها هو الحكم الضرريّ، والحكم بالصوم بالنسبة إليها ضرريّ، ولولا باعتبار نفسها، بل باعتبار رضيعها.
نعم، لو كانت المرضعة أجنبيّةً وآجرت نفسها للرضاع، فالظاهر: أنّه لا يجوز لها ترك الصوم، وإن كان ضرريّاً، بمعنى: أنّه يضرّ بولد الغير، بجفاف لبنها وعجزها عن إرضاعه.
وبهذا تمّ الكلام في قاعدة لا ضرر.